المادة: العقائد
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 001.doc

دراسة جذرية للعقيدة الإسلامية ومناقشة للشبهات

  • مقدمة

تحتل العقيدة مركزاً مهماً في حياة الإنسان، ولها الأهمية العظمى في بناء الحضارات وإنشاء الثقافات.

وبدقة العقيدة وأصالتها واستنادها إلى أصول متينة تمتاز الأمة على غيرها من الأمم.

وإذا استثنينا بعض الشرائح من البشر، الذين يعيشون حياة الغفلة والضياع، ويغفلون أحكام العقل وتوجيهاته في سلوكهم ولا يبنون حياتهم على أساس الأفكار المدروسة، مكتفين بتقليد الآخرين.. فإن القاعدة العامة تقول: إن كل أنماط السلوك والفعاليات الحياتية تكتسب إنسانيتها وقيمتها العقلية إذا كانت صادرة عن وعي وتوجيه عقلاني، وكانت قائمة على أساس فكري منطقي ونظرة كونية صحيحة.

فاعتقاد الإنسان بشيء والتأكد من صحته لهما أكبر عامل وأقوى حافز للدفاع عنه، والتضحية في سيله بكل غال ونفيس.

ولئن صح الدفاع عن شيء بصلابة، والاستماتة في سبيله بكل جد، والعمل من أجله بقوة، فلا يمكن أن يكون ذلك الشيء إلا العقيدة الصحيحة.

إذا عرفنا هذا أدركنا ضرورة اختيار نظرة كونية معقولة منسجمة مع الأسس المنطقية، قادرة على الوقوف بوجه التيارات المعاكسة في هذا الخضم المتلاطم من الأفكار.

ولعل أهمية العقيدة نابعة من أنها خير حلقة تصل بين المخلوق وخالقه، في نفس الوقت الذي تصل فيه بين المخلوقين أنفسهم، ويظل الإنسان يشعر في - ظل العقيدة - بأنه جزء حي من المنهاج العالمي العام يرتبط مع غيره من أجزاء هذا الكون الفسيح بأواصر قوية وروابط متينة.

هذا الشعور يولد عنده الوعي الشامل والرؤية الواسعة، ذلك أن اعتناق الفكرة الصائبة والنظرة الكونية المنطقية التي تجيب على المسائل المطروحة أمام الإنسان إجابة صحيحة عامل مؤثر في منح الحياة معناها وقيمتها، ومنح الحركة الانسانية الاختيارية اتجاهها المطلوب، في حين يكون إهمالها والتغافل عن الجواب مانعاً من الوصول إلى هدف الخلقة الأصيل، وموجباً للحرمان من السير نحو الكمال النهائي والسعادة الأبدية.. أضف إلى موجات الشك والحيرة والاضطراب التي تنتاب الفرد في هذه الحالة.

ومع أن أصول العقيدة الإسلامية قد بينت بشكل مبرهن وواضح في القرآن الكريم، وجاء الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) والأئمة الطاهرون من أهل البيت عليهم السلام ليرسخّوا هذه العقيدة في أذهان المسلمين بصورة استدلالية، حتى لم يبق مجال للغموض والشك فيها، لكن سلامة العقيدة رهينة نوعين من البحث: أحدهما إيجابي، والآخر سلبي، ففي الأسلوب الأول نبني ونقّوي الركائز، وفي الأسلوب الثاني نصّد الهجمات... وبذلك نضمن الثبات العقائدي، وقدرة عقيدتنا على الصمود بوجه التيارات المضادّة.

لقد واجهت العقيدة الإسلامية على مرّ العصور شكوكاً واعتراضات ومناقشات تهدف إلى تكذيب هذه العقيدة سواء فيما يتعلّق بالإيمان بالغيب، وما وراء الطبيعة، والإيمان بالخالق، أو فيما يتعلّق بالرسالة وسلوك الأنبياء، أو فيما يخصّ الحياة الأخروية والمعاد.

