المادة: فقه المجتمع
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 058.doc

الأمر الثالث من المباحث المتعلقة بمحرمات السلوك الاجتماعي العام هو مدح من لا يستحق المدح والظاهر أنه لم يتعرض لحرمته إلا القليل من الفقهاء إلا العلامة الحلي فيما حكي عنه في المكاسب وتبعه في ذلك الشيخ الأنصاري (رضي الله عنه) وجمع ممن تأخر عنه وهو على نحوين : تارة يكون بمدح شخص بما ليس فيه فينطبق عليه عنوان الكذب وتارة يكون بمدح الظالم الذي يوجب زيادة شوكته وسيطرته على الناس حتى ولو كان مدحاً بما فيه وتارة يكون بمدح من يستحق الذم وليس المدح مما يوجب تماديه في منكراته ومعاصيه والمقصود من المدح الحمد والثناء عليه كما لا يخفى .

وكيف كان فإن هذه العناوين إذا انطبق عليها عنوان من لا يستحق المدح أو كانت توجب زيادة شوكته وسلطنته الظالمة على الناس أو مدح من يستحق الذم الذي يوجب تماديه في غيه وفي منكراته فإن هذه تعد من المحرمات ولا يخفى أن المدح والذم يكون على نحوين مرة يكون بالأخبار ومرة يكون بالإنشاء والمقصود بالأخبار إذا كان ما ليس فيه فينطبق عيه عنوان الكذب فحرمته أيضاً بحرمة الكذب ومرة يكون إخباراً عن ماضي هذا الشخص وهو صادق في مدحه أو إخباراً عن مستقبله رجاءً لتحقق ما أخبر به فإن هذه جميعاً تكون من المحرمات ويدل على حرمته ما تقدم في باب الكذب .

وكيف كان فإن المدح إذا كان من قبيل الإخبار فقد يكون كذباً كما هو الغالب كما لو قال في مقام مدحه إن علمه يفوق علم العالمين وتقواه وعبادته وشجاعته تفوق عبادة الصالحين والأنبياء وما أشبه ذلك وفي الواقع ليس له هذه الصفات ومرة يكون صدقاً بأن يمدحه بما هو فيه كأن يذكره ببعض الأوصاف الحسنة من دون تعرض لما فيه من القبائح التي هي أكثر بمرات عن أوصافه الحسنة بحيث يكون في المجموع مدحاً لمن يستحق ولو من حيث إكتفائه بما فيه من المحاسن القليلة وترك ما هو أكثر من القبائح الكثيرة بمعنى أن المادح يغض الطرف عن القبائح الكثيرة ويسلط الضوء في مدحه على الأوصاف الحسنة أو تلميع بعض النقاط الحسنة أو المبالغة في ذكرها وترويجها في مقابل المفاسد والقبائح التي يتصف بها وهذا ما هو معمول به في الغالب عند الظالمين والمستبدين وأصحاب السلطات الظالمة حيث يروجون جيوشاً من الإعلاميين والصحفيين والمداحين والشعراء ليلمعوا بعض أوصافهم ويغطوا على قبائحهم فهم في واقعهم يستحقون الذم لا يستحقون المدح الا أن هؤلاء يمدحونهم وقد يكون المدح بغير عنوان الأخبار وإنما يكون بعنوان الإنشاء كما لو وقف الشاعر بمدح السلطان ويدعو الكواكب السماوية والجبال مثلاً بالخضوع له والانحناء إليه أو يصفه بأنه من الخالدين في الحياة أو بأن إنجازاته لا تنساها الدنيا وإنه يغلب في قوته وفي عبقريته وفي نبوغه كل عقول البشر وما أشبه ذلك من تمنيات وتخيلات يبديها المادح إلى الطرف الآخر ويتمناها له إنشاءً لا إخباراً.

 أما الأول : فلا شك في حرمته لكونه كذباً إلا أن الظاهر أنه خارج عن محل الكلام ولذا لم يستدل له شيخنا الأعظم بأدلة حرمة الكذب مع أنها أظهر من جميع ما استند إليه في المسألة وينبغي أن يكون كذلك لأن الظاهر أن عنوان البحث هو المدح بما أنه مدح لا المدح بما أنه كذب فإن المدح إذا انطبق عليه عنوان الكذب تكون فيه الحرمة مغلظة لانطباق العنوانين عليه فلذا تبقى الصورتان الأخيرتان أي مدحه بما فيه من الأوصاف القليلة والتغطية على القبائح الكثيرة والصورة الثانية وهي الإنشاء والتمني له بما هو من الخيالات وما أشبه ذلك من الإدعاءات الباطلة سواء كان هذا المدح باللفظ أو الكتابة أو الإشارة أو غيرها لصدقه على كل واحد منها بلا فرق عرفاً .

ولا يخفى عليك أنه قد يترتب على هذين العنوانين عناوين محرمة أخرى كترويج الباطل وإعانة الظالم ونشر الفساد وشيوع الفاحشة وتقوية المبدع في الدين وتضعيف أهل الحق والصلاح وغير ذلك من العناوين المحرمة فإن هذا الإشكال في حرمته فإذا انطبق أحد هذه العناوين على إحدى هاتين الصورتين تكون من المحرمات بلا إشكال ولذا تخرج أيضاً عن دائرة البحث .

وإنما الذي نقصده من البحث هنا هو ما إذا لم يترتب على المدح شيء من العناوين المحرمة بل مدح من لا يستحق المدح أو مدح من يستحق الذم من المحرمات الأولية أو ليست كذلك هذا ما سنتعرض له من خلال البحث إن شاء الله .

والمراد بمن لا يستحق المدح هم الجبابرة والظلمة ومن يطلق عليه هذا اللفظ بالحمل الشايع لا كل ظالم لنفسه لغة واصطلاحاً قال سبحانه وتعالى ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)) الدالة على أنها تحصر الظالمين بالذين بيدهم سلطة الحكم ولا يحكمون بما أنزل الله عز وجل .

وكيف كان فقد استدلوا للحرمة بالأدلة الأربعة فمن الكتاب قوله سبحانه وتعالى ((وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوانِ)) بتقريب أن الظلمة يبقون على ظلمهم بمدح المتملقين والمتزلفين لهم والتفاف هؤلاء حولهم وخدمتهم لهم فيكون كل ذلك بمجموعه إبقاءً لهم ومسبباً للتمادي في ظلمهم فيكون كل جزء من جزئيات ذلك تعاون على الإثم والعدوان وقد تقدم منا أن المراد من التعاون الأعم من الإعانة كما أن الظاهر عرفاً والمفهوم عند العرف أيضاً عدم الفرق بين الإعانة وبين التعاون خصوصاً في موارد الظلم والتعدي على حقوق الناس وكيف كان فأن الظلمة والجبابرة إنما يحكمون بواسطة هؤلاء الذين يزيفون الحقائق ويغيبون الوعي عن الناس ويحرمونهم من معرفة الحقيقة فيمدحون الظلمة بما ليس فيهم أو يمدحونهم بما هو فيهم إلا أنه مع التغطية على قبائحهم ومساوئهم فلذلك كان من المحرمات .

ومن الكتاب أيضاً قوله تعالى ((وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ)) بتقريب أن الركون هو الاعتماد ولا يخفى أن الاعتماد يحصل من مقدماته ومن أبرز مقدماته هي المدح وتلميع الصورة والتغطية على الحقيقة والتغطية على المساوئ وحيث أن الآية في مقام النهي إذن تدل على الحرمة وقد فسر البعض الركون بمعنى الميل القلبي حتى على هذا المعنى فإن الآية تدل على الحرمة أيضاً وذلك لأنه إذا حرم الميل مجرد المحبة القلبية بلا مبرز أما المدح فيه إظهار وإبراز وفيه تعمية للحقائق وتلميع صورة الظالم يدل على الحرمة حينئذٍ بالأولوية.

 ومن السنة روايات منها ما ورد في حرمة إعانة العصاة ومنها قول السجاد (عليه السلام) (إياكم وصحبة العاصين ومعونة الظالمين) فإن الظاهر من العطف هنا التعدد وليس البيان ومن الواضح أن إياكم ظاهرة في التحذير لولا الحرمة لما كان صحبة العاصين له مجال ومن أجلى مصاديق المعونة للظالمين هو مدحهم والتزلف إليهم ومن الروايات ما ورد عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) (من عظم صاحب دنيا وأحبه لطمع دنياه سخط الله عليه وكان في درجته مع قارون في التابوت الأسفل من النار) بضميمة أن المدح من مصاديق التعظيم وأن صاحب الدنيا من أجلى مصاديقه هم الظلمة والجبابرة .

