المادة: فقه المجتمع
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 054.doc

الخامس من المحرمات: هو التطفيف والبخس:

والتطفيف مثل التقليل وزناً ومعنى والمراد به هنا أن يجعل الإنسان نفسه وزّانا أو كيالا فيقلل نصيب المكيل له في إيفائه واستيفائه على وجه الخيانة والبخس هو نقص الشيء عن الحد الذي يوجبه الحق على سبيل الظلم ففي تفسير التبيان قال المطفف المقلل صاحبه بنقصانه عن الحق في كيل أو وزن والتطفيف التنقيص على وجه الخيانة في الكيل أو الوزن

وفي مفردات الراغب طفف الكيل قلل نصيب المكيل له في إيفائه واستيفائه وعن المصباح طففه فهو مطفف إذا كال أو وزن ولم يوف وفي مفردات الراغب أيضا البخس نقص الشيء على سبيل الظلم وفي المنجد بخسه بخسا نقصه وظلمه. وروي عن ابن عباس لما قدم النبي (صلى الله عليه وآله) المدينة كانوا من أبخس الناس كيلا فأنزل الله ((وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ)) فأحسنوا الكيل بعد ذلك كما ذكره شيخ الطائفة رضوان الله عليه في تفسير التبيان ورواه بعض العامة أيضا في مصادرهم

وكيف كان فلا إشكال في حرمة التطفيف والبخس عند المسلمين قاطبة والظاهر أن التطفيف خاص بالمال والماليات وأما البخس فهو أعم فيشمل الماديات والمعنويات معاً حتى في المسائل التقييمات والتقويمات الشخصية والحكم على الأشياء إذا كان بتنقيص وبظلم ولو كان معنويا فهو من قبيل البخس ويدل على الحرمة الأدلة الأربعة أما الكتاب فقوله تعالى ((وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ)) وكأن الآية الشريفة تشير إلى جهتين التطفيف فإنهم إذا أرادوا الأخذ لهم فيأخذون حقهم كاملاً وإذا أرادوا أن يكيلوا للناس أو يزنوا للناس فإنهم يعطونه إليهم إلا ناقصا والويل في الآية معناه الهلاك والثبور هنا الظاهر في الحرمة بل كونه من أشد المحرمات مقتضى الفهم العرفي،

 والتطفيف هو نقص المكيال والميزان والطفيف هو الشيء النزر القليل مأخوذ من طف الشيء وهو جانبه والاكتيال الأخذ بالكيل ونظيره الاتزان وهو الأخذ بالوزن

والمطففون هم الذين يتقصون الميزان والمكيال ويبخسون الناس حقوقهم في الكيل والوزن وكأنهم قيل لهم مطفف لأنه لا يكاد يترك في المكيال والميزان إلا الشيء اليسير إلا انه من حيث الاجتماع الذي يأخذ القليل من هذا والقليل من ذاك فإذا اجتمع صار كثيرا فهو بالنسبة إلى عموم الناس الذين أخذ منهم الحق غير واضح ومعروف إلا أنه من حيث الاجتماع بالنسبة إليه شيء كثير وكيف كان فإن الآية صريحة في حرمة ذلك ، ومن الآيات قوله عز وجل: ((فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها)) فإن الأمر في أوفوا والنهي في لا تبخسوا يتعاضدان في الدلالة على وجوب إيفاء حقوق الناس وحرمة بخسها ولا يخفى عليك أن الإيفاء هو إتمام الشيء إلى حد الحق فيه ومنه إيفاء العهد وهو إتمامه بالعمل به ومنه تقدير الشيء بالمكيال حتى يظهر مقداره منه والوزن تقديره بالميزان والمساحة تقديره بالذراع أو ما زاد عليه أو نقص

وكيف كان فإن الآية الشريفة ظاهرة في قوله عز وجل أوفوا أي أتموا ما تكيلونه على الناس بالمكيال وما تزنونه عليهم بالميزان ومعناه أدوا حقوق الناس على التمام في المعاملات ولا تبخسوا الناس أشياءهم أي لا تظلموهم حقوقهم فإن البخس هو الظلم كما عرفت ومنها قوله عز وجل ولا تنقصوا المكيال والميزان وهي أيضا ظاهرة في النهي الظاهر في الحرمة

وأما الروايات فقد وردت متظافرة في النهي عن البخس والتطفيف منها ما عن الأصبغ بن نباته قال سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول على المنبر (يا معشر التجار الفقه ثم المتجر ثلاثا إلى إن قال التاجر فاجر والفاجر في النار إلا من أخذ الحق وأعطى الحق) ومن الواضح أن المطفف والباخس لا يأخذ الحق ولا يعطي الحق

ومن الروايات ما رواه أبو القاسم الكوفي في كتاب الأخلاق عن أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام) قال (إذا ظهر الزنا في أمتي كثر موت الفجأة فيهم وإذا طففت المكيال أخذهم بالسنين والنقص) وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: وجدنا في كتاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) (إذا ظهر الزنا من بعدي كثر موت الفجأة وإذا طفف الميزان والمكيال أخذهم الله بالسنين والنقص) وفي رواية حمدان عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث طويل عدّ جملة من الأوصاف المحرمة إلى أن قال (ورأيت الرجل معيشته من بخس المكيال والميزان) إلى غير ذلك من الروايات وأما الإجماع فهو واضح وأما العقل فهو غير خاف على أحد لأنه ظلم والظلم قبيح إلى حد المنع عن النقيض بل هو أيضا أكل للمال بالباطل فتدل على حرمته الأدلة الأربعة وهنا مسائل:

المسألة الأولى: هل التطفيف طريقي أو موضوعي بمعنى أن التطفيف بما هو غير محرم إلا أنه حرام لأنه ينتهي إلى الظلم وأكل حقوق الناس بالباطل قولان في المسألة

القول الأول ذهب إليه المحقق الايرواني قدس سره والسيد السبزاوري قدس سره أيضا حيث ذهبا إلى أن الظاهر بل المقطوع به بأن التطفيف بنفسه ليس عنوانا من العناوين المحرمة فحرمته ليست ذاتية بل هو طريق إلى أكل مال الغير بالباطل وعليه فلو طفف الإنسان بالوزن مثلا وأعطى تماما في مقام التسليم لم يفعل محرما إلا أنه فعل ما لا ينبغي للمسلم فعله

