المادة: فقه المجتمع
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 051.doc

المحرمات الاجتماعية

الفصل الثاني فـي مباحث السلوك الاجتماعي وهو المحرمات الاجتماعية وقد قسمناها إلى أقسام ثلاثة.

الأول. السلوك الاجتماعي الشخصي

الثاني. السلوك الاجتماعي العام

الثالث. السلوك الاجتماعي فـي بعده الإداري والسياسي ولكل صنف من هذه الأصناف موارد متعددة ونحن نقتصر على أغلب الموارد وبين الموارد المختلفة فـي كل صنف من الأصناف وأن كانت النسبة العموم من وجه المنطقي إلا اننا ذكرنا بعض الموارد فـي كل صنف من صنف للغلبة فـي ذلك وكيف كان فنبحثه فـي ضمن مباحث.

الأول: فـي السلوك الاجتماعي الشخصي وله موارد

الأول: هو الكذب فإن الكذب اخبار خلاف الواقع ماضياً أو مستقبلاً ولا شبهة فـي حرمة الكذب لانه من قبائح الذنوب وفواحش العيوب بل هو مفتاح الشرور ورأس الفجور قال الشيخ الأنصاري (رضوان الله عليه) الكذب حرام بضرورة العقول والأديان ويدل عليه الأدلة الأربعة فمن الكتاب قوله سبحانه وتعالى ((إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ)) حيث حصرت الآية الكذب بالكافرين الذين لا يؤمنون بآيات الله وبدلائله ومن الواضح أن الذي لا يؤمن بآيات الله عقابه النار .

وقد تظافرت الآيات الشريفة فـي حرمة الكذب والدلالة على قباحته بما يغنينا عن البيان وأما الروايات فهي مستفيضة فـي هذا المجال أيضاً منها رواية الاعمش عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) فـي حديث شرائع الدين قال (والكبائر محرمة وهي الشرك بالله وقتل النفس التي حرم الله وعقوق الوالدين والفرار من الزحف وأكل مال اليتيم ظلماً وأكل الربا بعد البينة وقذف المحصنات وبعد ذلك الزنا واللواط والسرقة وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به من غير ضرورة وأكل السحت والبخس فـي الميزان والمكيال والميسر وشهادة الزور واليأس من روح الله والأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله وترك معاونة المظلومين والركون إلى الظالمين واليمين الغموس وحبس الحقوق من غير عسر واستعمل التكبر والتجبر والكذب والاسراف والتبذير والخيانة والاستخفاف بالحج والمحاربة  لاولياء الله والملاهي التي تصد عن ذكر الله عز وجل مكروهة كالغناء وضرب الأوتار والاصرار على صغائر الذنوب) والمقصود من الكراهية هنا هو التحريم أي المبغوضية شرعاً وعقلاً وقد تضمنت هذه الرواية جملة من الكبائر وعد منها الكذب وأما الاجماع فواضح وهو صريح العلماء على مر الاجيال والازمان .

وأما العقل فهو مستقل بقبحه وان لم يكن له أثر سوء لانه انحراف عن الواقع ولذا لا يريد الكاذب أن يظهر ذلك وبالملازمة العقلية بين ما يحكم به العقل ويحكم به الشرع نستفيد الحرمة الشرعية أيضاً.

 ولا ينبغي الاشكال فـي أن الكذب من الكبائر للنص بذلك فـي جملة من الروايات كما عرفت ولترتيب أثار المعصية الكبيرة عليه ولأنه جعل اكبر من الذنب الذي ثبت كونه من المعاصي الكبيرة وللتوعيد عليه فـي الكتاب والسنة كما عرفت من رواية الاعمش حيث صرح الامام انه من الكبائر وفـي رواية عثمان عن الباقر (عليه السلام) جعل للشر اقفالاً وجعل مفاتيح تلك الاقفال الشراب والكذب شر من الشراب) ولعل وجه الشرية ناشئة من كونه شراً بلحاظ الطبيعة ي

قول المتكلم لرجل خير من امرأة وان كان بعض النساء كمريم (عليها السلام) سيدة نساء عالمها وفاطمة الزهراء (عليها السلام) بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) سيدة نساء العالمين من الأولين والأخرين أفضل من كثير من الرجال .

وبالمقارنات بين الأشياء يلاحظ غالباً الطبائع لا الافراد كما لا يخفى وعليه فلا يرد بأن الحديث يقول أن الكذب شر من الشراب إلا أن الفتوى قامت على التأكيد على حرمة الشراب اكثر من الكذب فإن المدار هو على الطبيعة وليس على الفرد وربما يكون شر من الشراب بلحاظ بعض افراد الكذب التي تكون اشد من شراب الخمر والزنا كالكذب على الله وعلى رسوله وكالكذب لقتل النفس المحترمة أو لإثارة الفتنة ونحوهما فإن هذا النوع من الكذب من المسلم إنه أعظم الشراب أو يكون يلاحظ ما ورد عن الإمام العسكري عليه السلام إنه قال ( جعلت الخبائث كلها فـي بيت وجعل مفتاحها الكذب) بلحاظ أن ما يكون مفتاحاً للخبائث كلها لابد وان يكون كبيرة ومن ضمن هذه الخبائث هو شرب الخمر فيكون الكذب اشد منه .

وفـي خبر الحارث عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) أن الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار) والمراد هنا هو الطبيعة أيضاً كما تقدم فلا يستشكل ببعض الأفراد ويقال بالخدشة فيه .

وتتأكد  حرمة الكذب أكثر فـي الكذب على الله وعلى رسوله ففـي الحديث الشريف (من كذب علي متعمداً فليتبوء مقعده من النار) وفـي قوله سبحانه وتعالى فـي وصف المنافقين وذمهم ((فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ)) ورواية لأبي خديجة عن الصادق (عليه السلام) الكذب على الله وعلى رسوله (صلى الله عليه وآله) وعلى الأوصياء من الكبائر) ولا يخفى عليك أن الكذب كما يحرم قوله يحرم استماعه أيضاً فقد قال سبحانه وتعالى ((وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ)) فـي مقام ذمهم وقال سبحانه وتعالى ((سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ)) والمراد السماع ولو مرة واحدة بلحاظ انه أول المصاديق فان الذي يستمع للكذب مرة واحدة ينجر إلى سماعه مرات متعددة هذا بالاضافة إلى أن المجلس الذي يقال فيه الكذب ويستمع إليه يصدق عليه مجلس منكر فيجب المنع عنه ويجب ردعه أيضاً فيتحصل أن الكذب حرام وهو من، الكبائر ويستثني منه موضوعاً أو حكماً امور :

الأول الهزل : ولا يخفى أن الكذب المسوق للهزل على قسمين فأنه قد يكون الهازل بكذبه مخبراً عن الواقع ولكن بقصد المزاح والهزل من دون أن يكون اخباره مطابقاً للواقع كأن يخبر احداً بقدوم مسافر له أو حدوث حادث أو وصول حاجة ليغتر المخاطب بقوله فيرتب عليه الأثر فيضحك منه الناس وهذا لا شبهة فـي كونه من الكذب موضوعاًَ وينطبق عليه عنوان الايذاء أيضاً فيكون من المحرمات لان الكذب عبارة عن الخبر غير المطابق للواقع واختلاف القصد والدواعي لا يخرجه عن واقعه وحقيقته وتشمله ادلة حرمة الكذب .

وقد يكون الكلام بنفسه مصادفاً للهزل بحيث يقصد المتكلم انشاء بعض المعاني بداعي الهزل المحض من غير أن يقصد الحكآية عن الواقع لكي يكون اخباراً ولا يستند إلى داع آخر من دواعي الانشاء كما لو ينشئ المتكلم وصفاً لأحد من حضار مجلسه من ناحية الهزل كاطلاق البطل على الجبان والذكي على الابله والعالم على الجاهل وهذا لا دليل على حرمته مع نصب القرينة عليه من حيث انه كذب .

نعم ربما يحرم إذا كان مؤذياً للأخر كما استقربه جمع من الفقهاء منهم الشيخ الأنصاري (رضوان الله عليه) والوجه فـي ذلك أن الصدق والكذب إنما يصنف بهما الخبر الذي يحكي عن المخبرية وقد عرفت أن الصادر عن الهازل في المقام ليس إلا الكلام المحض فيخرج عن صدور الخبر موضوعاً .

