المادة: العقائد
الملف: Microsoft Office document icon 034.doc

الفرق بين المحسن والمسيء

يشعر الإنسان باستجابة طيبة نحو من أحسن إليه، ولذلك فإنه يشكره، إن لم يستطع مقابلته بالمثل ومن هنا قال علماء الكلام بوجوب شكر المنعم عقلاً، أما المسيء فإن النفس تنفر منه بشكل لا شعوري، ولا يبدي الإنسان استجابة طيبة نحوه. للتدليل على أصالة التفرقة بين المحسن والمسيء نجد الطفل يحسن بالفرق بين من يعطيه الحلوى ومن يصفعه، فيرتاح للأول ويبتسم له، في حين أنه يغضب على الثاني ويقطب وجهه تجاهه.

فلو كانت أفعال الإنسان غير اختيارية، وإنما تسيره إرادة الله فقط، لزم أن لا يكون هناك فرق بين المحسن والمسيء، لأن المحسن لا يأتي بالإحسان وهو مختار له بل أنه مجبر عليه فينبغي أن لا يستحق أي مدح أو ثناء، والمسيء حين يقوم الإساءة فهو غير مختار بل إرادة الله هي التي تفرض عليه ذلك، فينبغي أن لا يستحق أي لوم أو عتاب.

   وما ربك بظلاّم للعبيد:

إن القول بالجبر يستلزم نسبة الظلم إلى الله تعالى، لأن الثابت أن الله كلف البشر بتكاليف والزمهم بأحكام وأفعال، ونهاهم عن مخالفتها والانحراف عنها.

ولكي يضمن التنفيذ والتزام الناس لهذه الأوامر والنواهي، فقد وعد المطيعين بالثواب، أما العاصين فقد توعدهم بالعقاب، وإذا كان الله قد أجبر الناس على المعاصي وكانت أفعالهم معلولة لإرادته فقط ولم يكن لهم المجال في دفع المصير الحتمي عن أنفسهم، كان عقابهم على تلك الأفعال ظلماً.

إذا سرق شخص فإن المسؤول عن السرقة هو الله على مذهب الجبريين، وإذا زنى فإن المسؤولية في هذه الجريمة تلقى على عاتق الله... ومع ذلك يلتزمون بأن الله سيعاقب المجرمين على جرائمهم؟

أليس ذلك الظلم والتعدي الصارخ؟

وتعالى الله عن أن يكون ظالماً أو متهرباً من المسؤولية.

روي أنه دخل أبو حنيفة المدينة ومعه عبد الله بن مسلم، فقال له: يا أبا حنيفة إن هاهنا جعفر بن محمد من علماء آل محمد (عليهم السلام) فاذهب بنا إليه نقتبس منه علماً. فلما أتيا إذا هما بجماعة من شيعته ينتظرون خروجه أو دخوله عليهم... فبينما هم كذلك إذ خرج غلام حدث، فقام الناس هيبة له، فالتفت أبو حنيفة فقال: يا ابن مسلم من هذا؟

قال: هذا موسى ابنه.

قال: والله لأجبّهنّه (أي لأخجلنه) بين يدي شيعته.

قال: مه، لن تقدر على ذلك.

قال: والله لأفعلنّه ثم التفت إلى موسى (عليه السلام) فقال: يا غلام أين يضع الغريب حاجته في بلدتكم هذه؟ (يريد مكان التغوط والبول استهزاء).

قال: يتوارى خلف الجدار، ويتوقى أعين الجار وشطوط الأنهار ومسقط الثمار، ولا يستقبل القبلة ولا يستدبرها، فحينئذ يضع حاجته حيث شاء.

ثم قال: يا غلام ممن المعصية؟

قال: يا شيخ لا تخلو من ثلاث، إما أن تكون من الله وليس من العبد شيء، فليس للحكيم أن يأخذ عبده بما لم يفعله.