وعن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) في حديث المناهي (من مدح سلطاناً جائراً أو تخفف وتضعضع له طمعاً فيه كان قرينه في النار) ومن الواضح أن هذا الحديث يصرح أن مدح الجائر من المحرمات وذيل الحديث دليل على أن مدح السلطان الجائر من كبائر الذنوب لأنه يدل على أن مادح السلطان الجائر يكون قرينه في نار جهنم وقد عرفت فيما تقدم أن كبائر الذنوب ما وعد عليها النار إلى غير ذلك من الروايات ومن الإجماع ما ذكره غير واحد من الفقهاء بأن كل من ذكر مدح من لا يستحق المدح بعنوانه الأولي لأنه نوع تزلف إلى من لا يليق وهو من مصاديق الامتهان وانتقاص الكرامة ومن الواضح أن ما حكم العقل بقبحه يحكم الشرع بحرمته أيضاً خصوصاً مع وجود ملازمة عرفية بين المدح وبين التمادي في الظلم وتقوية شوكة الظالم في الغالب إذ إن المدح لا ينفك عن التعظيم وتقوية الشوكة وتلميع صورة الوجوه السيئة وما أشبه ذلك من عناوين تنطبق في الغالب على المدح

هذا ولكن ناقش في هذه الأدلة الأربعة التي ذكرت جمع من الفقهاء وذلك لأن النسبة المنطقية بين مدح من لا يستحق المدح وبين العناوين المحرمة كالكذب وتعظيم الشوكة وتقوية السلطان وما أشبه ذلك ، النسبة العموم من وجه وعليه فليس دائماً المدح لمن لا يستحق المدح يوجب تعظيم الشوكة وما أشبه وإنما في بعض الموارد ، ولذا حملوا هذه الأدلة على أنها أخص من المدعى أو لا دلالة فيها ولذلك قالوا بأن مدح من لا يستحق المدح في صورة ما إذا استوجب تقوية سلطان جائر أو تقوية شوكته أو كان من مصاديق الكذب، يكون محرماً أما في غيرها فلا لكن لا يخفى عليك أن بمراجعة مجمل الأدلة التي ذكرت مع ملاحظة عدم الإنفكاك العرفي بين مدح من لا يستحق المدح وبين تعظيم الشوكة فلا يبعد القول بحرمته في الجملة .

وعليه فإن الأحوط هو الترك مطلقاً إلا في الموارد التي ذكرت من الإستثناءات التي قطعنا بأنها لا ينطبق عليها هذا العنوان كما ستعرف وهنا مسائل:

المسألة الأولى: إن حرمة مدح الظالم بالحكم الأولي وأما إذا اضطر إلى ذلك كان من موارد الاستثناء لأنه ليس شيء مما حرم الله عز وجل إلا وقد أحله لمن اضطر إليه وقد دل عليه وعلى الإكراه حديث الرفع أيضاً وما يدل على الجواز عموم أدلة التقية وما دل على رفع الحرمة لأجل الضرورة من العقل والنقل ولا ينفع الممدوح ذلك في شيء لأن شر الناس عند الله الذين يكرمون اتقاء شرهم.

 ومن موارد الاستثناء ما كان المدح لأمر أهم كهدايته أو كفه عن الظلم وكذا فيما إذا كان المدح خوف أو ضرر مالي أو عرضي وما أشبه ذلك من عناوين ثانوية حاكمة على الأدلة الأولية .

المسألة الثانية: مدح الكافر بما فيه والعاصي أيضاً كذلك إذا لم يطلق عليه عنوان تعظيم الشوكة أو التشويق للظلم والفساد أو إشاعة للفاحشة فإن ذلك يجوز حينئذٍ ولذا روي عن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) على ما ذكره المحقق النائيني والنراقي وكذا المجلسي في البحار أنه (صلى الله عليه وآله) قال (جئت في زمن الملك العادل كسرى) فإن هذا مدح للكافر كما لا يخفى سواء حملنا العدالة على معناها المطلق أو حملناها على المعنى الخاص يعني العادل في دينه فإن هذا الكلام مدح عرفاً ولكن حيث أنه لا يوجب إحدى العناوين المحرمة المذكورة جاز كما روي أن المسلمين مدحوا حاتم الطائي بل وقرره النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) عندما تكلم مع ابنته وروي عنه (صلى الله عليه وآله) إنه قال عن النجاشي في جمع من المسلمين إنه ملك رؤوف .

وفي البحار (فإن فيها ملكاً صالحاً لا يظلم ولا يظلم عنده أحد ) وهذه العبارة ظاهرة في التعليل كما لا يخفى وهي عرفاً من مصاديق المدح كما روي أن جبرائيل (عليه السلام) قال في حق ذلك الذي أراد النبي (صلى الله عليه وآله) قتله لأنه هاجمهم قال عنه بأنه رجل كريم فرفع الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) بأمر الله تعالى القتل عنه وصار ذلك سبباً لإسلام ذلك الرجل فإن الكافر بما فيه والعاصي بما فيه من أوصاف حسنة فإنه جائز لعدم الدليل على الحرمة إلا إذا نطبق عليه عنوان ثانوي من العناوين المحرمة كما بينا.

المسألة الرابعة: لو تصوره عادلاً أو ظالماً فذم ومدح لم يكن مما تقدم من المحرمات وإنما يكون متجرياً حينئذٍ فالمسألة تدخل تحت كلي بحث التجري وإن التجري هل هو محرم أو هو مجرد قبيح ويستحق فاعله الذم ولا فرق في المدح والذم بين الإفراد في المدح أو الإقران كما لو جمع عادلاً وظالماً فذمهما أو مدهما بصيغة التثنية ولو أوجب مدح الظالم أو ذم العادل تقوية الكافرين والظلمة وتضعيف العدول والمؤمنين فالحرمة فيه أشد كما ذكره الفقهاء في كتاب الجهاد .

المسألة الخامسة: ذم العادل ومن لا يستحق الذم لا إشكال في حرمته مطلقاً في غير موارد الاستثناء كالتقية كما قال الصادق (عليه السلام) في وجه ذمه لأفاضل أصحابه مستدلاً بقوله سبحانه ((وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً)) الدالة على أنه في مورد التقية يجوز ذم العادل لمصلحة أهم كإنقاذه من القتل أو تخليصه من السجن أو من الأضرار الكبيرة، وأما إذا كان كذباً فقد عرفت وجهه وأما إذا كان صدقاً أو إنشاءً فإن ذمه ينتهي إلى إيذائه وانتقاص كرامته وهتكه وربما يصدق عليه أنه غيبة أو تهمة إلى غير ذلك من العناوين المحرمة وعليه فإن الأصل الأولي هو حرمة ذم العادل أو ذم من يستحق المدح ولا يستحق الذم إلا إذا انطبق عليه عنوان ثانوي من العناوين التي تجيز لنا ذلك.

الأمر الرابع من المحرمات: في السلوك الاجتماعي العام هو التجسس والتجسس في اللغة بمعنى التفتيش عن بواطن الأمور وتتبع الأخبار وأكثر ما يقال في الشرع ومنه الجاسوس وهو صاحب سر الشر ويقابله الناموس وهو صاحب سر الخير كما في لسان العرب ومجمع البحرين ومجمع البيان والتجسس والتحسس بمعنى البحث والتقصي إلا إنهما يفترقان في أمرين:

الأول: أن التجسس هو أن يطلبه لغيره والتحسس أن يطلبه لنفسه كما قال سبحانه تعالى في قصة يوسف على لسان يعقوب (عليه السلام) في وصيته لولده (يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه) .

والفرق الثاني: هو أن التجسس يتضمن البحث عن العورات ومواطن النقص بينما التحسس هو الاستماع لحديث القوم ولذا يقال للجاسوس أيضاً الذي يتجسس الأخبار ثم يأتي بها .

وبذلك يظهران للتجسس مصاديق

أولها: هو التفتيش عن بواطن الأمور وتتبع الأخبار وأجلى هذا العمل يتحقق في مراقبة الناس وتتبع أخبارهم في التفتيش عن نواياهم وعقائدهم وأخبارهم، وخذا ما يعمله الحكام الجائرون في الغالب والأنظمة المستبدة لتحطيم إرادة شعوبها وقهرها وسلب حرياتها بالجاسوسية المنظمة عبر أجهزة المخابرات والأمن ونحوها في تقصي أفكار الناس وعقائدهم ونواياهم ومعاقبتهم في ذلك .

