المادة: فقه المجتمع
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 005.doc

هل الحمل والحيض علامة لبلوغ البنت؟

تحصل مما تقدم أن السن علامة من علامات البلوغ في الولد، أي إذا بلغ الولد خمس عشرة سنة يكون بالغاً، والبنت إذا بلغت تسع سنين، ويتفرع على هذا المبحث سؤال وهو:

أنه بعد الاتفاق على أن سن بلوغ البنت تسع سنين، هل الحمل والحيض علامة من علامات البلوغ أيضاً أم هما بلوغ؟ بمعنى أن البنت إذا حملت أو حاضت هل يكون هذا كاشفاً عن سبق البلوغ في البنت أم حين ظهورهما يكشفان عن حصوله بالفعل؟.

في القواعد قال العلامة (رضوان الله عليه): (الحيض والحمل دليلان على سبقه) أي البلوغ، وفي المسالك نسب هذا الكلام إلى الإجماع إذ قال: لا خلاف في كونهما دليلين على سبق البلوغ، كما لا خلاف في كونهما بلوغاً بأنفسهما، ومن الواضح أن الحيض هو بلوغ، لأن ما ورد في الشريعة من الأخبار مما ربما يدل عليه، لأن الشارع في جملة من الأخبار علق أحكام المكلف عليه ـ أي على الحيض ـ مثل قوله تبارك وتعالى : ( لا تقبل صلاة حائض إلا بخمار) ونلاحظ هنا أن قبول الصلاة متوقف على الخمار، أي الستر والحجاب، ومن الواضح أن الحجاب إنما يجب على المرأة إذا وصلت سن البلوغ، وهو كما يدل على وجوب التستر على المرأة في حالة الصلاة يدل على وجوبه مطلقاً لعدم الخصوصية للصلاة، وإن كان من شروطها ولولا أن تكون المرأة الحائض مكلفة لا يقول الإمام عليه السلام والنبي صلى الله عليه وآله وسلم : (لا تقبل صلاة حائض إلا بخمار) ولا يخفى أن قوله صلى الله عليه وآله : (لا تقبل صلاة حائض) ليس المراد منه الصلاة في حالة الحيض لبداهة عدم جواز الصلاة مع الحيض، وإنما من باب أن وجوب الصلاة إنما يتعلق بالبنت إذا بلغت الحيض، ويؤيد ما ذكرنا ما ورد عنه : (إذا بلغت المحيض لا يصلح أن يرى منها إلا هذا وأشار إلى الوجه والكفين) لجواز النظر إلى الوجه والكفين، وهما القدر الجائز إظهاره من الحجاب الشرعي عند المرأة، وستأتيك بعض الروايات الأخرى المؤيدة.

وأما الحمل فهو مسبوق بالإنزال، لأن الحمل لا يتحقق عند المرأة إلا بانصباب كلا الماءين في الرحم، إذ الولد يخلق من مائهما، نعم وإن كان الدور الحقيقي للحمل بالنسبة للرجل هو من ماء الرجل، أما المرأة فمنها البيضة، إلا أنه في حالة الجماع من المسائل المساعدة على خلق الولد هو إنزال كلا الماءين في وقت واحد، وبناءً على هذا فإن الحمل بما انه مسبوق بالإنزال فهو دليل على سبق البلوغ، ويدل على ذلك الأخبار منها خبر ابن أبي يعفور عن الإمام الصادق عليه السلام : )في الجارية التي لم تطمث ولم تبلغ الحبل إذا اشتراها الرجل، قال عليه السلام : ليس عليها عدة، يقع عليها) وهذا كاشف عن أن عدم وصول البنت إلى مرتبة الطمث، وعدم بلوغ الحبل دال على عدم لزوم أخذ العدة عليها وأخذ العدة من الواجبات.

ومنها أيضاً ما ورد عن الجعفريات بسنده إلى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله : (لا يقبل صلاة جارية قد حاضت حتى تختمر) الذي يدل على لزوم تحجب المرأة من وقت حيضها، وهذا كاشف عن أنه أول زمان من أزمنة التكليف.

ومنها ما عن دعائم الإسلام قال: (روينا عن رسول الله صلى الله عليه وآله)  أنه قال: (لا تقبل صلاة جارية قد حاضت حتى تختمر.) وواضح هنا أن المرأة إذا وصلت إلى مرحلة الحيض يجب عليها التحجب، فبناءً على هذا إذا حاضت المرأة أو حملت فهو يدل على سبق البلوغ.

