المادة: العقائد
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 014.doc

قبس من استدلالات أهل البيت (عليهم السلام)

إذ نقتبس من كلمات أهل البيت (عليهم السلام) في البرهنة على وجود الله تعالى، فليس من جهة كونهم أوصياء الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) حتى يورد علينا بأن ثبوت وصايتهم متوقف على ثبوت رسالة النبي (صلى الله عليه وآله) ورسالة النبي (صلى الله عليه وآله) متوقّفة على وجود المُرسِل وهو الله تعالى، وهذا يستلزم الدور الباطل...بل من زاوية أخرى، هي أنهم رجالُ أجمع التاريخ – سواء في ذلك الصديق والعدوّ - على صدقهم ونزاهتهم وعظمتهم في المجالات العلمية.. مضافاً إلى أنّهم روّاد هذا الطريق والسالكون فيه حتى نهايته.

وهنا نكتفي بالنماذج الثلاثة الآتية:

1- ((قال رجل للصادق (عليه السلام): يا ابن رسول الله دلّني على الله، ما هو؟ فقد أكثر المجادلون علّي وحيّروني.

فقال الإمام  (عليه السلام): يا عبد الله هل ركبت سفينة قط؟

قال: بلى.

قال: هل كسرت بك حيث لا سفينة تنجيك، ولا سباحة تغنيك؟

قال: بلى.

قال: فهل تعلّق قلبك هنالك أن شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلّصك من ورطتك؟

قال: بلى.

قال الصادق (عليه السلام) فذلك الشيء هو القادر على الإنجاء حين لا منجي، على الإغاثة حين لا مغيث(1).

هذه الحياة هي دار الأسباب والوسائل، بها يتوصّل الشخص إلى مقاصده وأغراضه، ولابدّ لكلّ أمر أن يتوصل إليه بالسبب المناسب له والطريق المؤدي إليه فمثلاً من يريد الحصول على الماء الحار يستفيد من النار، ومن يريد الحصول على الماء البارد يستخدم الثلج. من يقصد السفر عن طريق الجو يركب الطائرة، ومن يقصد السفر أرضاً يستقل السيارة، أما المسافر عن طريق البحر فإنه يتخذ السفينة وسيلة للبلوغ إلى غايته.. وهكذا في سائر شؤون الحياة.

وإذا وقع الإنسان في ورطة وحدثت له مشكلة، فإنه يحاول التخلّص منها بالأسباب الاعتيادية.

إذا تمرّض فإنه يراجع الطبيب ويستنصحه في نوع الدواء والغذاء الذي يتناوله، وإذا احتاج إلى عملية جراحية فإنه يذهب إلى المستشفى حيث الوسائل اللازمة لإجراء العمليات.

إذا كسرت به السفينة في البحر فإنه يستعين بحطام السفينة، بخشبة مكسورة، بأي شيء طافٍ على الماء ليتخلّص من الغرق... وإذا انعدم ذلك فإنه يستعين بالسباحة، ولكن السباحة أمدها محدود، إذ بعد مضي بضع ساعات تُصاب العضلات بالشلل والأعصاب بالانهيار، وتحدق الأخطار بالشخص فإذا به في حال لا سفينة تنجيه، ولا سباحة تغنيه.

في هذه اللحظة حيث الأسباب منقطعة والوسائل الطبيعية للنجاة منعدمة يتعلق قلب الإنسان بقدرة عظيمة وقوة مطلقة تتجاوز تلك الأسباب والوسائل، قادرة على إنقاذه من تلك الورطة التي وقع فيها... وما تلك القدرة العظيمة والقوة المطلقة إلا الله تعالى.

وهذه المسألة ليست خاصة بالمؤمنين، بل تُشاهد في الأفراد غير المؤمنين بالله عند تعرّضهم للمخاطر التي لا يوجد عندهم أمل في النجاة منها بالوسائل الطبيعية.

فما هو السبب الذي يفوق الأسباب المادية ويتجاوزها؟

إنه مسبّب الأسباب لا ريب!

إنه خالق الكون...

2- قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)  (من عرف نفسه عرف ربه) (2).

وقد ذكر المحققون لهذا الحديث معانٍ انتهت إلى اثني عشر معنى(3)، ولكننا نختار من بينها بعض المعاني التي تتناسب مع مبحثنا، ونوضحها حسب أسلوبنا في هذه المحاضرات.

المعنى الأول: لما كانت الأعضاء والجوارح بحاجة إلى مركز للتوجيه والإرشاد، وكانت شبكة الأعصاب المنتشرة في الجسم منتهية إلى نقطة واحدة، وهذه كلّها لا تعمل عملها ما دام الجسم خالياً من روح، نستنتج أن المادّة وحدها عاجزة عن تحريك الجسد، وبطريق أولى فهي عاجزة عن تحريك هذا العالم.. إذن لابدّ لهذا العالم المادي من موجّه ومحرك ومدّبر غير مادي، وهو الله.