ومنها : ما يمارسه أفراد هذه الأجهزة على الناس من تتبع العثرات وتسجيل آرائهم ومواقفهم ورفعها للأجهزة المختصة عبر تقارير أو رسائل أو اتصالات هاتفية وما أشبه ذلك سواء كان هؤلاء الناس الذين يكتبون من العناصر المنظمة إلى أجهزة الدولة أو من الناس الذين يمارسون هذا الدور عن قناعة وإيمان بحماية النظام الحاكم .

ومنها : ما يمارسه بعض الناس على بعضهم من تتبع عثراتهم وملاحقة أعمالهم وتصرفاتهم من أجل التشهير بهم أو التنقيص لهم أو لأجل الاستفادة منها في موقع الحاجة أو محاسبتهم في وقت الحاجة كما ورد تفسير التجسس أيضاً بهذا المعنى في مجمع البيان.

 ومنها : ما يمارسه بعض الناس على بعضهم كنوع من أنواع الفضول بالتحري عن الأشياء التي يريد الناس كتمانها لأجل الإطلاع عليها ومعرفة أسرارها وخفاياها، وما أشبه ذلك من دواعي الأغراض النفسانية والنواقص الروحية إلى غير ذلك من المصاديق والأفراد التي ينطبق عليها عنوان التجسس فإن هذه الأعمال كلها من المحرمات وفاعلها يكون من العصاة وإن اختلفت درجة المعصية بالنسبة إلى نوع التجسس .

وقد دلت الأدلة الأربعة على حرمة التجسس فمن الكتاب قوله تبارك وتعالى ((يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ)) ويدل على الحرمة ظاهر النهي والسياق أيضاً حيث ورد النهي عن التجسس في سياق الغيبة التي اتفقت الكلمة على حرمتها مضافاً إلى أنه محكوم عليه بأنه نوع من أكل لحوم الناس وهم أموات مضافاً إلى لزوم اجتناب الظن التي دلت عليه الآيات في موارد أخرى أيضاً مضافاً إلى هذه الآية الشريفة إذن فظواهر النهي فاجتنبوه والحرمة فلا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً يدل على حرمة هذا العمل وربما قدمت الآية لزوم الاجتناب عن الظن لأن سوء الظن هو الباعث على التجسس والتجسس باعث على كشف الأسرار وما خفي من أمور الناس ومن الواضح أن الإسلام لا يبيح أبداً كشف أسرار الناس وبتعبير آخر إن الإسلام يريد أن يكون الناس في حياتهم الخاصة آمنين من كل الجهات ومن البديهي أنه لو سمح الإسلام لكل أحد أن يتجسس على الآخرين فإن ماء وجوه الناس وحيثياتهم تمضي مع الريح وتنشأ حياة جهنمية يعذب فيها جميع أفراد المجتمع ولا يبقى سر محفوظ ولا تبقى حرمة قائمة بينهم فضلاً عن القلق والأذى والخوف الذي يسببه التجسس وهذه كلها عناوين مستقلة في الحرمة .

ولا يخفى أن المراد من الاجتناب عن الظن هنا هو الاجتناب عن ترتيب الأثر والعمل عليه أن يظن الإنسان بأخيه سوء فيقذفه به ويبهته ويرتب عليه سائر آثاره وأما نفس الظن بما هو نوع من الإدراك النفسي فهو أمر قد يفاجئ النفس بلا اختيار فلا يقصده الشارع بالاجتناب والنهي لأنه غير اختياري.

 نعم نهى الشارع عنه لأن مقدمات الظن اختيارية كأن يراقب الإنسان الناس ويتصدر لأعمالهم وحركاتهم وسكناتهم ويتحصل من هذا الظن فيكون من مصاديق التجسس حينئذٍ ويكون من المحرمات وإنما قلنا أن المصاديق الأربعة التي ذكرناها كلها من المحرمات لأن الآية الشريفة نهت عن جميع أنواع التجسس إذ لم تقيد التجسس في مورد من الموارد ولم تشترط به شرطاً من الشروط مما يدل هذا أن التجسس على الآخرين والسعي إلى إذاعة أسرارهم من الآثام وذلك لأن حذف المتعلق يفيد العموم كما ذكر في محله من الأصول.

وعليه فلا مجال للتفريق بين الرتبة الأولى من التجسس والرتبة الأخيرة نعم ربما بدرجة الحرمة وشدة الحرمة يختلف العملان وأما السنة ففيها روايات تدل على حرمة هذا العمل منها ما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تحسسوا ولا تجسسوا وقلنا سابقاً أن لفظة إياكم صريحة في التحذير ولولا الحرمة لم يكن مورد لهذا التحذير مضافاً إلى النهي المتعلق بالتجسس والتحسس ومنه قد عرفت بالفرق بين التحسس والتجسس فإن الأول هو الاستماع لحديث القوم والثاني البحث عن عوراتهم.

الحديث الثاني: ما ورد عنه (صلى الله عليه وآله) (إني لم أؤمر أن أنقلب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم) بضميمة كاشفية عدم الأمر بالشيء عن قباحته وهو الظاهر عرفاً من مثل هذه الجمل ومنها ما ورد عنه (صلى الله عليه وآله) (يا معشر من اسلم بلسانه ولم يسلم بقلبه لا تتبعوا عثرات المسلمين فإنه من تتبع عثرات المسلمين تتبع الله عثرته ومن تتبع الله عثرته يفضحه) .

ومنها ما ورد عنه (صلى الله عليه وآله) (لا تطلبوا عثرات المؤمنين) إن من تتبع عثرات أخيه تتبع الله عثرته ومن تتبع الله عثرته يفضحه ولو في جوف بيته). ومنها ما ورد عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام)) لا تسألوا الفاجرة من فجر بك فكما هان عليها الفجور يهون عليها أن ترمي البريء المسلم) وعنه (عليه السلام) (إذا سئلت الفاجرة من فجر بك فقالت فلان جلدت حدين حداً لفجورها وحداً لفريتها على الرجل المسلم) والجلد هنا كاشف عن استحقاقها للعقوبة ومن الواضح أنه لولا الحرمة لم تستحق العقوبة .

كما إن رمي البريء المسلم ينطبق على كتابة التقارير والرسائل وكشف الأسرار وما أشبه ذلك، ومنها ما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) من النهي عن التجسس من قبل الحاكم على رعيته ومنها (إذا ابتغى الأمير الريبة بالناس أفسدهم) .

وأما الإجماع فهو الظاهر من كلمات الأعلام ممن تعرضوا للمسألة نظراً لما علم من الدين ومذاق المتشرعة وأجمع عليه المسلمون من حرمة التجسس مطلقاً فإن الفقهاء يؤكدون على عدم جواز التجسس للبحث عن المنكرات وخاصة تلك الظاهرة المكشوفة فكيف بها إذا كانت مجرد اتهامات وافتراءات مختلقة ناشئة من سوء الظن بالناس وتتبع عثراتهم ومراقبة أعمالهم وقد أكد فقهاء الشيعة والسنة معاً على حرمة التجسس مطلقاً إلا ما استثني وهو قليل ونادر ذكره الفقهاء في باب الجهاد، فإنه إذا كان المنكر مستوراً لا علم للدولة أو القاضي به فلا يجوز السعي للكشف عنه حتى لا يرتكب التجسس المنهي عنه شرعاً وإذا كان المنكر مستوراً ولكنه يستراب به لا تكفي الإسترابة مبرراً لسعي الحاكم الكشف عن المنكر ولذا قال بعض الفقهاء ليس للمحتسب أن يتعرض لمرتكب المنكر وإذا كان المنكر مستوراً وعلم به ولم يتحقق لا يكفي مجرد العلم للكشف عن المنكر .

كما ذكر آخر من الفقهاء أن ظهور المنكر من غير تجسس ولا استراق سمع ولا استنشاق ريح ولا بحث عما أخفي بيد أوثوب أو حانوت فإنه حرام هذا فضلاً عن قيام الدولة بالتجسس لكشف المنكر يفقد الدليل المستمد بالكشف عن المنكر مشروعيته حيث أنه يشترط في المشروعية أن لا يكون الدليل على المنكر عن تجسس نهي عنه شرعاً فيتحقق هذا التجسس إذا ثبت أن الحاكم أو الموظف الخاص أو العامل الذي يعمل في أجهزة المراقبة قد سعى إلى طلب الإمارات المعرفة بالمنكر أو إلى طلب البينة الدالة عليه وإن كل منكر لم تظهر إمارته أو بينته يعد منكراً مستوراً لا ينبغي للغير الكشف عيه وإلا كان هذا الكشف منكراً محظوراً.

