المادة: العقائد
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 008.doc

طريقة الصدّيقين

وهذه الطريقة تتلاءم مع المنهج الفلسفي الذي رسمه (صدر الدين الشيرازي) المعروف بـ (صدر المتألهين) أو (الملاّ صدرا).

وتتميّز هذه الطريقة عن غيرها من الطرق بأنه لا توجد فيها واسطة لإثبات ذات الله عزّ وجل، أي أنها تستغني عن (الحدّ الوسط) الذي يحتاج إليه كلّ قياس منطقي، فمثلاً كان الحدّ الوسط في طريقة المتكلّمين هو (حدوث العالم)، وفي طريقة الحكماء الطبيعيين هو (الحركة)، وعلى ضوء الطرق المتقدّمة كان المستدلّ ينتقل من العالم المشهود إلى العام اللامشهود ومن الطبيعة إلى ما وراء الطبيعة... أمّا في طريقة الصدّيقين فالصورة تتغيّر.

في المعارف الإسلامية بابٌ خاص يُشيرُ إلى أن الله تعالى كما أنه باطن فهو ظاهر، قال تعالى (هُوَ الأَولُ والآخِرَ والظّاهِرُ والباطِنُ) (1).

وقال أيضاً: (اللهُ نُورُ السماواتِ والأَرْضِ) (2) أي أن ظهور جميع الأشياء قائم بذاته عزّ وجل.

وهناك آية أخرى: (أَيْنما تُوَّلُوا فَثمَ وَجْهُ اللهِ) (3) تفيد أنه لا يخلو مكان أو جهة من وجهه تعالى وقد ثبت في الحكمة المتعالية أن جهة الظهور وجهة البطون متحدتان في ذات الله، أي أنه ليس ذا حيثيتين وجهتين (إحداهما الظهور والأخرى البطون) بل حيثية واحدة هي أساس الظهور وأساس البطون معاً... تلك الحيثية الواحدة عبارة عن كمال الفعلية والوجود اللامتناهي.

لقد أشار الحكيم السبزواري إلى هذا المفهوم في (منظومته) حيث قال:

الظاهر الباطن في ظهوره***يا من هو اختفى لفرط نوره

وقال آخر:

وليس له إلا جلالك ساتر***جمالك في كل الحقائق سائر

أما العرفاء الإسلاميون فقد شنّعوا على الفلاسفة استدلالهم بالمخلوقات على ذات الله، وانتقالهم من العالم المشهود إلى العالم اللامشهود، يقول محيي الدين ابن العربي في ذلك، ((الله تعالى ظاهر ما غاب قط، والعالم غائب ما ظهر قط)).    (4)

أما الحكيم المولوي (جلال الدين البلخي) فهو يقول بالفارسية:

كردليلت بايد آزوي رو متاب***أفتاب آمد دليل أفتاب

وسئل الجنيد البغدادي ما الدليل على وجود الصانع؟

فقال: أغنى الصباح عن المصباح(5).

هذه مقتطفات من العبارات التي تشير إلى برهان الصدّيقين على وجود الله وإذا أدركناها ننتقل إلى الأشذاء الفواحة من روض العترة الطاهرة لنقتبس منها الشواهد الحيّة على هذا المنهج.

1- في دعاء الصباح للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (يا من دل على ذِاتهِ وتنزّهَ عن مُجانَسةِ مَخْلوقاتِه).

2- وفي دعاء الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عرفة: (أَلغَيِرك مِنَ الظُّهورِ ما لَيْسَ لك حتى يكون هو المظهر لك؟ متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟ أو متى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟.

3- وفي دعاء السحر الذي كان يدعو به الإمام السجّاد (عليه السلام) وروي عن طريق أبي حمزة الثمالي: (بكَ عَرَفتُكَ وأَنْتَ دَلَلْتَني عَلَيْكَ ودَعَوتَنيِ إليكَ).

ويمكن اختصار وجه الاستدلال في هذه الكلمات الرائعة بما يأتي:-

الدليل: هو المرشد للطريق.

ومن هنا سمي البرهان الذي يقام لإثبات شيء (دليلاً).

والمفروض في (الدليل) أن يكون أجلى وأوضح من الأمر الذي يُراد الاستدلال عليه، إذ لو تساويا لم يزد الدليل شيئاً، ولو كان أقل وضوحاً لسبب الضلال والغموض.