المعنى الثاني: من عرف أن النفس موجودة قبل البدن باقية بعده، عرف أنّ ربّه تعالى موجود قبل خلق المخلوقات، وهو بعدها باق، لم يزل ولا يزال.

المعنى الثالث: إزاء محدوديّة الجسم بالزمان والمكان تمتاز النفس بأنه لا يعرف لها مكان لا أينية، وهذا يدلّ على أن لها نصيباً من الإطلاق، مستمداً من المبدأ المطلق وهو الله جلّت أسماؤه.

3- وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أيضاً:

(عُرف الله سبحانه بفسخ العزائم وحلّ العقود، وكشف البلّية عمّن أخلص النية) (4).

وروي هذا الكلام بعبارة أخرى:

(عرفت الله بفسخ العزائم ونقض الهمم) (5).

يصمّم الإنسان على أشياء كثيرة، ويعزم على فعلها، ويقرّر الاستمرار فيها حتى النهاية...

ولكنه فجأة يجد في نفسه إعراضاً عن ذلك التصميم، وانفساخاً لذلك العزم، وعدولاً عن القرار.

وتتعلق إرادة الإنسان بأشياء كثيرة ويهيئ لها جميع الوسائل والمعدّات، فتصطدم هذه الإرادة بحواجز سميكة لا يستطيع اختراقها، وليس هذا في الأفراد الضعفاء، بل الأمر كذلك بالنسبة إلى الأقوياء الماسكين بزمام الأمور، والقادرين على فعل ما يعجز عنه الآخرون... وهل غاب عن بالك قصة شدّاد ونمرود وفرعون، أولئك العمالقة الذين سيطروا على الناس كافّة، وتملّكوا كل المقدرات والقوى؟‍

هنا يكتشف الإنسان أن إرادته ليست هي الكل في الكلّ، بل توجد إرادة عليا فوق إرادته وإرادة الآخرين هي الحاكمة على هذا الكون.

وهل تملك الإرادة العظيمة التي لا حدّ لها ولا حصر غير الله تعالى؟

شدّاد... يهدّد ويتوعّد، ويرسل الشرطة لينتزعوا من النساء كلّ ما يملكن من حليّ وزينة، ليصوغ من ذهبها وفضتها ومجوهراتها أعمد ذلك القصر الشامخ، الذي أراد له أن يكون جنّة الدنيا، في قبال الجنّة التي يعد الأنبياء الناس بها في الآخرة…

ويستمر في اعتدائه وعنفه، حتى ينتهي عماله من بناء (الجنّة)، ويحين يوم الافتتاح حيث الحرس الملكي يقرع نشيد الفرح، وحيث الطبول والأجراس ترحّب بقدوم الملك، وحيث الناس يصطفون على الجانبين ليقصّ الملك الشريط بالمقصّ الذهبي...

في وسط هذه المراسيم، وبينما (شدّاد) واضع إحدى رجليه في الركاب تشاء الإرادة العليا أن توضح حقيقة كبرى، ويكشف اللثام عن تلك المغالطات، فتنزع الروح من جسد شداد، ويطرح أرضاً كخشبة هامدة لا حراك فيها.

هنا تنفسخ العزيمة، وتنقض الهمّة، ويحلّ العقد... ويعرف الله جلّ جلاله.

ومثال آخر:

و(نمرود) يرى في (إبراهيم) معتدياً على الآلهة المنحوتة ومسفّها هذه الأحلام، فيقرّر القضاء عليه إحراقاً يدعوا الناس للانتصار للآلهة بجمع الحطب والمواد المشتعلة، فيقوى التصميم لحظة بعد لحظة، وتشتدّ العزائم ساعة بعد أخرى... وينتظر الجميع ساعة اندلاع النيران إلى السماء، ليُلقى بـ (إبراهيم) وسط النار الملتهبة.

ويُرمى إبراهيم مُكسّر الأصنام في أعماق هذه النار المضطرمة، ومن المتوقّع أن يتحوّل في لحظات إلى رماد.. لكن الإرادة العليا تقرّر أن تتحوّل النار برداً وسلاماً عليه، فيذهل الحاضرون عندما يجدون ذلك.

هنا تنفسخ العزيمة، وتنقض الهمّة، ويحلّ العقد.. ويُعرف الله جل جلاله.

وإن شئت أمثلة أخرى فعليك بحياتك الخاصة لتجد منها ألف شاهد وشاهد.

ــــــــــــــ

الهامش

 (1) - التفسير المستفاد من الإمام الحسن العسكري، ص7، و(معاني الأخبار) للصدوق، ص4، وقد نقل الفيض الكاشاني هذا الحديث عن كلا المصدرين في (تفسير الصافي).

 (2) - وينسب هذا الحديث إلى الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) أيضاً.

 (3) - نقلها تماماه السيد عبد الله شبر في (مصابيح الأنوار في حلّ مشكلات الأخبار) ج1، ص204-205.

 (4) - غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي، حرف العين.

 (5) - مدارك نهج البلاغة للشيخ هادي كشاف الغطاء، ص67.