هذا كله على فرض تحقق الموضوع وصدق كون العمل المراد كشفه من قبل الدولة منكراً فكيف به إذا لم يكن في الأصل من المنكرات بل يعد من الأعمال الإنسانية العادية التي جعل الإنسان فيها حراً طليقاً كحرية الرأي والمعارضة والاجتماع السياسي وما أشبه ذلك لكن الحكومة الجائرة تدخلها ضمن المنكرات أو المحظورات السياسية من أجل قمعها والقضاء عليها فإن هذا من الأولى أن يحرم كشفه أو تحديده أو القضاء عليه .

وبذلك يظهر أن الأصل هو عدم جواز التجسس على المواطنين من قبل الحكومة لا لكشف المنكر ولا لإزالته ومعاقبة مرتكبيه أو غير ذلك ما دام مستوراً، لتحريم الشرع القطعي للتجسس مطلقاً كما تدل الآيات والروايات على أنه لا يجوز التجسس على الناس والنظر إلى عوراتهم أو الاستماع إلى أسرارهم سواءً كان ذلك من أحد الناس تطفلاً أو من عناصر المخابرات ولأي سبب من الأسباب كما أنه لا يجوز من الجماعات من الناس لخدمة جهة من الجهات مهما كانت العناوين وبأي طريقة كانت

 نعم هناك مستثنيات سنتعرض لها إن شاء الله تعالى.

وأما العقل فلاستقلاله بقبح الكلام على عورات الناس والتفتيش عما لا يرضون لأحد الإطلاع عليه فما بالك فيما إذا سبب لهم الأذى أو الظلم من الجائرين بل وحرمته وقباحته هو المركوز في أذهان الناس قديماً وحديثاً ففي نور الكندي ( ان عمر بن الخطاب كان يعسُّ في المدينة ليلاً فسمع صوت رجل في بيت يتغنى فتسور عليه فقال يا عدو الله أظننت أن الله يسترك وأنت في معصية فقال وأنت لا تعجل علي إن أكن عصيت الله واحدة فقد عصيت الله في ثلاث قال ولا تجسسوا وقد تجسست وقال وأتوا البيوت من أبوابها وقد تسورت عليّ وقد دخلت عليّ بغير إذن وقال الله تعالى ((لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها)) .

وعن أبي قلابة قال (إن عمر بن الخطاب حدث أن أبا محجن الثقفي يشرب الخمر في بيته هو وأصحابه فانطلق عمر حتى دخل عليه فإذا ليس عنده إلا رجل فقال أبو محجن لعمر إن هذا لا يحل لك قد نهاك الله عن التجسس فقال عمر ما يقول هذا: قال زيد بن ثابت وعبد الله بن الأرقم: صحيح ما يقول فخرج عمر وتركه)

وقد ورد هذا المضمون في أكثر من واقعة في مصادر العامة وفي مصادر الخاصة أيضاً مما يدل على أن المسلمين قديماً وحديثاً يعرفون ويفهمون من ظواهر الأدلة الشرعية ومن مذاق المتشرعة حرمة التجسس بأي نحو من أنحائه فيظهر مما تقدم أمران:

 الأول : حرمة التجسس والتعاون مع دوائر الأمن والاستخبارات والدعاية على المؤمنين ومن أقسام الدعاية رفع التقارير المعمول بها في دوائر الأمن والاستخبارات غير المشروعة فإن ذلك من مصاديق التجسس وتقصي أخبار المؤمنين وكشف أسرارهم ومراقبة أعمالهم وتصرفاتهم والسعي للتنقيب عن كل خطوة يخطونها أو حركة يتحركونها للإيقاع بهم كما هو المرسوم في مراقبة الحكومات المستبدة لرعاياها ومواطنيها والتفتيش عن عقائدهم وانتماءاتهم وتوجهات أفكارهم.

الثاني: لا يجوز حفظ زلات المؤمنين وتتبع عثراتهم وكتابة ذلك في تقرير أو كتاب أو إشاعة بين الناس وما أشبه ذلك حتى وإن لم يوجب ذلك ابتلاءه أو افتضاحه بها في المستقبل ، فكيف إذا ما أوجب ذلك ، لحرمة هذا العمل نصاً وفتوى وإجماعاً وعقلاً وتستثنى من ذلك مسائل:

المسألة الأولى: جواز التحري والتفتيش عن مواطن الأعداء الذين يحاربون الإسلام والمسلمين ويتربصون بهم الدوائر بهدف معرفة أحوالهم المادية والمعنوية لخدمة أغراض المسلمين والدولة الإسلامية ولا يخفى أن هذا لا يجوز أيضاً إلا بإذن الإمام المعصوم (عليه السلام) أو نائبه الخاص وهو الفقيه الجامع للشرائط أو في ضمن الإطار العام والنائب العام في إطار شورى الفقهاء وهذا الاستثناء إما استثناء حكمي من الحرمة للتخصيص بالأدلة الثانوية كالأهم والمهم وأدلة حفظ الحقوق ورعايتها والدفاع عن النفس والمنع من الفساد أو خارج موضوعاً عن التجسس لانصراف أدلة حرمة التجسس عن مثله.

المسألة الثانية: تجسس الحاكم الأعلى في البلد أو الوزير أو المدير العام على موظفيه لضمان أدائهم بالواجبات المتعلقة في ذمتهم في رعاية حقوق المواطنين فإن هذا أيضاً إما يستثنى من الحرمة حكماً للتخصيص بالأدلة الثانوية من باب الأهم والمهم ووجوب حفظ الحقوق ورعايتها وغيرها من المسائل أو هو خارج عن التجسس لأنه تحر عن الحقيقة وحفظ الحق أو لانصراف أدلة حرمة التجسس عن مثله فإنه لولا قيام الحاكم بأمثال هذه الأمور يدب الفساد في الدوائر الرسمية وفي أجهزة الحكومة بما يفوت على الشعب الكثير من الحقوق ويخلط الحق بالباطل وتنتهك كثير من الحرمات كما هو واضح وملحوظ في الدول المستبدة التي تجعل الولاء هو المعيار في تقييم الناس فيداس الحق ويقوم الباطل.

المسالة الثالثة: يجوز التجسس على من يريد هدم الإسلام أو تشويه سمعته بإشاعة الفحشاء وترويج المخدرات والفساد المنظم كالأفلام الخليعة وما أشبه ذلك فلا يأمن حينئذٍ بإيقافه عند حده برفع التقارير أو حفظ سوابقه بل قد يجب أيضاً حفظاً للإسلام ولبلاد المسلمين كما صرح في مثله الفقهاء في مسألة أهل البدع وذلك بقانون الأهم والمهم الذي دلت على وجوب مراعاته الأدلة الأربعة مضافاً إلى أدلة وجوب قطع دابر الفساد وما أشبه ذلك من ملاكات وأدلة.

المسألة الرابعة: يجوز التجسس على الأعداء في حالة الحرب فعن حذيفة بن اليمان قال (والله لقد رأيتنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الخندق وصلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) هويَّاً من الليل ثم التفت إلينا فقال من يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع يشرط له رسول الله (صلى الله عليه وآله) الرجعة وأسأل الله تعالى أن يكون رفيقي في الجنة فما قام رجل من القوم بسبب شدة الخوف وشدة البرد فلما لم يقم أحد دعاني رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلم يكن لي بد من القيام إذ دعاني فقال يا حذيفة اذهب فادخل في القوم فانظر ماذا يصنعون ولا تحدث شيئاً حتى تأتينا قال فذهبت فدخلت والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل لا تترك لهم ناراً ولا قدراً ولا إناءً فقام أبو سفيان فقال يا معشر قريش لينظر أمريء من جليسه قال حذيفة فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي فقلت من أنت فقال فلان بن فلان فقال أبو سفيان يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام لقد هلك الكراع) إلى غير ذلك من الروايات الدالة على جواز التجسس على العدو.

المسالة الخامسة: إذا ابتليت الدولة والمجتمع بالتيارات المنحرفة والأحزاب الفاسدة العميلة مثلاً أو شبكات التجسس المعادية للإسلام والمسلمين يجوز التجسس عليها لكشف التجسس من باب المقابلة بالمثل وكذا إذا اتهم المسؤولون العاملون في الحكومة بخدمتهم للدول المغرضة والمعادية للإسلام والمسلمين فعن مولانا الرضا (عليه السلام) كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا بعث جيشاً فأتهم أميراً بعث معه من ثقاته من يتجسس له خبره، وعن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) بعثني رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنا والزبير والمقداد فقال انطلقوا حتى تأتوا روضة (خاخ ) فإن فيها ضعينة مع كتاب فخذوه منها فانطلقنا تتعالى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بضعينة فقلنا هلمي الكتاب فقالت ما معي كتاب فقلت لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب فأخرجته من عقاصها فأتينا به النبي (صلى الله عليه وآله) فإذا هو من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين يخبرهم ببعض أمر الرسول (صلى الله عليه وآله) فقال ما هذا يا حاطب فقال يا رسول الله لا تعجل علي فإني كنت أمرءً ملصقاً بقريش ولم أكن من أنفها وإن قريشاً لهم بها قرابات يحمون بها أهليهم بمكة فأحببت أن يكون لي بذلك أن أتخذ فيهم يداً يحمون بها قرابتي بها ، والله يا رسول الله ما كان لي من كفر ولا ارتداد فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) صدقت ) وهذه الواقعة تدل على جواز التجسس على العناصر التي تتجسس على الإسلام كما تدل على سماح رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعفوه (صلى الله عليه وآله).

