mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 35.doc

بسم الله الرحمن الرحيم

انتهينا في محاضرتنا السابقة عن واحدة من السمات الذاتية التي تطبع الشخصية وهي سمة الصمت ويقابلها الكلام حيث تحدثنا مفصلاً عن هاتين الظاهرتين المتضادتين حيناً والمتوافقتين حيناً آخر، وانتهينا من ذلك إلى أن ثمة سياقات خاصة تتطلب الصمت وما ينعكس على هذا الصمت من معطيات متنوعة، وإن ثمة سياقات يتطلبها الكلام وفي مقدمة ذلك إيصال مبادئ الله تعالى إلى الآخرين وكل ما هو يجسد ضرورة فحسب وكذلك انتهينا إلى أن ظاهرة الكلام يواكبها مجموعة من الظواهر بعضها يمثل الجانب السلبي والآخر يمثل الجانب الإيجابي، متمثلاً بخاصة هي سمة الصدق ويقابلها الكذب، وكذلك تتمثل في جملة ممارسات يومية وفي مقدمتها الجدال والمناقشة، وأمثلة ذلك مما يحمل بطبيعته جانباً سلبياً وجانباً إيجابياً إلا أن الجانب السلبي بشكل عام يظل مواكباً لأمثلة هذه الممارسات.

على أية حال نبدأ الآن فنحدثكم أولاً عن الجدال بصفته سلوكاً اجتماعياً يومياً تصدر الشخصية الملتزمة عنه وتقع في مفارقات قد لا تكون واعية لجذورها المرضية وبنتائجها التي تنعكس على الشخصية والأطراف الأخرى التي يتعامل وإياها. على أية حال نبدأ الآن فنتحدث عن ظاهرة الجدال ونتحدث عن ذلك بشيء من التفصيل فنقول:

لا يكاد يخلو لقاء واحد من لقاءاتنا الاجتماعية من ظاهرة مألوفة لدى غالبية الأفراد ألا وهي ظاهرة الجدال أو التخاصم أو المراء سواء أكانت هذه الظاهرة تتصل بمسائل سياسية أو فكرية أو شؤون عامة وقد يخيل للبعض أن احتدام النقاش مثلاً يتطلبه الموقف الفكري أو العقائدي أو الأخلاقي أو السياسي بحيث لا تتبلور جوانب القضية التي يبحث عنها ولا تتضح بجلاء ما لم يواكبها نقض وإبرام وأخذ ورد وتوطيل وتمطيط.. الخ، والحق إن ما نألفه من أمثلة هذا السلوك يظل موسوماً بطابع مرضي لا يكاد ينتبه إليه هذا المناقش أو ذاك، ومع أن نمطاً آخر من سلوكنا يظل محتفظاً بطابعه السليم دون أدنى شك، إلا أن التمييز بين ما هو مرضي وبين ما هو صحي يظل من الصعوبة بمكان فنحن من جانب مطالبون بأن نجادل بالتي هي أحسن تبعاً للنص القرآني الكريم حتى يتحول من بيننا وبينه عداوة إلى ولي حميم، لكننا نطالب من الجانب الآخر بترك الجدال والمراء والخصومة لأنها وفقاً لنصوص تربوية تقتادنا إلى الوقوع في براثن الأمراض النفسية.

والسؤال هو كيف نميز بين نمطي الجدال الذي يحوله الشخصية إلى مسالمة مفعمة بالحب والجدال الذي يحول الفرد إلى شخصية عدوانية ملأى بالعقد والكراهية؟!.

إن التمييز بين هذين النمطين من النقاش والجدال يكتسب أهمية بالغة حين نأخذ بنظر الاعتبار أن هدف المناقش هو تثبيت موقف إسلامي مثلاً في قضية فكرية أو سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو.. الخ، وبكلمة أخرى ينبغي أن نتعرف على أخلاقية الموقف المناقش الذي نصدر عنه وصلة هذه الأخلاقية بمعايير السلوك الصحي والمرضي في ضوء ما يقدمه الإسلام وعلم النفس والتربية من مبادئ في هذا الصدد.