وأما الروايات الواردة فـي النهي عن الكذب فـي حالة المزاح فهي محمولة على الكراهة أو محمولة على الحرمة فـيما إذا ادى هذا المزاح إلى ايذاء الطرف الأخر ومنه يعرف المعنى فـي رواية ابي ذر (رضوان الله عليه عن النبي (صلى الله عليه وآله) ويل للذي يحدث فيكذب ليضك به القوم ، ويل له ، ويل له ، ويل له ) فإن هذا محمول على الايذاء والايذاء لا اشكال فـي حرمته .

 نعم قد لا يسمى الكلام اصطلاحاً هزلا قد يسمى عرف لطيفة أو مزاحا وهذا مايشمله الادلة القائلة بان مزاح المؤمن من العبادات فان هذا لا اشكال فـي استحبابه وفضله .

الأمر الثاني: خلف الوعد والظاهر أن خلف الوعد الذي هو من الاخبار المستقبلي سواء كان معلقاً كوعده أن فعلت كذا أعطيت كذا ام غير معلق كوعده أن يعطيه شيئاً معيناً أو يلتزم له بعهد معين فإن هذا مكروه لا حرام لاجماع الفقهاء حتى الاخباريين منهم على عدم الوجوب فيكفي قرينة على العدم بل سيرة المتشرعة قائمة على كراهته لا حرمته وكذا بالنسبة إلى الفعل فانه يقبح أن يعد شخص احداً بشيء ثم لا يفـي بوعده فأن هذه القباحة قباحة تنزيهية لا قباحة تحريمية ولذا قال المشهور أن الشرط الأبتدائي غير واجب الوفاء نعم لو قال الواعد أن شاء الله أو بما معناه مثلاً أن وفقت لذلك ، لم يكن فيه محذور خلف الوعد .

 نعم الكذب الإخباري بأن يخبر عن عزمه على فعل شيء أو تركه وهو غير عازم فهو من المحرم كأخباره عن سائر صفاته النفسانية وهو على غير ما أخبر وهذا ليس من الوعد المكروه تركه ، لأنه من مصاديق الكذب موضوعاً وبذلك يظهر أن الأدلة التي يمكن أن يستدل بها على حرمة خلف الوعد أما منصرفة إلى موارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو منصرفة إلى المواضيع التي هي من مصاديق الكذب وليس من مصاديق خلف الوعد .

الثالث : من المستثنيات المبالغة والإغراق

وهما أمران عرفيان إلا أن الإغراق أكثر من المبالغة كما لا يخفـي وإذا تحقق موضوعهما فليس بكذب عرفاً لأن المراد الكثرة لا الخصوصية كالتشبيه والأستعارة فيقول المتكلم فـي وصفه وجهه القمر ويده البحر وكثير الرماد وطويل النجاد وجبان الكلب وقلت له الف مرة ومائة مرة إذ المراد فـي مثل هذا الموارد كثرة الجمال والكرم والضيافة والطول والنصيحة وما أشبه ذلك وكلمات الفصحاء مشحونة بذلك بل وربما تكون هذه الكلمات موجبة لقوة الكلام ووصوله إلى حد الأبهار أو الأعجاز أو ما يقرب منه وكيف كان فالمبالغة والإغراق خارجان موضوعاً عن الكذب لا حكماً .

نعم إذا لم يكن من موضوعهما كما إذا قال له مرة فقال عشرة مرات أو كان قبيح الوجه فقال أنه كالقمر فانه من مصاديق الكذب كما أنه لو أراد به الواقع أنه جبان الكلب حقيقة لا مجاز أو استعارة عن الكرم والضيافة كان من الكذب أيضاً لأن القصد له مدخلية فـي واقع الكذب.

الرابع : من مستثنيات التورية

وقد أختلفوا فـي أن التورية هل هي كذب باعتبار أن المعيار فـي الصدق والكذب ما يظهر من الكلام سواء قصد المتكلم ارادته أم لا أو هي صدق باعتبار أن المعيار ما قصده المتكلم .

احتمالان فـي المسألة الأول : إنه كذب وهذا ما يظهر من سماحة السيد الشيرازي دام ظله فـي الفقه وفاقاً للسيد الأغا حسين القمي (رضوان الله عليه) لأن المعيار الظهور لا ما قصد به المتكلم كما قال به جمع أخر غيرهم ولذا لا يعذره العرف لو قال أردتُ غير معنى الظاهر ويقولون أنه كاذب .

والثاني أنه ليس بكذب وأستدل له بجملة من الآيات والروايات كقول إبراهيم (عليه السلام) إني سقيم، وكقوله (عليه السلام) بل فعله كبيرهم و كقول يوسف (عليه السلام) انكم لسارقون ورواية بكير عن الصادق (عليه السلام) فـي الرجل يستأذن عليه فيقول لجارية قولي ليس هو ها هنا قال (عليه السلام) لا بأس ليس بكذب) وروى سويد بن حنظلة خرجنا ومعنا        وابل بن حجر يريد النبي (صلى الله عليه وآله) فأخذه  اعداء له فحرج القوم أن أحلف فحلفت بالله انه اخي فخلى عنه العدو، فذكرت ذلك للنبي (صلى الله عليه وآله) فقال صدقت المسلم أخو المسلم) لكن الظاهر امكان المناقشة فـي هذه الادلة أما فـي قوله فقال (اني سقيم) فهو السقيم نفساً لا جسماً وهو متعارف الى الآن فانه من مصاديق الصدق وليس من مصاديق الكذب حتى يصلح دليلاً وكذا قوله تعالى (بل فعله كبيرهم فقيد بقوله أن كانوا ينطقون) فإذا لم يكونوا ينطقون فلم يفعله اذن فهي قضية صادقة وليست كاذبة كما فـي قوله سبحانه وتعالى انكم لسارقون لم يذكر المتعلق - أي أي شيء سرقوا - وكان مراده سرقة يوسف فـي غابر الايام ويتحصل منه فـي هذه ليست من التورية فـي شيء وانما من سوء فهم المخاطب حيث لم يكن يفهم موازين الكلام وقد ورد فـي ذكرناه روايات فإذن هي خارجة موضوعاً عن الكذب .

وأما الروايات التي ذكرت فالرواية الأولى ضعيفة من ناحية السند لانها مرسلة والرواية الثانية التي رواها سويد وهو ضعيف أيضاً وعلى فرض صحتها أيضاً فهي واردة فـي مقام الاصلاح لانه كان يدور الأمر ان يتعرض صاحبه للضرر من قبل العدو وكان من المحتمل أن يقتل أو يجري أو يؤسر وما أشبه ذلك أو يدعي هذا الادعاء انقإذا له ومن الواضح انه الكذب فـي مقام الاصلاح جائز كما ستعرف .

وأما رواية ابن بكير عن الامام الصادق (عليه السلام) فانه لا دلالة فيها على جواز التورية وانما من باب لا ربا بين الوالد والولد فانه ربا حقيقة ولكنه ليس بمحرم وهذه الرواية تدل على انه يجوز للجارية أن تقول ذلك أو يقول مولاها ذلك للمصلحة الأهم من باب دفع الضرر عن نفسه .

الخامس : من المستثنيات

هو الضرورة وان لم يكن اضطرار كدفع الرشوة إلى الظالم لا جازة تجارته والاضطرار فـي ما إذا لم يكذب وقع فـي مهلكة ، ويدل على جوازه فـي الموردين فـي الجملة الادلة الأربعة فمن الكتاب فقوله سبحانه وتعالى (الامن اكره وقلبه مطمئن بالايمان) وقوله تعالى (الاان تتقوا منهم تقاة) ومن الواضح إن اظهار الكفر أو كلمة الكفر امام الكافرين من المحرمات المؤكدة الا انه إن كان من باب الاكراه فيجوز لانه ضرورة .

 ومن السنة الاخبار البالغة فوق حد التواتر كخبر اسماعيل عن الرضا (عليه السلام) عن رجل يخاف على ماله من السلطان فيحلفه  لينجو به منه ، قال لا جناح عليه ، وسألته هل يحلف الرجل على مال اخيه كما حلف على ماله قال نعم ) وخبر السكوني عن جعفر عن ابيه عن آبائه عن علي عليه السلام عن رسول الله ص) (احلف بالله كذباً ونج اخاك من القتل) وهذه الروايات صريحة فـي جوازها فـي مورد الضرورة .