والقول الثاني ذهب إليه السيد الخوئي قدس سره في مصباح الفقاهة وسماحة السيد الشيرازي دام ظله في الفقه حيث قالا بأن التطفيف والبخس بحد ذاته عنوان محرم فإن التطفيف أخذ فيه عدم الوفاء بالحق والبخس أخذ فيه نقص الشيء على سبيل الظلم وهما بنفسهما من المحرمات الشرعية والعقلية وعليه فإن من طفف في المكيال أو الميزان وإن سلم الحق إلى أهله كاملاً إلا أنه بتطفيفه قد ارتكب الحرمة لأنه يصدق عليه بأنه ظالم لأخيه ولا يخفى عليك إن ظاهر الآيات والروايات هو الثاني لأن الويل في الآية ورد على المطففين بلا لحاظ النهاية من التطفيف كما أن الأمر والنهي في عدم بخس الناس أشياءهم ولزوم الإيفاء بالكيل والوزن هذا ظاهر الآية بنفسه مطلوب وليس بما أنه مطلوب

وتظهر الثمرة أيضا في أنه إذا قلنا بأن التطفيف والبخس بذاته عنوان محرم فإن من طفف في الميزان وأخذ حق الناس قد يكون قد ارتكب الحرامين وعليه عقابان أيضا وأما بناء على القول الأول فإنه لم يرتكب إلا عصياناً واحداً وهو نقصان حق الناس والظلم بهم وأما التطفيف بنفسه فليس بحرام.

المسألة الثانية: ذهب الشيخ رضوان الله عليه في المكاسب إلى أن المراد من التطفيف هو اتخاذه كسباً بأن ينصب الإنسان نفسه كيالاً أو وزاناً فيطفف للبائع إلا أن الظاهر أن التطفيف يجري في كل معاملة فيها ظلم وتنقيص سواءً كان في مقام البائع أو في مقام المشتري في سائر أنواع المعاوضات كالهبة المعوضة والصلح وما أشبه وكذا يجري في العدد والمساحة وغيرهما لإطلاق الأدلة الشامل لكل ذلك وكذلك الحال مرة واحدة فالنصب كيالاً من باب المثال وليس من باب الحصر ومثل البيع ومثله أيضا يجري في الإجارة لإمكان التطفيف بها كما يشمله أيضا قوله عز وجل: ((وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ)) الشامل لمثل ذلك بل كل ما كان بخساً حرام إذا كان سبباً له بأن آجر نفسه لذلك فيشمله إذا كان دلالاً للأنكحة دواماً أو متعة فيزيد المهر أو ينقص حيث أنه بخس أيضا أو يزيد في العمر وينقص في عمر البنت أو من عمر الرجل إلى غير ذلك مما هو كثير من مصاديق التنقيص والظلم العرفي وعليه فإنه لا مجال للتطفيف والبخس في البيع والشراء بل يجري في مطلق المعاملات العقلائية التي تترتب عليها الماليات أو المال والحقوق سواءً كانت بيعاً أو شراءً أو إجارة أو نكاحاً أو هبة أو صلحاً أو رهناً وما أشبه ذلك وعليه فإن هذا العمل حيث كان حراماً حرم أخذ الأجرة عليه أيضاً لأنه حينئذ يكون من الأكل للمال بالباطل ولقولهم (عليه السلام) (إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه).

المسألة الثالثة: الظاهر إن إطلاق البخس يشمل غير المسائل المالية كما عرفت فيصدق على التقييمات الشخصية بين الناس والحكم على الأفراد والجماعات والأسر وكذلك في تقويمات الأشياء إذا صدق عليها أنها بخس وظلم وتنقيص في الحقوق فهو من المحرمات أيضا فلا مجال لحصر البخس في الماديات فيقال أنه يجري فقط وفقط في الماديات بل يجري حتى في المعنويات وفي العلاقات الاجتماعية ولذا قال في مصباح الفقاهة أن التطفيف والبخس مطلق التقليل والنقص على سبيل الخيانة والظلم في إيفاء الحق واستيفائه وعليه فذكر الكيل والوزن في الآية وغيرها إنما هو من جهة الغلبة وفي الفقه قال البخس نقص الشيء على سبيل الظلم سواءً في الأموال أم غيرها والتطفيف خاص بالمال وقوله سبحانه: ((وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ)) من باب الفرد الغالب وذلك لأن الآية الأولى أي قوله عز وجل: ((وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ)) تشمل ملاكاً وإطلاقاً المعدود والممسوح وغيرهما أما إذا أخذ أكثر من حقه وأعطى أقل من حقهم فهو بخس في كلا الطرفين وهما محرمان بالأدلة الأربعة وكيف كان فإن التطفيف حيث يختص بالماليات لا يجري في العلاقات الاجتماعية إلا أن البخس يجري في العلاقات الاجتماعية وفي التقويمات الفردية وغير ذلك مما هو أعم من المال والماليات.

المسألة الرابعة: بناءً على القول بأن التطفيف والبخس حرمته طريقية وليست موضوعية فإن المعاملة إن وقعت على الكلي وطفف في مقام الأداء فالمعاملة صحيحة ولكن تكون ذمته مشغولة بالناقص وكذا إن وقعت على العين الخارجية باعتقاد أنها مقدار كذا مثلاً وأما إذا وقعت عليها بقيد أنها مقدار كذا بحيث يكون التقيد عنواناً للمعاملة فهي باطلة حينئذ كما إذا باع فرساً بعنوان الفرسية فبان حماراً أو بغلاً مثلاً ولو استأجر كيالاً أو وزاناً مثلاً فطفف الأجير فالإجارة صحيحة ويجري في المعاملة ما تقدم من الأقسام وإن استأجره لأجل التطفيف فأصل الإجارة باطلة وهو واضح لا يخفى.