  التفريع الثاني:

في بلوغ الخنثى

من الواضح أن الخنثى على نحوين على ما هو المشهور:

إذ قد يكون الخنثى متميزاً معلوماً لغلبة أحد الوصفين عليه، أي إما تغلب عليه صفات الذكورة أو تغلب عليه صفات الأنوثة، فإذا مال إلى أحد الجنسين وكانت صفات الجنس الغالب غالبة فيه، فمحكوم بأحكام ذلك الجنس، هذا هو النحو الأول، ولا كلام فيه، وإنما الكلام في الخنثى المشكل، بمعنى أنه يصعب علينا تمييزه، بمعنى أنه لا توجد علامات فارقة وواضحة يمكن لنا أن نميزه في أحد الجنسين، بأن نحسبه على الرجال أو نحسبه على النساء لاشتراك الأوصاف فيه، ولا يخفى أن المشهور بين الفقهاء وجود الخنثى المشكل، وحكموا له بأحكام خاصة وفي الغالب حكموا بلزوم مراعاة الاحتياط في أعماله، لأنه مردد بين الذكر والأنثى، فيجب عليه مراعاة تكاليف كلا الجنسين، وهذا لا يتم إلا بمراعاة الاحتياط، لكن الظاهر إمكان المناقشة فيما ذهب إليه المشهور، فإنه وإن كان أمر الخنثى المشكل مشتبه علينا ومردد أمره، إلا أنه من الناحية الشرعية يمكن لنا أن نخيره في انتخاب أحد الجنسين، ونرتب عليه أحكامه، ولنا في ذلك أدلة.

من هذه الأدلة قوله تعالى: (يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور) وهذه الآية الشريفة صريحة في حصر الذرية في الجنسين، أي إما بالإناث وبالذكور خصوصاً، ولا تذكر الآية الشريفة طرفاً ثالثاً، يكون جامعاً بين الإناث وبين الذكور، مما قد يكشف عن أن الخنثى لو كان جنساً ثالثاً عند الشارع لبيّنه لنا مادام في مقام البيان.

هذا مضافاً إلى ما ورد في الروايات الشريفة فإنه لا يظهر منها وجود جنس ثالث، يكون مشتركاً بين الإناث والذكور، فبناءً على هذا كل مولود يولد من البشر، هو إما من الإناث وإما من الذكور بنص هذه الآية، وإنما الإشكال والاشتباه حاصل عندنا بالنسبة إلى الخنثى المشكل لقصور فينا إثباتاً لا ثبوتاً.

والمشهور الذين قالوا بوجود الخنثى المشكل بالنتيجة حكموا عليه بلزوم مراعاة الاحتياط في أعماله وتكاليفه، وقد فصلوا ذلك في باب الإرث تفصيلاً مسهباً، إلا أن الملاحظ أننا إذا حكمنا على الخنثى بلزوم مراعاة الاحتياط في مختلف الأوقات، وفي مختلف الظروف والأحوال، فإنه مما يستلزم عليه العسر والحرج الشديدين، ومن الواضح أن الشريعة وضعت العسر والحرج عن المكلفين في قوله سبحانه وتعالى: (ما جعل عليكم في الدين من حرج) فإذن قول المشهور بوجود الخنثى المشكل، يستلزم مراعاة الاحتياط دائماً على الخنثى، وهذا موجب للعسر والحرج الشديد عليه، وحيث أن العسر والحرج الشديدين عليه مرفوعان إذن: لا بد وأن نلجأ إلى حل آخر، نرفع عنه العسر والحرج كما نرفع عنه الاحتياط، والطريق ما نرتضيه تبعاً لسماحة السيد الشيرازي (دام ظله) حيث ذهب إلى

أن الخنثى المشكل له عدة طرق لكي يحسب نفسه على أحد العنصرين، فإما يحسب نفسه على الإناث أو يحسب نفسه على الذكور. ومن هذه الطرق

العلامات: فإنه إذا تمكن الخنثى المشكل أن يعين نفسه في أحد الجنسين بواسطة العلامات الخاصة التي تميزه أنه من صنف الإناث أو من صنف الذكور فلا بأس، وقد بحث الفقهاء هذه العلامات في باب الإرث من ميراث الخنثى فلا نفصل فيها.