ومن الاجماع تواتره في كلمات الفقهاء وأما العقل فلاستقلاله بوجوب ارتكاب اقل القبيحين فـي مورد اللزوم ورجحان الارتكاب فـي مورد عدم اللزوم أو التساوي فـي مورد التساوي بين المصلحتين أو القبيحين كما هو مشهود ومعروف فـي الحياة اليومية للعقلاء كلما كان ضرر بدني أو مالي أو عرضي أو ديني لو لا الكذب سواء فـي نفسه أو اهله أو فـي سائر المؤمنين جاز الكذب وكذلك فـي غير المؤمن كالكافر مثلا لقوله (عليه السلام) الناس صنفان فانهما أما اخ لك فـي الدين أو نظير لك فـي الخلق) بل حتى فـي الحيوان المحترم وان لم يملك ، ولا يملكه احد كما إذا سأله عن وجود الاسماك فـي النهر فان قال نعم القى فيها السم بما اهلكها اعتباطاً وان قال لا نجاها من هذا الموت الاعتباطي .

قال سبحانه ( وإذا تولى معى فـي الارض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد ) الى غير ذلك من الادلة ولا اشكال فـي أن امثال هذه التصرفات من الفساد فيجوز الكذب فيها لا نقاذ ذلك من غير فرق بين أن يكون الحيوان حرام اللحم حتى الكلب والخنزير ام حلاله لقول علي عليه السلام ( انكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم ) فمادام الحيوان محترماً يجوز اذن فـي صورة الضرورة الكذب لإنقاذه وما أشبه ذلك .

ولا يخفى عليك أن الصدق قد يكون محرماً كما إذا اوجب هتك عرض أو دم أو ماأشبه فالكذب يكون فيها واجباً وقد يكون الكذب جائزاً كما إذا سبب له ذهاب بعض ماله أو عدم وصوله إلى مقصده حيث لم يكن الوصول واجباً وقول مولا نا امير المؤمنين عليه السلام علامة الايمان أن تؤثر الصدق حيث يضرك على الكذب حيث ينفعك) لا يراد به الضرر المحرم تحمله كالقتل أو الزنا بالزوجة أو ما أشبه ذلك فان الكذب فـي هذه الموارد واجب وانما المراد حيث يجوز فيه الكذب ويجوز فيه الصدق لا فـي مورد وجوب الكذب وحرمة الصدق .

 السادس : من المستثنيات الاصلاح والصلاح

ويدل عليها فـي الجملة الادلة الأربعة أيضاً، فمن الكتاب قوله تعالى ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ)) وقوله سبحانه ((وَقالَ مُوسى لأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ)) بضميمة شمول احكام الشرائع السابقة لنا أيضاً إلا ماقام الدليل على نفيها كما ذكره الفقهاء والاصوليون فـي كتب الاصول فان الاستصحاب جار من الشرائع السابقة مالم يقم دليل على نفيها .

ومن السنة فجملة من الروايات منها ما عن عيسى قال سمعت اباعبد الله عليه السلام يقول ( كل كذب مسؤول عنه صاحبه يوماً الا كذباً فـي ثلاثة رجل كائن فـي حربه فهو موضوع عنه أورجل اصبح بين اثنين يلقى هذا بغير مايلقى به هذا يريد بذلك الاصلاح فيما بينهما أو رجل وعد اهله شيئا وهو لا يريد أن يتم لهم ) وعن معاوية بن عمار عن الصادق عليه السلام قال ( المصلح ليس بكذاب ) إلى غير ذلك من الروايات .

ومن الاجماع مالا يخفـى على احد حيث اجمع الفقهاء على استثناء الكذب فـي الإصلاح وأما العقل فلحكمه بحسن أن يكذب الشخص فـي الاصلاح بلا اشكال فـي صورة الاهم والمهم أو المتساويين .

ولا يخفى عليك أن الاصلاح قد يكون فـي الواجب وقد يكون فـي المستحب والظاهر أن كليهما مورد الروايات فيشمل الثاني بعض الآيات المتقدمة كما يشمله قوله (صلى الله عليه وآله) اصلاح ذات البين افضل من عامة الصلاة والصيام) فإذا مشى فـي اصلاح بين رجل وامرأة فـي الزواج أو نحو ذلك فانه يصدق عليه انه اصلح بينهما وخاصة إذا لم يرد أهل الولد أو أهل البنت أو هو أوهي الاقدام على الزواج بل سيرة المتشرعة والمركوز فـي اذهانهم انهم يفضلون العمل فـي مثل هذا لما فيه من الأجر والثواب العظيم ويؤيده ما فـي الوسائل عن الرضا(ع) ( قال أن الرجل ليصدق على اخيه فيناله عنت من صدقه فيكون كاذبا عند الله وإن الرجل ليكذب على أخيه يريد به نفعه فيكون عند الله صادقاً) ومنه يعرف ان منه تحبيب غير المتحابين وجمع غير المجتمعين فـي أي عمل خيري كبناء مسجد أو حل مشكلة اسرة متعرضة إلى الطلاق أو مخالفة بين الوالد وولده أو ما أشبه ذلك .

ويؤيده مارواه الواسطي عن الصادق عليه السلام قال ( الكلام ثلاثة صدق وكذب واصلاح بين الناس قلت له جعلت فداك ما الاصلاح ؟ قال تسمع من الرجل كلاما يبلغه فتخبث نفسه فتقول سمعت فلاناً قال فيك من الخير كذا وكذا خلاف ما سمعت ) فان الحديث يشمل بغض طرف كما يشمل بغض الطرفين كما لا يخفى أو لا يبعد شمول الادلة المتقدمة للاصلاح بين الكفار أيضاً فيما إذا لم يكن بضرر المسلمين وذلك لعمومية الأحكام الا ماخرج وبقوله عليه السلام (الناس صنفان إما اخ لك فـي الدين أو نظيرلك فـي الخلق) إلى غير ذلك من الادلة

 ومنه يعرف الحال ما إذا كان احد المختلفين من المسلمين كما يشمل النساء والاطفال أيضاً فلفظ الرجل فـي بعض الروايات من باب المثال لا الخصوصية كما هو واضح .

 كما انه قد عرفت الكذب مع الزوجة فانه لا فرق فـي الزوجة بين الدائمة والمنقطعة وتشمل المطلقة الرجعية أيضاً لانها زوجة أو من يراد تزويجها فيقوم باقناعها بمثل ذلك وهذا داخل فـي الاصلاح .

ولا يخفى أن جواز الكذب على الزوجة فـي مورد غير الوجوب فانه فـي مورد الوجوب لا يجوز فيه فلا يجوز للزوج أن يكذب فـي انه سينفق على الزوجة أو لا ينفق لان النفقة من الواجبات عليه وهذا الاستثناء بالنسبة إلى الزوج فقط وليس بالنسبة إلى الزوجة اذ لا يجوز للزوجة أن تكذب على زوجها فـي مورد الاصلاح لانه إذا دخل فـي مورد الاصلاح يجوز لها ذلك حينئذ.

 وهنا تنبيه : وهو أن الظاهر أن القصص المخترعة والروايات الادبية كذلك ليست من الكذب موضوعاً فإذا استخدمت القصص المخترعة لاجل عقيدة صحيحة أو شريعة أو لأجل أو بمعروف اونهي عن منكر أو اصلاح بين الناس أو تعليم أو تربية إلى غير ذلك فان هذا جائز لانه خارج عن الكذب موضوعاً من غير فرق بين أن يكون هذا العمل بنحو القصة نثراً أو شعراً عن لسان الانسان أو الحيوان أو الجماد أو غير ذلك وهذا الخروج أما موضوعي بلحاظ أن هذه الاعمال انشاءات وليست اخبارات عن الواقع حتى تصدق عليها انها كذب وأما خروج حكمي للاهم والمهم فـي مثل هذه الصورة ، ومسائل هذا الباب كثيرة جداً نكتفـي منها بهذا القدر .

الثاني: الغيبة فقد عرفت بتعاريف مختلفة لعل من افضلها هو القول بأنها اظهار عيب مستور فـي الاخر ولا اشكال فـي حرمتها فـي الجملة للآيات والروايات المتظافرة والمتواترة من طرق الشيعة وعن طرق العامة أيضاً ولعل من مجموعها يستفاد أن حرمتها من ضروريات الدين وما قام عليه اجماع المسلمين .