المسألة السادسة: يجوز التجسس في الحرب الإعلامية لإيقاع الهزيمة بالعدو كما يصنعه بنا من باب المقابلة بالمثل وقطع دابر الفساد أو من باب الأهم والمهم.

 ففي التاريخ إن نعيم بن مسعود أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: (يا رسول الله إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت فإنما الحرب خدعة فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريضة وكان لهم نديماً في الجاهلية فقال يا بني قريضة قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم قالوا صدقت لست عندنا بمتهم فقال لهم إن قريشاً وغطفان ليسوا كأنتم البلد بلدكم وبه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم لا تقدرون أن تحولوا منه إلى غيره وإن قريشاً وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه وقد ظاهرتموهم عليه وبلدهم ونساؤهم وأموالهم بغيره وليسوا كأنتم فإن رأوا نهزة أصابوها وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلادكم ولا طاقة لكم به أن خلا بكم فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهناً من إشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمداً حتى تناجزوه، فقالوا له قد أشرت بالرأي. ثم خرج حتى أتى قريشاً فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمداً إنه بلغني أمر قد رأيت علي حقاً أن أبلغكموه نصحاً لكم فاكتموه عني قالوا نفعل قال قد علمت أن معشر اليهود قد ندموا على ما صنعوا بينهم وبين محمد وقد أرسلوا إليه إنا قد ندمنا على ما فعلنا فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين من قريش وغطفان رجالاً من أشرافهم فنعطيك إياهم فتضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقي حتى نستأصلهم فأرسل إليهم أن نعم إن فعلتم ، فإن بعثت إليكم اليهود يلتمسون منكم رهناً من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلاً واحداً ثم خرج حتى أتى غطفان فقال يا معشر غطفان إنكم أصلي وعشيرتي وأحب الناس إلي ولا أراكم تتهموني فقالوا صدقت ما أنت عندنا بمتهم قال فاكتموا عني فقالوا نفعل فما أمرك فقال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم ما حذرهم فلما كانت ليلة النصف من شوال سنة خمس وكانت من صنع الله لرسوله (صلى الله عليه وآله) أن أرسل أبو سفيان بن حرب ورؤوس غطفان إلى بني قريضة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان فقالوا لهم إنا لسنا في دار مقام قد هلك الخف والحافر فاغدوا للقتال حتى نناجز محمداً فأرسلوا إليهم أن اليوم يوم السبت وهو يوم لا نعمل به شيئاً ولسنا مع ذلك بالذي نقاتل معكم محمداً حتى تعطونا رهناً من رجالكم يكونون بأيدينا حتى نناجز محمداً فلما رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو قريضة قالت قريش وغطفان والله إن الذي حدثكم نعيم بن مسعود لحق فأرسلوا إلى بني قريضة إنا والله لا ندفع لكم رجلاً واحداً من رجالنا فقالت بنو قريضة حين انتهت إليهم الرسل بهذا أن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق فأرسلوا إلى قريش وغطفان إنا والله لا نقاتل معكم محمداً حتى تعطونا رهناً فأبوا عليهم وخذل الله بينهم). إلى غير ذلك من الروايات الدالة على التخذيل في مقام الحرب نفسياً وإعلامياً وما أشبه ذلك من باب المقابلة بالمثل أو من باب الدفاع عن النفس أو من باب الأهم والمهم أو غير ذلك من العناوين التي تستثنى من المحرمات.

المسألة السابعة: يجوز التجسس على المسلم أو على الأخ المؤمن الذي يصاب بالأخطار والأضرار أو الذي يخاف عليه من الفساد والرذيلة وما أشبه ذلك لغرض إصلاحه واستقامته للحديث المتقدم كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يبعث من يتجسس على أمير الجيش فإنه يشمل هذه الموارد كما تشهد العناوين الأخرى من النهي عن المنكر وقطع دابر الفساد والأهم والمهم.

المسألة الثامنة: يجوز تكوين المؤسسات والمنظمات التجسسية في مقابل العدوان والأعداء المحاربين وذلك كما بيناه سابقاً ولكن بشرط أخذ إذن الفقيه الجامع للشرائط أو نظر شورى الفقهاء في هذه المسألة لكن هذا لا يعني أن لهذه الأجهزة حق التجسس في حياة الناس الخاصة وإنما هذا تجسس فقط وفقط على الأعداء وليس على الأخوة وعلى المؤمنين من المواطنين والرعايا، وعليه فإنه يجوز للحكومة المشروعة أن تتخذ أشخاصاً تجعلهم عيوناً أو تتخذ منظمة واسعة للإحاطة بمجموعات الأمور لمواجهة المؤامرات ضد المجتمع أو ضد البلد أو لإرباك الوضع الأمني في البلاد فيتجسسوا للمصلحة العامة إذا كانت ضمن ضوابط قانونية دستورية وضمن إجازة الفقهاء المراجع الجامعين للشرائط إلا أن هذا الأمر لا ينبغي أن يكون ذريعة لهتك حرمة القانون الإسلامي أو التجاوز على حقوق الناس فيسوغ بعض الأفراد لأنفسهم في أن يتجسسوا على حياة الأفراد الخاصة بذريعة التآمر والإضلال بالأمن فيفتحوا رسائلهم مثلاً وأن يراقبوا هواتفهم أو اتصالاتهم أو علاقاتهم ويهجموا على بيوتهم بين حين وآخر أو يرصدون حركاتهم وسكناتهم إذ ينبغي أن يفرق بين التجسس وجمع الأمور الضرورية لحفظ أمن المجتمع والفرق بينه دقيق لذا يجب أن يكون ضمن إشراف الضوابط القانونية والقضائية المستقلة عن السلطات التنفيذية كما يكون بإجازة الفقهاء المراجع إذ ينبغي على مسؤولي إدارة الأمور الاجتماعية وما أشبه ذلك أن يراقبوا هذا الحد بدقة لئلا تهتك حرمة أسرار الناس ولئلا يتهدد أمن المجتمع والبلاد بالذرائع التي يبررها أصحاب هذه الأعمال ويتخذونها طريقاً للإستبداد والسيطرة ولهذه المسألة تفريعات كثيرة لا مجال لبيانها هنا.

    الخامس: من المحرمات السلوكية هي حرمة كل ما يوجب تقوية الباطل على الحق بأي نحو كان لأنه من الإعانة على الإثم والعدوان وقد دلت الأدلة الأربعة على حرمته فمن الكتاب قوله سبحانه وتعالى ((وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوانِ)) وأي إثم أشد من هذا بأن يجعل الإنسان الباطل حقاً ويجعل الحق باطلاً وينصر الباطل ويضعف الحق ومن الإجماع إجماع المسلمين بل العقلاء على الكبرى إلا أن مصداق الحق والباطل يختلف لديهم لأن كل يرى مذهبه حقاً وما يخالفه باطلاً .

ومن السنة روايات متعددة منها قول أبي عبد الله (عليه السلام) في رواية ابن أبي حمزة (لولا أن بني أمية وجدوا من يكتب لهم الفيء ويقاتل عنهم ويشهد جماعتهم لما سلبونا هنا) مما تدل هذه الرواية على أن العمل مع بني أمية أوجب تقوية الباطل على الحق ومنها قول أبي عبد الله (عليه السلام) (وكل منهي عنه مما يتقرب به لغير الله تعالى أو يقوى به الكفر والشرك من جميع وجوه المعاصي أو باب يوهن به الحق فهو حرام محرم بيعه وشراؤه وإمساكه وملكه وهبته وعاريته وجميع التقلب فيه) والرواية صريحة وناصة على أن تقوية الكفر والشرك وكذلك الإيهان للحق من المحرمات المشددة بل وقد يقال أن السنة العملية قائمة على هذا وذلك لأن بناء جميع الشرائع الإلهية خصوصاً شريعة خاتم المرسلين (صلى الله عليه وآله) على المدافعة مع الباطل بأي وجه أمكن ولا يخفى عليك أن تقوية الباطل على الحق له أساليب وطرق وأدوات مما يوجب تلك التقوية من أبرزها الفكر والثقافة كوسائل الإعلام والدعاية منها بواسطة تأثير السواد والمناصرة والمؤازرة له.

