المادة: العقائد
الملف: Microsoft Office document icon 0040.doc

  الدليل الثالث للقائلين بالجبر:

يستدل بعض الجبريين بعموم علم الله لكل شيء، فيقول: لو كان الله عالماً بحركاتنا وسكناتنا فإما يلزم كوننا مجبورين، أو يتبدل على الله إلى الجهل.

ويتمثل هذا في البيت المنسوب إلى الخيام:

مَيْ خوردن من حق زازل مي دانست***كر مي نخورم علم خدا جهل شود

فإذا كان في علم الله أن فلاناً سيشرب الخمر في اليوم الفلاني، وكان هذا مختاراً في الفعل والترك واختار الترك، يلزم أن ينقلب علم الله إلى الجهل، وفراراً من هذا المحذور يجب القول بأن الإنسان ليس مختاراً بل يفعل ما قدّر الله له أن يفعل دون تخلف... وحينذاك يعلم الله بكل صغيرة وكبيرة على ما هي عليه من ثبات وضرورة.

  مناقشة:

ويمكن مناقشة الدليل المذكور بثلاثة أوجه:

1- لو كان تعلق علم الله بأفعالنا مستلزماً لوقوع أفعالنا بصورة جبرية، لكان تعلق علم الله بأفعاله –جلت أسماؤه وصفاته- مستلزماً لوقوعها بصورة جبرية، أي كونها لابدّية الصدور منه تعالى، وإلا انقلب علمه جهلاً وهذا ما لم يقله أحد.

2- أن الله مطّلع على أفعالنا بجميع مقدماتها، ومحيط بها من أول نقطة تشرع فيها ونعدّ للفعل بواستطها حتى الحصول على النتيجة... ومن هذه المقدمات إرادتنا واختيارنا، فإذا كان الله عالماً بأفعالنا فهو عالم بكونها مسببة لارادتنا واختيارنا، وهو الذي منحنا حرية الإرادة حيث قال: (وهديناه النجدين) (إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً).

وإذا كان في علم الله وقوع الفعل منا مسبباً لإرادتنا بطل الجبر وثبت الاختيار.

3- لا يصح اعتبار الموجودات معلولة لعلم الله تعالى، لأن الثابت كونها معلولة لإرادته ومشيئته، ومن الواضح أنه لو كان علم الله علة للايجاد لم تكن فائدة لعلّة ثانية هي الإرادة أو المشيئة، وهل أقوى في الاحتجاج من القرآن نفسه؟ حيث يدل بصراحة على كون العلم والإرادة صفتين متغايرتين، وأن الخلق والإيجاد مستند إلى الإرادة دون العلم.

 مثال من واقعنا:

لقد سبق أن قلنا بأنه لا مجال لقياس صفات الله تعالى بصفاتنا، والتشبيه بين أفعال الله وأفعالنا، فأين التراب ورب الأرباب؟!

ولكن حيث أن الأذهان تألف المثال الذي يقرب المسألة من واقعنا نقول:

لنفرض معلماً يدخل الصف ويبدأ تدريس الرياضيات بأسلوب ماهر، وطرق تربوية ممتازة، يعطي التمرينات المتعددة على المعادلة الواحدة، ويختبر الطلاب ويمتحنهم، ويبلغ ذكاء المعلم درجة يميّز معها بين الطالب المجدّ والطالب الكسول من الأسابيع الأولى، وعلى ضوء ذلك يقدر نسبة النجاح بين طلابه.

إنه يعلم أن الطالب الفلاني سيكون الأول على صفّه، وأن الطالب الفلاني سيكون نصيبه الفشل والرسوب في نهاية العام... والآن نسأل: إذا استمر الطالب المجد في تحضير دروسه وحلّ تمريناته حتى نجح في الامتحان النهائي، واستمر الطالب الكسول يُهمل في الواجبات المعطاة له، لا يحل شيئاً من التمرينات ولا يصغي إلى المدرّس في أثناء الدرس، هل يكون نجاح الأول ورسوب الثاني معلولاً لجهودهما وأعمالهما أم لعلم المدرّس؟!

من الواضح أن الجواب هو استناد فشل الطالب الكسول إلى إهماله، وأن علم المدرّس بذلك من خلال سلوكه في الصف.

فالعقلاء جميعاً يلقون اللوم والتبعة على هذا الطالب الكسول لأنه أهمل، لا على المدرس لأنه علم أن هذا التلميذ سيرسب، ولقد أجاد المحقق الطوسي في جوابه عن البيت المنسوب إلى الخيّام حيث قال:

علم أزلي علّت عصيان كردن***نزد عقلا زغايت جهل بود

تعقيب: ها نحن قد فرغنا من مناقشة أدلة الجبريين، بادئين بمسألة الخالقية المطلقة، ثم بمسألة الإرادة والمشيئة، ومنتهين بمسألة العلم، ولا بأس بإضافة معيار آخر يلقي الضوء على مسألة الجبر الاختيار، ذلك هو (الندم).

لماذا يندم الإنسان على خطأة صدرت منه؟ لماذا يتمنّى في بعض الأحيان أنه لو كان عاملاً غير الذي عمل؟ لماذا يقول الكافر يوم القيامة (ربّ ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت) ويجيب الله تعالى: (كّلا إنها كلمة هو قائلها).

أليس كل ذلك لكون الإنسان مختاراً في ما يفعل ويترك؟ أليس ذلك دليلاً على حريّة الإرادة؟

إن الإنسان السليم يندم أحياناً على الصفعة التي أهواها على رأس مظلوم، بينما المصاب بالشلل لا يندم مطلقاً على الضربة التي تمت منه... وهذا (الندم) دليل واضح على استناد التصرفات إلى الشخص السليم، وأما المصاب بالشلل فإن يده ترتعش من دون إرادة واختيار ولذلك فإنه لا يحس بالمسؤولية تجاه ما يصدر منه.

ـــــــــــ

الهامش

(1)- سورة المؤمنون، الآية 23