ومن هذه الطرق: أن نقول بالقرعة، لأن الخنثى المشكل مشكل علينا أمره والقرعة لكل أمر مشكل، فإذا كانت القرعة لكل أمر مشكل، يتوقف رفع المشكل في الخنثى عليها، فنقترع وبعده على أي العنصرين خرجت القرعة نحسبه على  ذلك العنصر ويتعين عليه العمل بتكاليف ذلك العنصر، كما ترتب عليه أحكامه وحقوقه، وهذا هو الحل الثاني.

وهنالك حل ثالث أيضاً:وهو أن نقول بالاختيار، بمعنى أن الخنثى يختار أحد الطرفين، إما الأنوثة أو الذكورة ويعمل بتكاليفهما، وإنما يقال بالاختيار فلأنه من صغريات دوران الأمر بين المحذورين والعقل حاكم في مثله بالتخيير، ومن الواضح أن في أمثال هذه الموارد، الشرع أيضاً يحكم تبعاً لحكم العقل، لأن الحكم العقلي في مثل هذه الموارد يكون في سلسلة العلل للأحكام الشرعية، وربما نعضد هذا الدليل أيضاً بالقاعدة الفقهية القائلة: (الناس مسلطون على أنفسهم) وعلى هذا فإن الإنسان مسلط على نفسه في أن يحسب نفسه في جنس الذكور أو جنس الإناث ما دام مشكلاً غير معيناً، وما دام   ليس للشارع حكم خاص بالنسبة إليه، فبدلاً من أن نوجب عليه الاحتياط المستلزم للعسر والحرج عليه لعدم وجود حكم خاص بالنسبة إليه، نقول هو مسلط على نفسه فله أن يرجع إلى جنس الإناث ويعمل بتكاليفها، أو إلى جنس الذكور ويعمل بتكاليفه، ما دام الأمر من صغريات ما ذكرنا.

وبناءً على هذا القول وهو الذي قد نرتضيه، يصبح تمييز البلوغ في الخنثى كتمييز الجنس الذي أختاره، فإذا أختار الذكورة فيكون بالنسبة إلى السن بلوغ الخمسة عشر، وإذا أختار الأنوثة يكون بالتسع، أو بالنسبة إلى العلامات الأخرى من إنبات الشعر الخشن على العانة أو بخروج المني، أما إذا قلنا بمقولة المشهور وهو وجود الخنثى المشكل فيكون علامات بلوغه بخروج منيه من الفرجين، وإذا خرج من أحدهما لم يحكم به، هذا ما قاله صاحب الشرائع (رضوان الله عليه) في كتابه الشرائع فعلى هذا تمييز الخنثى المشكل لو خرج منيه من الفرجين يحكم ببلوغه، وأما إذا خرج من أحدهما لم يحكم به، ومن العلامات أيضاً إنبات الشعر الخشن على العانة، فإذا كان له عانتان ينبغي الإشعار على العانتين وإلا فإن الإشعار على الواحدة لا يكفي، وأما إذا كانت له عانة واحدة فيكفي الإشعار على عانة واحدة.

والعلامة الأخرى أن يصل إلى السادسة عشر بدون الإشعار والإمناء، وهو بلوغ قطعي للعلم الإجمالي بذلك وقد ذكر الفقهاء هذه العلامات وغيرها في كتاب الحجر فمن أراد فليراجع.

عبادات الصبيان

هذا بالنسبة إلى البالغين بقي هنا كلام لعل من الضروري التطرق إليه، وحاصله أننا قلنا بأن البلوغ شرط في التكليف وصدق الطاعة والعصيان، ولكن في مرحلة قبل البلوغ، أي المراحل القريبة، خصوصاً كما لو كان الولد مثلاً في سن الرابعة عشر أو الثالثة عشر وكان في سن الثانية عشر، أو كانت البنت في سن الثامنة أو السابعة مثلاً، وأراد الصلاة والصيام مثلاً، فهل هذه الأعمال من الصلاة والصيام والخمس وما أشبه ذلك تعتبر عبادات كعبادات البالغين؟.

هذا هو الموضوع الذي نريد التعرض إليه هنا ولا إشكال في أن الصبيان قبل البلوغ على قسمين:

القسم الأول: الصبي غير المميز، بمعنى الطفل الصغير الذي لا يميز المصلحة من المفسدة، أو ربما لا يميز الأعمال العبادية من غيرها وما أشبه، كالأطفال في الغالب الذين يبلغون سن الرابعة أو الخامسة، وهؤلاء مما لا إشكال في عدم صحة وقوع العبادات منهم.