ومنها : أن يكون بتزويدهم بالأدوات والوسائل التي بها يسيطر على الحق ومن أبرز هذه الوسائل والأدوات التي عنونها الفقهاء في كلماتهم هي بيع السلاح لأعداء الدين ومع أن الحكم أعم من بيع السلاح لأعداء الدين إلا أن الفقهاء عند هذه المسألة لأهميتها وهذا ما يتطلب منها البحث في حكم بيع السلاح من أعداء الدين كمصداق من مصاديق هذه الضابطة الكلية ثم بعد ذلك ننظر في الوسائل الأخرى ، وكيف كان فإن هنا مسائل أربعة:

الأولى: بيع السلاح من الكفار وهو حرام مطلقاً.

الثانية: بيعه من المخالفين الذين يحاربون الشيعة وينصبون لهم العداء وهو حرام أيضاً.

الثالثة: بيعه في الفتن الاجتماعية العامة وقد وردت بعض الروايات الدالة على حرمته بل صرح به بعض الفقهاء أيضاً.

من الروايات ما رواه العامة في سنن البيهقي عن عراب ابن حصين قال نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن بيع السلاح في الفتنة وإطلاقها يشمل الفتنة الواقعة بين المسلمين وهذا ما يؤيده العقل أيضاً لما يترتب في الفتن من مفاسد ومظالم تضيع فيها الحقوق وتهدر فيها الكرامات وتسفك الدماء وتنهب الأموال فبيع السلاح لأطراف الفتن لا إشكال في أنه من أجلى مصاديق المعاونة على الإثم.

الرابعة: بيعه من المفسدين وقطاع الطرق ونحوهم من الذين يؤذون الناس ويفسدون في الأرض وهو حرام أيضاً لأنه معونة على الإثم والعدوان هذه المسائل الأربعة لا إشكال في حرمة بيع السلاح فيها وإنما الكلام في بيع السلاح من أعداء الدين فهل هو جائز أم لا فيه أقوال ثلاثة:

الأول: هو الجواز إعتماداَ على بعض الروايات الواردة في هذا الشأن.

الثاني: الحرمة وهو المشهور من الفقهاء قديماً وحديثاً.

الثالث: التفصيل بين البيع في حالة الحرب وهو حرام والبيع في حالة الهدنة والصلح وهو جائز وهذا القول هو الذي ارتضاه المحقق الأنصاري رضوان الله عليه في المقام لورود طوائف ثلاثة من الروايات منها ما يدل على الجواز مطلقاً ومنها ما يدل على المنع مطلقاً ومنها ما يدل على التفصيل بين حال الهدنة وغيرها ما هو جامع بين المطلقتين.

 فمن الأولى ما عن أبي القاسم الصيقل قال كتبت إليه (عليه السلام) (إني رجل صيقل أشتري السيوف وأبيعها من السلطان فكتب لي (عليه السلام) لا بأس به) ومن الثانية عن علي عن أخيه موسى (عليه السلام) قال (سألته عن حمل المسلمين إلى المشركين التجارة قال (عليه السلام) إذا لم يحملوا سلاحاً فلا بأس) وفيما أوصى النبي (صلى الله عليه وآله) مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) قال يا علي كفر بالله العظيم من هذه الأمة عشرة وعد منهم بائع السلاح من أهل الحرب ومن الثالثة ما عن الحضرمي (قال دخلنا على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال له حكم السراج ما تقول فيمن يحمل إلى الشام السروج وأداتها فقال (عليه السلام) لا بأس أنتم اليوم بمنزلة أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) إنكم في هدنة فإذا كانت المباينة حرم عليكم أن تحملوا إليهم السرج والسلاح) وعن هند السراج قال قلت لأبي جعفر (عليه السلام) أصلحك الله إني كنت أحمل السلاح إلى أهل الشام فأبيعه منهم فلما عرفني الله هذا الأمر ضقت بذلك وقلت لا أحمل إلى أعداء الله فقال (عليه السلام) احمل إليهم فإن الله عز وجل يدفع بهم عدونا وعدوكم )       - يعني الروم - وبعه ، فإذا كانت الحرب بيننا فلا تحملوا فإن من حمل إلى عدونا سلاحاً يستعينون به علينا فهو مشرك ) .

ولا يخفى عليك إن تعبير الروايات في هذه الموارد بالكفر وبالشرك يراد به الكفر والشرك العملي لا العقيدي كما أن كلمة أصلحك الله الواردة في جملة من الروايات يراد به إصلاح الدين والدنيا لأن الإصلاح حتى لهم (عليهم السلام) بيد الله سبحانه وتعالى ولكن معناه بالنسبة إليهم بالنسبة إلى الدين هو الاستمرار وحفظ المقام والمنزلة التي جعلها الله سبحانه وتعالى لهم لقوله سبحانه وتعالى ((اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ)) وهذه مسألة عقيدية بحثها الحكماء في باب العقائد.

وعن السراج عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: (إني أبيع السلاح فقال لي لا تبعه في الفتنة) ولا يخفى وحدة الحكم بالنسبة إلى الكفار وأهل الباطل من المخالفين والمؤالفين لوحدة الملاك فيها جميعاً ولذا فهم المشهور ذلك من الأولين .

وعن مبنى الحكم إلى صورة الفتنة لوجود الروايات مع الدليل العقلي مضافاً إلى فهم العرف لعدم الخصوصية بين تقوية الكافر أو تقوية المخالف أو المؤالف الذين يريدون الفتنة ويوقعون الظلم والفساد في الناس ولا يخفى عليك أن مقتضى الجمع بين هذه الروايات هو التحريم في صورة تحقق العناوين التي ذكرناها وهي الحرمة في بيع السلاح في حالة الحرب من أعداء المسلمين والثاني بيع السلاح الموجب لتقويتهم ضد المسلمين وإن لم يكونوا في حالة حرب.

الثالث: إذا كانوا يجمعون العدة والسلاح للمحاربة وإن كانوا الآن في حالة سلم ومصالحة

الرابع: في صورة وقوع الفتن بين الناس وهذا لا يختص بالكفار ولا بالمخالفين بل يجري حتى في الفرقة الواحدة أو المذهب الواحد.

الخامس: البيع ممن يقطع الطرق ويوجب الفساد بين الناس كإنتهاك الحقوق وهدر الدماء هذه العناوين كلها محرمة ولا يجوز بيع السلاح لهذه الطوائف الخمسة وأما في غيرها فمقتضى القاعدة هو الجواز وبهذا نجمع بين هذه الطوائف الثلاثة من الروايات والذي يتتبع كلمات الفقهاء يجد أن بعضهم جمع بين هذه الروايات بين الحرب والهدنة كالشيخ الأنصاري وجمع من الفقهاء حيث حملوا الطائفة المانعة على صورة قيام الحرب بينهم وبين المسلمين وحمل الطائفة المجوزة على صورة الهدنة في مقابل المنازعة وشاهد الجمع هو الطائفة الثالثة من الروايات التي فصلت بين الحالتين الهدنة والمنازعة .

لكنك عرفت أن هذا أحد عناوين الحرمة ولذا ورد عن الشهيد في حواشيه التي حكاها عنه السيد العاملي في مفتاح الكرامة أنه ذهب إلى عدم الجواز مطلقاً معللاً ذلك بأن فيه تقوية الكافر على المسلم فلا يجوز على كل حال وقد عرفت أن هذا عنوان واحد من عناوين الحرمة والمنع ووجوه الحرمة أعم مما ذكروا ولذا عد المحقق اليزدي في حاشيته على المكاسب الأقوال في ذلك إلى ثمانية ولعل وجوه الجمع هو ما ذكرناه من العناوين المحرمة الدالة على حرمة بيع لتوهين الدين أو لتقوية الباطل أو لقطاع الطرق أو لأصحاب الفتن وما أشبه ذلك وهنا مسائل:

المسألة الأولى: المقصود من السلاح الذي يحرم بيعه جميع معدات الحرب وهي تختلف باختلاف الأعصار والأمصار لما هو المحسوس في الوجدان والأعيان والمضبوطة في تاريخ جميع المذاهب والأديان بلا فرق فيه بلا حال قيام الحرب والهدنة إذا كان الشراء للتهيئة والعدة وذلك لصدق تقوية الباطل في كل منهما عرفاً وعند أهل الخبرة المطلعين على هذه الأمور فالسلاح المراد به الأعم من وسائل الهجوم أو الدفاع فحصر بيع السلاح بوسائل الهجوم فقط غير ظاهر فلذا فإن مثل وسائل الحمل والنقل القديمة كالدواب والسيوف الدروع ونحوها تكون وسال حرب وتكون وسائل الحمل والنقل الحديثة تكون مشمولة بالحكم لوحدة الملاك ولعدم فهم الخصوصية لوسائل الدفاع أو وسائل الهجوم نعم مثل بيع الأغذية والدواء والماء والملابس وما أشبه.

