mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 18.doc

التقدير الاجتماعي 

بدأنا في محاضرتنا السابقة بالحديث عن تنظيم الدوافع المركبة في الإنسان والعمليات التربوية التي ينبغي أن تمارس لكي يحقق هذا التنظيم هدفه الإسلامي المتمثل في صياغة الشخصية صياغة عبادية بالنحو المطلوب، وقد حددنا الحديث أولاً بتناول الدوافع النفسية وبدأنا ذلك بالحديث عن أهم هذه الدوافع النفسية التي يصطلح على أحدها بالانتماء الاجتماعي وأوضحنا أن الإسلام يقر الانتماء الاجتماعي بالنحو الذي أقره البحث الأرضي، ولكنه ينبغي أن لا يفصله أساساً عن الانتماء إلى الله سبحانه وتعالى، أي أن يصوغ علاقته الاجتماعية بالآخرين من خلال ما يطلبه الله سبحانه وتعالى من صياغة مبادئ في هذا الصدد.

وقلنا أن نمط الوعي عند الشخصية سوف يحدد نمط أو حجم انتمائه الاجتماعي، فإذا كان الانتماء الاجتماعي فارضاً فاعليته في نطاق معلوم هو احتياج البشر بعضهم إلى الآخر، فإن الاستغناء عن  البشر ينبغي أن لا يتم إلا من خلال القناعة بأن الله سبحانه وتعالى هو السبب الرئيس في أي حماية ينشدها الكائن الإنساني من الآخرين، من خلال انتمائه إليهم.

أما الآن فنتحدث عن الدافع النفسي الثاني المتسم بالأهمية بدوره ألا وهو الحاجة إلى التقدير الاجتماعي أو الدافع الاجتماعي، وقد قلنا أن المشرع الإسلامي يطالبنا بأن نضع التقدير الإلهي أولاً بنظر الاعتبار، ثانياً أن نضع التقدير الاجتماعي في ضوء التقدير الإلهي الذي يظل يتفاعل مع التقدير الاجتماعي بقدر ما لاحظناه من التفاوت بين الانتمائين الاجتماعي والإلهي، وهذا ما يتطلب مزيداً من إلقاء الإنارة عليه فنقول:

بالنسبة إلى كل من التقديرين الإلهي والاجتماعي، نقول بالنسبة إلى المصطلح الأول وهو التقدير الاجتماعي، إن هذا المصطلح يعني الحاجة إلى تثمين يصدر من الآخرين حيال الشخصية، سواء أكان هذا التثمين يتصل بمشاعر ودية حياله أو تقديراً لخدمات أداها إلى المجتمع، وهذا يعني أن الحديث عن التقدير الاجتماعي ينشطر إلى نمطين: أحدهما التقدير المرتبط بعملية الحب، أي حاجة الإنسان إلى أن يحبه الآخرون، والشطر الآخر هو حاجة الإنسان إلى أن يقدره الآخرون من خلال الخدمات التي يقدمها إليهم أو إلى المجتمع بنحو عام.

ويلاحظ أن أحد الباحثين المعاصرين شدد على أهمية هذا الدافع بنحوٍ جعله مشروعاً كل المشروعية مؤكداً أحقية الشخص الذي يقدم إنجازاً ما أن يصدر عن رغبة جادة في مكافأته على ما أنجزه من عمل، أو في تحقيق المنزلة الاجتماعية التي تتناسب وإنجازه المذكور، ونحن بعد أن أوضحنا انتفاء الحاجة إلى الانتماء الاجتماعي وهو أشد لصوقاً بحاجات الفرد حسب لغات الأرض من التقدير الاجتماعي، حينئذٍ يصل الأمر حيال الحديث عن هذا التقدير الاجتماعي، إن الحاجة إلى التقدير الاجتماعي تقترن كما قلنا في تصور علماء التربية والنفس بظاهرتين هما: الحاجة إلى الحب، والحاجة إلى المكافأة، أما الحاجة إلى الحب فتعني أن الفرد يحس بالحاجة إلى أن يكون موضوع حب من الآخرين يحسسونه بآدميته وبكيانه وبشخصيته لا أن يكون موضع نفور وكراهية أو إهمال.

وأما الحاجة إلى المكافأة فتعني أن الفرد يحس بالحاجة إلى أن يثمن الآخرون إنجازاته التي يحتفظ بها لنفسه، أو يقدمها إلى الآخرين ويمنحوه المكافأة المعنوية أو المادية لإنجازه متمثلة في تحقيق السمعة أو المكانة الاجتماعية التي تتناسب وحجم الإنجاز الفكري أو التقني الذي قدمه.