القسم الثاني: من الصبيان وهم الأولاد الذي قربوا من سن البلوغ ولم يبلغوا بعد، ويصطلح عليه في الفقه الطفل المميز أو الصبي المميز، فهل الصبي المميز تقع منه العبادات أو لا تقع منه العبادات.

هنا أقوال ثلاثة:

القول الأول: يقول أن هذه العبادات من الأطفال المميزين تمرينية صرفة، والمراد من التمرينية هو عدم ترتب أجر وثواب على أعمالهم، نعم ربما يكون الثواب للولي الذي يشجع أولاده على الطاعة كالصلاة والصيام ونحو ذلك، أما الصبي فلأن الصبي عباداته مجرد تمارين لا اكثر، فلا يقع منه قصد القربة حتى يتحقق مصداق العبادة.

القول الثاني: يرى أن عبادات الصبيان المميزين شرعية كالبالغين، والمقصود من الشرعية أن هذه العبادات منسوبة للصبي ومطلوبة من الشارع، فلذلك يستحق عليها الصبي الأجر والثواب الأخروي سواءً كانت من قبيل الواجبات أو المندوبات أو ترك المحرمات أو المكروهات.

نعم: إتيانه بالعبادات لا يكون بنحو تعلق التكليف في ذمته، لأن الصبي المميز غير مكلف شرعاً، وإنما بمعنى أن خطاب الوجوب والحرمة لا يتعلق بذمة الصبي إلا أن خطاب الاستحباب والكراهة يتعلق بذمته، لذلك فإن الواجب على البالغين يكون عند الصبي في حكم المندوب لمحبة الشارع له، والحرام في حكم المكروه لمبغوضيته لدى الشارع، وعليه فإنه إذا شجعه الولي على هذه الأعمال فلا يمنع من الشارع الحكيم أن يكرم الولي بالثواب، كما يكرم الصبي أيضاً، فيعطي للولي ثواب التشجيع لأنه من مصاديق الدعوة إلى الخير، ويعطي للطفل ثواب العمل.

القول الثالث: ويرى أن عبادات الصبي شرعية تمرينية، فيجمع بين الاثنين معاً، لأن القول الثاني يقول شرعية اصلية، والقول الأول يقول تمرينية، والقول الثالث يقول شرعية تمرينية، والمراد بذلك أن إتيان الصبي للصلاة والصيام أو تركه للمحرمات مطلوب للشارع، لكن مطلوبيته للشارع ليس لأنفسها بل مطلوبة للصبي نفسه لحصول التعود والتمرن على العمل قبل البلوغ، فيكون مستجيباً بعد البلوغ، بمعنى أن تكون مرحلة ما قبل البلوغ مرحلة تمرينية للصبي يراد منها الطاعة بعد البلوغ، فبناءً على هذا يكون التمرين طريق إلى الطاعة في المستقبل فيكون أيضاً مستحباً من هذه الجهة، وتبعاً له تكون عبادات الصبي شرعية، لأنها مستحبة من جهة، باعتبار أنها محبوبة للشارع، وتمرينية من جهة أخرى، لأن الصبي يتمرن عليها قبل البلوغ ليكون من المطيعين فيما بعد البلوغ.

فبناءً على هذا تكون صلاة الصبي فيها جهتان، جهة كونها صلاة، وهذه الجهة ملغاة في الصبي إذا لا فرق بين كونها صلاة أو مجرد حركات مثلاً، والجهة الثانية كون هذه الصلاة تقود إلى الطاعة مستقبلاً وهذه الطاعة وإن كانت الآن غير محسوبة له إلا أنه من جهة أنها تمرين لما بعد البلوغ تكون مطلوبة للشارع، وعليه يكون هذا التمرن مستحباً، وبناء على هذا تكون عبادات الصبي شرعية وتمرينية في وقت واحد.

وتظهر الثمرة بين الأقوال في الثواب فإنه على القول الأول الذي يقول أن عبادات الصبي مجرد تمرين ولا اجر له منها.

أما على القول الثاني والثالث فيمكن القول بالثواب للصبي على أعماله لأن القول بالشرعية يقتضي حصول الثواب بالنسبة إليه كالبالغ بلا فرق، نعم القول يستلزم حصول ثواب التمرن أيضاً لا الصلاة والصوم، يعني القول الثاني يقول باستحقاق ثواب الصلاة والصيام والقول الثالث يقول باستحقاق ثواب التمرن.