السادس من المحرمات: هو الإعانة على الإثم والعدوان

 وهي من المسائل الهامة جداً التي يبتلى بها الإنسان في أعماله الاجتماعية كبيع العنب والتمر لمن يصنعه خمراً وإجارة داره أو محله لمن يشرب فيها الخمر أو يصنعها مرقصاً أو ملهى أو مجمعاً للمحرمات كلعب القمار والاختلاط بين الرجال والنساء وما أشبه ذلك، وكذا العمل في محل أو مطعم يباع فيه المحرمات، والعمل في سلك الحكام الظلمة وإشغال الوظائف في الحكومات الجائرة من الأجراء والمدراء والموظفين والجنود ونحوها والعمل أيضا في المباغي ودور السينما التي تعرض أفلاماً محرمة والعمل في صحف ومجلات وإذاعات وقنوات تلفزيونية تروج الباطل ونحو ذلك من مصاديق ومن سلوكيات يبتلى بها الإنسان في أعماله اليومية في كسب معيشته أو علاقاته العامة والبحث فيها في أمرين:

الأمر الأول: في حقيقة الإعانة ومفهومها.

الأمر الثاني: في حكم الإعانة.

أما الأول فالظاهر أن مفهوم الإعانة كسائر المفاهيم التي لا يمكن تحديدها إلا بنحو من التقريب وإرجاعها إلى الفهم العرفي والمرتكز في أذهان المتشرعة ربما يكون أولى: وكيف كان، فقد وقع الخلاف بين الفقهاء على وجوه أحدها ما استظهره المحقق الأنصاري رضوان الله عليه في المكاسب من أكثر الفقهاء أنه يكفي في تحقق الإعانة مجرد إيجاد مقدمة من مقدمات فعل الغير وإن لم تكن عن قصد كمن يشغل وظيفة رسمية في حكومة جائرة فإن الحاكم الظالم يحكم عبر جيش من الموظفين والجنود والمدراء والإعلاميين وهؤلاء الذين يهيئون له مقدمات الحكم ومقدمات الجور وأكل المال بالباطل ومصادرة حقوق الناس ولو لم يكونوا قد قصدوا ذلك إلا أن تهيئة هذه المقدمات يصدق عليها أنها إعانة .

ثاني التعاريف أنها فعل بعض مقدمات فعل الغير بقصد حصولها منه مطلقاً وهذا ما نسب إلى المحقق الثاني وصاحب الكفاية كأن يبيع داره أو يؤجر داره إلى من يعلم أنه يصنعها ملهى مع مقصده لذلك.

البيان الثالث: ما نسب إلى المحقق النراقي رضوان الله عليه من أنه يقيد مفهوم الإعانة وراء القصد المذكور وقوع الفعل المعان عليه في الخارج وأما إذا لم يقع الفعل في الخارج فحتى لو قصده لا يصدق عليه أنه إعانة.

الرابع: ما نسب إلى المحقق الاردبيلي من تعليقه صدق الإعانة على الصدق العرفي فجاء أن الإعانة قد تصدق عرفاً في موارد عدم وجود القصد كمن يطلب منه الظالم العصا أو السوط لضرب مظلوم فيعطيه إياه أو يطلب منه مقالاً لتشويه سمعة المؤمنين أو لترويج فكرة باطلة ضد الناس ولمصادرة حقوقهم ونحو ذلك مما يقدمونه عرفاً.

الخامس: الفرق في الإعانة بين المقدمات القريبة فتحرم وبين المقدمات البعيدة فلا تحرم لأن بالمقدمات القريبة يصدق عليها إنها إعانة بخلاف المقدمات البعيدة.

السادس: وهو اختيار سماحة السيد الشيرازي دام ظله من المعاصرين في الفقه حيث جمع بين التعريف الثالث والرابع فقال أن موضع التعاون سواءً في البر أو الإثم يتحقق بأمرين :

الأول : حصوله في الخارج والا لم يكن أحدهما حتى يكون تعاون

الثاني : الصدق العرفي لأن الكلام ملقى إلى العرف وإنما ذكر ذلك لأنه قد يكون تعاون حقيقة لكنه لا يصدق لأنه لا علم له بذلك فإن العرف يرى في مثله شرط العلم مثلاً من باع شاة وكان المشتري في الواقع يريد شراءها لأن يطأها كان حقيقة تعاوناً إلا أنه حيث أن البائع لا يعلم بذلك لا يصدق عليه أنه أعانه على معصيته وعلى إثمه وذلك لأنه قد تركز في معنى الإعانة العلم أو نحوه ولذا إذا ذهب زيد إلى دار عمرو ليلاً فرآه السارق الذي جاء ليسرق من دار عمرو فهرب بدون علم زيد بذلك لم يصدق على زيد أنه أعان عمرو على هروب السارق وعليه فلا يقال أن الفعل لا يكون في معناه العلم أو الجهل وذلك لأن للألفاظ ظلال تفهم عرفاً ولو بالقرائن اللفظية أو نحوها أو أنه مع العلم لا رؤية كما إذا رشا قاضي الجور ليحكم له بحقه أو أعطى المكوس ليتركه يدخلا مثلاً أو يدخل أيضاً عنه مثلاً فإن المدار فيه هو حصول الأمر في الخارج مضافاً إلى الصدق العرفي.

السابع: وهو اختيار المرحوم السيد الخوئي قدس سره في مصباح الفقاهة حيث ذهب إلى عدم اعتبار شيء في صدق الإعانة إلا وقوع المعان عليه في الخارج بلا مدخلية للقصد أو للصدق العرفي وأيد ذلك بجملة مؤيدات منها صحة استعمال كلمة الإعانة وما اقتطع منها في فعل غير القاصد بل وغير الشاعر بلا عناية وعلاقة تقتضي عدم اعتبار القصد والإرادة في صدقها لغة كقوله (عليه السلام) في دعاء أبي حمزة الثمالي: (وأعانني عليها شهوتي) وقوله تعالى: ((وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ)) وفي بعض الروايات أن المراد بالصبر هو الصوم وفي أحاديث الفريقين (من أكل الطين فمات فقد أعان على نفسه) ومن البديهي أن آكل الطين لم يقصد موته بذلك بل يرى حياته فيه) وفي رواية أبي بصير (فأعينونا على ذلك بورع واجتهاد ) ومن المعلوم أن المعين على ذلك بالورع والاجتهاد لا يقصد الإعانة عليه في جميع الأحيان وكذلك ما في بعض الأحاديث من قوله (عليه السلام) (من أعان على قتل مؤمن بكلمة) وكذلك قوله (صلى الله عليه وآله) (من تبسم في وجه مبدع فقد أعان على هدم الإسلام) وفي رواية أبي هاشم الجعفري (ورزقك العافية فأعانتك على الطاعة) وفي الصحيفة الكاملة السجادية في دعائه (عليه السلام) في طلب الحوائج (فاجعل ذلك عوناً لي) .

