المادة: فقه المجتمع
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 041.doc

المبحث الثاني: في الواجبات الاجتماعية والأخلاقية تجاه الأرحام ونبحثها في أمور ثلاثة:

المبحث الأول: في الواجبات الاجتماعية

الأمر الثاني: الواجبات المالية

الأمر الثالث: الواجبات الدفاعية

أما الواجبات الاجتماعية ففيها مسائل:

المسألة الأولى: في طاعة الوالدين، وقد اختلفت كلمات الفقهاء في وجوب طاعة الوالدين وعدمه إلى أقوال ثلاثة:

القول الأول: هو الوجوب وهذا القول يظهر من جمع من الفقهاء القدامى ومنهم صاحب مجمع البيان كما في تفسيره واستدلوا لذلك بقوله تعالى في سورة الاسراء ((وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً)) وقد تمسكوا بهذه الآية في إثبات وجوب طاعة الوالدين ودلائل الوجوب في الآية

الأول هو القضاء حيث تقول الآية وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه فإن قضاء بمعنى الحكم لأن قضى بمعنى حكم والأصل في الحكم هو اللزوم.

والثاني: قرينة السياق حيث أن الآية جعلت الإحسان في الوالدين بين أمرين، أحدهما واجب والثاني حرام أما الواجب فهو العبادة وأما الحرام فهو التنهر من الوالدين والتضجر منهما وحيث أن الإحسان قرن بالعبادة التي هي من الواجبات وبالتضجر من الوالدين الذي هو من المحرمات فإن هذا السياق يدل على وجوب الإحسان بالوالدين ومن مصاديق الإحسان بالوالدين هو الطاعة.

والأمر الثالث: هو أن الأوامر الواردة في الآية الشريفة فإنها ظاهرة في الوجوب لأن الآية تقول ((وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً)) ثم تقول الآية ((فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما)) إلى آخر ذلك فإن هذه الأوامر والنواهي مورد النهي ظاهر في الحرمة ومورد الأمر ظاهر في الوجوب بهذه القرائن الثلاثة استفاد جمع من الفقهاء الوجوب لطاعة الوالدين وتخصيص الآية بكبر السن في الوالدين أو كبر أحدهما من باب أهمية الحاجة في ذلك الوقت، وإلا فإن على الولد أن يطيع والديه على كل حال وقد روي عن الإمام الرضا (عليه السلام) عن أبيه عن جده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لو علم الله لفظة أوجز في ترك عقوق الوالدين من أف لأتى بها) وفي رواية أخرى عن الإمام الرضا (عليه السلام) قال (أدنى العقوق أف ولو علم الله شيئاً أيسر منه وأهون منه لنهى عنه).

وفي خبر آخر فليعمل العاق ما يشاء أن يعمل فلن يدخل الجنة) ومعنى ذلك حرمة إيذاء الوالدين بقليل وكثير وكيف كان فإن الآية الشريفة تضمنت جملة من الأمور الاجتماعية التي ينبغي على الأولاد أن يؤدوها تجاه الآباء ومنها الإحسان للوالدين ومنها حرمة العقوق وعدم التضجر ومنها وجوب مخاطبتهما بقول رفيق لطيف حسن جميل بعيد عن اللغو والقبيح يكون به كرامة لهما ويدل على كرامة المقول له على القائل كما دلت الآية على وجوب المبالغة في التواضع والخضوع للوالدين قولاً وفعلاً براً بهما وشفقة عليهما والمراد بالذل هنا هو اللين والتواضع دون الهوان فكأنه سبحانه وتعالى قال: ضمّ أبويك إلى نفسك كما كانا يفعلان بك وأنت صغير، كما أمرت الآية بالدعاء للوالدين حيث يقول سبحانه وتعالى ((وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً)) ومعناه ادع لهما بالمغفرة والرحمة في حياتهما وبعد مماتهما جزاء لتربيتهما إياك في صباك وفي الآية دلالة على أن دعاء الولد لوالده الميت مسموع وإلا لم يكن للأمر به في الآية الشريفة معنى، ولا يخفى أن الله سبحانه وتعالى في الآية الشريفة أوصى الأبناء وبالوالدين لقصور شفقتهم ولم يوصي الآباء بالأبناء لوفور شفقتهم وذكر حال الكبر لأن الوالدين أحوج في تلك الحال إلى البر لضعفهما وكونهما كلاً على الولد ففي مجمع البيان روى ابو أسيد الأنصاري قال بينما نحن عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذ جاءه رجل من بني سلمة فقال يا رسول الله (صلى الله عليه وآله) فهل بقي من بر أبوي شيئاً أبرهما به بعد موتهما (قال (صلى الله عليه وآله) نعم الصلاة عليهما والاستغفار لهما وانفاذ عهدهما من بعدهما وإكرام صديقهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما) وعليه فإن الآية بهذه القرائن تدل على وجوب الطاعة لأنه من مصاديق البر والإحسان.