والآن لنتجه إلى التصور الإسلامي وهذا ما نعرض الآن لبعض نصوصه وفي مقدمتها قول المعصوم (عليه السلام): (إياكم والمراء والخصومة فإنهما يمرضان القلوب على الأخوان وينبت عليهما النفاق)، إن هذه التوصية التربوية ألمح الإمام (عليه السلام) من خلالها إلى سمة هي المرض، ونعني به المرض النفسي كما هو واضح، حيث ألمح إلى ذلك بقوله (عليه السلام): (يمرضان القلوب على الأخوان) وهذا هو المرض النفسي بوضوح، كما ألمح (عليه السلام) إلى ظاهرة النفاق وهي ظاهرة ذات طابع مرضي خطير تتميز به هذه الشخصية أو تلك فتظهر شيئاً وتخزن في أعماقها شيئاً آخر قائماً على الانتهازية والنفعية وسائر أشكال التمركز حول الذات وحاجاتها المريضة بالنحو الذي تكرر الحديث عن هذه الشخصية في أكثر من مناسبة.

ولنتابع الآن عرض الأحاديث ونتحدث بعد ذلك عن محتوياتها، يقول المعصوم (عليه السلام): (أربع يمتن القلب: الذنب على الذنب وكثرة مناقشة النساء ومماراة الأحمق تقول ويقول ولا رجع إلى خير)، وفي نص ثالث يقول المعصوم (عليه السلام): (إن الشيطان ليوسوس للرجل ويناجيه ويقول ناظر الناس في الدين كي لا يظنوا بك العجز والجهل)، وفي نص رابع يقول المعصوم (عليه السلام): (فإنها تشغل القلب عن ذكر الله وتورث النفاق و؟؟؟ الضغائن وتستجيز الكذب) وفي نص آخر: (من لاح الرجال ذهبت مروءته) وفي نص: (لا يمارين أحدكم سفيهاً ولا حليماً فإنه من مارى حليماً ؟؟؟ ومن مارى سفيهاً أرداه) وفي نص: (لا تمارين العلماء فيرفضوك ولا تمارين السفهاء فيجهلوا عليك) وفي نص: (من نازع في الرأي وخاصم شهر بالحمق)، وفي نص: (ثلاث من لقي الله بها دخل الجنة.. المراء وإن كان محقاً.. الخ)..

إن هذه التوصيات التربوية لأهل البيت (عليهم السلام) تعرض لمجموعة من المفاسد التي تترتب على ما نألفه من جدال في ما بيننا في غمرة مناقشاتنا اليومية لمسائل تتصل بشؤون الحياة المختلفة، هذه التوصيات تحذرنا من الجدال حتى لو كان أحد الأطراف عالماً عارفاً فإن ذلك يؤدي إلى الوقوع في النبذ والإهمال وسقوط الشخصية المجادلة بل حتى لو كان المجادل يتحدث في حق وكان الحق بجانبه فإن السوية النفسية تفرض عليه أن يترك الجدال تحاشياً للمفاسد التي سنبدأ بتوضيحها الآن.

إن المفاسد أو الأعراض المرضية التي تترتب على الجدال في ضوء التوصيات التي قرأناها عليكم الآن، أي التوصيات الواردة من المعصومين (عليهم السلام) يمكننا أن نحصرها في الأعراض المرضية التالية: الحقد، الكذب، الشعور بالعجز والجهل، النفاق، الغفلة، الحماقة، الشك، وأخيراً مفاسد استماعية عامة نعرض لها بعد حين.

نحن الآن إذن أمام ثمانية أمراض من الأمراض النفسية والاجتماعية نشددها إصرارنا على ممارسة سلوك يومي هو الجدال في المسائل المختلفة التي نواجهها، دون أن ننتبه على هذه الممارسة التي حذرنا منها الإسلام، إن من أبرز البواعث التي تستحث الشخص على أن يجادل ويخاصم ويمارس ويلاحي هو حب الذات، ولقد أشار الإمام الحسين (عليه السلام) في بعض توصياته إلى هذا البحث حينما حذرنا قائلاً: (إن الشيطان ليوسوس للرجل ويناجيه ويقول ناظر الناس في الدين كي لا يظنوا بك العجز والجهل).

المجادل إذاً شخصية مريضة يسيطر عليها الشيطان ويستجرها إلى المجادلة لسبب ذاتي هو أن المجادل يستهدف من جداله أن يتفوق ويعلو ويظهر للآخرين أنه عالم ومتمكن وليس عاجزاً وجاهلاً، لاحظوا أن الشيطان هو الموسوس للرجل فيقول له ناظر حتى لا يحسبك الآخرون جاهلاً. والآن كم هو الفارق بين باعث موضوعي صرف هو الحرص على تقرير الحقائق وبين باعث ذاتي هو إبراز التعالي حتى يشبع الشخص حاجته إلى انتزاع التقدير من الطرف الآخر، أي أن يشار إليه إلى أنه عالم وليس جاهلاً.