بل قد حكم العقل بحرمتها أيضاً لكونها ظلماً للمغتاب وهتكاً له ويكفـي فـي اثبات حرمتها قوله سبحانه وتعال (ولا يغتب بعضكم بعضاً أيجب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاُ فكرهتموه ) فانه تعالى بعد نهيه عن الغيبة صريحاً أراد بيان كونها من الكبائر الموبقة والجرائم المهلكة فشبه المغتاب بآكل الميتة أما لانه يأكل الجيف فـي الأخرة كما فـي بعض الروايات كما عن القطب الراوندي عن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) إنه نظر فـي النار ليلة الاسراء فإذا قوم يأكلون الجيف فقال ياجبرئيل من هؤلاء؟ قال هؤلاء الذين يأكلون لحم الناس) إلى غير ذلك من الروايات أو لتشبيه الذي يغتاب بالسباع والكلاب أو لان حرمة الغيبة كحرمة اكل الميتة بل اعظم كما فـي رواية العسكري عليه السلام فـي تفسيره ( اعلموا غيبتكم لا خيكم المؤمن حق شيعة آل محمد عليه السلام اعظم فـي التحريم من الميتة  قال الله عز وجل (ولا يغتب بعضكم بعضاً) .. إلى آخر الرواية ) وقد شبهت الآية عرض المؤمن باللحم فانه ينقص بالهتك كما ينتقص اللحم بالأكل كما شبه الاغتياب بالأكل لحصول الالتذاذ بهما ووصف المؤمن بأنه اخ لأن المؤمنين اخوة ومن طبيعة الاخوة أن يكون بينهم تحابب و تواد كما شبه الذي يُغتاب بالميت لعدم حضوره فـي اكثر حالات الاغتياب وصدر سبحانه و تعالى الجملة بالاستفهام الاستنكاري إشعارا للفاعل أن هذا العمل يقبح أن يصدر من احد كما لا يحب احد أن يأكل لحم اخيه الميت لاشمئزاز طبعه منه وشدة رأفته به وكذلك لا بد أن يشمئز عقله عن الغيبة لكونها هتكاً لعرض اخيه المؤمن وظلما له .

 وكيف كان ففـي الآية دلالة صريحة على حرمة الغيبة وللأثار الوضعية الكبيرة التي تترتب عليها وربما يستدل أيضاً على حرمتها بقوله سبحانه وتعالى ( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول الا من ظلم ) .

وفـي الاستدلال بها قولان :

الأول : فيها دلالة على الحرمة استفادة من قوله سبحانه وتعالى (لا يحب)  ومعناه يكره كما يعرف من السياق والغيبة جهر بالسوء ومن الواضح انه ليس المراد من الجهر فـي مقابل الاخفات وانما الكلام والخوض بالحديث ضد الذي ظلم ولذا شمل الاغتياب ما إذا أسر بعضهم إلى بعض الكلام أيضاً .

والقول الثاني: أن الآية لا تدل على حرمة الغيبة وذلك لانه ليس فـي الآية ما يدل على أن الغيبة من مصاديق الجهر بالسوء إلا بالقرائن الخارجية كما أن قوله عز وجل لا يحب غير ظاهر فـي الحرمة وانما ظاهر فـي عدم المحبوبية وهي اعم من الحرمة ومن الكراهية كما لا يخفى .

وأما الروايات فهي متواترة منها قوله (صلى الله عليه وآله) أن الغيبة أشد من الزنا وان الرجل يزني فيتوب ويتوب الله عليه وان صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يرضى عنه صاحبه وعنه (صلى الله عليه وآله) (ان الغيبة حرام على كل مسلم) وفـي الرواية الأخرى أن الغيبة تأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب إلى غير ذلك من الروايات وأما الاجماع فهو لا يخفى بين المسلمين وأما العقل فمضافا إلى أن الغيبة ظلم كما عرفت والعقل يستقل بقبح الظلم بالملازمة العقلية بين ما يحكم به العقل ويحكم به الشرع تثبت الحرمة الشرعية أيضاً ولا اشكال فـي انها من الكبائر لا نطباق موازن المعصية الكبيرة عليها كما تقدم .

وفي صدق الغيبة موضوعاً شرائط كما أن فـي حرمتها حكماً شرائط

الشرط الأول: أن يكون من وقعت عليه الغيبة أخاً فـي الدين كما فـي الآية الشريفة وفـي رواية عبد الرحمان ابن سيابة عن الصادق (عليه السلام) الغيبة أن تقول في اخيك ماستره الله عليه) أما الأمر فالظاهر مثل الجدة  والعجلة فلا والبهتان أن تقول ما ليس فيه ) إلى غير ذلك من الروايات ومن اشتراط كونه اخاً يخرج الكافر والمنافق ونحوهما على تفصيلات ذكرهما الفقهاء فـي الكتب المفصلة كالجواهر وغيره .

الشرط الثاني: أن يكون المذكور من المذام لا المدائح وذكر العاليات فان المدح وذكر العاليات لا يسمى غيبة عرفاً بالاضافة إلى ما تقدم فـي الرواية وغيرها كرواية داود عن الصادق عليه السلام الغيبة أن تقول لأخيك ما لم يفعل وتبث عليه أمراً قد ستره الله عليه لم يقم عليه فيه حد ) إلى غير ذلك من الروايات .

وهل مقصد الغيبة له مدخلية فـي موضوعها احتمالان فـي المسألة

الاحتمال الأول: أن القصد لا مدخلية له ، فلذلك لا فرق موضوعاً وحكماً بين قصد المتكلم الانتقاص من الطرف الاخر أو لا لأطلاق الادلة بل ولو قصد المدح

والأحتمال الثاني: أن نقول أن له مدخلية لانه الغالب كون المغتابين فـي مقام التنقيص والادلة منصرفة اليه وانه هو المناسب لاعتبار الحكم والموضوع وبأنه مستقاة من تنزيل المغتاب منزلة آكل لحم الأخ فلو لم يكن فـي مقام التنقيص لم يكن مضغ الكلام حوله بمنزلة مضغ لحمه لانه الغلبة لا توجب الانصراف لأن الإنصراف يتبع الأنس كما ذكره الفقهاء والأصوليون فـي الاصول فالاعتبار كون الكلام عيباً لا كون المقصود منه التنقيص والمضغ اكل اللحم سواءً قصد أو لم يقصد كما أن اكل اللحم حقيقة كذلك.

الشرط الثالث: أن يكون ذلك مما يكرهه المغتاب ويسؤه كما تقدم فـي النص وأفتى به المشهور اذ لو لا ذلك لم تصدق الغيبة موضوعاً لان ذكر الإنسان لأخيه الإنسان أماأن يوجب التعظيم أو لا يوجب شيناً كما فـي الصفات والخصوصيات العادية أو يوجب الذم مما ستر عليه ولذا أستثني ةما إذا أقيم عليه الحد والغيبة تكون فـي الثالث فقط.

ولو كانت شبهة مفهومية أو مصداقية فالأصل الجواز ولا فرق في الغيبة أن يكون النقص فـي دينه أو فـي جسمه أو شغله أو كسبه أو أكله أو شربه أو اخلاقه أو قوله أو فعله أو عشيرته أو عشرته أو سائر شؤونه للصدق العرفـي اولاً ولرواية ابن سيابة التي ورد فيها ماستره الله عليه وغير ذلك من الروايات فمنها فـي رواية ابن سرحان فـي تحديد الغيبة فـي النقص فـي الدين لا من باب الحد .

نعم فـي احياء العلوم (عن عائشة إنها قالت دخلت علينا امرأة  فلما ولت أومأت بيدي انها قصيرة فقال (صلى الله عليه وآله) اغتبتها ) فان الظاهر من هذه الرواية أن الغيبة بحكاية الامور الظاهرة أيضاً اذ لا فرق فـي الغيبة بين القول والكتابة والاشارة لكن فيما هو مستور أما الظاهر كالاشارة على طوله وقصره أو سنه أو ضعفه أو ما أشبه ذلك فهو من الاهانة والتحقير لا الغيبة .

وربما على هذا تحمل أيضاً الرواية التي روتها عائشة على أن قصر المرأة كان من المستورة والا ما كان من الغيبة ومتن الرواية صريح فـي الغيبة لقوله (ص) لها اغتبتها بناء على أن قصر المرأة كان مستوراً .

الشرط الرابع: أن يكون للمتكلم سامع حاضر أو غانب فـي المورد الذي يكون كحكم السماع كالكتابة أو الشريط المسجل أو نحوه وإذا كان المغتاب حاضراً فان لم يسمع لضوضاء ونحوه أو لم ير لعمي أو نحوه مع إشارة الذي يغتاب أو نحوهما فانه من الغيبة بلااشكال وأما  إذا سمع ورأى فهو من التنقيص لعدم الصدق ، بالاضافة إلى بعض الروايات المتقدمة .