إن هذين المبدأين الأرضيين في الواقع، ونعني بهما الحب والمكافأة، يقرها المشرع الإسلامي ولكن في نطاق محدود ضمن شروط خاصة تماثل ما سبق أن أوضحناه عند حديثنا عن الانتماء الاجتماعي، أما الحب فإن المشرع الإسلامي يشدد عليه بحيث تؤكد النصوص الذهاب إلى أن سمة المؤمن هو أن يألف ويؤلف، أي أن يحب الآخرين وأن يحبه الآخرون أيضاً، وهي مقولة فطن إلى حقيقتها مؤخراً أحد الباحثين المحدثين حينما رسم معياراً للشخصية السوية قائلاً أنها هي التي تحِب وتحَب، بيد أن ما يميز التصور الإسلامي عن التصور الأرضي في ظاهرة الحب هو تحديد مصدر الرغبة في الحب.

إن عالم النفس الأرضي أو التربوي يحدد الرغبة في الحب من خلال الفرد الباحث عن الحب بصفته حاجة أو دافعاً يتطلع إلى إشباعه، أي أن الفرد يرغب في أن يخلع الآخرون الحب عليه حتى يتحسس أهمية وقيمة ذاته أو كيانه أو شخصيته، بيد أن الإسلام في الواقع مع كونه يقر الحب أساساً أي ثمة نصوص تشير في الواقع إلى أن الإنسان مثلاً يحب أن يرى الآخرون ما يعمله من الخير، وهذا طبعاً يتناسب تماماً مع حاجة الشخصية إلى تحقيق اللذة والاجتناب عن الألم، كما أنه يتناسب وعز الشخصية حيث سنرى لاحقاً أن الإسلام يؤكد على ضرورة أن تكون الشخصية الإسلامية عزيزة، أي تحتل موقعاً عزيزاً عند الآخرين.

بيد أن ما ينبغي أن نقوله في هذا الصدد أن الحب من قبل الآخرين، أو حاجته الشخصية إلى أن يحبه الآخرون، إنما ينبغي أن لا تنفصل عن الله سبحانه وتعالى، لذلك نجد أن أحد المعصومين (عليه السلام) حينما جاءه أحد الأشخاص وقال له: إني لأحبك،حينئذ الإمام المعصوم (عليه السلام): أجابه إن كنت تحبني من أجل الله سبحانه وتعالى فإني أرحب بمثل هذا الحب وإلا فلا قيمة لمثل هذا الحب.

وهذا يعني أن الحب ينبغي أن يكون من أجل الله، أما إذا تجرّد عن ذلك حينئذٍ يظل الحب في الواقع مجرد حاجة ذاتية نفعية تتمحور حول أنانية الإنسان وبحثه عن إشباع حاجاته الفردية وهذا هو منتهى السلوك الشهواني كما أوضحنا ذلك في محاضرات سابقة.

وهذا فيما يتصل بحاجة الإنسان إلى أن يحبه الآخرين، إلا أن هناك مبدأ آخر أشد أهمية من هذا، ألا وهو التفسير الذاهب إلى أن الحب في الواقع ينبغي أن يصدر عن الشخصية حيال الآخرين، لا أنه يريد من الآخرين أن يحبوه، وهناك فارق كبير بين الموقفين؛ أي هناك فارق بين أن نطلب من الناس أن يحبونا وبين أن نكون نحن محبين لهم. والفارق يتمثل بوضوح في أن حبنا للآخرين هو في الواقع إيثار وتضحية بينما يمثل الآخرين إلينا هو أنانية وذاتية. وبكلمة أكثر وضوحاً نقول إن الشخصية الإسلامية حينما تطالب بأن تألف وتؤلف أي تحب وتحَب فإنما يتم ذلك نظراً إلى أنها تسلك سلوكاً قائماً على المرونة واللين والبشاشة ولأنها تسلك أمثلة هذا السلوك المرن فإن الآخرين يحبونها بالضرورة، لا أنها ترغب في أن يحبها الآخرون لكي تشبع حاجتها إلى الحب، وتحقق بذلك تأكيداً على الذات لذلك، وورد عن أحد المعصومين (عليهم السلام) قوله بما مؤداه أن الشخصية الإسلامية هي بحاجة إلى الآخرين، وحاجتها إلى الآخرين هي أن تساعدهم وتقضي حاجاتهم وتحبهم.. الخ. لا أنها بحاجة إلى أن يحبها الآخرون.