الدليل الثاني: هو شكر النعم الذي يستوجب الطاعة عقلاً ويدل عليه أيضاً الآية الشريفة في سورة لقمان من حيث يقول سبحانه وتعالى: ((وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * وَوَصَّيْنَا الإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)) وفي الآية دلالة من ثلاثة وجوه:

الأول: أنها قرنت وصية الإنسان بوالديه بحرمة الشرك فإن الشرك ظلم عظيم ومعناه أن عدم احترام الإنسان وعدم بر الإنسان بوالديه هو أيضاً ظلم بالوالدين فإن اصل الظلم هو النقصان ومنع الواجب فمن أشرك بالله فقد منع ما أوجب الله عليه من معرفة التوحيد فكان ظالماً وهكذا بالنسبة للوالدين فإنه من لم يحترم والديه ولم يعطهما فقد منع ما وجب لهما عليه من معرفة الفضائل وأداء الاحترام والتبجيل والطاعة.

والقرينة الثانية: إن الآية قدمت الأمر بشكر النعمة فاتبعته بالتنبيه على وجوب الشكر لكل منعم فبدأت بالوالدين ومعناه حينئذ أمرناه بطاعة الوالدين وشكرهما والإحسان إليهما وإنما قرن شكر الوالدين بشكر الله سبحانه وتعالى لأن الله هو الخالق المنشئ والوالدان هما السببان في الإنشاء والتربية وعليه فإن الله سبحانه وتعالى وصى الإنسان بشكره عز وجل وشكره سبحانه وتعالى بالحمد والطاعة، ووصاه بشكر الوالدين وشكرهما بالبر والصلة والطاعة.

الدلالة الثالثة: وجوب طاعة الوالدين والبر بهما ما داما لم يأمروا الولد بالعصيان. فإذا أمرا الولد بالعصيان حينئذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق كما تقول الآية الشريفة ((وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما)) لكن مع ذلك أوصى الإنسان بالمصاحبة معهما بالمعروف وليس بالخروج عن حدود محبتهما وإكرامهما واحترامهما وعليه فإنهما إذا أمرا الإنسان بالعصيان لا يجوز للإنسان أن يطيع في هذه الصورة لكنه يجب عليه أن يصاحبهما في الدنيا معروفاً بمعنى أن يحسن لهما ويرفق بهما في الأمور الدنيوية ومن مجموع هذه الدلائل يستفاد وجوب الطاعة لأنها من مصاديق البر والإحسان والشكر.

الدليل الثالث: إن في عدم الطاعة إهانة للوالدين فإن العرف يفهم الملازمة العرفية بين عدم الطاعة وبين ترتب الإهانة للوالدين بل في كثير من الأحيان عدم طاعة الولد لوالديه يستلزم أذى الوالدين ولا إشكال أن أذى الوالدين من المحرمات.

 الدليل الرابع: هو السيرة المتشرعية فإن المتدينين جرت سيرتهم منذ زمان رسول الله والى يومنا هذا على الطاعة للوالدين وهذه السيرة لولا الوجوب لما استمرت وتواصلت في كل هذه الأعصار والأزمنة.

الدليل الخامس: يستفاد وجوب الطاعة من فحوى وجوب طاعة الزوج على الزوجة فإنه لا إشكال في أن الزوجة يجب عليها أن تطيع زوجها لوجوب حق الزوج على الزوجة ولا إشكال أن حق الوالدين على الأولاد أعظم من حق الزوج على الزوجة فإذا كان حق الزوج يوجب طاعة الزوج على الزوجة فإن حق الوالدين أعظم فيوجب طاعتهما بشكل أولى.

هذه جملة من الأدلة التي ربما يتمسك بها لإثبات وجوب طاعة الوالدين.

القول الثاني الذي ذهب إلى عدم لزوم طاعة الوالدين وإن كان يجب احترامهما وتبجيلهما ويحرم أذاهما فبناء على هذا القول الثاني يفكك بين عدم الطاعة وبين الأذى كما يفكك بين الطاعة وبين الشكر والوجوه التي يمكن أن يتمسك بها أصحاب هذا القول عديدة.

الوجه الأول: الإشكال على الأدلة التي ذكرها القائلون بالوجوب.

الثاني: الدليل الذي يستظهره لعدم وجوب الطاعة.