إن المجادل في ضوء ما أوضحه الإمام الحسين (عليه السلام) شخصية مريضة عاجزة فاشلة تتحسس بالنقص والضعة فتحاول أن تعوض هذا النقص وتسده بالجدال والنقض وتخطأة الرأي وإثارة الضجيج حوله لا لشيء إلا لأنها بحاجة إلى أن تسد النقص الذي تتحسسه في أعماقه، ومما يثير السخرية حقاً، بل مما يستجر الإِشفاق على أمثلة هذه الشخصية المريضة أن تكون نتائج الجدال في غير صالحها أبداً، فالمجادل حينما يستهدف من جداله أن يثبت أصالة رأيه ؟؟؟؟ بها الآخرين فإذا به يحسب نتيجة معكوسة تماماً بحيث يرتطم بمواجهة جديدة من نظرة الآخرين عنه، فيكشف ذلك عن عيوب كان الصمت قد سترها لكنه بسبب من جداله ظهرت أمام الآخرين فحكموا عليه بالجهل والعجز وكانت النتيجة خلاف ما كان يطمح إليه.

ومن الواضح أن المريض الباحث عن تقدير ذاته حينما يفشل في تحقيق هدفه سيتضاعف عندئذ شعوره بالمرارة والتمزق وسيتعمق لديه إحساسه بالنقص وبالعجز وتجيء النتيجة تفاقماً في حالته المرضية بدلاً من محاولة تخفيفها عن طريق الجدال الذي لجأ إليه.

إذن كم هو حري بنا أن نلتزم بتوصية الإمام الحسين (عليه السلام) في تحذيره كلاً منا أن لا يوسوس له الشيطان من خلال تزيينه للمجادل وذلك بأن ؟؟؟ يحاول نفسه قائلاً ينبغي علي أن أناقش وأجادل وأتكلم وأرد حتى يقال عني رجل عالم مثقف متمكن.. الخ.

والآن إذا تجاوزنا الظاهرة المشار إليها واتجهنا إلى الظاهرة الأخرى لاحظناها في التوصية المشار إليها، لأمكننا أن نعثر على ظاهرة النفاق الذي يمثل كما كررنا واحداً من الأعراض المرضية التي تنبت في الأعماق وذلك بسبب من الجدال الذي حذرنا منه الإسلام، ولعلّكم تتساءلون مستغربين عن العلاقة القائمة بين الجدال أو الملاحاة وبين النفاق الذي يعني أن الشخص يتحدث بلسانين يخالف أحدهما الآخر بحيث يستبطن شيئاً ويظهر شيئاً آخر؟!.

وللإجابة على هذا السؤال نقول: لقد أوضح الإمام (عليه السلام) من أن المراءاة والخصومة ينبتان النفاق في القلوب كما مرّ عليكم، كما أشار (عليه السلام) إلى أنهما يمرضان القلوب على الأخوان، ولعلكم على إحاطة تامة بأن النفاق قد ألمح القرآن الكريم كما أشرنا في حينه وذلك في محور حديثه عن نمط من الكفار كانوا قد أعلنوا إسلامهم ظاهرياً ولكنهم استبطنوا الكفر والسر في ذلك هو أن يحتفظ هؤلاء المنافقون بمكاسب ومصالح اقتصادية أو أسرية أو اجتماعية أخرى كانوا يحرصون عليها سعياً وراء الحطام الدنيوي، المهم أن القرآن الكريم أطلق عليهم سمة المرض فقال (في قلوبهم مرض) مما يعني أن النفاق بعامة ومنه النفاق السياسي يعبر عن شخصية مريضة تبحث عن إشباع ذاتي لمصالحها قبل أن تعنيها أية حقيقة من حقائق الحياة.

ولكن السؤال الذي طرحناه ولا نزال لم نجب عنه هو ما هي الصلة النفسية بين النفاق بملامحه المذكورة وبين الجدال الذي يتم بين شخصين أو مجموعة أشخاص يضمهم مجلس أو قاعة تتعالى فيها الأصوات ويحتدم فيها النقاش وتتزاحم فيها الردود والنقوض يحاول كل واحد منهم أن يثبت وجهة نظره أو يستعرض عضلاته أو حتى لو كان يتحدث في حق ولكن من خلال الجدال والملاحاة والخصومة؟.