إذن الحاجة إلى الحب تظل منشطرة من جانب إلى نمطين من السلوك؛ أحدهما هو أن الشخصية تحب بأن يحبها الآخرون، والنمط الآخر هو أن الشخصية تحب أن تحب الآخرين، أي أن الشخصية بحاجة إلى أن تخلع حبها على الآخرين، أما في النمط الأول فإن الحاجة تتمثل في كون الشخصية تريد أن يحبها الآخرون، وهذا كما قلنا سلوك أناني بينما الثاني سلوك إيثاري كما بينا.

وهذا هو القسم الأول من مصطلح التقدير الاجتماعي الذي يعني أن الشخصية تحس بالحاجة إلى تثمينها من خلال الحب الذي يخلع عليها من قبل الآخرين، أو من خلال الحب الذي تخلعه هي على الآخرين، وأما الوجه الآخر من التقدير الاجتماعي، وهو وجه سنطيل الوقوف عنده لأنه وجه يعنى به البحث الأرضي عناية بالغة، ولأنه حتى لدى الإسلاميين مع الأسف الشديد يظل موضع سلوك غير صائب وهذا ما يدفعنا كما قلنا إلى أن نفصل الحديث عنه وما نبدأ به الآن هو أننا نقول:

إن الوجه الآخر من الحاجة إلى التقدير تتمثل في مصطلح المكافأة، والمكافأة تعني أن الإنسان يحس بالحاجة إلى أن ما يقدمه من إنجاز، هذا الإنجاز يتسم بشيء له أهميته وقيمته، لذلك فلابد أن ينطوي على مكافأة لهذا الموضوع؛ هذا هو التصور الأرضي لمفهوم التقدير الاجتماعي في وجهه الآخر الذي يعني المكافأة، ولكننا إذا اتجهنا إلى التصور الإسلامي فإن الأمر يقف تماماً على الضد من التصور المذكور. ولكي نحدد بوضوح السمات المرضية لهذا الوجه من الحاجة إلى التقدير الاجتماعي وغياب ذلك عن ذاكرة علماء النفس والتربية، ثم تحديد التصور الإسلامي لها يتعين علينا أن نطرح أولاً جملة من الحقائق ومنها:

أولاً: أن البحث عن المكافأة ينطوي على الإحساس بأن ما قدمه الفرد من إنجاز هو عمل له قيمته وأهميته.

ثانياً: أن الفرد هو مصدر الإنجاز المذكور.

ثالثاً: إن منح المكافأة يظل مقترناً بمشروعية الرغبة في الحصول عليها، أي تمثل حاجة أو دافعاً إلى أن تستلم الشخصية التقدير من الآخرين.

والحق إن هذه الظواهر الثلاث التي أشرنا إليها لا تجسد واقعاً مشروعاً بقدر ما تجسد سلوكاً مرضياً قائماً على إدراك وهمي بحقائق الطبيعة البشرية مقروناً بالبحث عن الإشباع الذاتي الشهواني والتمركز حول الذات.

والآن لنبدأ في توضيح هذا الجانب من الحقيقة الأخيرة، وهي مشروعية الرغبة في الحصول على استلام التقدير، فقد سبق أن أوضحنا أن المشرع الإسلامي يطالب الشخصية بأن تمحض نشاطها لله جميعاً وأن تلغي الشخصية الآخرين من حسابها تماماً، وذلك بأن لا تشرك الآخرين في ممارساتها وأن لا ترائي بها بل تصوغها خالصة لله سبحانه وتعالى، وهذا يعني أن الثواب أو المكافأة ينبغي أن تكون أيضاً ملغاة من حساب الشخصية الإسلامية، بل ينبغي أن يكون لسان حالها متوافقاً مع الآية الكريمة القائلة: (لا نريد منكم جزاءاً ولا شكورا) والسؤال الآن هو هل أن عدم المطالبة بمكافأة الآخرين قائم على عدم فاعلية الآخرين في تقديم المكافأة أم أن المطالبة أساساً تحتجز الفرد من الاستمرار في إنجازاته عند غياب المكافأة؟ أم أن الإنجاز ذاته لا يستحق مثل هذه المطالبة لانتفاء أهميته أساساً؟.