أما الوجه الأول: فقالوا أن الحكم العقلي بوجوب شكر المنعم  يستقل العقل به بالنسبة إلى شكر المنعم الحقيقي، لا المنعم الاعتباري والله سبحانه وتعالى هو المنعم الحقيقي أما الوالدان فإنعامهما بسبب الواسطية التي جعلها الله سبحانه وتعالى لهما فعليه إن الله سبحانه وتعالى هو الذي يخلق الإنسان في رحم الأم وهو الذي يطعمه وهو الذي يسقيه وهو الذي ينميه وهو الذي يعلمه فالمنعم هو الله سبحانه وتعالى فحسب فلذا يستقل العقل بوجوب شكره أما المنعم الاعتباري فلا يستقل العقل بوجوب شكره وعلى فرض حكم العقل بوجوب شكر الوالدين أيضاً فإن حكم العقل في هذه الصورة يكون مجملاً إذ أن العقل لا يقول أطع والديك في كل الحالات وفي كل الصور بل في بعض الصور لا تجب الطاعة فعلى هذا الاحتمال يصبح هذا الوجه وجهاً مجملاً لأننا لا نعلم بالحدود التي يجب على الإنسان أن يطيع والديه فيها إلا بالرجوع إلى الأدلة الخاصة فنحن وهذا الدليل لا يثبت لنا وجوب طاعة الوالدين بشكل مطلق وأما القول بالملازمة العرفية بين عدم الطاعة وبين الإهانة والأذى فالظاهر انه أخص من المدعى وذلك لأن الإهانة من العناوين القصدية إذ لا تتحقق الإهانة في الخارج إلا إذا قصدها الإنسان في تصرفه بأن قصد أن يهين الطرف المقابل وما دام الولد لم يقصد الإهانة للوالدين لم تتحقق الإهانة مصداقاً خصوصاً إذا راعى الولد الآداب الحسنة مع الوالدين وفي صورة عدم الطاعة فإنه لا يعلم بأنها تلازمها الإهانة العرفية وأما القول بأنه بعدم الطاعة يتأذى الوالدان والاذى حرام فإن هذا صحيح لكن لا لعنوان الطاعة ولأن الطاعة واجبة وإنما إيذاء المؤمن حرام فكيف بالوالدين وبهذا يتضح حكم العقل بوجوب الطاعة وهو ما كان في عدم الطاعة أذاهما. أما إذا كان الوالدان لا يتأذيان من عدم الطاعة فلا دليل على الوجوب حينئذ فيكون هذا الدليل أخص من المدعى وأما السيرة المتشرعية التي تمسكوا بها فإنها أيضاً مجملة إذ لعل السيرة قامت على طاعة الوالدين من باب الآداب والمستحبات لا من جهة الوجوب الشرعي بحيث يعد المتشرعة الولد إذا لم يطع والديه عاقاً ويحكمون بفسقه فيردون  شهادته ولا يصلون خلفه وما أشبه ذلك نعم: السيرة إذا كانت قائمة على إطاعة الأبناء للآباء فإن هذه السيرة تصبح مجملة ولم يعلم أن الأبناء يطيعون الآباء من باب وجوب الطاعة لا من باب الاستحباب أو من باب الآداب وعليه فإن هذا الدليل أيضاً يكون أخص من المدعى وأما الاستدلال بطاعة الزوجة للزوج فهذا أيضاً أخص من المدعى لأنه ذكرنا فيما تقدم بأن إطاعة الزوجة للزوج ليست بشكل مطلق وإنما في أمور ثلاثة حدودها فيما تقدم إذ يجب على الزوجة أن تطيع زوجها في مسائل التمكين والممارسات الزوجية الثاني يجب على الزوجة أن تطيع زوجها في مسائل التمكين والممارسات الزوجية الثاني يجب على الزوجة أن تطيع زوجها في الخروج من الدار إذا أمرها بعدم الخروج يجب عليها الاستجابة.