ومن الواضح انه لا حاجة إلى معرفته بالشخص الذي يوقع الغيبة عليه أو المحقر غائباً أو حاضراً للاطلاق بعد عدم وجود مقيد وحيث قد عرفت بان الغيبة أعم من اللفظ فتشمل كل الحواس حتى الشم كما إذا استعمل عطراً خاصاً فأخذه المغتاب فمسح به جبهة فرسه اشعاراً بان الذي وقعت عليه الغيبة كذا أو أطرق بسمعه إشارة إلى عمل الذي أوقع عليه الغيبة حيث يريد السماع إلى غير ذلك فان ذلك داخل الإشارة .

الشرط الخامس: معلومية من وقع عليه الاغتياب عند السامع والمخاطب ولو بنحو الكلي في المعين أو المردد كما لو يقول ابناء البلد الفلاني كذا أو ابناء العشيرة الفلانية أو كلاهما فان في هذا يقع مورداً للغيبة أما المجهول المطلق كأن يقول واحد من أهل البلد الفلاني كذا ليس من الغيبة لا نصراف الدليل عن مثله ولو كان نقصاً بالعنوان الكلي فانه غيبة لجميعهم لانه اظهار لعيب ستره الله بالنسبة إلى كل فرد منهم ومما تقدم ظهر انه لو لم يكن العيب مستوراً كالمرابي والمقامر وما أشبه لم يكن من الغيبة لقولهم عليه السلام ما ستره الله عليه إلى غير ذلك من الروايات ثم انه لا فرق فـي دواعي الغيبة بين أن يرفع نفسه بتنقيص غيره أو الاستشفاء أو التفكه أو التفرح أو التحزن أو غير من الدواعي لا طلاق الادلة فـي الجميع.

هذه الشروط الخمسة تحقق لنا الغيبة موضوعاً ليشملها حكمها وهناك مستثنيات من الغيبة أما استثناء موضوعي أو حكمي.

الأول: المتجاهر بالفسق ومن ألقى جلباب الحياء فانه لا غيبة له كما فـي النبوي الشريف وفي رواية هارون عن الصادق (ع) ( إذا جاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له ولا غيبة ) إلى غيرها من الروايات فيجوز غيبة المتجاهر ولو بقصد التفكه اذ لا احترام له كالكافر والمنافق ونحوهما لإطلاق الاستثناء بل دليل الحرمة لا يشمله فهو خارج موضوعاُ ولا يبعد جواز غيبته في كل ما يعصي وما هو نقص لإطلاق أدلته كقوله لا غيبة له وقوله لا حرمة له ولا هيبة بل ذلك مؤيد بالاعتبار لان الفاسق يجب أن لا يحترم ويهتك حتى ينقلع عن الفساد وحتى لا يتجرأ غيره على فعل اعماله ويؤيده ما عن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) ( لا غيبة لثلاثة سلطان جائر وفاسق معلن وصاحب بدعة ) فان السياق ظاهر فيما ذكرنا وعن الراوندي أربعة ليست غيبتهم غيبة وعد عليه السلام من جملتهم الفاسق المعلن بفسقه، وعن الغوالي عنه (صلى الله عليه وآله) لا نميمة لفاسق ) إلى غير ذلك من الروايات .

فالقول بعدم الجواز إلا فيما تجاهر به كما عن جمع من الفقهاء أو القول بالتفصيل بين الأخف من معصيته وغيره بالجواز فـي الأول دون الثاني كما احتمله الشيخ رضوان الله عليه محل تأمل.

نعم: لا يشمل ما ذكرناه إذا تجاهر إجتهادا أو تقليدا لأنه غير مشمول الى تلك الاطلاقات وان جاز بالنسبة إلى معصيته كما لو كان يرىعن اجتهاد أو تقليد  جواز تزويج الاختين متعة فـي وقت واحد بهبة المدة لا حداهما فينام بينهما وان حلبتا منه وما أشبه ذلك .

وكيف كان لو جاز غيبة المتجاهر حتى فـي المعاصي التي لا يجهر  بها جاز غيبته فـي غير المعصية أيضاً مما يرتبط به مثل انه قصير أو وسخ أو أكول أو ما أشبه ذلك لما عرفت من اطلاقات الادلة .

نعم لا يجوز فيما يتعدى على انسان آخر غيره يحرم غيبته كزوجته أو ولده وهكذا إلا ان يكون هو أيضاً جائز الغيبة ولو بملاكين ككون احدهما مخالفاً والاخر متجاهراُ أو ما أشبه ذلك اللهم إلا كان تعريفه واجباُ ولم يكن طريق إليه إلا بتعريفه بالمحرم وهذا طبعا من باب المهم والأهم كما إذا اراد تنفير الناس عنه ولا يعرفونه إلا بنسبته إلى فلان وهي نسبة نقص أو ما أشبه على ما عرفت فـي الأهم والمهم وحيث قد عرفت اطلاق الدليل فلا فرق بين المتجاهر عند كل الناس أو بعضهم أو كل زمان ومكان وشهر أو فـي بعضها فمن لا يصوم شهر رمضان أو لا يصلي الصبح عمداً بلا تستر كان من المتجاهر ويتفرع على هذا غيبة اهل البدع فتجوز غيبته حتى فـي غير ما يعملون لإطلاق الادلة وكذلك فيما إذا كان أهم ومهم حتى يدخل فـي ضمن النهي عن النمكر اوالردع عن المنكر إلى غير ذلك من الملاكات فان اغتياب المبدع فـي الدين الذي يخاف منه على الناس لكي لا يضلهم ويقودهم إلى الطرق الباطلة يعد من حسم مواد الفساد كما لا يخفى ويترتب عليه أمور:

إن مصلحة دفع الفتنة عن الناس أولى من الستر عليه بل ربما يجب هتكه وحطه عن الأنظار إذا لم يرتدع بالغيبة وحدها فان حرمة الدين فـي نظر الشارع أهم من حرمة هذا المبدع فـي الدين ومنها قوله (عليه السلام) فـي صحيحة داود بن سرحان ( إذا رايتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم وأكثروا من سبهم والقول فيهم والوقيعة بهم وباهتوهم لكي لا يطمعوا فـي الفساد في الإسلام ) ومنها ما تقدم من جواز غيبة المتجاهر فـي الفسق فأنهم ثلاثة ليس لهم حرمة منهم صاحب هوى مبتدع ) إلى غير ذلك من الروايات ولا يبعد الجواز أيضاً فـي غيبة من يتجرأ بالمعصية دون أرتكابها كأن يظهر شرب الخمر ويعربد وهو يشرب الماء واقفاً أو يذهب إلى دور البغاء لكنه يتمتع بامرأة هناك وذلك لأنه يصدق عليه أنه ألقى جلباب الحياء ولا فرق فـي المبدع الذي تجوز غيبته بين من رأى نفسه مبدعاً أو لا كذلك بالنسبة إلى الظالم على ما ستعرفه فأن المبدع غالباً لا يرى نفسه كذلك .

 نعم لو كان خلاف بينهما اجتهاداً أو تقليداً صحيحاً بأنه بدعة أو ظلم مثلاً فالظاهر عدم الجواز .

  • ومن المستثنيات حرمة الغيبة

 غيبة غير المميز طفلاً كان أو مجنوناً وأما النائم والمغمى عليه وما أشبه ذلك فلا تجوز غيبته أما الطفل الغير المميز والمجنون فلخروجهما موضوعاً عن الغيبة ، أما لأن الأمور الصادرة ضدهم لا تعد عيباً حتى يكون ذكره كشفاً لما ستره الله عليهم وأما لعدم صدق المؤمن بالنسبة إليهم ولذا لا يستغفر لهم فـي قنوت صلاة الوتر إلى غير ذلك من الشواهد وأما الصبي المميز فالظاهر لا تجوز غيبته أما لصدق المؤمن عليه ثابتاً أن الأدلة الواردة فـي حرمة الغيبة لم تشترط فـي كون الذي تقع عليه الغيبة عاقلاً بل المستفاد من الروايات المتقدمة و غيرها أن المناط فـي حرمة الغيبة صدق المؤمن على المغتاب كما أن الظاهر من معنى الغيبة هي كشف أمر ستره الله تعالى ومن الضروري أن الصبي المميز مما يصدق عليه عنوان المؤمن إذا أقرّ بما يعتبر فـي الإيمان بل قد يكون أكمل إيماناً من كثير من البالغين وأيضاً لا شبهة أن الله عز وجل قد ستر عيوب الناس حتى الصبيان المميزين فذكر المساوئ الموجودة فيهم كشف لما ستره الله عليهم كما أنه يصدق عليهم أنهم ظلم بحقهم نعم لا بأس بذكر الأمور التي هي من مقتضيات الصباوة بحيث لا تعد من المساوئ عرفاً كاللعب بالجوز واللعب بالكرة أو الركض في الشوارع أو الأكل فـي الطرقات ونحو ذلك .