وأما المناقشات المذهبية بين المسلمين أنفسهم حول مسألة الإمامة والخلافة، فحّدث عنها ولا حَرَج!

على ضوء ما تقّدم رأيت تقديم صورة ناصعة عن (عقيدتنا) تتضمن الجانبين المذكورين، بحيث تكون غذاءاً فكرياً سليماً للجيل المثقّف المتعطش إلى الإسلام وقيمه وأصوله، تغنيه عن الرجوع إلى المصادر الموزّعة هنا وهناك، وتمتاز بميزة أخرى هي كونها بلغة العصر، وبعيدة عن التعقيدات الكلامية.

وابتهالي إلى الله العلي القدير أن يوفقني لأداء هذه المهمة، ويجنبني مواقع الزلَل، إنه سميع مجيب.

فاضل الحسيني الميلاني

لندن في 17 ربيع الأول 1412.

 

  •   المدخل إلى البحث

 علم العقائد أهم العلوم الإسلامية وأشرفها. لأنه يتكفل البحث عن الأساس القويم والأرضية المتينة لسائر فروع المعرفة في الإسلام، وليس من الصعب على باحث أن يجد آثار العقيدة منعكسة على الفقه والتفسير والحديث والتاريخ وحتى الأدب.

وإذ كانت العقائد الإسلامية بهذه المثابة، فقد تداول عند علماء المسلمين تسميتها بـ (أصول الدين) متخذين من أصل الشجرة وجذورها استعارة لذلك. وإن الاختلاف في بعض أسس العقيدة كان سبباً لحدوث النزاعات الدموّية التي حفل بها التاريخ، وكلّ من طرفي النزاع يدّعى أن ما يعتقده ويعتنقه هو الصحيح، ناسباً الانحراف إلى خصمه.

وما علينا إلا أن نولي هذا العلم أهمية كبيرة، محاولين إعطاء صورة متكاملة مترابطة عن (عقيدتنا)... مع مراعاة الانسجام بين أسلوب عرض الفكرة ولغة العصر.

الاعتقاد عن دليل.

وإذا كان المسلم الذي لم يبلغ درجة تؤهلّه لاستنباط الأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها، مكلفاً بالتقليد والالتزام بفتوى المجتهد، في عباداته ومعاملاته، وأفعاله وتروكه.. فإنه لا يستطيع الركون إلى التقليد في العقائد، بل لابدّ له من اعتناق الفكرة والإيمان بها عن دليل وبرهان، وقد جاء القرآن الكريم بآيات كثيرة تذّم الغالبيّة من الناس الذين إذا سألتهم عن المبرّر لاعتناقهم عقيدةً معينة، أجابوك بأنهم وجدوا آباءهم على ذلك.

(قالُوا: بَلْ نَتبعُ ما أَلفَينا عَلَيهِ آباءَنا، أوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ).(1)

(بل قالُوا: إنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أمّةٍ وَإنّا عَلى آثارِهْم مُهْتَدوُنَ). (2)

على أن نوعّية الدليل تختلف من فرد إلى فرد، حسب المستوى الفكري والثقافي الذي يعيشه، فليس المطلوب من البدوي الساذج أن يعرف الدور والتسلسل، أو الإمكان والوجوب، بل يكفي أن يقول: (البعرة تدلّ على البعير، والأقدام تدلّ على المسير، أسماءٌ ذات أبراج، وأرض ذات فجاج لا يدلاّن على السميع البصير) حتى أن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يستدل بهذا الأسلوب للأعرابي الذي سأله عن وجود الله متمشّياً مع مستوى إدراكه.

لماذا نبحث عن الإيمان؟

قبل أن نتصدى لتفاصيل العقيدة الإسلامية، يواجهنا سؤال وهو أنه لماذا نبحث عن الإيمان بالله؟ وما الضرورة إلى الاعتقاد؟(3).

هذا السؤال يطرح بصورتين، وبعبارة أخرى، فإن له صياغتين مختلفتين:

الصياغة الأولى: ما الضرورة إلى تقسيم الناس إلى مؤمنين وملحدين؟ وحصر السبل في هذين الاتجاهين فقط، هناك اتجاه ثالث يتجلّى في فكرة (اللامنتمي).