فبناءً على ذلك لا يعتبر في تحقيق مفهوم الإعانة علم المعين بها ولا اعتبار الداعي إلى تحققها لبديهة صدق الإعانة على إعطاء العصا لمن يريد ضرب اليتيم وإن لم يعلم بذلك أو علم ولم يكن إعطاؤه لداعي وقوع الحرام كما لا يخفى.

 ولذا قال قدس سره ومن هنا لا نظن أن أحداً ينكر تحقق الإعانة بإعطاء السيف أو العصا لمن يريد الظلم والقتل ولو كان المعطي غير ملتفت إلى ضمير مريد الظلم والقتل أو كان غافلاً عنه ، نعم لو نسب ذلك إلى الفاعل المختار انصرف إلى صورة العلم والالتفات.

والظاهر أن اختلاف الكلمات بين الأعلام ترجع إلى الصدق العرفي لذا فإن إيكال المسألة إلى العرف أولى فإن الإعانة على الإثم لا إشكال في حرمتها من ناحية الكبرى لأنها من مصاديق المنكر والفساد والظلم ولدلالة النهي في الآية الشريفة في قوله عز وجل: ((وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوانِ)) بل ولأنه المركوز في أذهان المتشرعة بل وعليه سيرتهم فكل ما يصدق عليه عرفاً إعانة على الإثم فهو حرام .

ولعل لهذه الجهة صرح في مصباح الفقاهة ثانية بعد أن اختار التفسير السابق بأن المدار هو الصدق العرفي وهو ما عرفته من المحقق الاردبيلي وسماحة السيد الشيرازي دام ظله أيضاً وربما يؤيد ما ذكرنا أن ارتباط أفعال المكلفين بعضهم مع بعض مما لا يخفى كما أن ظلم الظالمين ومعصية العاصين إنما يتقوم بأسباب وأمور لا تتحقق إلا بأسباب ووسائط وأفعال من قبل الآخرين يقومون بها إليهم ولا وجه لعد كل ما له مدخلية في تحقق الظلم والإثم إعانة عليه ولا يصدق في العرف أيضاً عليه والا للزم أن يكون الواجب يقال معاوناً على الإثم والعدوان فإن الآلات والأسباب كلها من الله تعالى وليس من العبد إلا العزم والقصد العمل عليه فإنه ليس كل فعل يؤديه الإنسان يصدق عليه إعانة ولا كل فعل لا يصدق عليه إعانة فالظاهر أن الضابط فيه أمران:

 أحدهما : القصد والنية فكل من عمل أو باع أو آجر أو قام أو قعد أو صدر عنه فعل من الأفعال يقصد ترتيب ظلم أو معصية عليه بحيث بنى نيته عليه سواءً شرط ذلك بلسانه أمر لا تعد إعانة على الإثم ولو كان بواسطة أو وسائط قريبة أو بعيدة وذلك أمر في العرف واضح فمن بنى لنفسه دكاناً بعنوان أنه لو احتاج إليه الخمارون يؤجره إياهم حتى لا يكون سبباً لتعطيل شغلهم أو من بنى بناية أو بنى مسبحاً أو بنى مقهى كبير أو ما شابه ذلك بقصد أن يؤجره لفعل المنكرات والمحرمات فإنه بلا إشكال يعد إعانة للإثم ولو كان بواسطة أو وسائط بل يعد بناؤه إعانة على الإثم ولو كان لا ينتهي إلى وقوع المعصية إلا بوسائط وكذلك من صير نفسه موظفاً عند الحاكم الظالم يقصد أنه لو أمره الظالم بالظلم يفعله أو بقصد أن يكون سبباً لشوكة سلطانه وكثرة سواده وقوة أمره وشدة بأسه فقد أعان على الإثم وإن لم يصدر من الموظف أو من العامل فعل بعد ذلك.

ثانيهما: قرب العمل للإعانة وتمحضه لذلك يعد إعانة وإن لم يكن قاصداً لها فقد يكون العمل بحيث يعد ذلك معاونة للظلم وإن لم يكن قاصداً لذلك وإن كان مثل الوزراء والعمال والكتاب والجنود والإعلاميون والمفكرون والدبلوماسيون ونحو ذلك فإن هذه الجماعات وإن لم يكونوا قاصدين من وزارتهم وأعمالهم ووظائفهم وخدماتهم الإعانة على المعاصي والظلم إلا أن هذه الوظائف تعد معاونة لقيام الشوكة بهم واستبداد الظالم بظلمه وشعبه ووطنه .

وكذلك قد يكون ذهاب شخص إلى عاص أو ظالم يكون سبباً لجرأته وشوكته من جهة كون سيره إليه سبباً لبعض قوة له في عمله فإن هذا المسير إذا كان بهذه المثابة يصير إعانة على المحرم وإن لم يكن بهذا القصد ونحو ذلك أشغال المناصب الدينية تحت مظلة الظالم وتحت سلطته وسلكه الحكومي كأئمة الجماعات والقضاة وما أشبه ذلك .

وبالجملة فإن الأمر ليس منحصراً بالقصد بل قد يكون نفس ذلك العمل يعد إعانة وإن لم يكن فاعله قاصداً.

 نعم منه ما يكون ظاهراً في كونه إعانة فلو عرض له قصد مغاير كالتماس مظلوم أو نحو ذلك يعرفه عن ظاهره ومنه ما يكون متمحضاً لا ينفع فيه نية الخلاف وكيف كان فإنه يظهر مما بيناه إن المدار على الصدق العرفي وليس القصد وحده له مدخلية ولا وقوع الفعل وحده له مدخلية بل الجميع ربما يكون له مدخلية في بعض الموارد والمدار على ذلك كله هو الصدق العرفي.