ولا يخفى عليك إنه ليس من الاستثناء فيما إذا قال شخص إنه راض أن يغتاب لانه فيها حق الله عز وجل فليس الغيبة من الحقوق الخاصة بالمؤمن حتى يكون إسقاطه كافياً فـي الجواز وإنما فيها من حقوق الله عز وجل أيضاً فإذا اغتاب إنساناً فـي ذويه كأبيه أو امه أو أرحامه أو زوجته فالظاهر أنه هتك لحرمتها كما إذا قال ولد زيد أو ما أشبه ويترتب عليه الاسترضاء منهما كما سيأتي على قول.

  • ومن المستثنيات غيبة الظالم

وإن كان متستراً به أجماعاً قال الله سبحانه وتعالى ( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول  من ظلم ) واستدل الشيعة والسنة على أن تظلم المظلوم من مستثنيات حرمة الغيبة فإن المظلوم يجوز له إظهار ما أصابه من الظالم وإن كان متستراً فـي ظلمه إياه وإن كأن مفاد الآية الشريفة بعد مراجعة الاستثناء أن الله لا يحب الإغتياب إلا للمظلوم فإن له أن يتظلم إلى الناس بمساوئ الظالم وإن لم يتوقع ارتداعه عن ظلمه إياه وإن الرواية المفسرة للجهر بالسوء المراد به الشتم فالظاهر إنه تفسير بالمصداق وليس من باب الحصر استدل لذلك أيضاً بجملة من الآيات الأخرى من جملتها قوله تعالى ( والذين أصابهم البغي هم ينتصرون) ومن الواضح أن الغيبة نوع من الإنتصار وقوله تعالى (فمن إعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما إعتدى عليكم) وقوله تعالى (وجزاء سيئة سيئة مثلها) إلا غير ذلك من الآيات .

والأشكال أن هذه الآيات اجنبية عن المقام غير ظاهر الوجه لان المعيار رؤية العرف فـي المصداق وهم يرون أن الاغتياب للظالم نوع من انتصار ورد اعتداء وجزاء سيئة فـي مقابل الاساءة التي وجهها الظالم إليهم وعلى فرض المناقشة فـي ذلك فلا شك فـي أن الملاك موجود فيها فتشمله الغيبة كما يدل عليها جملة من الروايات كالمروي عن الصادق عليه السلام ( فـي تفسير لا يحب الله الجهر بالسوء ) إنه الضيف ينزل بالرجل لا يحسن ضيافته فلا جناح عليه أن يذكره بسوء ما فعل ومنه يفهم عكسه أيضاً فأن كل إفراط وتفريط من أحدهما بالنسبة إلى الاخر يجوز غيبته لأنه ظلم والمراد من إساءة الضيافة هو هتك الضيف وعدم القيام بما يليق بشأنه بما تقتضيه وظائف الضيافة والمعاشرة المقررة فـي الشريعة المقدسة وليس المراد بها ترك ما يشتهيه الضيف ويتمناه زائداً على المقدار المتعارف وبعبارة أخرى حق الضيف على المضيف أن يكرمه ويحترمه بالحد المتعارف عليه عرفاً فلا تجوز له مطالبته بالحد الاعلى ولا يجوز أن يعامل ضيفه بالحد الادنى وإلا لجاز لأي منهما أن يذكر ما فعله معه من المساءة لانه نوع من التظلم فـي قبال الظلم وهتك الحرمة والكرامة التي سببها المضيف لضيفه فيكون مشمولا للآية من دون احتياج للرواية ويؤيده ما ورد من انه ليس للامام الجائر حرمة وهو أعم من من الخليفة فيشمل الامراء والرؤساء وغيرهم كما هو واضح كما أن عدم الحرمة يشمل الغيبة أيضاً كما يؤيده فيما تقدم فـي صاحب البدعة والفاسق المعلن بالفسق كما يؤيده أيضاً قوله (صلى الله عليه وآله) ( لصاحب الحق مقال ) .

 هذا بالاضافة إلى الإعتببار فإن منع الضيف حتى عن غيبة المضيف حتى لو انتقصه وأهانه من أكبر اقسام الحرج والعسر غالباً ، وفـي تشريع الجواز حكمة الردع والارتداع لمن يريد ظلم الناس مضافا إلى السيرة القطعية والمركوز فـي اذهان المتشرعة من الترخيص في الغيبة فـي امثال هذه الموارد .

  • ومن المستثنيات نصح المستشير

في ما إذا كان فـي الاهم والمهم أو المتساوي لا ما إذا كان الاستشارة فـي الاقل في قبال قول الشيخ من أن النصيحة واجبة للمستشير لان خيانته قد تكون اقوى مفسدة من الوقوع فـي المغتاب الظاهر كلامه فـي عمومية الاستثناء إلا أن الدليل الذي ذكره اخص، فالظاهر أن نصح المستشير مستثنى من حرمة الغيبة فيما إذا كانت الاشارة اهم من الغيبة أو كانت مساوية أما إذا كان مصلحة الاستشارة اقل مصلحة من مفسدة الغيبة فان الظاهر انه لا يجوز ومنه يعلم حال النصح من غير استشارة وعليه فالازم أن يكون النصح واجباً بقدر الحرام أو اكثر منه .

ومما تقدم يعلم بقية المستثنيات كالاستفتاء ومنه سؤال هند زوجة أبي سفيان من النبي الاعظم (صلى الله عليه وآله) ( فانها قالت له أن ابا سفيان رجل شحيح لا يعطيني وولدي ما يكفيني فقال (صلى الله عليه وآله) خذي لك ولولدك بالمعروف) ولم يزجرها النبي (صلى الله عليه وآله) عن قولها وأيضاً مارواه الامام الصادق عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) انه قال الرجل سأله عن امه انها لا تدفع يد لامس قال: فاحبسها قال : قد فعلت قال : تمنع ما يدخل عليها قال : قد فعلت قال : (صلى الله عليه وآله) فقيدها فانك لا تبرها بشيء افضل من أن تمنعها عن محارم الله عز وجل ) .

هذا مضافا إلى أن ابا سفيان كان منافقاً والمحتمل أن الام كانت متجاهرة أو غير مؤمنة وعلى أي حال فالسيرة القطعية فـي أن الاستفتاء ليس من الغيبة بل الادلة منصرفة عنه خصوصاً مع كون المسألة المستفتي فيها مورد للابتلاء مع عدم تمكن السائل منه بدون تسمية المغتاب هذا مضافاً إلى الضرورة القائمة على وجوب تعلم الحكام الشرعية التي تكون فـي معرض الابتلاء فان مصلحتها اهم من حرمة الغيبة كما لا يخفى .

ومثله فـي الاستدلال به أيضاً ما كان لدفع المنكر أو رفعه ولذا لم يكن قذفاً إذا كان المورد منه .

ومنه أيضاً ما كان لجرح الشهود اذ انه لولاه لوقع دماء الناس وأعراضهم ونفوسهم وأموالهم وتقليدهم وقضاؤهم وتعليمهم وتعلمهم للا خطار الدينية والدنيوية ويؤيده ما رواه الهداية من استفسار النبي (صلى الله عليه وآله) عن الشهود ومنه أيضاً ما كان لمنع المنكر ولو بتجميع الاراء مباشرة أو تسبيباً والمراد به الأعم من الأمر بالمعروف كما لا يخفى.