الصياغة الثانية: إن الإيمان بالله يختصّ بالعصر الذي كان الجهل فيه مسيطراً على العقول، وكان العلماء يجهلون العلل الطبيعية للظواهر الفيزياوية والتفاعلات الكيمياوية، فيتصوّرون وجود قوّة غيبية خارجة عن الطبيعة أسمها (الله)؟

علينا قبل البدء في دراستنا هذه، الإجابة على السؤال في كلتا صياغتيه.

 

  •   المنتمي واللامنتمي:

لو تصفّحنا تاريخ البشرية، وقرأنا سجلّ الأمم على اختلافها منذ نشوء أول مدنيّة على ظهر هذا الكوكب، فإننا نجد مسألة الإيمان بالله (نفياً أو إثباتا)ً لم تغفلها أمّة من الأمم قط... فهي أمّا سارت (وهذا هو الغالب) في طريق الإيمان، أو وجد من أنكر وجود الله وأعلن الإلحاد.

وهذا يكشف عن وجود نزعة أصيلة في النفس الإنسانية تدعوه إلى التفكير في الله - مذعناً أو جاحداً - ولم تطرح مسألة اللامنتمي إلا في الآونة الأخيرة حيث استولى الفراغ الفكري على قطائع من بني الإنسان هم إلى البهائم أقرب، فعادوا لا يرون إلا الجنس واللّذة والمادّة والبطن وإشباع الغرائز... وكان من نتائج هذا الفراغ الفكري الهائل الذي يعيشه الشعب الأميركي أن راجت كتابات (كولن ولسن)، بالرغم من أن الجانب السياسي كان غالباً فيها.

وحتى منطق (اللاأدريّة) فإنه عاجز عن أن يقدّم لنا العون في المسائل الاعتقادية والفلسفية، لأن البقاء على حالة الترديد والشك لا يدوم طويلاً... ينتهي الأمر إلى اختيار أحد السبيلين.

إن منطق (اللامنتمي) و(اللاأدرية) لا يرويان ظمأ النفس التواقّة إلى اليقين، بل يتركان الإنسان في غياهب الحيرة ومتاهات الجهل.

وهناك إجابة، تصلح لأن يتحصّن بها المثقّف الذي يواجه تيّارات التشكيك، وفوضى الإباحّية والانفلات...

يقول مثلاً ولدت في أسرة متديّنة، غذتني أمي الإيمان بالله من اللبن، وغرست في عروقي وأعصابي الاّتجاه إلى مبدأ أعلى يحيط بكل العوالم الكونية، وهكذا أبي فإنه كان يذكر الله سبحانه ويستعين به في قيامه وقعوده، وذهابه وإيابه، وعمله وراحته، وتجارته وكسبه.. في كل حركاته وسكناته.

نشأت مؤمناً، ولكن عن أتّباع للأبوين، لاعن دليل وبرهان، كنت أتصّور أنه لا يوجد طريق آخر بديل عن الإيمان. وكبرت، وازدادت ثقافتي، واطلعت على الفلسفات المختلفة، فبدأت أنسلخ عن الرواسب الفكرية التي تشكّل أرضية دماغي...

هنا تطّرق الشكّ إليّ: هل أن ما أعتقده صحيح، ويملك الدعامة المنطقية القوية أم أنه من صنع خيالي وفكري؟

بما أن الشك يترك الإنسان على مفترق طريقين، ويُسلمه إلى الترديد والحيرة، فإنه ينبغي أن لا يدوم طويلاً... إذن عليّ أن أسلك أحد الطريقين: طريق الإيمان، وطريق الإلحاد، وحيث لا أملك دليلاً على الإلحاد ونفي الخالق، فإني أبحث وأستدلّ وأبرهن وأناقش حتى أصل إلى اليقين.

 

  •   الإيمان بالله فطري:

لقد درج أكثر الباحثين في العقائد (علم الكلام) على التمّسك بالفطرة عند الإجابة على السؤال المارّ الذكر.

