المادة: العقائد
الملف: ملف 0041.docx

نفي التفويض

ازاء التفريط الشديد بحق إرادة الإنسان واختياره من قبل الأشاعرة جاء المعتزلة واطلقوا يد الإنسان وأثبتوا له الحرية المطلقة في الأفعال... أفرطوا في هذا الجانب ولكنهم فرطوا بحق الإرادة الإلهية. فالقول بالتفويض وحرية الإنسان في أفعاله وعدم خضوعها لإرادة الله لم يكن إلا ردّ فعل لعقيدة الجبر الخاطئة، ولذلك فقد جاء بعيداً عن الدقة العلمية التي تقتضيها المسائل الاعتقادية.

وإذا كانت إرادة الإنسان هي العلة التامة لإيجاد الفعل، فلماذا تصطدم كثيراً بحواجز يعجز عن رفعها؟ ولماذا لا يستطيع دفع القضاء الحتمي عنه؟! (1C:\Users\html\student\shareah\firstyear\s004\041.htm - _ftn1#_ftn1)

الأمر بين الأمرين:

ونجد الحل الصحيح لمسألة حرية الإرادة عند الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) .

فقد سأل رجلٌ الإمام الصادق (عليه السلام):

(أَجَبَرَ‍ الله العباد على المعاصي؟

قال: لا.

قال: ففوّض الأمر إليهم؟

قال: لا.

قال: فماذا؟

قال (عليه السلام): لطف من ربك بين ذلك).(2C:\Users\html\student\shareah\firstyear\s004\041.htm - _ftn2#_ftn2)

وورد في رواية أخرى: (لا جبر ولا تفويض، بل أمر بين الأمرين).

لما كان مذهب الجبر ينفي أي تأثير لإرادة الإنسان في أفعاله، ومذهب التفويض ينفي أي دخالة لإرادة الله في أفعال الإنسان جاء الأئمة (عليهم السلام) ليبطلوا كلا المذهبين. فالحقيقة أن للإنسان الحرية في الأفعال ولكن في ضمن إرادة الله وبتعبير آخر: أن القدرة وجميع العوامل المؤدية إلى الفعل من الله، ولكن استغلال تلك القدرة في طريق الخير أو الشر منوط بإرادة الإنسان.

ولتوضيح ذلك نقول: يقسّم الفلاسفة العلّة الفاعلية إلى قسمين: الفاعل ما منه الوجود، والفاعل ما به الوجود، أما الفاعل ما منه الوجود فهو منحصر في الله تعالى، ولكن الفاعل ما به الوجود يمكن أن يكون أشعة الشمس، والتربة الصالحة، والماء العذب.

كذلك ينقسم الفاعل إلى ما منه الحركة، والفاعل ما به الحركة. فتحريك اليد للمفتاح وفتح المفتاح للقفل مثال بسيط للقسمين، فاليد هي فاعلة الحركة والحركة صادرة منها، والمفتاح فاعل للحركة أيضاً لكن الحركة قائمة به.

وهكذا أفعال الإنسان قائمة بقدرته، لكن الله تعالى هو خالق القدرة فيه.

فالله تعالى فاعل منه القدرة، والإنسان فاعل به تقوم القدرة... فإن استغلّ قدرته في طريق الخير والأفعال الصالحة كان الفضل لله تعالى (حيث وهبه القدرة على الفعل) وله أيضاً (لأن القدرة على الفعل قامت به)، وإن استغلها في طريق الشر والأفعال الطالحة كان الذم متوجهاً إليه فقط لأن سوء اختياره هو الذي أدىّ إلى ذلك ولم يكن الله ليجبره على ذلك حين وهبه القدرة.

والمثال الواضح لهذا نجده عند سيدنا الأستاذ آية الله العظمى الخوئي فلنستمع إليه يقول: (لنفرض إنساناً كانت يده شلاّء لا يستطيع تحريكها بنفسه، وقد استطاع الطبيب بأن يجد فيها حركة إرادية وقتية بواسطة قوة الكهرباء، وإذا انفصلت عن مصدر القوة لم يمكنه تحريكها أصلاً، فإن وصل الطبيب هذه اليد المريضة بالسلك للتجربة مثلاً، وابتدأ ذلك الرجل المريض بتحريك يده ومباشرة الأعمال بها، والطبيب يمده بالقوة في كل آن، فلا شبهة في أن تحريك الرجل ليده في هذه الحال من الأمر بين الأمرين، فلا يستند إلى الرجل مستقلاً لأنه موقوف على إيصال القوة إلى يده. وقد فرضنا أنها بفعل الطبيب، ولا يستند إلى الطبيب مستقلاً لأن التحريك قد أصدره الرجل بإرادته، فالفاعل لم يجبر على فعله لأنه مريد، ولم يفوّض إليه الفعل بجميع مبادئه لأن المدد من غيره.

والأفعال الصادرة من الظالمين المختارين كلّها من هذا النوع فالفعل صادر بمشيئة العبد، ولا يشاء العبد شيئاً إلا بمشيئة الله ، والآيات القرآنية كلها تشير إلى هذا..).(3C:\Users\html\student\shareah\firstyear\s004\041.htm - _ftn3#_ftn3)

نُكتة تاريخية:

في نهاية بحثنا عن الجبر والاختيار نشير إلى أن ذهاب جمهور العامة إلى الجبر لم يكن موضوعاً علمياً خالصاً، وإنما وجهته السياسية الزمنية. ذلك أن الذين اغتصبوا الخلافة من الأمويين والعباسيين كانوا على درجة كبيرة من الفساد والضلال والانحراف، ولم يكن تبرير لسلوكهم هذا إلا القول بكونهم مجبرين على تلك الأفعال، وفاقدين للاختيار.

ــــــــــــ

الهامش

(1)C:\Users\html\student\shareah\firstyear\s004\041.htm - _ftnref1#_ftnref1- سيجيء توضيح (القضاء والقدر) بعد هذا المبحث إن شاء الله.

(2)C:\Users\html\student\shareah\firstyear\s004\041.htm - _ftnref2#_ftnref2- البحار ج5 ص3

(3)C:\Users\html\student\shareah\firstyear\s004\041.htm - _ftnref3#_ftnref3- آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي: البيان في تفسير القرآن ص 65

الطبعة الأولى.