الثالث: يجب عليها أن تطيع زوجها في أن لا تدخل في داره من لا يحب ولا تخرج من داره من يحب كل ذلك بحسب مقتضيات المعاشرة بالمعروف على ما بيناه سابقاً وعليه لا إطلاق لوجوب إطاعة الزوجة حتى يمكن أن يستدل على بهذا الإطلاق على لزوم إطاعة الوالدين بشكل أولى فإن إطاعة الزوجة في موارد محدودة فإذن لا يصلح دليلاً على وجوب إطاعة الوالدين بشكل مطلق أيضاً هذا من ناحية الوجه الأول وأما الوجه الثاني فالقائلين بعدم الوجوب قالوا لم نستظهر من الآيات الشريفة والروايات عنواناً مستقلاً لوجوب إطاعة الوالدين نعم الآيات التي ذكرت تدل على استحباب معاملتهما بالمعروف وخفض الجناح لهما في موارد خاصة نهت الآية عنه وهو التضجر بالوالدين وإن لا يقول الولد لهما أف أما ((وَوَصَّيْنَا الإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً)) التوصية ليس لها ظهور في الوجوب بل هي ظاهرة في الاستحباب كما أن قوله سبحانه وتعالى: ((وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً)) هذا القضاء أعم من الوجوب والاستحباب بل قد يستظهر منه انه هنا للاستحباب لا الوجوب وعليه فإن الآيات الشريفة والروايات لا ظهور لها في وجوب إطاعة الوالدين نعم لا ظهور في الاستحباب وهو القدر المتيقن من الآيات وأما الوجه الثالث وهو فيما إذا شككنا واقعاً رأينا مجموعة الأدلة التي قالت بالوجوب أو الأدلة التي قالت بالاستحباب فشككنا لا نعلم أن إطاعة الوالدين من الواجبات أو من المستحبات ففي صورة الشك نرجع إلى أصالة عدم الوجوب، فحينئذ يثبت لنا الاستحباب في بعض الموارد ويثبت لنا في جملة من الموارد أن البر بالوالدين والطاعة واجب أخلاقي اجتماعي لا واجب شرعي، هذا بالنسبة إلى القول الثاني وأما القول الثالث فهو التفصيل بين الأوامر المشروعة الوالدين فتجب الإطاعة وبين الأوامر غير المشروعة فلا تجب الطاعة أما المقصود من الأوامر المشروعة أمر الوالدين بالأمور التي هي من حقوقهما وضمن الأعراف والموازين العقلائية ففي هذه الصورة يجب الطاعة وأما إذا كانت أوامر الوالدين ليست في ضمن الموازين المشروعة بأن كان الأمر من قبل الوالدين يسبب هدماً لحياة الولد أو يسبب مرضاً بالغاً للولد في هذه الصورة لا تجب إلا طاعة وقد ذهب إلى هذا القول جمع من الفقهاء المعاصرين منهم سماحة السيد الشيرازي في الفقه قال (دام ظله) ثم أنهما إذا تأذيا لعدم إطاعة الولد لهما فالظاهر انه إذا كان أمرهما يوجب هدم حياة الولد العادية لم تجب الطاعة وإلا وجبت لانصراف النصوص عن مثل ذلك فإذا قال الوالدان لولدهما تزوج بالبنت الفلانية أو لا تسافر في تجارتك الكذائية أو افتح دكاناً في المحل الفاني لا المحل الفلاني أو طلق زوجتك أو ما أشبه ذلك لم يجب على الولد الطاعة بل له المخالفة وجريه العادي لكن مع الملاطفة والتأدب والملاينة في التخلف وعليه يستفاد من هذه الفتوى أن أمر الوالدين إن كان مشروعاً وضمن الموازين العقلائية وكان لمصلحة الولد كأمرهما بلزوم التعليم والتحصيل ولزوم مراعاة الأخلاق والآداب الاجتماعية والحث نحو الأعمال الصالحة وما أشبه ذلك تجب الطاعة لأن في عدم الطاعة أذى الوالدين وأما إذا كان أمر الوالدين بضرر الولد بحسب الموازين العقلائية فإنه لا تجب على الولد الطاعة وإن سبب أذى الوالدين في هذه الصورة. وكيف كان فإنه لا ريب إن كل ما يحرم أو يجب للأجانب يحرم أو يجب للأبوين وتظهر الثمرة في الخلاف بين الأقوال الثلاثة في أمور.

الأول: في تحريم السفر المباح في غير أمرهما وكذا السفر المندوب وقيل بجواز سفر التجارة وطلب العلم إذا لم يمكن استيفاء التجارة وطلب العلم في بلد الوالدين.

الثاني: ما قاله بعضهم من انه على الولد طاعة الوالدين في كل عمل وإن كان شبهة فلو أمراه بالأكل معهما من مال مشبوه أكل لأن طاعتهما واجبة وترك الشبهة مستحب عند من يرى وجوب الطاعة.

الثالث: لو دعواه إلى فعل وقد حضرت الصلاة فلتؤخر الصلاة وليطعهما بناء على القول بوجوب إطاعتهما أيضاً لأن وجوب الصلاة موسع أما وجوب الطاعة ففوري.

الرابع: هل لهما منعه من الصلاة جماعة الأقرب انه ليس لهما منعه مطلقاً بل في بعض الأحيان بما يشق عليهما مخالفته كالسعي في ظلمة الليل إلى العشاء والصبح وما أشبه ذلك.

الخامس: للوالدين منع الولد من الجهاد مع عدم وجوبه عليه تعييناً وذلك لما صح من أن رجلاً قال يا رسول الله (صلى الله عليه وآله): أبايعك على الهجرة والجهاد فقال (صلى الله عليه وآله) هل من والديك أحد؟ قال نعم كلاهما. قال (صلى الله عليه وآله) اتبتغي الأجر من الله؟ قال: نعم. قال (صلى الله عليه وآله): فارجع إلى والديك فاحسن صحبتهما.