الأمر الثاني: في حكم الإعانة على الإثم وفيه قولان:

الأول: الجواز وهو اختيار مصباح الفقاهة لأنه مقتضى الأصل الأولي مدعياً عدم ثبوت دليل على حرمة الإعانة على الإثم.

الثاني: الحرمة وهو ما ذهب إليه المشهور قديماً وحديثاً ومن المعاصرين السيد الشيرازي دام ظله بل وعليه بعض العامة أيضاً كما يظهر من الفقه على المذاهب الأربعة نعم هناك قدر متيقن اتفقت عليه الكلمة في الحرمة لأنه مما نص عليه الدليل وهو إعانة الظالمين وإعانة أعوانهم وتهيئة مقدمات ظلمهم وذلك لاستفاضة الروايات على حرمة إعانتهم وتقويتهم وتعظيم شوكتهم ولو بمدة قلم أو بكتابة رقعة أو بجباية خراج ونحو ذلك بل الحرمة في هذا النحو من الإعانة مما استقل به العقل أيضاً وقامت عليه ضرورة العقلاء بل قال المحقق اليزدي (قدس سره) في العروة في مسألة من صلاة المسافر أنه لو كانت تبعية التابع إعانة للجائر في جوره وجب عليه التمام وإن كان سفر الجائر طاعة فإن التابع حينئذٍ يتم مع أن المتبوع يقصر والفرق بينهما أن التابع سفر عصيان حينئذٍ وعليه فإن من قال بجوار الإعانة ومن قال بحرمتها يتفقان على حرمة إعانة الظالمين والكون في أعوانهم وما أشبه ذلك.

 وأما في غير ما دل الدليل عليه ففيه القولان كما عرفت أما القائلون بالحرمة فاستدلوا بالأدلة الأربعة من الكتاب قوله سبحانه وتعالى: ((وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوانِ)) وحيث تقابل الإثم والعدوان أريد بالإثم غير العدوان والا فهو يشمله فهما من قبيل الفقير والمسكين إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا .

وكيف كان فإن ظاهر الآية حرمة المعاونة على الإثم والعدوان مطلقاً ومن السنة متواتر الروايات كقولهم (عليه السلام) (من أكل الطين فقد أعان على قتل نفسه) وقولهم (من تبسم على وجه مبتدع فقد أعان على هدم الإسلام) ومن الواضح أن قتل المؤمن وقتل النفس وهدم الإسلام من العناوين المحرمة الشديدة الحرمة فالإعانة عليها كذلك وأما الإجماع فهو ما لا يخفى من كلمات الإعلام وأما العقل فبوجوه ثلاثة:

الوجه الأول: أن ترك الإعانة على الإثم دفع للمنكر ودفع المنكر واجب كردعه وهذا ما أشار إليه المحقق الاردبيلي في محكي كلامه في مجمع الفائدة والبرهان حيث استدل على حرمة بيع العنب في المسألة بأدلة النهي عن المنكر واستشهد له الشيخ الأنصاري رضوان الله عليه برواية أبي حمزة عن أبي عبد الله (عليه السلام) (من أنه لولا أن بني أمية وجدوا لهم من يكتب ويجبي لهم الفيء ويقاتل عنهم ويشهد جماعتهم لما سلبوا حقنا) ومن الواضح أن المنكر ظلم لله عز وجل وللنفس وللآخرين أيضاً وهو مما يقبحه العقل.

الوجه الثاني: إن الإعانة فساد والفساد مما يستقل العقل بقبحه فيتبعه حكم الشرع لأنه ما حكم به العقل حكم به الشرع.

الوجه الثالث: إن العقل يدرك بالبديهة قبح تهيئة مقدمات الحرام سواء العمل نفسه أو عمل آخر كعكسه في مقدمات المحبوب وبقاعدة الملازمة من ما يحكم به العقل ويحكم به الشرع يتم المطلوب .

فإن قلت فلماذا لا يقال بحرمة مقدمة الحرام نقول أما بالنسبة إلى عمل النفس فلضرورة أنه إذا فعل الحرام بمقدماته ليس هناك عقابان مما يكشف عن وحدة الحرام وأما بالنسبة إلى عمل الغير فهو داخل في قولهم بحرمة الإعانة على الحرام ففرق بين أن يعلق الإنسان سوطاً في مجلسه أو في داره وبين أن يعلق هذا السوط في مجلس ظالم ففي رواية أبي بصير قال سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن أعمالهم فقال لي: (يا أبا محمد ولا مدّة بقلم) أي ولا كتابة ولو بسيطة بقلم يكتبها الكاتب للظالم وفي رواية أبي حمزة عن السجاد (عليه السلام) (إياكم وصحبة العاصين ومعونة الظالمين) وفي رواية طلحة عن أبي عبد الله (عليه السلام) (العامل بالظلم والمعين له والراضي به شركاء ثلاثتهم) إلى غير ذلك من الروايات الدالة على أن المساهمة في مقدمات الحرام مبغوضة عقلاً وشرعاً وأما القائلون بالجواز فاستدلوا بوجوه:

أحدها: أنه لو لم تجز الإعانة على الإثم لما جاز سقي الكافر لكونه إعانة على الإثم حينئذٍ ولذلك لتنجس الماء بمباشرته إياه فيحرم عليه شربه لكن السقي جائز لقوله (عليه السلام) (إن الله يحب إبراد الكبد الحرى) على ما بيناه الفقهاء في مسألة بيع الميتة المختلطة مع المذكى وهذا كاشف عن جواز الإعانة على الإثم.

ثانيها: الروايات المستفيضة الدالة على جواز بيع العنب والتمر وغيرهما ممن يجعلهما خمراً وجواز بيع الخشب ممن يجعله برابط ومزامير وآلات موسيقى ولهو وأصنام ونحو ذلك ومن الواضح كون هذا البيع إعانة على الإثم وهذه الإعانات إذا كانت جائزة فهي تثبت الجواز في غير مواردها أيضاً لعدم القول بالفصل على أن في بعضها إشعاراً إلى كلية الحكم وعدم اختصاصه بالأمور المذكورة كقول الصادق (عليه السلام) في رواية أبي بصير (إذا بعته قبل أن يكون خمراً فهو حلال لا بأس به) وفي رواية الحلبي عن بيع العصير ممن يجعله حراماً فقال (عليه السلام) (لا بأس به تبيعه حلالاً فيجعله حراماً أبعده الله وأسحقه) وفي رواية ابن أذينة عن بيع العنب والتمر ممن يعلم أنه يجعله خمراً فقال (عليه السلام) (إنما باعه حلالاً في الأبان الذي يحل شربه أو أكله فلا بأس ببيعه) إن الظاهر من هذه الروايات أن المناط في صحة البيع هي حلية المبيع للبائع حين البيع وإن كان بيعه هذا إعانة على المحرم ومثل هذه الروايات غيرها أيضاً.