وحّجة هؤلاء قوله تعالى: }فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً، فِطرةَ اللهِ التي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها، لا َتْبديل لِخَلْق اللهِ، ذلَكَ الدّينُ القّيم... (4)

وقال الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله): (ألا وإن كلّ مولود يُولَد على الفطرة، إلاّ أن أبويه يهودّانه أو ينصّرانه أو يمجسّانه) (5)

فالإيمان بالله فطري في النفس الإنسانية، وقد جُبل على ذلك، لذلك فإنه لا يستطيع الفرار ولا يملك المحيد، لكن ينبغي أن نتعّمق في معنى (الفطرة) ونحقّق فيها، حتى يتجلّى لنا الأمر.

هل الفطرة هي الضمير؟ أم أنها الوجدان؟ أم أنها البعد الرابع؟ (ونعني هنا البعد الرابع في علم النفس لا الفيزياء)؟ أم أنها شيء غير هذا وذاك...

  • معاني الفطرة .

1- قد تطلق (الفطرة) ويراد بها العقل، وعلى هذا فإن مقصود القائلين بأن الإيمان بالله فطري هو أن الإنسان لا يحتاج في توجّهه نحو مبدأ أعلى خلق الكون إلى أزيد من انتباهة بسيطة، فهو مستغنٍ عن ترتيب المقدمات الاستدلالية وتصبح مسألة الإيمان على هذا الأساس من المسائل الفطرية بالمصطلح المنطقي.(6)

وإذا انتقلنا إلى علم النفس التربوي، نجد أن عدّة من المحققين يقولون: (يولد الطفل وقلبه صفحة بيضاء) ويتخذون من ذلك شعاراً لا تجاههم الذاهب إلى إنكار أي شيء يسمّى بالعقل الفطري.

فكل أنماط السلوك يجب إرجاعها إلى التربية والانسجام مع المحيط(7)، لكن هذا المذهب موفوض من قبل عدّة آخرين.

2- وقد يُراد من (الفطرة) الخلقة: لأنّ الفطر بمعنى الشقّ، فكأنّ الله شق العدم بالإيجاد، فكان الخلق، وبهذا المعنى يفسّر قوله تعالى: }فَطَرَ الناسَ{ و}فاطِرُ السماواتِ والأرْضِ{(8).

3- وردت (الفطرة) بمعنى الإسلام أيضاً(9).

4- لكن النظرة الدقيقة ترينا أن في روح الإنسان وقلبه (لا بالمعنى العضوي) شعلة مضيئة ترشده إلى الإيمان بالله، وتجذبه نحو خالق للكون... وكما نجد الطفل يميل إلى أمه بصورة فطرية دون أن يعرفها، ودون أن يعلّمه أحد حاجته إلى حنانها وعطفها، كذلك الإنسان فإنه يميل بقلبه وروحه وفطرته إلى (الله).

وإذا كانت القُوة المركزية في الأرض تجذب الأجسام من الأبعاد والمسافات الشاسعة نحوها، فإن الله يمتلك جاذبية معنوية تشدّ القلوب نحوه عزّ وجل، وتتضّح هذه الحقيقة بشكل أجلى حين يشعر الفَرْد بأنّ في أعماق روحه وكيانه فراغاً لا يملأه إلا (الله) وظمأ لا يرويه إلا (الله).

(ألا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمئِنُّ القلُوبُ)(10).

وإذا أردت شاهداً على ذلك فعليك بملاحظة الأفراد عندما تحدق بهم الأخطار ويشرفون على الهلاك.

إذا وقع الإنسان في ورطة وحدثت له مشكلة، فإنه يحاول التخلّص منها بالأسباب الاعتيادية.

إذا تمرض فإنه يراجع الطبيب ويستنصحه في نوع الدواء والغذاء الذي يتناوله، وإذا احتاج إلى عملية جراحية فإنه يذهب إلى المستشفى حيث الوسائل اللازمة لإجراء العمليات.