هذا والمحكي عن مشهور الفقهاء القول بالشرعية هذا ما حكاه المحدث البحراني في كتاب الحدائق، وعن بعض علمائنا أن عبادات الصبي تمرينية، لكن جماعة من المتأخرين منهم الشهيد الثاني (قده) وجملة من المعاصرين القول بالشرعية التمرينية، وربما يظهر من بعضهم تنزيل كلام الأصحاب على ذلك لا الشرعية بالمعنى الثاني الذي حكي عن المشهور كما سترى.

 

أدلة هذه الأقوال الثلاثة:

 

أما القول الأول: وهو القائل بأن عبادات الصبي تمرينية فاستدل بثلاثة أدلة.

1ً: أصالة عدم ترتب الثواب على أعمال الصبي إلا بالدليل والدليل منتف هنا.

2ً: إن الأحكام التكليفية من الأوامر والنواهي الواردة في الشريعة منصرفة إلى البالغين العاقلين ويؤيد ذلك تقيد بعض الأحكام الشرعية بالبلوغ والحيض ونحو ذلك كالواجبات والمحرمات.

3ً: حديث الرفع الذي يقول: (رفع القلم عن الصبي والمجنون) وهذا الحديث معتبر عند العامة والخاصة فقالوا: ظاهر هذا الحديث أن القلم يعني قلم التكليف، الجاري على البالغين العاقلين مرفوع عن الصبي بنص الحديث لأن الحديث يقول: (رفع القلم) أي قلم التكليف عن الصبي والمجنون، ومن الواضح أن القلم أعم من الواجب والمندوب والمحرم والمكروه بل والمباح، فبناءً على هذا يكون المعنى في هذا الحديث أن الحكم الجاري على البالغ العاقل لا يجري على الصبي والمجنون بقول مطلق فلذلك لا يتحقق طلب للفعل من الصبي، فما يؤديه الصبي من أعمال وحركات وسكنات هذه لا تعد طاعة ولا محبوبة شرعاً وإنما مجرد تمرين.

وأما القول الثاني فاستدل أيضاً بطائفة من الأدلة:

الدليل الأول: هو ما دل من العمومات والإطلاقات على ترتب الثواب على أفعال المكلفين الشاملة للصبيان والبالغين، والذي يتتبع الآيات والأخيار يجد أنها مطلقة من هذه الجهة وتقول كل من قدم لله سبحانه وتعالى طاعة وعبادة مستحق للثواب ولم تقيد ذلك بالبالغين، فتدل على الشمول للصبيان وللبالغين، وعليه فإنه إذا قدم الصبي المميز صلاة أو صياماً للمولى عز وجل يكون مستحقاً للثواب، واستحقاق الثواب كاشف عن أن هذا العمل كان مندوباً شرعاً ومحبوباً للشارع فيكون هذا دليلاً على الشرعية خصوصاً مع إمكان شمول الثواب الصبي تفضلاً، مضافاً إلى ثواب الانقياد، إذ أن مما لا إشكال فيه أن هذا الصبي يصدق عليه أنه منقاد للمولى والذي ينقاد للمولى يستحق للثواب بضرورة العقل.

الدليل الثاني: قالوا إن المستقلات العقلية مثل حسن الإحسان ورد الوديعة وقبح الظلم ونحو ذلك لا إشكال بنظر العقل في أن من امتثل لها يستحق الثواب بلا فرق بين البالغ وبين الصبي، ومن الواضح أن الأحكام العقلية لا تقبل التخصيص، فلا ينفك الجزاء عن العمل الحسن عقلاً ونقلاً فإذا عمل الإنسان ما هو خير وما هو حسن فإنه بمتقضى حكم العقل يستحق الجزاء الحسن وبمقتضى حكم الشرع إذ يقول سبحانه: (وجزاء سيئة سيئة مثلها) كما يقول عز وجل: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره) وبناءً على هذا العمل السيئ فيه جزاء سيئ، والعمل الخير فيه جزاء الخير، فبناءً على هذا كيف يمكن أن يقال بعدم ترتب الثواب على طاعات الصبي وعباداته، مع إنه بمقتضى حكم العقل يستحق الثواب لأنه من الجزاء الإلهي الذي لا ينفك عن الأعمال.