ثالثها: قيام السيرة القطعية على الجواز ضرورة جواز المعاملة مع الكفار وغير المبالين بأمر الدين من المسلمين ببيع الطعام منهم وإن كان متنجساً وإعارة الأواني إياهم للطبخ والاستعمالات المختلفة مع أنه إعانة على أكل الطعام المتنجس بمباشرتهم إياه ووجوب تمكين الزوجة للزوج وإن علمت بعدم اغتساله عن الجنابة فيكون التمكين إعانة على الإثم وأيضاً قامت السيرة القطعية على جواز تجارة التاجر ومسير الحاج والزوار وإعطائهم الضريبة المعينة للظلمة مع أنه من أظهر مصاديق الإعانة على الإثم وأيضاً قضت الضرورة بجواز إجارة الدواب والسفن والسيارات والطيارات من المسافرين مع العلم إجمالاً بأن فيهم من يقصد في ركوبه معصية وأيضاً قامت السيرة على جواز عقد الأندية والمجالس لتبليغ الأحكام وإقامة شعائر الأفراح والأحزان بل على وجوبها في بعض الأحيان إذا توقف عليها إحياء الدين وتعظيم الشعائر مع العلم بوقوع بعض المعاصي كل ذلك يكشف على أن الميزان في الحرمة هو حرمة المقدمة إذا كانت سبباً لوقوع ذي المقدمة والا فلا وجه للتحريم بل الأصل هو الجواز ما لم يدل دليل على الحرمة كالمعونة للظالمين.

لكنك عرفت مما تقدم من بيان معنى الإعانة بأن المسألة ترجع إلى العرف فإذا حكم العرف في موضوع من المواضيع أنه من مصاديق الإعانة على الإثم فلا إشكال في حرمته وأما هذه الموارد التي ذكرها المجيزون فأما أن تخرج موضوعاً عن الصدق العرفي في كونها من الإعانة فلذلك تجوز فيها فإن مثل تمكين الزوجة وإعارة الأواني وما أشبه الظاهر أن هذا عرفاً لا يصدق عليه أنه إعانة أو يكون بعض هذه الموارد تخرج من باب الضرورة كاعطاء الضرائب للظلمة أو السفر بواسطة السفن والسيارات والطيارات وما أشبه ذلك مع أن أموالها تنتهي إلى الحكومات الظالمة أحياناً فيستعينون بها على ظلمهم لكن هذا من باب الضرورات وليس من باب عدم صدق الإعانة وما أشبه ذلك .

فكيف كان فإن هذه الموارد التي استدل بها المجوزون من السيرة القطعية التي قالوا فيها بالجواز خارجة موضوعاً عما نحن فيه أما من باب عدم الصدق العرفي وأما من باب الضرورات فلذلك لا تصلح دليلاً لهم وأما ما قالوه من استفاضة الروايات على جواز بيع العنب والتمر وما أشبه ذلك فهي ليست ظاهرة أنها من مصاديق الإعانة بل لعلها ظاهرة في أن البائع حين يبيع العنب والتمر وما أشبه ذلك وهو لا يعلم بأنه يستعملها في العصيان أو يبيعها له بقصد أن يستفيد منها استفادة محللة وليست استفادة محرمة كما هو ظاهر الروايات والا فإنه إذا صدق عليه أنه إعانة على الإثم فالظاهر أن عموم الحكم يشمله أيضاً ومثله يقال في سقي الكافر فإن مثله لا يعد عرفاً بأنه من الإعانة وكيف كان فإن الأوب إلى روح الأدلة هو ما ذكره المشهور من الحرمة لقيام الأدلة الأربعة عليه وهنا مسائل:

المسألة الأولى: الظاهر أن إيجاد الداعي في نفس المعان إعانة على الإثم كما يراه العرف من الإعانة أيضاً كالحث أو الترغيب في المصلحة أو الدفع أو التحميل كما يصنعه الظالمون وأعوانهم بالقتل والسجن ومصادرة الأموال وكذا ما يصنعه أهل الفساد من إيجاد دواعي الفساد عند الشباب بانحرافهم بالمغريات ونحو ذلك من المفاسد والآثام.

المسألة الثانية: قد يكون ما صورته الإعانة محرماً من جهة أخرى فتجتمع فيه جهتان للحرمة كما لو أعطى النار بيد المجنون فأحرق الناس أو أعطاه السلاح فأطلق النار على الناس فإنه إذا أعطاها بيد القاتل كان إعانة أما في المجنون فليس مكلفاً حتى يكون آثماً وإنما يحرم العمل من جهة إرادة الشارع بعدم وقوعه في الخارج وهذا قد أعان على وقوعه في الخارج وإن كان الواسطة غير مكلف أو لا يفعل عن قصد وشعور تام.

المسألة الثالثة: إذا لم يكن العمل محرماً عند الفاعل لتقليده أو لاجتهاده أو لمذهب أو لدين لم يكن من الإعانة على الإثم، نعم قد يحرم من جهة أخرى كما أنه في العكس ليس منه لفرض أن المعين يرى أنه حلالاً ولذا أفتى الفقهاء بجواز بيع لحم الخنزير ممن يستحله وما أشبه ذلك نعم استثنوا بيع الخمر ممن يستحلها للأدلة الخاصة.