هذه الأسئلة تتطلب إجابة دون أدنى شك، ولذلك نقول أن مما لا شك فيه أن الحقائق المذكورة تظل قائمة وراء عدم مشروعية المطالبة بالمكافأة إذا أخذنا بنظر الاعتبار حقيقة التركيبة الآدمية، وحقيقة ما تقدمه من إنجاز، فالمطالبة بالمكافأة تقترن مع فرضيتنا الذاهبة إلى أن الفرد يمتلك إمكانات داخلية ذاتية لا يمدّه بها أي مصدر خارجي عن الذات البشرية، أما مع افتراضنا بأن المصدر الخارجي وهو الله سبحانه وتعالى هو الذي يمد الكائنات البشرية بالإمكانات المتنوعة حينئذ لا قيمة حقيقية لأي إنجاز تنسبه الشخصية لذاتها لأن هذا الإنجاز منسوب إلى الله تعالى وليس إلى الشخصية حيث لا تملك لنفسها  ضرا ولا نفعأً ولا موتاً ولا حياة ولا نشورا..

والآية الكريمة التي تقر أن الكائن الآدمي لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً.. أما ما بنا من حسنة فمن الله وما بنا من سيئة فمن أنفسنا، إن مثل هذا التقرير ليكفي في تحسيسنا بأن أي إنجاز يصدر منا إنما هو إنجاز يستمد إيجابيته من مصدر خارج عن ذات الشخصية ألا وهو مصدر السماء وليس الذات التي تبحث عن التقدير الزائف لإنجازاتها.

إن العالم التربوي الأرضي بحكم غيابه عن السماء لا يملك إدراكاً حقيقياً بواقع الشخصية من حيث صلتها بالسماء بقدر ما يملك إدراكاً قاصراً يحوم على الأرض وإفرازات الأرض منفصلة عن الخلفية التي تربط الأرض بالسماء، أي أن عالم النفس الأرضي يتسلم كائناً آدمياً يخضعه لإمكانات فطرية أو بيئية تسعفاه في تقدير إنجازاته ناسجاً إما صمتاً حيال القوة التي تمده بالإمكانات أو إخضاع ذلك لذات الشخصية لذلك يواجه البحث الأرض تناقضاً بين إقراره لبعض أشكال التأكيد على الذات كالمطالبة باستلام المكافأة وبين إنكاره لبعض أشكال التأكيد الأخرى، فالتأكيد على الذات النفعية بعامة يشكل سمة عصابية في تصور علماء التربية والأرض أنفسهم، إلا أن هؤلاء العلماء عندما يتحدثون عن إنجاز ما حينئذٍ ينفون سمة العصاب عن الشخصية ويحولون ذلك إلى سمة سوية مع الأمر في الحالتين هما وجهان لعملة واحدة، وهي البحث عن الذات.

إن الأرضيين من الممكن أن يستندوا في إكسابهم طابع السوية لهذا الدافع التقدير الاجتماعي، إلى واقعية الإنجاز وما يصاحبه من الإحساس المشروع مقابلاً للتضخيم أو التهويل الذي يصاحب إحساس المرضى بحجم واقعهم، ولكننا نتساءل هل أن مجرد الواقع كاف في إكساب الإحساس صفة السلوك السوي؟

طبيعياً كلا، فمثلاً إن الزهو يعد لدى كل الاتجاهات الأرضية سمة عصابية، فإذا افترضنا أن الإحساس بالزهو نابع من واقع ما تتميز به الشخصية المزهوة من تفوق علمي، أو اجتماعي، فهل إن هذا الواقع الذي تتميز به الشخصية يسوغ لها بأن تمارس الزهو والتعالي والتكبر وو.. على الآخرين؟ ونعد مثل هذه الممارسة ذات طابع سوي؟ طبيعياً لا، حيث تقول الاتجاهات النفسية بأكملها أن عملية الزهو والكبر والتعالي هي سمة مرضية.

إذن مجرد اكتساب الظاهرة سمة الواقع لا يسوّغ جعلها سمة سوية، والأمر نفسه بالنسبة إلى الرغبة في استلام التقدير من الآخرين، لأن الرغبة المذكورة تجسد زهواً وتعالياً داخلياً تتحسسه الشخصية وتطالب في ضوءه بأن تتسلم مكافأة على ذلك.

إذن ما هو الفارق بين الحالتين؟ ما دام كل من الحالتين يرتكن إلى واقع وليس إلى وهم أو تضخيم للواقع؟!.

والواقع هو الإحساس بالتفوق والتعالي والزهو ..الخ، كل ما في الأمر أن الشخصية المزهوة أو المتكبرة تصطنع مظهراً حركياً للتعبير عن إحساسها الداخلي للزهو، أما البحث عن التقدير الاجتماعي فإن مطالبته بالمكافأة على ما أنجزه من عمل تعد تعبيراً عن الإحساس الداخلي بالزهو والتعالي والتكبر ذاته.