الدليل الثالث: ما ثبت في محله عند العدلية من أن الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد الواقعية في متعلقاتها، وعليه فإن حكم الشارع بمطلوبية بعض الأعمال لوجوبها أو ندبها يكشف عن وجود مصلحة أو مفسدة في فعل ذلك المطلوب أو تركه، فيكشف عن أنه مطلوب شرعاً من غير فرق بين البالغين وغير البالغين، لأن المصلحة والمفسدة الكامنة في المتعلقات لا تختلف من حال إلى حال ولا من عبد لآخر، فعلى هذا لا مدخلية للصباوة والبلوغ في ترتب المصلحة أو ترتب المفسدة عند العمل، فإذا جاء البالغ بالعبادة يكون قد أحرز المصلحة، واذا جاء الصبي بها يكون قد أحرز المصلحة أيضاً وحيث أن الأحكام تابعة للمصلحة الواقعية فيكون ما جاء به الصبي محكوم به شرعاً.

الدليل الرابع: قضية اللطف الإلهي، إذ مقتضى اللطف عدم خلو العمل الذي يؤديه الصبي من الثواب، فإن من أتى بعمل حسن قاصداً به وجه الرب الكريم تبارك وتعالى يريد به القربة فإن حرمانه من الجزاء والثواب مناف لللطف، والحال أن الأدلة في الكتاب والسنة تدل على أنه تبارك وتعالى يقدم ذراعاً على من اقدم عليه شبراً، ففي الحديث القدسي: (من تقرب إليَّ شبراً تقربت إليه ذراعاً) ويعضد ذلك ما ورد في الشريعة من الأمر للأولياء بأن يأمروا الأطفال بالعبادة كقوله عز وجل : (مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع) وفي حديث آخر: (مروا صبيانكم بالصلاة إذا كانوا أبناء سبع سنين) ولا ريب أن الأمر بالأمر بالشيء أمر للثالث عرفاً، وبناءً على ذلك فإنه لو لم تكن الصلاة مطلوبة من أبناء السبع لم يأمر الشارع الأولياء بأمر الصبيان بالصلاة، والأمر بالأمر بالشيء أمر بذلك الشيء كما ثبت في محله من الأصول.

هذه بعض الأدلة التي يمكن أن تذكر للرأي الثاني والثالث.

 

مناقشة أدلة القول الأول

 

أما الأدلة التي ذكرها أصحاب الرأي الأول فأهمها حديث الرفع، ويمكن المناقشة بهذا الاستدلال من جهة أنه أخص من المدعى، لأنه حمل حديث رفع القلم على رفع التكليف، والحال أن هذا المعنى هو أحد المحتملات الظاهرة من الحديث، ويمكن أن يقال أن المقصود من رفع القلم ليس رفع التكليف بل رفع العقوبة الأخروية، بمعنى أن الصبي مرفوع عنه العقاب في الآخرة، وهذا لا علاقة له بأعمال الصبي في الدنيا، وعليه فإنه إذا جاء الصبي بالطاعة في حياته فيستحق عليه الثواب، وتكون هذه الطاعة محبوبة شرعاً، ولكنه إذا فعل الحرام أو ترك الطاعة وهو في حالة العبادة فإنه يوم القيامة لا يكون معاقباً.

وحتى إذا قلنا أن المستفاد من الحديث هو رفع الحكم التكليفي، إلا أن رفع الحكم التكليفي لا يدل على أن أفعال الصبي ليس فيها ثواب حتى من جهة التمرن، خصوصاً وأن الروايات تدل على أن العمل والثواب رهين بالنية، كما ورد عنهم عليهم السلام : (لكل أمرئ ما نوى) و(إنما الأعمال بالنيات) وعليه فإنه إذا جاء الصبي بالأعمال الصالحة من الصلاة والصيام قاصداً فيه القربة إلى الله عز وجل فلا دليل على أنه لا يستحق الثواب عليها، حتى إذا قلنا بأنه غير مكلف، خصوصاً وأن دليل رفع القلم دليل امتناني، ومقتضى الامتنان أن المكلف إذا جاء بالعمل بقصد القربة والانقياد للمولى عز وجل يكون مستحقاً للثواب، بينما إذا قلنا بأنه جاء بالعمل قربة إلى الله تعالى ومع ذلك لا ينال الثواب فإنه يكون مخالفاً للامتنان، وحينئذٍ يلزم من وجود الحديث عدمه وهو محال عقلاً، فعلى هذا فإن الدليل الذي ذكره أصحاب القول الأول أخص من المدعى، ولذا ذهب جمع من الفقهاء ولعله الإجماع إلى أن حديث الرفع هذا لا يرفع إلا التكليفيات ، أما الأحكام الوضعية فلا يشملها حديث الرفع لأنها منافية للامتنان.