وللإجابة عن السؤال المتقدم نقول: مما لا شك فيه أن المصلحة الذاتية تقف وراء كل الأعراض النفسية التي يسمها طابع المرض، بيد أن نمط التعامل الذاتي هو الذي يميز هذا المرض عن ذاك ويميز المنافق بكونه يتحدث بلسانين يخالف ظاهر أحدهما باطن الآخر تحقيقاً لمصلحة ذاتية أشار الإمام الحسين (عليه السلام) إلى ذلك كما لاحظتم، أي تلكم السمة أو المصلحة المتمثلة في الحاجة المريضة إلى السيطرة والعلوّ والتفوق، والآن حينما يقرر المعصوم (عليه السلام) بأن المراء أو الجدال ينبت النفاق في القلب فهذا يعني أن المصلحة الذاتية المتمثلة في الدافع إلى السيطرة والعلو والفوقية تستجرّ المجادل والمناقش والمخاصم إلى أن يقع في هوّة النفاق بحيث يظهر شيئاً خلاف ما يبطنه، طبيعياً قد تبدر عنك شيئاً وتستبطن شيئاً آخر ومع ذلك فأنت لا تكون منافقاً إذ ليس كل السلوك القائم على إظهار ما هو خلاف الباطن يعد نفاقاً، بل هناك حالات كثيرة يعد فيها مثل هذا السلوك سلوكاً صحيحاً يندب الإسلام إليه ومنه ما نسميه في لغتنا اليومية بالمجاملة، فأنت حينما تجامل بعض الأشخاص كأن تصطنع سلوكاً خاصاً حياله، حينئذ تعد رجلاً متوافقاً اجتماعياً وهي صفة يؤكدها الإسلام كما يؤكدها علماء النفس والتربية والاجتماع مع أن هذا السلوك قائم أساساً على إظهار ما هو خلاف الباطن.

إذن ثمة فارق بين النفاق وبين المجاملة، إلا أن السؤال هو كيفية التمييز بينهما، أي كيف نميز بين ما هو سمة سلبية كالنفاق وبين ما هو سمة إيجابية كالمجاملة مع أنهما يشتركان في خط واحد هما استبطان شيء وإظهار شيء آخر، ولكي تتضح هذه المسألة نتقدم بمثال بسيط وهو: لديك صديق أو قريب أو أحد الذين تربطك به علاقة اجتماعية معينة حدث ذات يوم توتر بينكما بحيث تركته، فتصادفه ذات يوم في طريقك أو في مجلس أو أي مكان آخر ستسلّم عليه وستظهر له أشواقاً لا حقيقة لها في أعماقك، سبب كراهيتك إلى أنه أساء إليك ذات يوم أو أنه نهض بسلوك منفض لا ؟؟؟؟ الإسلام ولكنك عندما التقيته مع أنك قد كرهت ذلك السلوك، عندما صادفته ذات يوم في الطريق أو في المجلس أو في أي مكان آخر سلمت عليه وأظهرت له أشواقاً لا حقيقة لها في أعماقك لأنك سبق أن كرهته بسبب الإساءة إليك.

هذه حالة وإليك حالة أخرى، فثمة موظف أو مجموعة من الموظفين تضطر إلى التعامل وإياهم بسبب من انتسابكم جميعاً إلى دائرة واحدة، أنت من بين هؤلاء تتميز بكونك رجلاً مؤمناً تقياً وقد كرهتم أو كرهوك بسبب من إيمانك وفسقهم، لكنك مع ذلك تظهر مشاعر الود نحوهم بحيث تستبطن الكراهية لهم وتظهر لهم الحب.

والآن ما هو الفارق بين هذه النماذج من الأشخاص مع أنهم جميعاً يتحدثون بلسانين يخالف أحدهم الآخر، أي يظهرون خلاف ما في أعماقهم ثم ما هو الفارق بين هذه النماذج وبين نموذج آخر يظل موضوع حديثنا عن الجدال أو المراء أو التخاصم، إن المجادل عندما ينطلق في نقاشه من نقطة ضعف نفسي بالعلو والسيطرة والفوقية حينئذ يحاول بكل ما أوتي من قوى أن يحقق هذا الهدف، سيتحقق مثل هذا الهدف المريض إذا كان المجادل ذا اقتدار علمي مثلاً، لكن شريطة أن يواجه شخصية سليمة في بناءها النفسي، أي على عكس شخصيته المريضة، أما إذا واجه ؟؟؟ شخصاً مريضاً سواء أكان مختبراً لمادته العلمية أو غير مختبر فإن الهدف المرضي الذي يسعى المناقش إلى تحقيقه وأعني بها إشباع حاجته إلى السيطرة والعلو سوف لن يتحقق أبداً، لأن المناقش وهو الطرف الآخر سوف يحتجزه من تحقيق ذلك ما دام بدوره أيضاً ينطلق من نفس الدافع المرضي المذكور، أي سيحاول كل من الشخصين المرضين أن يحقق دافعاً مرضياً لا يسمح أحدهما للآخر بتحقيقه.