 ومما تقدم يعلم أنه إذا كان الحرام لا يقع إلا بإعانة جماعة ولم يكمل العدد لم يكن من الإعانة وإن تصوره المعين كما أن تصور المعان أنه إثم وفي الواقع أنه لم يكن من الإثم فلا يصدق عليه أنه إعانة محرمة وإنما هو إعانة على التجري على المولى والخروج عن مراسم العبودية وحينئذٍ تدخل المسألة في كبرى مسألة التجري فإن قيل بحرمة التجري كان من قبيل الإعانة على الإثم إذ لا يهم خصوصية الحرام في صدق الإعانة وأما إذا قلنا بعدم حرمة التجري كما هو مشهور الفقهاء والأصوليين فالظاهر أنه ليس من الإعانة.

المسألة الرابعة: الظاهر أن الإعانة على الإثم حالها حال الظلم وغيره في إمكان تخصيصه إذا عارضه تكليف أهم لأنه لا يزيد على كونه محرماً فالقول بعدم إمكان تخصيص الظلم بل هو من رفع الموضوع كما قال به بعض وأشار إليه المحقق النائيني (رضوان الله عليه) غير تام إذ ما هو الفرق بين الأمرين أو بينهما وبين سائر المحرمات حيث ذهبوا إلى تقديم الأهم دائماً على المهم ومن هنا لو أكره الجائر أحداً على الإعانة على الإثم اضطر الإنسان إليها فإنه لا شبهة حينئذٍ في جوازها وإن كانت حرمتها كحرمة الظلم الذي لا تختلف قباحته بالوجوه والاعتبارات ولا يقبل التخصيص والتقييد إلا أن الحرمة كتكليف شرعي إذا تعارضت مع تكليف أهم بالإكراه أو الإضرار أو الضرورات وما أشبه ذلك فإنه لا إشكال حينئذٍ في جوازها.

المسألة الخامسة: إذا شككنا في عمل من الأعمال أنه من الإعانة أم لا فالأصل أتعدم أما إذا قصد أو قطع جهلاً مركباً ولم يقع الإثم لم يكن إلا التجري وفي عقابه وعدمه ما عرفت من أن المسألة محل كلام بين الفقهاء والأصوليين، نعم في طرف الثواب ثواب لما دل من النص عليه.

المسألة السادسة: قد يصدق على بعض المعاملات الإعانة على الإثم كبيع العنب والتمر لمن يصنعها خموراً وإجارة الدار لمن يقيم بها مرقصاً أو محلاً لبيع الخمور ولحم الخنزير أو مطعماً له ونحو ذلك فلا إشكال في حرمة العمل وهو آثم ولكن هل الحرمة هنا تستلزم بطلان البيع أو الإجارة وما أشبه ذلك أيضاً أو لا ؟ فيه قولان:

الأول: وهو ما ذهب إليه الشيخ (رضوان الله عليه) في المكاسب وجمع آخر من الفقهاء حيث ذهبوا إلى العدم لعدم الملازمة بين الحرمة التكليفية والحرمة الوضعية في المعاملات فالبيع وقت النداء لصلاة الجمعة صحيح وإن كان محرماً بالاتفاق بل وفي مصباح الفقاهة ولو سلمنا الملازمة بين الحرمة التكليفية والوضعية فلا نسلم فيها إذا تعلق النهي بعنوان عرضي ينطبق على البيع كتعلقه بعنوان الإعانة في بيع العنب ممن يعلم أنه يجعله خمراً إذ بين عنوان الإعانة على الإثم وبين البيع عموم من وجه.

القول الثاني: ذهب إلى الحرمة وهو ما يظهر من كلمات السيد الشيرازي في الفقه حيث حكم ببطلان بيع السلاح من أعداء الدين ولا إشكال في أن بيع السلاح لأعداء الدين من مصاديق الإعانة على الإثم.

قال الظاهر عرفاً بطلان البيع أيضاً إضافة إلى التحريم والقول أن الفساد والحرمة التكليفية لا يجتمعان في لفظ واحد خلاف ما يستفيده العرف من مثل وحرم الربا وحرمت عليكم أمهاتكم ولذا العقد على الأم من اشد المنكرات وكان باطلاً وذلك أما من باب استعمال اللفظ في أكثر من معنى وقد ذكر في الأصول أنه جائز بالقرينة وأما من باب الملازمة العرفية في غير ما كان نفس العقد لا النقل والانتقال مبغوضاً كالبيع وقت النداء وربما ينعكس فيكون فساد دون المبغوضية لنفس العقد كما إذا قال المالك لا أرضى بالبيع وعقد فإنه فاسد ولا دليل على حرمة تلفظه .

ولو جاز البيع لهم وباعهم بشرط ثم صاروا محاربين وجب الفسخ للملاك والحكم في أمثاله تابع للواقع لا العلم فزعم الخلاف لا يضر ولا ينفع وكيف كان فهو على القول بالفساد مطلقاً أو في الجملة لا يفرق في ذلك بين علم المتبايعين بالحال وبين علم أحدهما مع جهل الآخر فإن حقيقة البيع عبارة عن المبادلة بين العوض والمعوض في جهة الإضافة فإذا بطل من أحد الطرفين بطل من الآخر أيضاً ولا يقبل التبعيض في الصحة والفساد في بيع واحد كما هو واضح.

المسألة السابعة: الظاهر أنه لا يختلف الحال في صورة قصد الإعانة على المعصية أن يكون هذا سبباً مستقلاً وداعياً إلى الفعل أو يكون منضماً إلى شيء آخر كتحصيل مال أو حفظ أمر بحيث يكون كل منها سبباً مستقلاً في ذلك أو يكون المجموع المركب سبباً فيه، بحيث لو انتفى أحدهما لم يفعله أو تكون الإعانة مقصودة بالذات مثلاً والمال تابعاً وبالعكس فإن هذه كلها إعانة محرمة إذا رأى العرف أنها من مصاديق الإعانة.