السادس:  الأقرب أن للوالدين منع الولد من فروض الكفاية إذا علم قيام الغير أو ظن بها فإنه يكون حينئذ كالجهاد الممنوع.

السابع: قال بعض العلماء لو دعواه في صلاة نافلة قطعها لما صح عن أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن امرأة نادت ابنها وهو في صومعة. قالت يا جريح. قال اللهم أمي وصلاتي فقالت يا جريح. قال اللهم أمي وصلاتي. فقالت لا تموت حتى تنظر في وجعه المومسات إلى آخر الحديث) وفي بعض الروايات انه (صلى الله عليه وآله) قال (لو كان جريح فقيهاً لعلم أن إجابة أمه افضل من صلاته). وهذا الحديث يدل على جواز قطع النافلة لأجل الوالدين ويدل بطريق أولى على تحريم السفر لأن غيبة الوجه فيه أعظم والأم كانت تريد النظر إلى ولدها والإقبال عليها.

الثامن: كف الأذى عن الوالدين وإن كان قليلاً بحيث لا يوصله الولد إليهما ويمنع غيره من إيصاله بحسب طاقته.

التاسع: ترك الصوم الندب إلا بإذن الأب وقد قال الفاضل المقداد ولم أقف على نص في الأم.

العاشر: ترك اليمين والعهد إلا بإذن الأب ما لم يكن في فعل الواجب وترك المحرم ولم نقف بالنذر على نص خاص إلا أن يقال هو يمين يدخل في النهي عن اليمين إلا بإذنه.

المسألة الثانية: يجب على الإنسان أن يقي نفسه من النار وأن يقي أهله وأرحامه وخصوصاً أرحامه الأخص به من النار أيضاً. قال سبحانه وتعالى: ((يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ)) وفي صحيح أبي بصير قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل ((قُوا أَنْفُسَكُمْ)) هذه نفسي أقيها فكيف أقي أهلي: قال (تأمرهم بما أمر الله به وتنهاهم عما نهاهم الله عنه فإن أطاعوك كنت قد وقيتهم وإن عصوك كنت قد قضيت ما عليك) والروايات الواردة في حفظ الأهل كثيرة والظاهر انه من مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الأولوية هنا بالنسبة للأرحام.

نعم الوجوب في وقاية الأهل والأرحام يكون أكد من غيرهم ومن مصاديق وقاية الأهل من النار هو الأمر بالصلاة قال سبحانه وتعالى ((وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها)) والظاهر أن هذا من أفراد الأمر بالمعروف وتخصيصه بالأهل أكد أيضاً كما أن الاصطبار عليها إرشاد وإلا فإن ذلك من الواجبات كما لا يخفى ومن مصاديق وقاية الأهل من النار تعليمهم العقائد والأحكام إذ يجب تعليم العقائد والأحكام للأهل ومن يرتبط بالإنسان بأبوة أو أخوة ونحو ذلك من الأرحام وما أشبه ذلك كما قال الله سبحانه وتعالى ((قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً)) وهو من التعليم العام الواجب كفاية مقدمة والواجب بالنسبة إلى الأرحام والأهل أكد وهل يجب تعليم الأطفال قبل البلوغ أصول الدين وبعض فروعه. احتمالان: إلا أن السيرة جارية على تعليمهم الأصول والفروع في الجملة كما أن الظاهر وجوب تعليم الأحكام وجوباً مقدمياً لما يحتمل ابتلاؤه به احتمالاً عقلانياً والسيرة جارية على عدم تعلم ما هو خارج عن محل الابتلاء والتعلم هو طريق العبيد بالنسبة إلى الموالي فإذا لم يتعلم ووقع في الخطأ كان معاقباً عقلاً وحيث أن الحكم العقلي في سلسلة العلل هنا يكون واجباً شرعاً أيضاً بالإضافة إلى بعض الروايات الدالة على ذلك ففي صحيح مسعدة بن زياد (قال سمعت جعفر بن محمد (عليهما السلام) وقد سئل عن قول الله تعالى ((فَللهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ)) فقال إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة عبدي كنت عالماً فإن قال نعم قال له أفلا عملت بما علمت وإن قال كنت جاهلاً قال أفلا تعلمت حتى تعمل فيخصمه فتلك الحجة البالغة). لكن الظاهر أن طريق التعلم هو المتعارف منذ زمن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) حيث كانوا يتعلمون بالمناسبات وبحسب الظروف التدريجية ومنه يعرف مسألة تعلم القرآن الكريم فإن مسألة تعلم القرآن الكريم من الواجبات الكفائية كما أن قراءته كذلك لظهور الأمر في الآيات المباركة وسائر الأدلة في الوجوب وحيث انه ليس بواجب عيني يتعين على كل مكلف كالصلاة والصيام كان كفائياً بمعنى انه لو قام به جمع من الناس سقط عن الباقين وإنما لا يجب وجوباً عينياً على الجميع للسيرة منذ زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومما تقدم يعرف الكلام في معرفة تفسير القرآن أيضاً.