إذن فالتحدث بلسانين يخالف أحدهما الآخر لا يعني في الحالات جميعاً أن يكون مندرجاً ضمن ظاهرة النفاق، ولو عدنا الآن إلى نماذج من السلوك الاجتماعي الذي يقترن عادة بالمظهر المذكور أي كونك تتحدث بلسان يخالف باطنك، وهي نماذج من السلوك مألوفة تماماً حينئذٍ ستجد أن هذا يلقي ضوءاً على مفهوم النفاق الذي نهانا المشرع عنه وميّزه عن مفهوم المجاملة الذي يتطلبه السلوك الصحي، إنك عندما تصطنع سلوكاً ودياً حيال أحد المؤمنين الذين حدث بينك وبينه تأزم في العلاقات كما أشرنا قبل قليل حينئذ سيكون هذا السلوك مؤشراً إلى الصحة النفسية التي تطبع شخصيتك، والسر في ذلك أنك بهذا المظهر التعبيري ستفسح مجالاً لإزالة الكراهية من الأعماق بين مؤمنين يطالبنا الإسلام بأن لا يحمل أحدهما حقداً على الآخر.

ومن الحقائق الواضحة في حقل الصحة النفسية أن النزعة العدوانية الحاقدة هي التي تقف وراء غالبية الأمراض النفسية التي تصيب هذا الشخص أو ذاك، فإذا كان الهدف إزاحة مثل هذه النزعة الحاقدة حينئذ فإن التحدث بلسان ودي يخالف الأعماق المتوترة يصبح سلوكاً إيجابياً دون أدنى شك، وإليك الآن أمثلة أخرى في هذا النطاق، مثلاً في حقل السلوك الجمعي أو الفردي المحدود يبرز هدف إصلاحي آخر يتطلب بدوره أن تتحدث بلسانين يخالف أحدهما الآخر مع ملاحظة عدم التوافق الفكري بين الأطراف فعندما تكون موظفاً في دائرة رسمية تضمن مجموعة من الفاسقين أو غير المستويين مثلاً، حينئذ فإن تعاملك مع أمثلة هؤلاء الأشخاص يتطلب إظهار ما هو خلاف الباطن تحقيقاً للتوافق الاجتماعي الذي يطالبنا به الإسلام، أيضاً من الحقائق الواضحة في حقل الصحة النفسية أن التوافق الاجتماعي يظل مظهراً يميز الشخصية السليمة عن الشخصية المريضة التي لا تملك قابلية على التوافق، سر ذلك وهو مطالبة الإسلام بهذا النمط من التوافق هو إكساب الشخصية المسلمة سمعة اجتماعية تحبب الإسلام إلى نفوس الآخرين، فلو صارحت غير المسلم أو الكافر بكراهيتك أو نفورك منه لترتب على ذلك ضرر سلبي يخص شخصيتك وضرر اجتماعي يخص الإسلام نفسه. طبيعياً ينبغي أن يتم ذلك ليس على حساب الموقف الفكري الذي تنطلق منه بل من خلال مجرد السلوك الخارجي فالإمام علي (عليه السلام) عندما صاحب أحد الذميين وودعه عند مفترق الطرق لم تكن هذه المصاحبة على حساب الإسلام بل تمت لحساب الإسلام حيث استغرب الذمي من مجاملة الإمام واستفسر عن ذلك فأجابه (عليه السلام) بأن الخلق الإسلامي هو الذي فرض عليه مثل هذا السلوك وعندها آمن الذمي بالإسلام.

إذن ثمة مجاملة تتم لحساب الإسلام وليس على حساب ذلك والفارق كبير بين السلوكين؛ السلوك الأول مظهر لقوة الشخصية الإسلامية والسلوك الآخر مظهر لضعف الشخصية، وإليك نموذجاً من هذا النمط الأخير المفصح عن ضعف الشخصية، حدثنا أحدهم أنه اضطر إلى مصاحبة شخص في إحدى العواصم الأوروبية وعندما ضمهم أحد المطاعم حاولت هذه الشخصية المسلمة الضعيفة أن تجامل الأوروبي في تقدير ما هو محرّم إليها كتناول الخمر إلا أن الأوروبي صنع عكس ذلك تماماً فيما امتنع عن تناول الطعام المحرم مجاملة للمسلم، التوافق الاجتماعي ينبغي أن لا يتم على حساب الإسلام كما قلنا بنحو ما لاحظناه عند هذه الشخصية المريضة التي دفعها الضعف النفسي الذي تتحسسه في الداخل إلى إظهار خلاف ما تستبطنه من كراهية الأكل أو الشراب المحرم.