إذن نخلص مما تقدم إلى أن عالم البحث التربوي والنفسي يقع في تضاد علمي واعياً أو غير واع، حينما يكسب التمركز حول الذات طابعاً مرضياً في حين وفي حين آخر يصلح الطابع المذكور عنه في بعض الأشكال من التمركز حول الذات ومنه الذاتية القابعة وراء المطالبة بتسلّم التقدير من الآخرين، وهذا كله مع فرضية أن الفرد الباحث عن التقدير قد ارتكن إنجازه الفكري أو المادي إلى إمكانات داخلية لديه لم يمدها بمصدر خارجي هو الله سبحانه وتعالى، وأما مع الافتراض الأخير فإن الإحساس بالزهو أو الإعجاب بالإنجاز ينتفي أساساً كما هو واضح، لكننا بغض النظر عما تقدم نجد في الواقع أن إعجاب الشخصية بعملها الذي أنجزته، وطالبت في ضوئه بتسلم التقدير من الآخرين، مثل هذا السلوك ينطوي في الواقع ليس على سمة عصابية ومرضية فحسب، بل يستتلي ضياعاً للعمل الذي أنجز ذاته، فضلاً عن أنه يستتلي في حالة غياب التقدير، أي فقدان التقدير أو فقدان المكافأة لهذه الشخصية هذا يستتلي في الواقع إماتة الحس بالمسؤولية لدى الشخصية المذكورة وترشيح الفرد في الوقوع في مرض آخر من أمراض الشخصية، لذلك طالب المشرع الإسلامية الشخصية بأن تتحرك من خلال إحساسها بكونها قاصرة مهما كان إنجازها خطيراً، بدلاً من أن تتحرك من خلال إحساسها بالعجب بنفسها.

وإليكم الآن مجموعة من النصوص التي تجسد هذا الجانب من السلوك الذي أشرنا إليه، هناك رواية تقول:

(إن الرجل ليذنب الذنب فيندم عليه، ويعمل العمل فيسره ذلك فيتراخى عن حالته تلك فلئن يكون على حاله تلك خير له مما دخل فيه).

لاحظوا أن هذا النص يشير إلى أن الرجل إذا أعجب بنفسه حينئذٍ فإن هذا الإعجاب يحتجزه عن مواصلة عمله المذكور، أي أنه يتراخى فيه لأنه تسلّم إعجاباً من الآخرين بعمله، لذلك لا يجد ضرورة بأن يستمر في عمله المذكور ما دام قد ظفر بالإعجاب وهذا ما يجعله يتراخى ويقف ولا يتطلع إلى تحقيق الأفضل، ولعلّ النص الآتي للإمام علي (عليه السلام) يظل أشد وضوحاً مما تقدم في تقريره العيادي القائل:

(الإعجاب يمنع من الازدياد).

هذا النص يوضح كيف أن إعجاب الإنسان بنفسه يمنعه من أن يتابع عمله مكتفياً بقدر محدد منه، أياً كان حجمه في تصور هذا الشخص.

يضاف إلى ذلك أن أمثلة هذا الإحساس، أي إعجاب الإنسان بنفسه يختلف في الواقع بنظرة مريضة لدى الشخصية عن ذاتها، وهذا يتجاوز وقوع هذه الشخصية في وهدة المرض النفسي على النحو الذي يشير إليه الإمام علي (عليه السلام) عبر تقريره القائل: (إعجاب المرء بنفسه يدل على ضعف عقله).

هذه السمة (ضعف العقل) لا تعني مرضاً عقلياً كالتخلف مثلاً أو انخفاض درجة الذكاء الفطري بقدر ما تعني التصور الواهم للشخصية عن ذاتها، وهو تصور تتبعه سمات مرضية ما دام قائماً على الإحساس بالرضا وبالإعجاب وبالفوقية وسواها من أشكال التورّم الذاتي، على أن أشد أنماط هذا الإحساس خطورة هو ما إذا صاحبه غياب التقدير الاجتماعي، أي في حالة ما إذا قدمت الشخصية إنجازاً ما ثم لم تكافئ دنيوياً على إنجازها، يترتب على ذلك وقوع الشخصية في وهدة مرض آخر هو إماتة حس المسؤولية لديها، فلو افترضنا أن عالماً أو موظفاً قد اقترن نشاطه بالتقدير من قبل المؤسسة التي ينتمي إليها، فإن نشاطه سيأخذ حجماً بقدر حجم ما يتسلمه من التقدير على عمله، لكن في حالة غياب التقدير مثلاً فإن النشاط لدى هذه الشخصية يبدأ بالضمور والاضمحلال تدريجاً حتى ينعدم الحس بالمسؤولية لديه أساساً، لأن الحس بالمسؤولية يظل مرتبطاً بمشروعية الرغبة في تسلم الأجر أو المكافأة أو التقدير، وليس من أجل أن الموضوع نفسه يتطلب مثل هذا العمل أو مثل هذا الإخلاص في العمل.