المسألة الثالثة : يجب على الوالدين تربية الأولاد على ما يريد الشارع منهم لأنهما وليان للأولاد وقد قال القرآن الحكيم ((قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً)) ولأن التربية الصالحة أيضاً من أجلى مصاديق صلة الرحم فاللازم تربيتهم حتى لا يؤذوا الناس ولا يفعلوا المناكير كالزنا واللواط والسحق وما أشبه ذلك وقد عقد الحر العاملي رضوان الله عليه في الوسائل والشيخ النوري في المستدرك باباً في هذا الشأن فيه روايات متعددة

ولا يخفى ومما لا شك فيه ولاية الأب والجد الأبي على الصغار في كل شؤونهم فيتصرفان فيهم مما لا يكون فيه مفسدة والواجب عليهما منع الأطفال ذكوراً وإناثاً عن كل ما به ضرر عليهم أو على غيرهم من الناس وكل ما علم من الشرع إرادة عدم وجوده في الخارج لما فيه من الفساد كالزنا واللواط ، أما لبس الحرير والذهب فالظاهر عدم حرمته على الأطفال الذكور وعلى أي حال فالظاهر أن الإنسان إذا كان ولياً على صغير فإن عليه ذلك الحق أيضاً ففي صحيح غياث عن الصادق (عليه السلام) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ( أدب اليتيم مما تؤدب منه ولدك واضربه مما تضرب منه ولدك) والأب والجد والولي لهم الحق في تفويض الصغير إلى المعلم والمربي ونحوه فله أن يؤدبه حسب المتعارف أو لعل ذكر اليتيم في الرواية الشريفة من باب المثال وليس من باب الحصر فيشمل كل طفل صغير بل وكل ولد بحسب الأعمار وبحسب المراتب.

المسألة الرابعة: يجب على الآباء والأجداد أن يدفعوا إلى أولادهم أموالهم إذا بلغوا الرشد فقد قال تعالى ((وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ)) والظاهر أن ذكر اليتامى من باب المثال وإلا فإن الظاهر حتى الأب والجد إذا كان عندهما مال الطفل وجب دفعه إليه عند بلوغه الرشد كما أن الظاهر انه واجب غيري لا نفسي لأن الميزان معرفة بلوغ اليتيم ورشده فإذا عرفا من غير ابتلاء واختبار كفى ويجري الحكم المذكور في السفهاء أيضاً. فإن الولد ما دام سفيهاً لا يجوز تسليم أمواله إليه أما إذا خرج عن السفاهة وأصبحت تصرفاته عقلانية وجب دفعها إليه. قال سبحانه وتعالى ((وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً)) فاللازم عدم تسليم السفيه ماله وإنما يرزق من ماله ويقضى به حوائجه ويكون المال عند الولي الشرعي ولا فرق في ذلك بين السفه الأموالي أو الأعمالي الذي هو مرتبة من مراتب الجنون ولا يجوز دفع مال اليتيم قبل البلوغ وكذلك المجنون قبل التعقل فإن ذلك يوجب التلف والسرف وكلاهما محرمان ولو دفع الولي ذلك كان ضامناً ففي صحيح العين عن الصادق (عليه السلام) (قال سألته عن اليتيمة متى يدفع إليها مالها قال إذا علمت أنها لا تفسد ولا تضيع فسألته إن كانت قد تزوجت قال إن تزوجت انقطع ملك الوصي عنها) والظاهر أن المراد من التزويج التزويج وهي بالغة أما إذا تزوجت وهي صغيرة فلا إشكال في عدم الجواز أيضاً كما أن قوله سبحانه ((وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ)) هذا ظاهر في الشرطية بمعنى انه إذا لم يكن هنالك رشد لم يجز دفع الأموال إليهم وبما يحتمل جواز دفع بعض المال إليهم حتى يعرف منهم الرشد وإنهم كيف يتصرفون بالأموال ولا يبعد ادعاء عمل المتشرعة على ذلك فحينئذ إذا كان الإنسان صغيراً أو سفيهاً فإذا أريد اختباره لمعرفة رشده يجوز أن يدفع إليه بعض المال لغرض الاختبار والامتحان لا كل المال.