المسألة الثامنة: لو نوى الإعانة وفعل ولم تقع المعصية لعروض مانع عنها كمن أعطى سيفاً لقتل مظلوم فلم يقتله الظلم أو آجر داراً للخمار بهذا القصد فلم يتمكن من جعله فيه فإن حكم العرف بأنها من مصاديق الإعانة فهي محرمة والا لم تكن محرمة لكن الكلام هل تحريمه لأنه إعانة أو تحريمه لجهة أخرى لأن الإعانة على الإثم لا تصدق إلا بحصوله احتمالان في المسألة:

الاحتمال الأول: وهو ما يظهر من السيد المراغي (قدس سره) كما في العناوين حيث صرح بأنه لا يستبعد الإعانة على المحرم بمجرد قصد ذلك عرفاً وإن لم يوجد في الخارج لأن الإعانة عبارة عن تهيئة المقدمات للمحرم وهي لا تستلزم حصوله

 والاحتمال الثاني: أن العرف يرى أن صدق الإعانة يتقوم بالقصد والوقوع وحينئذٍ ما دامت لم تقع فلا يحكم بأنها من الإعانة وإن كان عمله من القبائح وأنت ترى أن المسألة أيضاً ترجع إلى الصدق العرفي.

المسألة التاسعة: الظاهر أنه يشترط العلم أو الظن بحصول المعصية لأنه لا يتحقق القصد إلى الإعانة إلا بذلك وفي صورة الشك لا يبعد صدق الإعانة فإن من أتى بسيف إلى السلطان ليقتل زيداً هو معين على المحرم وإن كان شاكاً بأنه يقتله أم لا.

 نعم لو علم بالعدم فلا يكون ذلك من مصاديق الإعانة إذ ليس ذلك القصد في الحقيقة قصداً ويشترط أيضاً علمه أو ظنه أو احتماله بمدخلية عمله في الإثم المقصود فلو عمل عملاً قاصداً ترتب معصية عليه مع علمه بأنه لا مدخل له في ذلك كمن كان خادماً لسلطان يقصد أن يعينه على قتل أحد مع علمه أن وجوده وخدمته لا مدخل له في قتل ذلك لا يعد هذا العمل من الإعانة إذا توقفت على القصد لأنها موقوفة على أن العمل له مدخلية في ذلك مع كون العامل محتملاً في نظره ذلك ولا يحتاج إلى حصول ظن أو علم به وهذا أيضاً يرجع إلى الصدق العرفي، فإن حكم العرف بأن مثله خارج عن الإعانة فهو جائز والا كان من مصاديق الحرام ..

ويتفرع على هذه المسألة مسألة الإعانة على الطاعة فإن الإعانة على الطاعة طاعة كما أن الإعانة على العصيان عصيان وذلك لعموم قوله تعالى: ((وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى)) ويتفرع على هذه المسألة فروع كثيرة.

ومنها يعلم أن كل عمل مستحب لشخص إذا أراد أن يقوم به وتوقف ذلك على شخص آخر فإنه يستحب لذلك الشخص الآخر القبول كإرسال الهدية إلى مؤمن أو بذل شيء إليه أو ضيافته أو إكرامه أو إبداء نصح أو مشهورة أو نحو ذلك يستحب للطرف الآخر القبول أما بالنسبة إلى الفاعل فلمحبوبية العمل وأما بالنسبة إلى القابل فللإعانة وهذا الكلام يجري بمساعدة الجار لجاره والأرحام لبعضهم وكذا تقديم الخدمات الاجتماعية كما لو أراد صديق أن يزوج صديقه ابنته أو يقضي له حاجته فيستحب للآخر القبول وكذا لو بادر بعض الأولاد لخدمة الوالدين الخدمة غير الواجبة كالزيارة والترفيه والتوسعة عليهم لو بادر أحدهم للاستحباب فإنه يستحب للآخر القبول أيضاً وعدم منازعته في هذا لأنه من الإعانة وكذا في معاملة الزوج والزوجة إذا قدم أحدهما خدمة للاستحباب فيستحب للثاني القبول

وهذا الكلام يجري حتى في مسألة البيع والشراء أن المشتري يأخذ ناقصاً ويستحب للبائع أن يعطي زائداً فعلى هذا إذا بنى البائع أن يعطي الزائد والرجحان يستحب للمشتري قبوله للإعانة ولو بنى المشتري أن يأخذ ناقصاً للاستحباب فيستحب للبائع أن يعطي ناقصاً للإعانة أيضاً.

 نعم ربما يحصل التعارض بين المستحبين من الجانبين لأن كل واحد يريد هو أن يبادر بالمستحب ويحصل الفضل بذلك فهل في هذه الصورة نقول بالتدافع أو نقدم أحد الجانبين على الآخر في المسألة احتمالان:

 الاحتمال الأول: أن نقول بأنه يحتمل تبعية الحكم للإبراز فكل من أبرز العمل بتكليفه أولاً بلسانه أو فعل سقط الاستحباب عن الآخر لرجحان الإعانة حينئذٍ وذلك لأن المبادر قد سبق إلى العمل وربما يقال بأن السابق له حتى التقدم في هذه الصورة.

الاحتمال الثاني: أن نقول بتساقط الاستحباب هنا من أصله لأن رجحان الإعانة تابع لأصل المستحب فلا يوجب سقوط المستحب الأصلي فلا إعانة هنا إذن والأصلان متدافعان فلا يمكن الامتثال فيسقط، لكن هنا بالخصوص دل الدليل على قول من بيده الميزان بالخصوص كما لا يخفى على من راجع الروايات التي أوردها الحر العاملي (رضوان الله عليه) في الوسائل في أبواب آداب التجارة. هذا إذا لم يمكن العمل بكل المستحبين بالجمع بينهما بأن يعمل المشتري في معاملة ويعمل البائع في معاملة أخرى وغير ذلك من وجوه الجمع بين الحقين وكذلك يجري حتى في العبادات فلو تشاح الأئمة في طلب الإمامة وكل منهم يريد الفوز بثواب الإمامة يستحب على الباقين أيضاً طلب الإمامة للثواب ويستحب الترك إعانة للآخرين على الطاعة وكذا الكلام لو طلب أحد الإمامة بعد توفر الشرائط الشرعية فإنه يستحب لغيره المأمومية لأنه إعانة على الطاعة .

ولو طلب واحد المأمومية يستحب للآخر الإمامة للإعانة أيضاً وهذه مسألة عامة جارية في مختلف أعمال السلوك الاجتماعي فكما أن الإعانة على الإثم والعدوان في مختلف السلوك من المحرمات الشرعية فإن الإعانة على البر والتقوى من المستحبات الشرعية في مختلف أنحاء السلوك الاجتماعي.