من هنا فإن التصور الإسلامي لهذه الظاهرة يأخذ منحى مختلفاً عن المنحى الذي نجده عند الأرضيين حيث أن التصور الإسلامي لهذه الظاهرة يتمثل في ضرورة إقبال الشخصية على تنمية إحساسها  بالقصور فيما تعمله بدلاً من الإحساس بالإعجاب بما تعمله مضافاً إلى ذلك نظرة تدريب الشخصية على أن تمحض نشاطها لله سبحانه وتعالى معلقة ذلك على تسلم التقدير منه تعالى وليس من سواه.

ونحن الآن إذا دققنا النظر في كل من وجهتي النظر الإسلامية والأرضية في التقدير أمكننا أن نتبين مدى الفارق بينهما في حقل الصحة النفسية، حيث تقودنا الأولى إلى صياغة شخصيتنا متوافقة سوية، بينما تقودنا سوية إلى صياغة مريضة ومنشطرة ومتصارعة، والسر في ذلك هو أن البحث عن التقدير الاجتماعي يعد سمة مرضية ما دام حاملاً على الذات، كما أن درجة المرض تأخذ بالتضخم حينما تقترن بالإعجاب بما أنجزته الشخصية من عمل، وأما في حالة الإحباط أي عدم وجود التقدير فإن المرض يأخذ طابع الخطورة ما دمنا نتوقع في أحد وجهي التقدير وهو الحب أن الآخرين ليسوا على استعداد لمنح الحب لهذه الشخصية مما يدعها نهباً للصراع والخيبة، كما أننا في الوجه الثاني من التقدير وهو المكافأة نتوقع أن الآخرين ليسوا أيضاً على استعداد لتقديم المكافأة مما يقود الشخصية إلى التراخي في إنجازها ثم ما يستتبع هذا التراخي من فقدان الحس بالمسؤولية مما يضاعف من خطورة الأمراض بما يصاحبها أولاً من مشاعر التوتر والصراع عند الإحباط وما يجره ثانياً من خلخلة لجهاز القيم لدى مثل هذه الشخصية.

وعلى العكس من ذلك تماماً نجد أن الشخصية الإسلامية عندما تلغي الحاجة إلى التقدير الاجتماعي فإنها تعوّضه بتقدير من الله سبحانه وتعالى، وعندما تلغي الآخرين من حسابها حينئذ تقبل على متابعة إنجازها دون أن تعنى بالإحباط ونتائجه، فالإحباط وحده هو الذي يقتاد الشخصية إلى الوقوع في هاوية المرض النفسي ما دام يحسس الشخصية أولاً بخيبة أمل في إشباع حاجاتها وما دامت خيبة الأمل تجره إلى التوتر والصراع ثانياً، أما الشخصية الإسلامية فإنها لا تواجه الإحباط أساساً ما دامت قد ألغت الآخرين من ذاكرتها كما قلنا، وما دام إشباع حاجاتها موكولاً إلى أن السماء هي التي تقدر وتثمّن ذلك وإنها ستسد حاجاتها من حيث لا تحتسب وتمنحها في اليوم الآخر تقديراً لا حد له، مما تجعلها وهي تمارس إنجازاً ما آمنة راضية متوافقة متوازنة لا تحيا صراعاً ولا توتراً ولا خيبة أمل.

والآن مع انتهائنا من الحديث عن التقدير الاجتماعي نتجه إلى الحديث عن موضوع آخر ألا وهو العنوان القائل (التقدير الاجتماعي والعز) أي إننا الآن بصدد بحث العلاقة بين التقدير الاجتماعي الذي ألغيناه من الشخصية حسب التصور الإسلامي وبين التصور الإسلامي الذي يطالب الشخصية بأن تكون عزيزة، أي أن تقترن بتقدير من الآخرين وهذا هو ما يجرنا إلى السؤال الآخر وهو: كيف يمكن أن نوفق بين انتفاء الحاجة إلى التقدير الاجتماعي وبين أهمية ضرورة العز وارتباطها بالتقدير الاجتماعي من جانب آخر؟!!.