فاللازم أن يستفاد من الأدلة الأخرى حتى يحكم بحرمتها وهو من مثل إنها إعانة على الإثم والعدوان ولا يقال فلماذا أعطى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام) والحسين الماء لأعدائهم من الكفار والبغاة والخارجين على أئمتهم لأنه يقال كان ذلك إما من جهة ما تقتضيه التعاليم الإسلامية في الحرب أو لأنه لا يؤثر في مجرى الحرب شيئاً لذلك أعطوهم الماء كموقف إنساني نبيل يدل على سعة نفوس أهل الحق أو كان من باب الأهم والمهم، فمن الأهمية بمكان نزاهة الحرب الأمر الذي يؤدي إلى الإلتفاف حول الإسلام والإيمان وقادتهم كرسول الله (صلى الله عليه وآله) وأهل البيت (عليهم السلام) الذين ارتضاهم الله عز وجل خلفاء في أرضه وحججاً على بريته وأعلاماً لدينه .

ولا يخفى عليك أن الحرب في الإسلام هدفها الإصلاح ونشر الفضيلة وقمع الفساد ولذا ينبغي أن تراعى فيها جميع الضوابط التي تحقق هذا الغرض وتنشر الدين مع الحرية والإختيار مع النزاهة والفضيلة وكان هذا أحد الطرق كما لا يخفى.

المسألة الثانية: لا يعتبر في حرمة البيع القصد إلى الإعانة والتقوية بل المناط هو الصدق العرفي وذلك لأن المناط هو الصدق تقوية الباطل بأي وجه حصل وليس الفقيه من أهل خبرة تعيين الموضوعات حتى يطيل البحث في هذه المسألة وليست من شؤونه بل للمسألة خبراء ملتفتون خصوصاً في مثل هذه الإعصار فإذا عيَّن أهل الخبرة أن البيع يعد تقوية لأهل الباطل فيشمله الحكم وهو الحرمة .

وأما خبر حكيم السراج عن الصادق (عليه السلام) ما تقول في من يحمل السروج وأدواتها فقال (عليه السلام) لا بأس أنتم اليوم بمنزلة أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإنكم في هدنة فإذا كانت المباينة حرم عليكم أن تحملوا إليهم السلاح والسروج.

هذا الخبر محمول على ما إذا لم يكن الاقتناء للتهيئة والعدة للمقاتلة مع الحق وإلا فهو من تقوية الباطل قطعاً فيكون حراماً بلا إشكال كما عرفت.

المسألة الثالثة: لو كانت الحرب بين المسلمين وأهل الباطل يجوز البيع للمسلمين حينئذٍ للأصل والإطلاق والنص والإجماع ففي خبر هند السراج دلالة على ذلك وقد تقدم بيانه وإذا كانت الحرب بين طائفتين من أهل الباطل مهدوري الدم جاز البيع لكل واحد منهما حينئذٍ للأصل والإطلاق وظهور الإجماع .

وأما إذا كانت الحرب بين طائفتين من محقوني الدم ففيه قولان : قول ارتضيناه وهو أنه لو كانت في هذه الحرب فتنة وفيها مفاسد ومظالم كثيرة فهو حرام وأما إذا لم تكن فتنة فمقتضى الأصل هو الجواز لكن بعض الفقهاء كالمرحوم السيد السبزواري (رضوان الله عيه) ذهب إلى التفصيل إلى بيع الأسلحة الدفاعية وعدم جواز بيع الأسلحة الهجومية لفرض أن كل منهما محقون الدم فلا يجوز بيع السلاح إلى كل منهما.

وهو ما ارتضاه سماحة السيد الشيرازي في الفقه وعليه حمل خبر ابن مسلم عن الصادق (عليه السلام) عن الفئتين تلتقيان من أهل الباطل أبيعهما السلاح قال بعهما ما يكنهما الدرع والخفين ونحو هذا، ولا يخفى عليك أن هذا التفصيل متين إلا أنه في الغالب هناك ملازمة عرفية بين وقوع الحرب بين طائفتين محقوني الدم وبين الفتن الإجتماعية الكثيرة خصوصاً في مثل هذه الأزمنة التي تتدخل في الحروب الكثير من العوامل والعناصر الثالثة والرابعة التي لها أغراض في تأجيج الحروب بين المجتمعات وعليه فإن بيع السلاح الدفاعي إذا كان يقلل من وقوع الفتنة ويحفظ النفوس البريئة أكثر ففي هذه الصورة يكون جائزاً بلا إشكال.

ولذا حمل السيد الخوئي قدس سره كما في مصباح الفقاهة المسألة على الوجوب بأن يباع منهما ما يكنه ليحتفظ كل منهما عن صاحبه ويتترس به عنه بل لو لم يشتروا وجب إعطاؤه إياهم مجاناً فإن اضمحلالهم اضمحلال وجهة الإسلام في الجملة ولذا سكت مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) عن مطالبته بحقه من الطغاة خوفاً من انهدام حوزة الإسلام ومن هنا أفتى بعض الأعلام بالجهاد مع الكفار حفظاً للدولة العثمانية هذا ما صرح به سماحة السيد الشيرازي دام ظله في الفقه حيث قال إن كان هناك حرب بين حكام الجور والمسلمين والكفار من بلاد المسلمين جاز البيع للحكام المسلمين الجائرين في مقابل الكفار لحفظ كلمة الإسلام كما دل على ذلك جملة من الروايات.

المسألة الرابعة: إذا كانت دولة من الكفار غير محاربة مما لا يتسرب سلاحها إلى المحاربين للإسلام فإنه لا بأس بيعها السلاح وإلا كان من بيع السلاح للمحاربين ولو بالواسطة كما هو كذلك في الحكم في كل واسطة وكذا الحكم في عكسه أيضاً فإذا أعطى السلاح للمحارب لكنه يعطيه للمحارب عن باب المبادلات التجارية مما لا يؤثر في قدرته القتالية إطلاقاً لم يكن به بأس حينئذٍ.

المسألة الخامسة: لا فرق فيما ذكر بين البيع والصلح والهبة وغيرها في السلاح وذلك للملاك كما لا فرق بين الفرد والجماعة فإذا باع سلاحاً لأحد من المحاربين وعلم أنه لا يؤثر في الحرب شيئاً لأنه عاجز عن القتال حتى ولو كان في صفوفهم فإنه لم يكن به بأس ومنه يعلم حال ما لو أعطاه بشرط عدم إدخاله في الحرب ممن يعلم الوفاء به أو كانت له قدرة على منعه أو باعه بشرط تسليمه إليه بعد تمام الحرب فإنه لا بأس به أيضاً وفي عكسه البأس وحال معامل صنع السلاح ومواد صنعه حاله لوحدة المالك كما لا يخفى.

وكذا لا يجوز بيع الأسلحة المدمرة الأسلحة الذرية والكيماوية والجرثومية والنووية وما أشبه ذلك، وحيث قد عرفت عدم الفرق بين السلاح الدفاعي والهجومي يعرف الحال أيضاً بأن ما يعينهم على الحرب كالرادارات والطائرات والأواكس والنظارات بعيدة المدى وما أشبهها في الوقت الحاضر حال السلاح أيضاً كما يعرف الحال أيضاً بالنسبة إلى وسائل أسر الأسراء وإجارة الخبراء وكذلك حال صنع السلاح وهدمه.

المسألة السادسة: بيع السلاح ونحوه للفئة الحقة مما يزيد في قدرتها القتالية سواء في حال الحرب أو غيره واجب عيني أو كفائي كل بحسب ميزانه وذلك لقوله سبحانه وتعالى ((وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ)) ومضافاً إلى آيات الجهاد وآيات الدفاع وغيرها من ملاكات الأدلة كما إن حكم السلاح بالنسبة إلى الفئة الحقة يجري بالنسبة إلى وسائل أسر الأسراء وإجارة الخبراء أيضاً وكذا بالنسبة إلى هدم السلاح ونحوه.