ففي هذا النطاق الأخير يبتعد سلوكك عن سمة النفاق حينما تتحرك من دافع موضوعي عبر تظاهرك بخلاف ما تستبطنه كما لو جاملت موظفاً فاسقاً مستهدفاً من ذلك إكساب السمعة الطيبة للإسلام، أو لو جاملت مستهدفاً انتزاع التقدير لشخصيتك حينئذ تقع في دائرة النفاق على نحو ما سلكته الشخصية الضعيفة التي جاملت الأوروبي في طلب الطعام أو الشراب المحرم إليه منطلقة من ذلك من دافع ذاتي صرف هو انتزاع التقدير لا سواه.

والحق إن هذا المعيار ونعني به الموضوعية والذاتية هو المميز للسلوك المنافق عن السلوك المجامل ليس في نطاق التعامل مع المنحرفين فحسب بل ينسحب على التعامل بين المؤمنين فيما بينهم أيضاً، فأنت حين تتظاهر بالود حيال شخص لا تميل إليه أعماقك مستهدفاً بذلك غرضاً موضوعياً صرفاً هو تحقيق الوحدة الإسلامية بين الصفوف أو تحقيق المحبة بين القلوب حينئذٍ لا يندرج سلوكك في دائرة النفاق أو المرض بعامة بل يندرج في نطاق ما هو صحي ومندوب إليه. لكن عندما تنطلق بذلك من دافع ذاتي صرف حينئذٍ يصبح هذا السلوك مؤشراً إلى سمة النفاق، ويجيء الجدال والمناقشات العقيمة ونحو ذلك مما تألفه تجمعات كثيرة هنا وهناك ثم ما يصاحب هذا الجدال والمناقشات والملاحات من سلوك مصطنع فيه نمط من التظاهر بالود يجيء مثل هذا الجدال المنهي عنه شرعاً مظهر من مظاهر النفاق الذي أشار الإمام (عليه السلام) إليه حينما أوضح لنا أن الجدال والمراء والخصومة تستتلي نفاقاً في الأعماق. والسؤال هو كيف يمكننا تربوياً أن نستخلص من أن الجدال والمناقش والمخاصم والملاحم سيقعون في هوة النفاق عبر السلوك المذكور؟

قلنا سابقاً أن النفاق التحدث بلسانين يخالف ظاهر أحدهما باطن الآخر وقلنا أيضاً الدافع إلى إبراز ما هو خلاف الباطن إذا كان مستنداً إلى حقيقة ذاتية حينئذ يكتسب هذا السلوك سمة النفاق، أما إذا كان موضوعياً فحينئذ يكتسب سمة المجاملة، والآن حين نتحدث عن الجدال والمراء ونحوهما مما حذرنا منه إسلامياً من أنه ينبت النفاق في القلوب يجدر بنا حينئذ أن نتبين صلة الجدال بالنفاق الذي لا ؟؟؟ الشخصية بأي؟؟.

إن الجدال حتى لو كان في حق يستجر إلى توتر وتأزم بين الأفراد قد يفضي في بعض حالاته إلى القطيعة بين مؤمنين يحتفظان بتاريخ طويل من الصداقة، كما يفضي في بعض حالاته إلى الكراهية بينهما كل ما في الأمر أن كل واحد من الأطراف يختزن هذه الكراهية في أعماقه وإن كانت في حالات كثيرة تطفح الكراهية على الشخص ولكنها في حالات أخرى تظل خبيئة أو على الأقل يمكننا ملاحظة التكلّف في اصطناع الود بين الطرفين حتى أن كل واحد من المتجادلين يتحسس افتعال المشاعر من أحدهما حيال الآخر!!. ومع تضخم مثل هذه الافتعالات في المشاعر واستمرارية ذلك تبدأ ملامح النفاق بالتمركز حتى تتحول إلى سمة في الشخصية والسر في ذلك هو أن النفاق ما دام يعني إبراز ما هو خلاف الباطن ويعني ثانياً صدور هذا السلوك من باعث ذاتي وليس من باعث موضوعي حينئذ فإن اصطناع مشاعر الود مع احتفاظ الأعماق بالحقد والكراهية يظل بعينه نفاقاً لكل ما تحمله هذه الكلمة من دلالة.