إذا كسرت به السفينة في البحر فإنه يستعين بحطام السفينة، بخشبة مكسورة، بأي شيء طافٍ على الماء ليتخلّص من الغرق... وإذا انعدم ذلك فإنه يستعين بالسباحة، ولكن السباحة أمدها محدود، إذ بعد مضي بضع ساعات تُصاب العضلات بالشلل والأعصاب بالانهيار، وتحدق الأخطار بالشخص فإذا به في حالة لا سفينة تنجيه، ولا سباحة تغنيه.

في هذه اللحظة حيث الأسباب منقطعة والوسائل الطبيعة للنجاة منعدمة يتعلّق قلب الإنسان بقدرة عظيمة وقوة مطلقة تتجاوز تلك الأسباب والوسائل، قادرة على إنقاذه من تلك الورطة التي وقع فيها... وما تلك القدرة العظيمة والقوة المطلقة إلا الله تعالى.

قال رجل للصادق (عليه السلام) يا بن رسول الله دلّني على الله، ما هو؟ فقد اكثر المجادلون عليّ وحيّروني.

فقال الإمام (عليه السلام) يا عبد الله هل ركبت سفينة قط؟

قال: بلى.

فقال: هل كسرت بك حيث لا سفينة تنجيك، ولا سباحة تغنيك؟

قال: بلى.

قال: فهل تعلّق قلبك هنالك أن شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلصك من ورطتك؟

قال: بلى.

قال الصادق (عليه السلام): فذلك الشيء هو الله القادر على الإنجاء حين لا منجي، وعلى الإغاثة حين لا مغيث(11).

هذه الظاهرة لا نلحظها عند المؤمنين فقط، بل تشاهد في الأفراد غير المؤمنين بالله أيضاً.

وهناك عشرات الشواهد على ذلك في ما عاصرناه.

سؤال:

وهنا يثور سؤال: إذا كان الإيمان بالله فطرياً فإنه ينبغي أن يوجد عند كلّ النّاس، وأن يستغرق كل وقت الإنسان، في حين أنه ليس كذلك.

جواب:

ليس معنى كون الشيء فطرياً أن يستغرق جميع أوقات الإنسان.

   إن الميل نحو الفنّ والجمال فطري ولكنه لا يعتبر الشاغل الوحيد للبشر، نعم يوجد في كل عصر ومكان من يبدي استجابة أكثر لهذه المسائل ويتخذ منها الفرع الاختصاصي له، ولذلك فإن تفّرغ بعض أفراد البشر للتخصص في موضوع الإيمان ودعوة الناس والتعمق فيه لا يعني سلب صفة الفطرية عّمن لم يتفّرغ للتبحر في هذا المجال.

   هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الفطرة تعمل عملها بوضوح إذا خلت من الشوائب، أما إذا أحاطت الجهات المادية والمشاكل الدنيوية بالروح الإنسانية فإنها تسدل ستاراً كثيفاً على مشعل الفطرة فلا يعود لها ذلك الإشعاع المطلوب.

إن صرف الجهد في جانب من الرغبات والغرائز يقلّل من نشاط سائر الرغبات.

  وجواب ثالث على هذا السؤال، هو أن الرغبة بالرغم من كونها فطرية، فإنها تحتاج إلى محفّزٍ، وهذا واضح فيما يتعلّق بالميل نحو الطعام واللباس والمأوى، ولذلك فإن النفس الإنسانية تحتاج إلى من يوقظ فيها هذه النزعة ويثيرها عندما يستولي عليها الخمول والجمود.

وفي هذا يقول الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وهو رائد المعرفة الحقّة: (فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ليستأودهم ميثاق فطرته، ويذكّروهم منسي نعمته، ويحتّجوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول)(12).