فإذا كنّا نبحث عن دليل على وجود الله تعالى، فلابدّ أن يكون أجلى وأوضح وأكد وجوداً منه، ولا شيء أظهر في الوجود وأكمل من ذات الله عزّ اسمه.

هذا هو المدّعى وأما البرهنة عليه من الناحية الفلسفية فتتوّقف على مقدّمات: (6)

1- لقد ثبت في الفلسفة أن الأصل في التحقّق هو (الوجود) أما (الماهيات) فهي موجودات بالعرض والمجاز(7).

2- كما ثبت أن حقيقة الوجود لا تقبل الكثرة التي أساسها التباين، وإذا قبلت الاختلاف فذلك إما يعود إلى شدة الوجود وضعفه، وكماله أو نقصه، أو يعود إلى الإمدادات والاتصالات التي هي من نوع من تشابك الوجود والعدم.

وبصورة موجزة فإن الكثرة المتصورة في الوجود كثرة مقترنة بالوحدة

3- حقيقة الوجود لا تقبل العدم فالموجود من حيث هو موجود لا ينعدم، والمعدوم من حيث معدوم لا يوجد، وفي الحقيقة فإن انعدام الموجودات نوع من محدودية الوجود الخاص، أي أن العدم نسبي(8).

4- حقيقة الوجود بغضّ النظر عن الحيثيات والجهات الطارئة عليه مساوية للكمال والاطلاق والغنى والعظمة والجلال والنور. أما النقص والنقيد والفقر والضعف والإمكان والصغر والمحدودية فهي أعدام... والموجود حيث يتّصف بهذه الصفات فلأنه وجود محدود ومشوب بالعدم، إذن فهذه الصفات ناشئة من العدم، وحقيقة الوجود تناقض العدم(9).

5- إن عروض العدم ولوازمه(من النقص والضعف والمحدودية) ناشئ من المعلولّية، أي أن وجوداً إذا أصبح معلولاً وكان متأخراً في الرتبة عن علّته كان محتوياً على النقص والمحدودية، لأنه متعلّق بالعلّة وتابع لها.

إذا تمّت هذه المقدمات نقول:-

إن حقيقة الوجود ثابتة وهي لا تقبل العدم، ومن جهة أخرى فالوجود ليس في ذاته مشروطاً بشيء، بل هو مرادف للكمال والعظمة والغنى والجلال والفعلّية والإطلاق... وهذه الأمور على طرف نقيضٍ مع النقص والإمكان والمحدودية والحاجة، نستنتج من ذلك أن الوجود في ذاته مرادف للوجوب الذاتي الأزلي، والكمال المطلق.

إذن فأصالة الوجود ترشدنا إلى وجود الله بصورة مباشرة، من دون توسط شيء آخر.

وكلّ ما في العالم من وجودات حيث أنّها تقبل العدم، وتطرأ عليها التغييرات فإنها ظلال الوجود وتستند في وجودها إلى مصدرٍ أزلي لا يقبل العدم، وهو الله تعالى.

هذه نماذج خمسة من المنهج القديم في إثبات الخالق عرضناها باختصار.

والآن ننتقل إلى المنهج الحديث.

 المنهج الحديث في إثبات الخالق

بينما كان المنهج السابق يعتمد على صغريات وكبريات وقياسات منطقية نجد أسلوب البرهنة في المنهج الحديث يختلف، فيستبعد الدور والتسلسل، ويعتمد بالدرجة الأولى على ظواهر الفكر والنظام في العالم.

وفي هذا المنهج ندرس النماذج الآتية:

1- التأمل في وجود الكون:

استدل المفكرون في العصر الحديث على وجود الله بالدليل التالي:

نحن ندرك وجود الكون، ولكن كيف نفسر وجوده ونشأته؟

هناك أربعة احتمالات للإجابة عن هذا السؤال:-

الاحتمال الأول:

إن هذا الكون غير موجود في الواقع، وأن تصورنا لوجوده مجرّد وهم وخيال... وليس من شك أن هذا يخالف الواقع، لأن الوجود مستقل ومنفصل عن الذات التي تدركه.