المسألة الخامسة: يستحب الإصلاح بين الأرحام والأقارب وقد يجب إذا كان من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا استلزم الخلاف بين الأقارب المحرمات الوقوع في المعاصي من الغيبة والتهمة والكذب والأضرار وما أشبه ذلك. قال سبحانه وتعالى ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)) واردة في عموم المؤمنين أقارب كانوا أم غيرهم إلا أن هذا الاستحباب أو الوجوب يتأكد في الأقارب لأن في قوله سبحانه وتعالى ((وَأُولُوا الأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ)) ربما يشتمل أمثال هذه الموارد أيضاً والظاهر أن الإصلاح من المستحبات لا من الواجبات فقوله (صلى الله عليه وآله) اصلاح ذات البين خير من عامة الصلاة والصيام يحتمل أموراً:

الأمر الأول: أن يكون المراد من الحديث الشريف ثواب الإصلاح خير من ثواب الصيام الواجبة والمستحبة.

وربما يراد إن الإصلاح المستحب خير من الصلاة والصيام المستحبة ويحتمل أن يراد أهمية الإصلاح من ناحية الفائدة لا العبادية فإن مما لا إشكال فيه أن عبادية الصلاة والصيام أهم وأفضل ولكن الإصلاح من الناحية الاجتماعية يحقق فوائد الصلاة والصيام فإن من فوائد الصلاة النهي عن الفحشاء والمنكر ومن فوائد الصيام التقوى كما ذكر ذلك القرآن الحكيم فالانتهاء عن الفحشاء والمنكر والاتصاف بالتقوى من أهم مقومات المجتمع الصالح والإصلاح بين الناس يحقق مثل الغايات خصوصاً في مثل الأقارب فإن الإصلاح بين الأقارب يستلزم زيادة التعاون والمحبة والتكاتف والتعاطف والتراحم فيما بينهم وهذه أمور تجتث أصول المنكر والفساد وبذلك يظهر بان المراد من الحديث الشريف أن إصلاح ذات البين افضل من عامة الصلاة والصيام من ناحية الغاية والفائدة والاحتمالات المتصورة في هذا الحديث كثيرة إلا إننا ذكرنا بعضها وكيف كان فإن الإصلاح من ناحية الأصل من المستحبات الشرعية ومن المحاسن العقلية لكنه قد يجب إذا كان بدون الإصلاح ينتهي الأمر في المنازعات والمشاحنات وما أشبه ذلك إلى المحرمات من باب النهي عن المنكر أو دفع المنكر وعلى أي حال فإن الأمر محمول على الوجوب في بعض الموارد وعلى الاستحباب في بعض الموارد وعلى الإرشاد والتنزيه في بعض الموارد إذ المسائل تختلف بحسب مواردها ومنه يعرف الكلام في قوله تعالى ((يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأَنْفالِ قُلِ الأَنْفالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ)) فإن الإصلاح سواء كان بين المسلمين أو بين الأخوين شيء محبوب شرعاً وعقلاً وفي بعض الموارد يجب من باب دفع المنكر أو الأمر بالمعروف.

المسألة السادسة: طلب العلم واجب غيري وفي الحديث الشريف (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة) إلى غير ذلك من الروايات الواردة في هذا المجال، فإذا كان العلم في العقائد من التوحيد والنبوة والإمامة والمعاد أو كان من العلم المحتاج إليه في الأعمال اليومية من مسائل النكاح والبيع والشراء والصلاة والصيام والطهارة وغير ذلك من أحكام الفروع التي يحتاجها المسلم وجب عيناً وإن كان لجهة الاجتهاد وإقامة النظام الاجتماعي وتقوية هذا النظام بالصناعات الكبرى والتجارات والتعليم والتربية والإعلام والفنون والمعرفة والثقافة وبناء البنى التحتية للمجتمع الإسلامي ونحوه وجب كفاية.

وحينئذ إذا كان طلب العلم من الواجبات العينية أو من الواجبات الكفائية يستحق الولد في طلب هذا العلم النفقة على الوالدين على بيان نأتي إلى تفصيله إن شاء الله كما يجب على الولد أن يقدم على تعلم هذه العلوم وتعليمها ويتأكد هذا الوجوب في الأرحام أيضاً لأنه في بعض موارده يكون من مصاديق وقاية النفس والأهل، وفي بعض مصاديقه من مصاديق الصلة كما أن النفقة في الدين من الواجبات الكفائية لأن العلوم الحياتية تبني حياة المسلم والمجتمع الإسلامي وتجعلهم أعزة مكرمين والتفقه في الدين من أهم الأسباب المساعدة على ذلك فضلاً عن جعل المجتمع المسلم أعزة مكرمين في الآخرة أيضاً قال سبحانه وتعالى ((وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)) وقد ذكر الفقهاء في موارد متعددة وجوب التفقه وجوباً كفائياً مقدمياً لأنه هو المنصرف من مثل الأمر الوارد في الآية لا أنه من الواجبات النفسية أو التعينية وقوله سبحانه ((لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ)) يحمل أمرين:

الأمر الأول: أن التفقه في الدين المراد منه هنا معرفة الأحكام الفقهية الفرعية والمسائل الشرعية اجتهاداً أو تقليداً فيكون الأمر واجباً تعينياً في الآية بالنظر إلى أن معرفة الأحكام واجب على كل أحد من المكلفين.