وإما أن تكون من العبد ومن الله، والله أقوى الشريكين، فليس للشريك الأكبر أن يأخذ الشريك الأصغر بذنبه.

وإما أن يكون من العبد وليس من الله شيء، فإن شاء عفى وإن شاء عاقب.

قال: فأصابت أبا حنيفة سكتة كأنما أُلقم فوه الحجر.

قال: فقلت له: ألم أقل لك لا تتعرض لأولاد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟(1)

  أدلة القائلين بالجبر ومناقشتها:

الدليل الأول:

يرى القائلون بالجبر أن إسناد الخالقية المطلقة لله تعالى تقتضي أن لا يسند الخلق إلى غيره مطلقاً. فلو قلنا إن الإنسان موجود لأفعاله فقد ارتضينا الخالقية له، وهذا يتنافى مع العقيدة الصحيحة وهي أن (لا مؤثر في الوجود إلا الله).

إذن فالموجود للأفعال هو الله والإنسان مجبر في جميع أفعاله.

ولعل هذا أهم أدلة المجبرة، وإن عبروا عنه بصيغ مختلفة، وربما أضافوا إلى هذا الاستدلال الاستشهاد بقوله تعالى: (والله خلقكم وما تعملون).(2)

مناقشة:

النظرة الدقيقة ترينا أن هؤلاء لم يقدموا دليلاً متقناً على مذهبهم. لأننا إذا نفينا وجود مؤثر في الكون مطلقاً غير الله، فكيف تفسر ارتباط المادة بالحركة وانبعاث الطاقة منها، والتي تشكل العلل والمعاليل المادية... إننا إذا نفينا تأثير الموجودات في بعضها فلا طريق لنا غير ذلك لاثبات العلة والمعلول والصانع والمصنوع.

إن قيل أن جميع الظواهر والموجودات تنشأ من حركة المادة، والحركة إنما تستمد الفيض من الله في كل آن، أي أن الحركة لا تملك الاستبرارية من تلقاء نفسها، بل الله يمد المادة بالحركة في كل آن.

نجيب هذا صحيح... ولكنا نعلم أن الحركة بصورة عامة عبارة عن حقيقة واحدة هي الانتقال والتحول من حالة إلى أخرى، وهي لا تصلح لوحدها أن تكون علة للاختلافات العجيبة الظاهرة في المادة. إذن نحتاج إلى مادة توجد فيها الحركة - بامداد من الله- تلك الظواهر المتباينة.

والأن نسأل هل للمادة في الحالة الأولى تأثير في ظواهر الحالة الثانية أم لا؟ وهل للمادة في الحالة الثانية تأثير في ظواهر الحالة الثالثة وهلم جراً.

إن لم تكن مؤثرة فمن أين ظهرت هذه الاختلافات في الموجودات وإن كان لها تأثير في ذلك فيجب الاعتراف بأن معنى (لا مؤثر في الوجود إلا الله) ليس أن الله يوجد جميع الظواهر الكونية في العالم بصورة مباشرة كما توجد العلة معلولها المادي... بل أن جميع التأثيرات التي تملكها المواد والمحركات في تسيير الكون مستمدة من الله، وليس الله عين المادة والحركة حتى يكون له التأثير المادي في الأشياء.

وأما استدلالهم بقوله تعالى (والله خلقكم وما تعملون) فهو غير تام، لأن الآية أجنبية عن مسألة الجبر والاختيار في أفعال العباد. ذلك أن الآية التي قبلها تتحدث عن شيخ الأنبياء إبراهيم (عليه السلام) أنه قال لعبدة الأصنام: (أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون)(3) أي خلقكم وخلق الحجارة التي نَحتُّم منها على صورة الصنم، والأخشاب التي خرطتموها حتى خرجت بتلك الصورة.

ـــــــــ

الهامش

(1)- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- الطبعة الحديثة ج5/27

(2)- سورة الصافات، الآية 96

(3)- سورة الصافات، الآية 96