حينما يشدد المشرع الإسلامي في ظاهرة العز فإن هذا التشدد لا يعني البحث عن التقدير الاجتماعي الذي أوضحنا أن الشخصية الإسلامية لا تعنى به بقدر ما تعنى بأن تتسلم تقديراً من السماء، بل يعني أن الشخصية الإسلامية بحكم موقعها من السماء ونفض يدها عن الآخرين سوف تتحسس بقيمتها بنحوٍ لا تسمح لنفسها بأي تعامل مذل ينتقص من قيمتها أمام الآخرين، فالفارق هنا بمكان كبير بين شخصية أرضية متورمة الذات تبحث عن الحب أو المكافأة الاجتماعية كأن يحترمها الآخرون أو يهبونها سمعة أو مكانة اجتماعية لإشباع دافع السيطرة والفوقية لديها، أو إشباع ذاتها الباحثة عن مطلق الثناء وبين شخصية إسلامية لا تعنى بالسمعة أو الثناء، ولا بأي شكل من أشكال التأكيد على الذات، بل تعنى بصياغة شخصيتها على نحو يتناسب مع خطورة السماء، وذلك بأن تنكأ عن كل أشكال الحطة الاجتماعية التي لا تتناسب والخطورة المذكورة!.

من هنا فإن الإمام زين العابدين السجاد (عليه السلام) حينما يتجه إلى الله سبحانه وتعالى قائلاً: (وأعزني ولا تفتني بالكبر).

الإمام هنا يفصل بين المطالبة بالعز وبين الكبر، لأن الكبر أو التكبر يفصح عن الدافع إلى السيطرة والتفوق وهو ظاهرة مرضية بطبيعة الحال، بينما يظل العز مفصحاً عن تقدير الذات ليس بنحو مرضي بل بنحوٍ صحي مرتبط بالله تعالى من جانب وبعدم السماح للذات لأن تقع في مهاوي الذل الاجتماعي من جانب آخر.

أما الجانب الموضوعي المرتبط بالسماء فيتمثل في خطورة المذهب الإسلامي  وإكساب هذا المذهب قيمة تتناسب مع حجم ذلك، وبما أن الشخصية الإسلامية تجسد رسالة السماء فحينئذٍ تتحرك الشخصية من خلال البحث عن العز الذي يسم السماء ذاته، أي العز المرتبط بالله سبحانه وتعالى، وليس العز المرتبط بالشخص منفصلة عنه تعالى، ويمكننا ملاحظة هذا البعد في موقف الإمام الصادق (عليه السلام) مع أحد المتحذلقين الذي لاحظ أن الإمام (عليه السلام) قد ارتدى زياً ناعماً دون أن يعرف أن الإمام (عليه السلام) قد ارتدى من الداخل زياً خشناً، فابتدره بأن اعترض قائلاً له بما مؤداه أن جده علياً (عليه السلام) كان يرتدي اللباس العادي وقد أجابه الإمام الصادق (عليه السلام) بأن السياق الاقتصادي هو الذي فرض الفارقية المذكورة، بعد أن فضح المتحذلق في نقده المصطنع، حيث أبان له أن الثياب الناعمة التي يرتديها (عليه السلام) يخفي خلفه ثياباً خشنة، وهذا على العكس تماماً من المعترض الذي كان يرتدي لباساً خشناً أمام الناس بينما أخفى تحت هذا اللباس الخشن لباساً ناعماً!.

إن هذا الحوار بين الإمام (عليه السلام) وبين المتحذلق المذكور بغض النظر عن كشفه لواقع الشخصية الأخيرة من حيث تأكيده على الذات، حيث أنها تلبس أمام الناس لباساً خشناً لتخدع به هؤلاء ولتكتسب منهم موقعاً اجتماعياً نقول: بغض النظر عن كشف الإمام (عليه السلام) للسياق الاقتصادي الذي فرض عليه هذا التكيف أو ذاك، فإنه في الواقع ينطوي على حقيقة متصلة بالتقدير الاجتماعي من خلال ظاهرة العز وعلاقة ذلك بقيمة السماء والله سبحانه وتعالى، فالإمام الصادق (عليه السلام) بصفته يحمل دوراً ريادياً أو لنقل دور القائد الممثل لطائفة إسلامية كبيرة حينئذٍ فإن التقبل أو التقدير الاجتماعي لسمات القائد تعكس أثرها على رسالة الإسلام ذاتها، ما دام المناخ الثقافي وهو مناخ متخلف فكرياً مع الأسف، حيث يعنى هذا المناخ بالبهرج والزخرف والمظهر الخارجي، فيتدخل عاملاً حاسماً في تقدير الشخصية وتقويم أفكارها مما يعني أن الإمام (عليه السلام) حينما تكيف مع المناخ المذكور إنما استخدم التكيف بمثابة جسر لتمرير الأفكار الخيرية لديه وليس لتأكيد ذاته والبحث عن التقدير لها.