طبيعياً ثمة فارق بين أن تصطنع وداً مع محاولتك من الأعماق أن تزيح مناشئ التوتر بينك وبين الآخر، حينئذ فإن أمثلة هذا السلوك يعد سمة إيجابية يندب الإسلام إليها لأنها ببساطة تدريب على السلوك السوي وتسويق المحبة بدلاً من الكراهية، أما حين تحتفظ أعماقك بالتوتر وبالكراهية لشخص ما يضطر جهاز قيمك الخاص إلى أن تصطنع الود حياله، حينئذ فإن النفاق هو الذي سيطبع أعماقك عبر مثل هذا السلوك، ؟؟؟ كبيرة بين محاولة جدية لافتعال الود حيال شخص وبين محاولة غير جدية لافتعال الود، ولذلك يمكننا من هذه النقطة أن ندرك دلالة ما ألمح الإمام علي (عليه السلام) حينما قرر أن المراء أو الخصومة يمرضان القلوب على الأخوان وينبت عليهما النفاق.

والآن لو ذهبنا نتابع سائر الأعراض المرضية التي يسببها الجدال لوجدنا أن الكذب كما سنحدثكم عنه لاحقاً في محاضرة مستقلة يجيء سمة عصابية ثالثة للشخصية المجادلة، إن الكذب في بعض أشكاله من وجهة علم النفس المرضي يعد تجسيداً لما يسمى باللغة النفسية التبرير أو التسويغ، حيث يحاول المريض التنكر للسبب الحقيقي الكامن وراء سلوك معين غير مقبول فيستمع كلاماً لا أساس له من الواقع يحتمي به دفاعاً عن ذاته المريضة، وإذا كانت الفاعلية المذكورة ونعني بها التسويغ أو التبرير ترتد في بعض حالاتها إلى مناشئ غير واعية، فإن الكذب الواعي يرتد دون أدنى شك إلى المناشئ ذاتها عندما نجد الشخصية لا تتحرج من الكذب حتى لا يمسها الأذى أي لا يمس الأذى دافعي التقدير الذاتي والاجتماعي لديها، وهما دافعان ينشطان بنحو غير مشروع نتيجة خبرات مؤلمة تتعرض الشخصية لها في ظل بيئة ثقافية منحرفة سواء تم ذلك في نطاق واعي أو غير واعي من السلوك. إن المشرع الإسلامي يشدد كل التشدد في النهي عن الكذب حتى أن بعض النصوص الإسلامية تقرر بوضوح أن المؤمن قد يقوم في لحظة من الضعف بكل المفارقات بما فيها ما هو محرم ولكنه لا يكذب، والمهم أن الكذب كما سنحدثكم عنه لاحقاً يظل من المظاهر السلوكية التي ينبغي أن نسلط عليها مزيداً من الأضواء لأنه داء قد تفشى في الحياة اليومية بنحو ملحوظ.

أما الآن فسؤالنا هو عن علاقة الكذب بالجدال؟!.

وللإجابة عن هذا السؤال تبدو الإجابة واضحة حينما نعود إلى ما قرره الإمام الحسين (عليه السلام) من أن المجادل ينطق في جداله من الدافع إلى السيطرة والعلوّ والتفوق، أي إن الشيطان يوسوس له قائلاً إذهب وجادل وخاصم حتى لا يقال عنك جاهل، إن المجادل بما أنه يبحث عن تأكيد ذاته وجلب الانتباه عليها حينئذ يضطر إلى ممارسة أي سلوك يحقق لذاته المريضة إشباعاً وذلك من يحث انتزاع التقدير والإعجاب بها، هذه الشخصية لك لا تسمح لذاتها بأن تصاب بالأذى تضطر أن تمارس الكذب حتى لا تسمح لخصمها بالتغلّب عليها حتى أنها مثلاً قد تسأل عن حكم شرعي مثلاً فتجيب بما لا حقيقة له حتى لا يقال عنها أنها غير عالمة، وهذا يعني أنها لجأت إلى الكذب في مناقشتها للآخر!!.