فنحصل مما تقدم أن الأعمال التي يقوم بها الصبيان المميزون هذه الأعمال تعد شرعية أو شرعية تمرينية، وهو القول الذي ربما يظهر من بعض الفقهاء فتكون أعماله مستحبة شرعاً، ويستحق الصبي عليها الثواب، نعم يستثنى من شرطية التكليف البلوغ الأحكام الوضعية فإنهم بعد أن اتفقوا على أن البلوغ شرط التكليف اتفقوا أيضاً بأن البلوغ ليس شرطاً في الوضع، فإن الأحكام الوضعية تترتب على سائر العباد بلا فرق بين البالغين وغير البالغين، مثلاً لو أدخل الصبي في قبل المرأة أو الدبر تتحقق عنده الجنابة، لأنها حكم وضعي وإن لم يكن محرماً عليه لجهة كونه غير مكلف، وكذلك في الحدث الأصغر كالبول مثلاً إذا بال الصبي تتحقق عنده الظلمانية الباطنية، فيكون محدثاً بالحدث الأصغر وإن كان هو غير مكلف بالطهارة، وكذلك في حيازة المباحات، فإذا حاز الصبي مباحاً يكون ملكه وإن كان هو غير مكلف، فبناءً على هذا لا فرق بين البالغين وغير البالغين من ناحية الأحكام الوضعية، وإن كان هناك فرق من ناحية الأحكام التكليفية لذلك قام الإجماع بين الفقهاء بأن إتلاف الصبي لأموال الآخرين كإتلاف البالغين فحكموا بالضمان واشتغال ذمته بمثل ما اتلف إن كان مثلياً، وبقيمته إن كان قيمياً، وكذلك الحال في ضمان اليد إذا سرق شيئاً أو غصب شيئاً، فإذا استولى الصبي على مال الغير وغصبه فتلف ذلك المال في يده فإنه يشمله دليل (على اليد ما أخذت حتى تؤدي) وهذا الإجماع ظاهر لكل من تتبع في أبواب الفقه، بل إن تصريح الكلمات في الأصول ونصهم على أن حديث الرفع (رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم) هذا لا يشمل الأحكام الوضعية يدل على ما ذكرنا، ويؤيد ذلك سيرة المتدينين بل والعقلاء قاطبة على أن الصبيان إذا أتلفوا أموال الغير أو غصبوها فوقع عليها التلف حكموا بضمانهم، خصوصاً إذا كان الصبي عاقلاً ذا شعور وإدراك وفهم حاد، وكان أقل من زمان البلوغ بيسير كما لو كان الصبي في الرابعة عشر سنة ونصف قبلاً أو ما أشبه ذلك.

هل أدلة الرفع تشمل الأحكام الوضعية؟

ويؤيد ذلك الروايات والأدلة العامة الواردة في أبواب الضمانات والنجاسات والطهارات، وفي باب إحياء الأراضي الموات، وفي أبواب الديات والحيازات وغيرها من الأدلة على الأحكام الوضعية، فإن جميع هذه الأحكام عامة ومطلقة تشمل البالغين وغير البالغين، مثلاً قوله عز وجل : (من أحيا أرضاً مواتاً فهي له) شاملة للبالغ وغير البالغ وقوله تبارك وتعالى : (من حاز شيئاً من المباحات ملكه) أو قوله تبارك وتعالى : (على اليد ما أخذت حتى تؤدي) وأمثال ذلك من الأدلة هذه مطلقة وعامة تشمل الجميع صبياناً كانوا وغير صبيان.

وهنا إشكال ربما يذكر في المقام وحاصله أن الحديث الوارد في رفع القلم كالوارد عن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام : (أما علمت رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ) لا يفرق بين الأحكام الوضعية والتكليفية، فبناءً على هذا يدل الحديث أن الصبي لا جعل له من قبل الشارع فلا تكليف عليه شرعاً، سواءً كان الحكم وضعياً أو كان تكليفياً ، لأن المنفي في هذا الحديث هو رفع القلم، والقلم كما يكتب الأحكام التكليفية يكتب الأحكام الوضعية أيضاً، وعليه فإنه إذا ارتفع القلم ارتفعت أحكامه أيضاً وهذا يتنافى مع ذكرتموه.