والأمر نفسه حينما ننقله إلى الإمام علي (عليه السلام) حيث حاول بعض المتحذلقين أن يقلل من قيمته الاجتماعية من خلال إظهاره بمظهر المعدم مالياً، مما اضطر الإمام (عليه السلام) إلى أن ينثر المئات من العملات النقدية أمام هؤلاء المتحذلقين حتى يحتفظ بالتقدير الاجتماعي الذي حاول المتحذلقون أن يسحبوه عن شخصية الإمام (عليه السلام)، ويمكننا أن ننقل الظاهرة ذاتها إلى الإمام الرضا (عليه السلام) عندما يتزين للآخرين ويلبس ثياباً فاخرة عندما يخرج إليهم بينما يرتدي اللباس الخشن في داره.

كل ذلك يفصح عن أن التقدير الاجتماعي الذي يبدو وكأن قادة التشريع يعنون به في الواقع إنما يتخذه الرواد وسيلة لتمرير الأفكار الخيرة لديهم من جانب ولإظهار عز الله سبحانه وتعالى من خلال العز الذي يصوغونه بشخصياتهم من جانب آخر.

على أن الأمر يتعدى حتى نطاق الشخصيات الرائدة إلى الشخصيات العادية ما دام الأمر مرتبطاً بعزة الرسالة الإسلامية ذاتها، فثمة نصوص إسلامية تنهى الشخوص الإسلاميين عن مباشرة الأعمال الوضيعة اجتماعياً، وتطالبهم بأن يترفعوا عنها حتى يكتسبوا تقديراً اجتماعياً يتناسب مع رسالة الإسلام ذاتها، ما دام المناخ الثقافي للمجتمعات الأرضية ينسج تقديراً اجتماعياً يعنى بالمظهر الخارجي حيال الشخصية.

طبيعياً ينبغي أن نفرق بين البحث عن تقدير اجتماعي موضوعي يفرضه سياق محدد وبين مواقف أخرى لا يقيم المشرع الإسلامي لمعارضتها الاجتماعية أي وزن، بل يعلن صراحة عن ضرورة الانسلاخ من المجتمع ما دام هذا الانسلاخ يحفظ للشخصية الإسلامية كيانها واستقلالها وسمتها المميزة الحقة، مما يعني أن السياق هو الذي يفرض حيناً البحث عن التقدير الاجتماعي، وحيناً آخر يفرض الانسلاخ عن هذا التقدير، ولكن في الحالات جميعاً يظل التقدير الاجتماعي مرتبطاً بأهمية الرسالة الإسلامية وليس بالبحث الذاتي الصرف، لأن البحث الذاتي للتقدير يظل كما سبق توضيحه معلناً عن سمة المرض لدى الشخصية وليس عن سمة السوية لديها.

وانطلاقاً من الفارقية بين المرض والصحة يشدد المشرع الإسلامي على ظاهرة العز على نحو يكسب بعض أشكال التقدير الاجتماعي سمة إيجابية حتى في نطاق السلوك الفردي الصرف غير المرتبط بالموقف الاجتماعي، ويمكننا ملاحظة هذا الطابع بوضوح حينما يقترن البحث عن التقدير الاجتماعي بالانسلاخ عن مواقف الذل أو الحطة التي تسم المرضى والعصابيين ممن يتحسسون بالمشاعر الدونية والنقص لديهم وانعكاس ذلك على التعامل الاجتماعي لديهم فيما يتعين أن نقف عنده في محاضرة لاحقة إنشاء الله.

وهو أمر ندرجه ضمن عنوان هو (الاستقلال الذاتي) حيث نبحث في العنوان المشار إليه هذه المسألة بشكل مفصل، وأما الآن فنكتفي بالحديث بما قدمناه ونستودعكم الله سبحانه وتعالى..

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..