إن التوصيات الإسلامية طالما تحذرنا من الإجابة بغير علم حتى أنها تتوعد بأشد العقاب الأخروي لكل ؟؟؟ بما لا يعلم، إنها تطالبنا بأن نقر بالجهل بدلاً من التعالم وبدلاً من التو؟؟؟ بالعلم ومن الواضح في حقل الصحة النفسية أن التدريب على قول الحقيقة بدلاً من الكذب يظل تدريباً على سحق ما هو ذاتي وإدراج ما هو موضوعي من السلوك، في حين أن الشخصية المجادلة تمارس سلوكاً عكسياً هو اللجوء إلى ما هو ذاتي بدلاً عما هو موضوعي، إنها تلجأ إلى الكذب بدلاً من أن تقر بالحقيقة، والكاذب حين يسأل نفسه عن الباعث لهذا السلوك حينئذ سيواجه الحالة المرضية التي تقول له دافعك إلى السيطرة والعلو والفوقية وانتزاعك التقدير الزائف من الآخرين هو الباعث إلى هذا الكذب الصادر منك.

غن الكذاب في اللغة النفسية في بعض أنماط سلوكه كما قلنا رجل مريض تاريخه محسوم بتجارب مؤلمة تمزقه كل ممزق، ولذا نجده يلجأ إلى حيلة دفاعية يخفف بها شيئاً من أعماقه الممزقة، إن هذه الحيلة الدفاعية لذاته الممزقة ستزيده تمزيقاً حينما يعي تفاهة ذاته فيشتد مرضه في نفس اللحظة التي يحاول فيها أن يخفف من أزماته النفسية.

والمهم أن للجدال والمناقشات العقيمة التي تعود بها مجتمعاتنا تستجر الأفراد إلى الوقوع في أشد الأمراض النفسية تفاقماً ومنها ظاهرة الكذب التي حذرتنا التوصيات الإسلامية منها على نحو ما تكلمنا عنها في صدد ما يرتبط بظاهرة الجدال، أما الكذب وما يقابله من الصدق، أو لنقل الصدق وما يقابله من الكذب فيظل سمة سبق أن كررنا الحديث عنها من أنها تجسّد أخطر الأمراض النفسية التي تعجّ بها مجتمعاتنا حيث تظل ظاهرة الكذب مفتاحاً لكل الشرور كما قلنا، وحيث يظل الصدق مفتاحاً لكل معالم الإيمان كما وردت بذلك التقريرات العيادية الإسلامية، المهم سنحدثكم عن هذه الظاهرة بشكل مفصّل إنشاء الله في محاضرتنا اللاحقة، ولكننا الآن نشير فحسب إلى تمهيد لهذا الجانب فنقول:

إن سمة الصدق ويقابلها الكذب وردت في القائمة التي قدمها الإمام الصادق (عليه السلام)، أي القائمة المتضمنة خمساً وسبعين مفردة من مفردات السلوك الإيجابي وما يقابلها من مفردات السلوك السلبي، والصدق والكذب يمثلان كما قلنا واحدا من الممارسات اليومية التي لا تكاد الشخصية تمتلك خياراً إلا بممارسة إحداهما أو كلتيهما في تعاملها اللفظي مع الآخرين؛ ومع أن علم النفس الأرضي يشدد على سمة الصدق بصفتها مظهراً لاستواء الشخصية وما يقابلها من الكذب بصفته من أبرز الممارسات التي يتوسل بها الشواذ والمنحرفون حيث يدرج الكذب في قائمة أمراض الشخصية أي الأمراض الانحرافية التي تصدر عن أشخاص يحتفظون بسلامتهم العقلية كما لا يدرجون ضمن الأمراض العصابية المعروفة بل يتميزون كما سبق أن كررنا في محاضرات سابقة بجملة من السمات اللااجتماعية كعدم الإحساس بالمسؤولية وعدم التبصر وفقدان الجهاز القيمي.. الخ.

نقول مع أن أمثلة هذه الملاحظات العيادية التي توفّر عليها علم النفس الأرضي في ما يتصل بالظاهرة المذكورة إلا أن الكذب يظل في مقدمة الأعراض المرضية التي لا تكاد الشخصية أن تخلو منها.

أما إسلامياً فإن التوصيات الإسلامية المتصلة بهذا الجانب تأخذ مجالاً كبيراً إلى الدرجة التي تضع فيها ظاهرة الصدق وما يقابلها من الكذب في أبرز السمات التي تفرز الشخصية الإسلامية عن غيرها، وهذا كما وعدناكم يتطلب منا أن نفصّل الحديث عنه تفصيلاً وافياً حتى نستطيع تربوياً أن نتخلص من هذه الممارسة التي ينبغي أن نكون صريحين حيال أنفسنا بالنسبة إليها وهي ممارسة الكذب بصفته أشد مرض عبادي يقتاد الشخصية إلى أن تقع في انحرافات متباينة بالنحو الذي سنحدثكم عنه لاحقاً إنشاء الله، وبهذا نستودعكم الله سبحانه وتعالى..

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..