الاحتمال الثاني:

أن ينشأ هذا الكون من العدم وبلا سبب... وهذا مستحيل، لأن الصدفة لا تفسّر لنا وجود العالم بما فيه من مادة وطاقة، فكيف بالنظام الماثل والتنسيق الهائل في كل شيء؟! إن هذا يحتاج إلى إدراك وقدرة، وعلم وحكمة، والمادة لا تنشئ شيئاً من ذلك، ولو تولدت الحياة من المادة نفسها لم يكن هناك تفرقة بين مادّة ومادة، وأن تظهر الحياة في هذه دون تلك... أجل، قال العلماء:

((إذا بلغت المادة مبلغاً معلوماً من الاستعداد صلحت لحلول الحياة فيها، وتهيأت لخدمتها، مثلها في ذلك مثل الجهاز الذي يصلح بالتركيب لقبول الكهرباء، فإن أجزاء الجهاز لا تتحرك إلا إذا اجتمعت على النحو الصالح لاستقبال التيار وتلبية حركاته، وكذلك الأعضاء الجسدية لا تخلق الحياة، وإنما هي ظرف صالح لاستقبالها وتلبية حركاتها إذا تمّ تركيبها على النحو المعروف)).

ومن هنا كان التفسير الآلي الميكانيكي لحركة المادة باطلاً.

الاحتمال الثالث:

إن الكون أزليّ لا بداية له… وهذا باطل حيث اكتشف العلم الحديث حتى الآن عناصر يبلغ عددها 102(10)، وكل مادة عرفها الإنسان تتكون من واحد أو أكثر من هذه الـ102، وبعد دراستها بدقة تبيّن لعلماء الطبيعة أن جميع هذه العناصر في سبيل الزوال، ولكن بعضها يسير إليه بسرعة، وبعضها ببطء، وفي ضوء هذه الحقيقة قرروا أن العالم له بداية ونهاية، أنه لابد أن يزول بعد أن تتحقق الغاية من وجوده، وقدّروا عمر العالم _على التقريب - بحوالي خمسة بلايين من السنين.

وإذا بطلت الاحتمالات الثلاث، تعيّن الرابع.

الاحتمال الرابع.

لابدّ لأصل الكون من خالق أزليّ ليس له بداية، عليم محيط بكل شيء، قوي ليس لقدرته حدود، ولابدّ أن يكون هذا الكون من صنعه.

وكما يقول أحد علماء الغرب:

إذا كان هذا العالم المادي عاجزاً عن أن يخلق نفسه، أو يحدّد القوانين التي يخضع لها فلابدّ أن يكون الخلق قد تمّ بقدرة كائن غير مادي، وتدلّ كل الشواهد على أن الخالق متصف بالعقل والحكمة والإدارة... وإذن فالنتيجة المنطقية الحتمية التي يفرضها علينا العقل ليست مقصورة على أن لهذا الكون خالقاً فحسب، بل لا بد أن يكون هذا الخالق حكيماً عليماً قادراً على كل شيء كي يستطيع أن يخلق هذا الكون وينظمه ويدّبره، ولابدّ أن يكون هذا الخالق دائم الوجود تتجلّى آياته في كل مكان(11).

هذا النوع من الاستدلال عقلي ومتكبر، ولذلك فقد مال البعض من مدّرسي علم الكلام إلى اعتباره الطريق الأفضل إلى إثبات وجود الله تعالى.

ـــــــــــ

الهامش

(1) - سورة الحديد، الآية 3.

(2) - سورة النور، الآية 35.

(3) - سورة البقرة، الآية 115.

(4) - أصول الفلسفة ج5/79

(5) - شرح كلش راز تأليف محمد اللاهيجي ص69.

(6) - فصل الفيلسوف محمد جعفر اللاهيجي في شرح الأدلة على أصالة الوجود تبعاً للحكيم المحقق (صدر المتألهين) في (شرح رسالة المشاعر). فمن أراد التعمق فليراجع من ص 28 إلى ص 112.

(7) - شرح رسالة المشاعر ص 199.

(8) - أصول الفلسفة ج2/29-57.

(9) - شرح رسالة المشاعر للاهيجي ص 205.

(10) - اكتشف العلماء مؤخراً عناصراً أخرى يزيد عددها إلى ما ذكر.

 (11)- عن مقال بعنوان (الإيمان بالله في عصر العلوم) للدكتور محمد عبد الهادي أبي ريدة، نشر في مجلة (عالم الفكر) الكويتية المجلد الأول/ العدد الأول- وتجد نظير هذا الاستدلال في مقال لـ(فرانك أللن) أستاذ الطبيعة الحيوية بجامعة مانيتوبا بكندا من سنة 1904 إلى سنة 1944 راجع في ذلك (الله ؟؟؟ في عصر العلم)؟؟؟ ترجمة الدكتور الدمرداش عبد المجيد سرحان.