ثم أن دور الفطرة هو إيقاظ الشعور بالحاجة نحو الخالق، كالألم يوقظ في الإنسان غريزة البحث عن العلاج... لكنه قد يصيب في تشخيص العلاج، وقد يخطئ، وقد يعطى مجّرد مسكّن للألم، دون أن يقتلع جذوره، وأحياناً يستعمل القروي البسيط روث الحيوانات لتهدئة الألم، وقُل مثل ذلك في الاستجابة لنداء الفطرة.

 

  •  الفطرة رغم اختلاف الطبائع:

وهنا يثور سؤال: كيف نستطيع الوصول إلى الفطرة مع هذا الاختلاف الكبير بين طبائع النّاس وأمزجتهم وظروفهم التي تجعل من كل إنسانٍ عالماً بمفرده؟

ونجيب على ذلك: بأن الفطرة الإنسانية منسلخة عن كل ثقافة واتجاه فلسفي وحضاري، بعيدة عن الميل والأهواء والانفعالات مجردة عما تمليه الظروف والتقاليد والعادات.

ذلك أن الفطرة تبقى حية رغم كل ما يحيط بالإنسان من ردود أفعال، فتنطق في لحظة من الحظات التأمل الوجداني، والخلّو مع النفس في صفائها ونقائها، وترشد الإنسان إلى عالم النور والخير والجمال.

وحين نقول: أن الإيمان بالله فطري لدى النفس الإنسانية نريد بذلك أن هذه العقيدة لا تواجه غرابة واستبعاداً من قبل الضمير الإنساني، ولا يحتاج الإنسان في الوصول إليها إلى كثير عناء ومزيد مشقّة، ولهذا فلا تأثير لاختلاف الطبائع والتقاليد في مسألة الفطرة.

تبقى الإجابة على السؤال الذي طرحناه في مدخل البحث، في صياغته الثانية، وهي اختصاص الإيمان بعصر الجهل، وهي موضوع الشبهة الأولى من شبهات مسألة الألوهية والإيمان بالخالق في بحوثنا القادمة.

على ضوء ما ذكر فأنا سنبحث في العقيدة الإسلامية ضمن خمسة فصول:-

الفصل الأول: الألوهية وإثبات الخالق.

الفصل الثاني: العدل.

الفصل الثالث: النبوة.

الفصل الرابع: الإمامة.

الفصل الخامس: المعاد، والحياة الآخرة.

وهناك من يدمج العدل في التوحيد، والإمامة في النبوة، فيختزلها في ثلاثة أصول، إلاّ أن الموضوعية تستدعي التفكيك كما فعلناه.

ــــــــــــــ

الهامش

(1) ـ سورة البقرة، الآية 170.

(2) ـ سورة الزخرف، الآية 22.

(3)ـ يلاحظ القارئ الكريم أنا تمشياً مع جدة الأسلوب تركنا الاستدلال المنداول لدى علماء الكلام في مسألة وجوب البحث والمعرفة الذي يتضمن: دليل وجوب شكر المنعم، ودليل دفع الضرر المحتمل، ورجحنا الاندفاع الطبيعي الذي لا يتخلف أحد عنه، خصوصاً مع ما ألمحنا إليه من القلق الاضطراب الذي ينتاب الشخص في حالات الإهمال والتغافل.

(4) ـ سورة الروم، الآية 30.

(5) ـ في مسند أحمد بن حنبل ج12/120، الحديث رقم 7181 عن النبي (صلى الله عليه وآله): كل مولود يولد على الفطرة، ثم أبواه يهودانه وينصرانه.

(6) ـ أصول الفلسفة للعلامة السيد محمد حسين الطباطبائي.

(7) ـ الدكتور أحمد حسن الرحيم: محاضرات في علم النفس، والدكتور فاخر عاقل: علم النفس التربوي.

(8) ـ سورة الروم، الآية  30، وسورة إبراهيم 10.

(9) ـ محاضرات في فقه الإمامية لآية الله الميلاني، جمعها وعلق عليها: فاضل الحسيني الميلاني.

(10) ـ سورة الرعد، الآية  28.

(11) ـ راجع: معاني الأخبار، للصدوق ص4.

(12) ـ نهج البلاغة، الخطبة الأولى.