ومنه أيضاً رد النسب الكاذب والمقالة الباطلة والوقيعة فـي الانسان لرد الاعتبار عليه وعلى ذويه إلى غير ذلك من المستثنيات العقلائية التي مصلحتها اهم من حرمة الغيبة وكيف كان فقد تحقق مما تقدم أن الاستفتاء أما من باب عدم الموضوع كغيبة الكافر والمتجاهر والمجنون وأما عن باب عدم الحكم حيث انطباق عنوان المحجوز بالمعنى الأعم عليها كفتوى لا ضرر والنهي عن المنكر أو دفعه أو ما أشبه أو من باب الأهم والمهم ولو شك فـي تحقق موضوع الغيبة فالاصل العدم ولو شك فـي الاستثناء فالمرجع هو الاطلاق فنتمسك باطلاقات حرمة الغيبة ونحكم بعدم الجواز وهنا مسائل :

المسألة الاولى : إن المشهور بين الفقهاء حرمة استماع الغيبة المحرمة أما الغيبة المحللة كالموارد التي استثنيناها فلا حرمة فيها للتلازم كتلازم الانصراف بالحلية للمرأة والرجل فـي مسألة معالجة الطبيب والطبيبة وما اشبه ، واستدل لذلك بالادلة الأربعة فمن الكتاب قوله سبحانه (إذا سمعتم آيات الله يكذ ب بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا فـي حديث غيره انكم اذاً مثلهم) وقوله تعالى (وإذا رأيت الذين يخوضون فـي آياتنا فأعرض عنهم) اذ تشترك الغيبة فـي الكفر بالله عز وجل والكفر بآياته بالملاك وأما السنة روايات منها ما ورد عن النبي الاعظم (صلى الله عليه وآله) السامع للغيبة احد المغتابين) ومنها قوله (صلى الله عليه وآله) (من سمع الغيبة ولم يغير كان كمن اغتاب ) وفـي رواية عن الصادق عليه السلام (الغيبة كفر والمستمع لها والراضي بها مشرك) وفـي النبوي فأن هو لم يردها وهو قادر على ردها فان عليه كوزر من اغتابه سبعين مرة ) وفـي وصية النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ( يا علي من اغتيب عنده اخوه المسلم فاستطاع نصره فلم ينصره خذله الله فـي الدنيا والاخرة) وفـي عقاب الاعمال عنه عليه السلام ( ومن رد عن اخيه غيبة سمعها عنه فـي مجلس رد الله عنه الف باب من الشر فـي الآخرة فان لم يرد عليه واعجبه كان عليه وزر من اغتاب) وظهور دلالتها بل حرمتها وحجية سندها ولو بواسطة الشهرة المقطوعة مما لا غبار عليه وأما الاجماع فقد تواتر نقله وأما العقل فلان الاستماع إلى الغيبة من الإعانة على الاثم فانه كلما يكون احد طرفي الشيء مكروهاً للمولى فلا بد أن يكون طرفه الثاني كذلك حتى لو قيل بالعدم سأل العقلاء عن سبب التفكيك .

هذا بالاضافة إلى بعض المؤيدات التي لا يخلو بعضها أن يكون دليلاً كما ذكره الشيخ محمد تقي الشيرازي رضوان الله عليه كما فـي الفقه مما دل من النصوص على حرمة الرضا بوقوع الحرام وان الراضي بعمل قوم كان كالداخل فيه معهم كما هو مضمون الروايات فانه مع تحقق الصغرى يكفـي دليلاً.

المسألة الثانية: إذا شك فـي كلام انه من الغيبة إو لا فالاصل هو الحلية إذا لم يكن اصل موضوعي يؤمن لنا الموضوع كما فـي سائر محتمل الحرمة لدى الشك فـي الموضوع وإذا علم انه من موضوع الغيبة وشك فـي انه حلت الغيبة لبعض الاستثناءات ام لا  فالاصل الحرمة كما هو الشأن فـي كل حرام شك فانه استثني بالاضرار أو بالاكراه أو غيرهما كما فـي بيع الوقف مثلا لانه يكون من قبيل التمسك بالعام فيما لم يعلم انه من الخاص وهذا ليس من قبيل التمسك به فـي الشبهة المصداقية كما لا يخفى على المتأمل .

ومما تقدم يعلم وجوب النهي عن المنكر فـي مورد الاستثناء فلا مجال فـي مثله لحمل فعل المسلم على الصحة .

المسألة الثالثة: قد تزيد الغيبة معصية فـي نفسها لانطباق عنوانين عليها كما إذا انطبق عليها عنوان البهتان والفساد والتنفير عن الحق والإغراء بالباطل وما أشبه أو لتقابلها كما كان الشخص ذا وجهين ولسانين عدم الطرف بحضوره كذباً ويذمه في غيبته غيبة فإن النص والفتوى زيادة الغيبة إثماً حينئذٍ ولو كان أحدهما غير حرام لم يكن من ذي لسانين ومنه يعلم أنه فـي عكسه بأن ذمه حاضراً ومدحه غائباً لم يكن من ذي لسانين فيه كان فاعلاً لحرام واحد إذا لم يكن مستحقاً للذم وليس حينئذٍ من الغيبة فـي شيء.

المسألة الرابعة: يجوز الاغتياب لدفع الضرر عن المغتاب كما إذا أراد أحد أن يقتله أو يهتك عرضه أو يأخذ أمواله أو يضره بما يرجع إليه فإن غيبته جائز لدفع الأمور المذكورة عنه لأن حفظها أهم فـي الشريعة من ستر ما فيه من العيوب بل لو اطلع عليه المقول فيه ربما لرضي بالاغتياب طوعاً لأنه نوع نصرة ودفاع عرفاً.

المسألة الخامسة: يجوز أن يذكر الإنسان بالأوصاف المعروفة فيه كما لو كان معروفا بوصف يدل على عيب كالأعمش والأعرج والأشتر والأحول والأعمى والأصم فإنه لا محذور فـي ذكر المقول فيه بالأوصاف المذكورة والتي فهي مجراها فقد كثر بين الفقهاء وعلماء الرجال ذكر الرواة وحملة الأحاديث بالأوصاف الظاهرة المعربة عن العيوب بل وعليه السيرة القطعية من حديث الأيام وقديماً بل وكان هذا مرسوماً بين الأئمة عليهم السلام كما يومي إليه بعض الأحاديث الواردة فـي توثيق بعض الرواة وفـي بعض الأحاديث جاءت زينب العطارة الحولاء إلى نساء النبي صلى الله عليه وسلم والوجه فـي ذلك أن ذكر الأوصاف الظاهرة خارج عن تعريف الغيبة لأنها ليست مما ستره الله إلا إذا كان ذكرها بقصد التنقيص والتعيير فتكون حراماً حينئذٍ من جهة التنقيص والإهانة لا من جهة الاغتياب أو من جهة الإيذاء وعلى كل حال فإن هذا المورد يخرج أيضاً عن الغيبة موضوعاً.

المسألة السادسة: الظاهر أن فـي الغيبة المحرمة كفارة وكفارتها التوبة والاستغفار فقط كما تحتاج إليها بقية المعاصي أيضاً إضافة إلى القضاء والكفارة وما أشبه ذلك فـي سائر المحرمات التي دلت الأدلة الخاصة على وجوب القضاء والكفارة فيها وأما الغيبة فإن الظاهر أنه لم يدل دليل على أزيد من الاستغفار والتوبة فقد ورد عن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) من ظلم أحداً فعابه فليستغفر الله له كما ذكره فإنه كفارة له ) وعن الصادق (عليه السلام) قال سئل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما كفارة الاغتياب قال تستغفر الله لمن اغتبه كما ذكرته ) وهذا هو المتيقن من الكفارة الموافق للسيرة حيث أن التوبة منها لدى المغتابين أن يستغفروا الله سبحانه بدون زيادة وأما الأخبار الأخرى الدالة على الزيادة على الاستغفار أو غير ذلك كطلب الاستحلال فيه على خلاف ما ورد فـي الروايات من الاستغفار مضافاً إلى ضعف السند فـي بعضها وفـي بعضها ضعف الدلالة .

وعليه فالأقوال الآخر فـي كفارة الغيبة من وجب الاستحلال أو الاستحلال مع الاستغفار أو احدهما على التخيير أو الفرق بين وصول الغيبة إليه وعدم وصولها أو بين إمكان الاستحلال وعدمه إلى غير ذلك محل نظر وان قال ببعضها بعض الاعاظم كما ذكره سماحة السيد الشيرازي (دام ظله) فـي الفقه .