المسألة السابعة: إذا باع الإنسان أو الحكومة السلاح إلى أعداء الدين فلا إشكال في حرمته لكن هل هذه الحرمة تستلزم فساد العقد أيضاً وبطلانه أم لا، قولان في المسألة:

القول الأول: ذهب إليه السيد الخوئي قدس سره في مصباح الفقاهة والسيد الشيرازي في مهذب الأحكام حيث قالا بأن الحرمة لا تستلزم الفساد هنا لأن النهي متعلق بما هو خارج عن المعاملة وهو تقوية الباطل لا بذات العوض من حيث هو قال السيد الخوئي قدس سره (إن النهي عن بيع السلاح من أعداء الدين ليس إلا لمبغوضية البيع في نظر الشارع فيحرم تكليفاً فقط ولا يكون دالاً على الفساد ويتضح ذلك جلياً لو كان النهي عنه لأجل حرمة تقوية الكفر لعدم تعلق النهي به بل بأمر خارج يتحد معه.

القول الثاني: ما ذهب إليه الشهيد (رضوان الله عليه) في المسالك حيث اختار فساد المعاملة بدعوى أن النهي متعلق بذات العوض وهو ما ذهب إليه سماحة السيد الشيرازي دام ظله أيضاً في الفقه حيث قال بأن الظاهر عرفاً بطلان البيع أيضاً إضافة إلى التحريم وأشكل على ما ذكره السيد الخوئي (قدس سره) بقوله (والقول إن الفساد والحرمة التكليفية لا يجتمعان فيه في لفظ واحد خلاف ما يفهمه العرف من (وحرم الربا) وحرمت عليكم أمهاتكم) ولذا فالعقد على الأم من أشد المنكرات وكان باطلاً وذلك إما من باب استعمال اللفظ في أكثر من معنى وقد ذكرنا في الأصول أنه جائز بالقرينة وأما من باب الملازمة العرفية في غير ما كان نفس العقد لا النقل والانتقال مبغوضاً كالبيع وقت النداء وربما ينعكس فيكون فساد دون المبغوضية لنفس العقد فيما إذا قال المالك لا أرضى بالبيع وعقد فإنه فاسد ولا دليل على حرمة تلفظه ولا يخفى عليك أنه لو جاز البيع لهم وباعهم بالفعل بشرط أن لا يكونوا من المحاربين فكانوا من المحاربين وجب الفسخ حينئذٍ للملاك.

ولا يخفى عليك أن الأحوط بين القولين هو ترتيب آثار الفساد لأن المسألة من الموارد الخطيرة التي ينبغي فيها مراعاة الإحتياط كما إنه لو فرض إنهم كانوا مسلمين ثم صاروا كفاراً وكان قد باعهم السلاح قبل ذلك ولكن لم يسلمهم السلاح بعد لم يجز له التسليم حينئذٍ للملاك بل كان له الفسخ حينئذٍ لأن الشارع لو أوجب مثل هذا البيع لكونه نقضاً لغرضه لقوله ((لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ)) ونحوه فإن من إغراض الشارع إجتثاث أصول الفساد في الأرض ورفع الفتن وحقن الدماء فإذا كان الشارع يجيز مثل هذه المعاملة التي تسبب الفساد في الأرض وسفك الدماء كان نقضاً للغرض كما استدلوا بذلك في خيار الغبن حيث قالوا أن الشارع إذا أوجبه كان معناه إسقاطه حكم لا ضرر فإذا كان دليل لا ضرر يرفع اللزوم كذلك حكم لا تفسدوا ونحوه يرفعه في المقام ومنه يعرف حال العكس، بأنهم لو كانوا كفاراً فباعهم السلاح فانقلبوا مسلمين فهل لا يصح البيع نظراً إلى حاله أو يصح نظراً لعدم وجود العلة في المقام، احتمالان في المسألة والأول أقرب إلى الصناعة إلا أن الثاني أقرب إلى الإعتبار.

المسألة الثامنة: حكم أجزاء السلاح وذخيرته مثلاً وقطع غياره وما أشبه ذلك حكم السلاح أيضاً لوحدة الملاك وعدم الخصوصية بينهما عرفاً.

المسألة التاسعة: بيع آلات التعذيب لا يجوز إطلاقاً حتى لو جاز بيع السلاح لأنه من أبشع أنواع إهانة كرامة الإنسان بما هو ، هو المخالف لقوله تعالى ((وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ)) مضافاً إلى الأدلة الثانوية بالنسبة إلى المسلمين حيث يوجب ممارسة التعذيب سوء السمعة لهم وهو محرم تارة من جهة بيع السلاح من أعداء الدين وأخرى من جهة أنه إعانة على العدوان وثالثة من جهة أنه يورث سوء السمعة المحرم.

ومما تقدم يظهر عدم اختصاص الحرمة بما يسمى سلاحاً فمثل السكين ونحوه بل السموم ونحوها مشمول للأدلة لمتقدمة أيضاً.

المسألة العاشرة: عرفت مما تقدم أن كل ما كان مثل بيع السلاح لأعداء الدين فهو حرام أيضاً كالمعاملات الخطيرة معهم التي توجب قدرتهم وتزيد في شوكتهم بل وجعل الصنايع المهمة تحت اختيارهم بل وتعليمهم علوماً توجب غلبتهم على المسلمين أو تزويدهم بالنفط مثلاُ أو الغازات أو المعادن التي توجب قوتهم وسيطرتهم على المسلمين فهذه كلها حرام إذا كانت علة قريبة أو بعيدة لمزيد شوكتهم وخيف منهم على المسلمين والدليل عليه هو صدق الإعانة على الإثم في كثير من مواردها .

ولا يخفى عليك أن القصد هنا قهري كما عرفت، على أن عدم العلم هنا غير كاف بعد كون الظن والخوف في هذه المقامات طريقاً عقلائياً فيكفي فيها الظن بأنهم يغلبون على المسلمين أو يستخدمونها ضدهم أو الاحتمال العقلائي أيضاً منجز للتكليف بل لو لم يصدق عليه عنوان الإعانة والنهي عن المنكر لكنه أيضاً يحرم من جهة حفظ حوزة الإسلام وكيان المسلمين الذين نحن مأمورون بحفظه من جهة نصر الإسلام وعلو المسلمين ولا إشكال في أن المعاملات أو بيع الفلزات أو بيع بعض المواد التي توجب قوتهم ومنعتهم وعلوهم على المسلمين هذا ينافي حقيقة الحفظ والرعاية والعلو بل قد يعد ذلك خيانة على المسلمين في بعض المسلمين في بعض الموارد ولذا كان إفشاء أسرارهم إلى أعدائهم في غزوة الأحزاب سبباً في غضب النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) والمسلمين على عامله حتى تاب توبته المعروفة بل قد يكون داخلاً تحت عنوان الفساد في الأرض وإشاعة الفحشاء إذا كان من أمور توجب تقوية الفساد وتقوية الفساق وإغراء بعض النفوس البريئة وجذبهم إليه .

كما ظهر مما تقدم حال سائر ما يكون تقوية للكفار ونحوهم من الأمور في الحال الحاضر حيث الحروب السياسية والإعلامية والثقافية والإقتصادية الشاملة لكل جوانب الحياة فإن الإطلاقات والملاكات الشاملة لها بلا إشكال.

المسألة الحادية عشرة: لا يبعد أن يكون كل مورد شك فيه من جهة الموضوع أو الحكم يكون محكوماً لعدم الجواز لما ذكرناه من أن المسألة حيث تترتب عليها المفاسد الخطيرة ينبغي فيها مراعاة الاحتياط والخوف والاحتمال العقلائي فيها يكفي لمنجزية التكليف فإن الأمر إذا كان كذلك بالنسبة إلى الفرد في فروع الدين فإنه يكون بالنسبة إلى المجتمع وبالنسبة إلى الموضوع المرتبط بأصل الإسلام أو الإيمان بطريق أولى ولذا ينبغي قبل الدخول في مثل هذه المعاهدات والمعاملات أن يجلس أهل الخبرة ويشخصوا الموضوع ويستأذنوا الفقيه فيه فإذا أحرز عدم الضرر وما أشبه ذلك جاز وإلا فمقتضى القاعدة عدم الجواز حتى في صورة الشك والاحتمال العقلائي.

المسألة الثانية عشرة: إذا خرج السلاح عن كونه سلاحاً أما من جهة تغيير الهيئة وأما من جهة بطلان العمل كما لو صار السلاح من الأشياء العتيقة كالترس والسيف والدرع في عصرنا مثلاً فيجوز بيعه حينئذٍ لانصراف الأدلة عنه والحمد لله رب العالمين.