ويمكن الإجابة عليه بأن نقول بأن حديث رفع القلم ظاهر بل صريح في الامتنان والتسهيل على المكلفين، ومقتضى الامتنان أن الشارع يرفع عن الصبيان والمجانين والنائمين المؤاخذة والعقوبة، لأنهم في حالة النوم أو الصباوة أو الجنون لا يلتفتون إلى المصالح والمفاسد، أما المجنون فواضح لعدم عقله قبل أن يفيق، والعقل من الشرائط العامة للتكليف، وأما الصبي فلقلة عقله غالباً، وأما النائم فلغفلته بسبب النوم، وعدم انتباهه إلى المضار والمنافع، ولذلك رفع الشارع عنه ما يكتبه القلم ومنها المؤاخذة، ومن الواضح أن رفع المؤاخذة كاشف عن رفع التكاليف الإلزامية فيستكشف من نفي اللازم الذي هو المؤاخذة نفي الملزوم الذي هو التكليف، فيدل الحديث حينئذٍ وبهذا التوجيه عن عدم تنجز التكاليف الإلزامية على النائم لغفلته، وعدم توجيه التكليف الإلزامي على الصبي والمجنون لقلة عقله في الأول وعدمه في الثاني، ولا يدل على نفي الأحكام التكليفية غير الإلزامية كالمتسحبات والمكروهات مثلاً، فضلاً عن نفي الأحكام الوضعية، ويستفاد منه أن الحديث يدل على رفع الإلزام لا رفع مطلق الحكم الشرعي، وهذا هو مقتضى الامتنان إذ مقتضى الامتنان رفع الإلزام وليس رفع غير الإلزام.

هذا أولاً: وعلى فرض التسليم وانه ليس المراد من رفع القلم خصوص رفع العقاب والمؤاخذة بل المراد كما ذكرتم نفي الجعل مطلقاً فلا بد وأن يكون المقصود منه الأفعال القصدية، أي الأفعال التي تترتب عليها الآثار إذا صدرت من العاقل البالغ المستيقظ، هذه الأفعال إذا صدرت من الصبي أو المجنون أو النائم لا تترتب عليه آثارها إما لجهة البلوغ كما في الصبي، أو لجهة العقل كما في المجنون، أو لجهة الالتفات أو القصد كما في النائم، فبناءً على هذا لا يشمل الحديث الشريف الأفعال التي تترتب عليها الآثار بلا فرق بين الالتفاف وعدم الالتفاف، أو الاختيار وعدم الاختيار فتكون الأفعال الخارجة بمعنى التي ليس لها دخل بالاختيار وعدم الاختيار تكون خارجة على شمول هذا الحديث لها بالتخصص فلذلك تكون أبواب الديات والجنايات والأحداث مطلقاً والإتلاف والضمان والنجاسة والطهارة خارجة عن مورد هذا الحديث تخصصاً، فيستحصل منه إذن أن ذكر الصبي في سياق المجنون والنائم للدلالة على أنه كما لا قصد للمجنون والنائم تكويناً فإن قصد الصبي أيضاً في حكم العدم تشريعاً، فلذلك كل اثر فعل كان مترتباً على التعمد والقصد بحيث لو صدر عن الصبي بلا التفات ليس ذلك الأثر له، فإذا صدر عن الصبي لا يترتب عليه ذلك الأثر وإن قصده وصدر عنه عمداً.

ويؤيد هذا المعنى ما رواه في قرب الإسناد بسنده عن أبي البختري عن جعفر عليه السلام  عن أبيه عن علي عليه السلام  أنه: (كان يقول في المجنون المعتوه الذي لا يفيق والصبي الذي لم يبلغ عمدهما خطأ تحمله العاقلة وقد رفع عنهما القلم) يعني العمل العمدي محسوب كالخطأ فقوله: ( وقد رفع عنهما القلم) بعد حكمه أن عمدهما خطأ بمنزلة العلة لهذا الحكم، فيكون معنى رقع القلم عنه ـ أي الصبي ـ أن الأثر الذي كان يترتب على الفعل الذي يصدر عن العاقل عن عمد وقصد لو كان بالغاً لا يترتب مثل ذلك الفعل لو صدر عن الصبي غير البالغ، فيكون قصد الصبي كلا قصد وعمده كلا عمد، وهذا يؤكد ما ذكرنا من أن الصبي ترتفع عنه الأحكام التكليفية أما الأحكام الوضعية فثابتة عليه ولذلك حكموا بضماناته وما أشبه ذلك.