السادس: النميمة وهي نقل الكلام ونحوه من الاشارة والكتابة من شخص إلى آخر على وجه الإفساد والشر صادقاً أو كان كاذباً ولا خلاف بين المسلمين فـي حرمتها بل هو من ضروريات الإسلام كما هي من الكبائر المهلكة وقد تواترت الروايات من طرق الشيعة ومن طرق العامة على حرمتها بل وعلى كونها من الكبائر ويدل على حرمتها مادل على حرمة  الغيبة والظاهر انها ماخوذة من نم الحديث بمعنى السعي لا يقاع الفتنة واثارة الفساد وكيف كان فانه يدل على ذلك الادلة الأربعة فمن الكتاب قوله سبحانه وتعالى ((وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ)) بضميمة عدم الاختصاص بشخص خاص وعدم الخصوصية للمبالغة حسب ما يفهمه العرف كما يفهم العرف عدم المدخلية للمشي فـي ذلك وانما المذموم هو أصل السلوك سواء كان بالمشي أو بغيره وربما يستدل على ذلك بقوله عز وجل ((وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ)) فان القطع وما أمر الله به أن يوصل كليهما كل له مصاديق ولا شبهة فـي كون النميمة من مصاديق القطع .

كما إنها ضد الوصل وانه عرفا من الإفساد وإن الله سبحانه وتعالى أمر بصلة المسلمين كما لا يحب الفساد حسب دلالة الآيات والروايات وعليه فان النمام قاطع لما أمر الله به أن يوصل ويفسد فـي الارض فساداً كبيراً فتلحقه اللعنة وسوء الدار ويمكن أن يستدل له أيضاً بقوله ((وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ)) ولا إشكال فـي أن النمام يسبب الفتنة والنميمة تجر إلى قتل النفوس المحترمة وهتك الأعراض ونهب الأموال وتورث التفرقة بين الناس ولعل وجه الأشدية إنها تؤدي الى كل محرم بينما القتل بعض مصاديقه وكيف كان فيدل على حرمتها أيضاً ومتواتر الروايات كحديث ابن سنان عن الصادق (عليه السلام) قال ( قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا انبئكم بشراركم قالوا بلى يا رسول الله قال (صلى الله عليه وآله وسلم) المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الأحبة) وفـي عقاب الاعمال عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ( من مشى فـي نميمة بين اثنين سلط الله عليه فـي قبره ناراً تحرقه إلى يوم القيامة وإذا خرج من قبره سلط الله عليه تنيناً اسود ينهش لحمه حتى يدخل النار).

وأما الإجماع فهو متواتر فـي كلمات الفقهاء .

وأما العقل فإنه يستقل بقبح هذا العمل لما فيه من الفتنة والايذاء للناس والتفرقة بينهم ولا يخفى عليك أن النسبة بين الغيبة والنميمة والتهمة هي العموم والخصوص من وجه منطقياً وفـي مورد الإجتماع أي إذا صدق على عمل انه غيبة وانه تهمة ونميمة يكون العقاب فيه اشد لأشدية سببه ، وقد تزاحم حرمة النميمة عنوان آخر أهم فـي نظر الشارع فتجري فيه قواعد التزاحم المعروفة فقد تصبح جائزة إذا كان المزاحم أهم منها وقد تكون واجبة إذا كانت اهميته شديدة كما فـي إيقاع الفتنة بين المشركين كما مثل له صاحب الجواهر (رض) وصاحب مفتاح الكرامة ويتضح ذلك أيضاً إنه إذا كانت مفسدتها أكبر فإنه لا يجوز على كل حال .

الرابع: هو الغش

وهو الخديعة والتلبيس، ولا شك أن الغش ليس له حقيقة شرعية ولا متشرعية بل المراد به ما جرى عليه العرف واللغة ففـي لسان العرب الغش نقيض النصح وفـي جمع البحرين المغشوش غير الخالص وفـي المنجد : غشه أظهر له غير ما اًضمره وخدعه .

والغش: بالكسر إسم من الغش بالفتح – أي الخيانة – وهو حرام سواء كان فـي المعاملة الشاملة حتى لمثل النكاح وكذا فـي الاختبارات والامتحانات الدراسية بالنسبة إلى حكومة محترمة ونحوها ويسمى احياناً بالتزوير وأما فـي غير الموردين كالغش بالنسبة إلى الضيف أو الهدية أو الهبة غير المعوضة كشوب اللبن بالماء لاحد المذكورات فليس بحرام وإن كان ناشئاً عن ضعة النفس وهوانها ولو استلزم الكذب كان هو حراما لا الغش ولا يصدق الغش إذا كان المغشوش عالماً بالكيفية أو بالكمية فهو يتحقق فـي صورة الجهل وكذا لا يحتاج الى القصد فبدونه يكون الغش أيضاً.

 وكيف كان فإن الغش حرام بنفسه لتواتر الروايات فيه كصحيح هشام بن سالم عن الصادق (عليه السلام) قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لرجل يبيع التمر يا فلان أما علمت إنه ليس من المسلمين من غشهم ) وفـي نبوي آخر (ليس منا من غش مسلماً أو ضره أو ماكره) وفـي نبوي ثالث (من غش مسلماً فـي بيع أو شراء فليس منا ويحشر مع إليهود يوم القيامة لانه من غشنا فليس منا ثلاثا ومن غش اخاه المسلم نزع الله بركة رزقه، وسدّ عليه معيشته ووكله إلى نفسه) والرواية صريحة فـي نفـي الإسلام العملي بالنسبة إلى الغش كما هي صريحة فـي الأثار الوضعية التي تترتب على الغش من انتزاع البركة وغلق ابواب المعيشة والحرمان من العناية الالهية فضلاً عن العقوبة الالهية ومن الغش ماكان من الظلام أو الضياء أو البرودة أو الحرارة كبيع الملون فـي الظلام حيث يظهر أشد لوناً أو فـي الضياء الزائد حيث يظهر عكسه أو فـي البرودة حيث يظهر استقامته بينما إذا كان فـي حال متعارف ظهر على حقيقته وكذا عكسه إلى غير ذلك .

 ففـي رواية هشام كنت أبيع السابري فـي الظلام فيمر بي أبو الحسن (عليه السلام) راكباُ فقال لي يا هشام أن البيع فـي الظلام غش لا يحل) كما أن ما يتعارف من خلط بعض الاشياء ببعض ثم جعل الجيد من الحبوب على ظاهر الصبرة ورديه فـي باطنها وبيع الامتعة فـي الظلال وغير ذلك مما يكون المزج فيه غير ظاهر فهو من الغش نعم ما يتعارف من خلط ببعض مع اختلاف أثمانها لان لبعض العطر مثلاً وللاخر الطعم ونحوه كالارز والشاي ونحوهما فإنه ليس من الغش إذا كان متعارفاً نعم مع عدم التعارف يكون عن مصاديق الغش وعليه ينزل مارواه الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) سألته عن الرجل يكون عنده لونان من الطعام وسعرهما شتى وأحدهما خير من الآخر فيخلطهما ثمّ يبيعهما بسعر واحد فقال لا يصلح له أن يفعل ذلك يغش به المسلمين حتى يبينه) فإن هذا الحديث ينزل على الخلط غير المتعارف أما المتعارف فلا.

بل من الغش مع عدم التعارف اخذ العسل من نحل أطعم السكر أو اللبن من حيوان أشرب الماء كثيراً إلى غير ذلك لأنه لا فرق عند العرف أن يفعل ذلك بعداً أو قبلاً وقد ظهر مما ذكرنا أن الغش لا يصدق لغة ولا عرفاً للخلط الظاهر الذي لا تحتاج معرفته إلى إمعان النظر فإذا مزج الردئ بالجيد من الفواكه مزجاً يعرفه أي ناظر من الناس بغير تدقيق النظر وجعل الجيد فوق والردئ في الباطن فإن ذلك لا يكون غشاً ويدل على ذلك بعض الروايات أيضاً والظاهر من المطلقات هو حرمته على وجه الإطلاق سواء كان في المعاملة أو غيرها كما عرفت إلا انه لابد من صرف هذه الاطلاقات إلى خصوص المعاملات في الجملة بداهة انه لا بأس بتزيين الدور والألبسة والأمتعة لإراءة أنها جديدة مع أنها عتيقة وكذلك لا بأس بإطعام الطعام المغشوش وسقي اللبن الممزوج باللبن وغيره وبذل الأموال المغشوشة للفقراء بل يمكن دعوى عدم صدق الغش في هذه الموارد أو غيرها كما يظهر أيضاً أن المزج المتعارف في الفواكه والخضر وما أشبه مما لم يكن غشاً عرفاً لا بأس به وأما أن كان من الغش فله حكمه والظاهر أن المسألة عرفية في أي مورد يصدق عليه انه غش نقول بحرمته وإلا فلا.