الاحتمال الثاني: أن يراد منه هو معرفة الدين والتفقه فيه في الأصول والفروع وعليه يكون الحكم في أصول الدين واجباً اجتهاداً كفائياً في الجملة لكن هل يجب على كل المسلمين أن تكون معرفتهم بأصول الدين عن دليل ولو اجمالي بل لا يجب الدليل بل يكفي التقليد في العقائد أيضاً احتمالان لكن العلامة الحلي (رضوان الله عليه) ادعى الوجوب اجتهاداً على كل المسلمين لكن خالفه في ذلك بعض الفقهاء على تفصيل ذكروه في علم الكلام وكيف كان فإن الآية الشريفة تشير إلى لزوم التفقه في الدين في الجملة بالنسبة إلى فروع الدين والى أصوله والغاية من ذلك إنذار القوم ووقايتهم من النار والحث على سعادتهم في الدنيا وتعليمهم على أسباب الحياة السعيدة فإن هذه من الواجبات بل ينبغي على المجتمع المسلم أن يحققها لأبنائه إذ في غير ذلك يتعرض المجتمع المسلم إلى الذل والهوان وسيطرة الكفار على المسلمين فيتحصل من ذلك أيضاً بأن هذا اللزوم يتأكد في الأقارب وفي الأرحام فإذا كان الإنسان عالماً بدينه وعالماً بعلوم الحياة كل تخصص بحسب تخصصاته واستلزم ذلك بناء المجتمع السعيد وإنقاذهم في الآخرة من النار فإنه يجب ذلك على الآباء وعلى الأبناء جميعاً العالم منهم يعلم الجاهل مباشرة أو بالواسطة على تفصيل ذكره الفقهاء في محله، لكن هل للأبوين المنع من سفر الولد لطلب العلم وتعلم هذه العلوم كما لو استلزم التفقه في الدين السفر من بلد إلى بلد أو استلزم معرفة بعض العلوم الإنسانية أو الحيوية والسفر من بلد إلى بلد. وهل للأبوين المنع من سفر طلب العلم ، الأقرب العدم إلا أن يكون الولد متمكن من طلب العلم في بلدهما على حد يمكنه تحصيل هذا العلم مع السفر وعدمه نعم في صورة عدم القدرة على ذلك يستحب الاستئذان من الوالدين ولو كان واجب التعلم وتعذر هذا التعلم إلا بالسفر فلا منع حينئذ أما إذا كان الولد طالباً درجة الفتوى وهو مترشح لذلك فإن لم يكن في البلد مستقل بها فهو ملحق بالواجب.

وإن كان فهو ملحق بالمستحب ولو حرج الولد لطلب الفتوى وليس بالبلد مستقل فخرج معه جماعة فهل للأبوين المنع حينئذ باعتبار أن الوجوب كفائي فيكفي غيره عنه يمكن القول به إن قلنا أن للوالدين منعه من المستحب لأن كل واحد من الجماعة قد يقوم مقامه لكن الظاهر أن الأولى هو العدم لأن الخارجين معه من الطلاب والمحصلين قد لا يحصل منهم الغرض التام ويجوز أيضاً سفر التجارة إذا لم يمكن الولد من تحصيلها في بلده وكذا لو كان في سفره زيادة توقع ربح أو أرفاق أو زيادة فراغ أو حب أستاذ أو لقوة جامعة علمية أو وجود تخصصات في جامعات مختلفة لا يحصلها الطالب إلا فيها فإنه يجوز ذلك نعم للوالدين منعه من السفر في التجارة مع الخوف الظاهر كالسير في البوادي الخطرة وركوب البحر أو السير إلى بلدان مضطربة الأوضاع داخلياً أو إلى بلدان تخوض حرباً مع بلدان أخرى وما أشبه ذلك. فإن لهما في هذه الصورة المنع لأن في ذهابه مع قلقهما وخوفهما أذى للوالدين وقد تقدم أن إيذاء الوالدين حرام.

المسألة السابعة: قد تقدم منا في بحث النكاح لزوم معاشرة الزوجة بالمعروف حيث قال سبحانه وتعالى ((وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)) والظاهر أن المعروف موضوع عرفي تؤخذ حدوده من المجتمع وليس المعروف مجرد تهيئة الطعام أو الشرب والمسكن والملبس والمقاربة فقط بل المعاشرة بالمعروف يشمل التكلم أو البشاشة والإذن في الخروج من البيت وزيارة الأقارب وزيارة الجيران لهم وغير ذلك كل ذلك يدخل في المعروف عرفاً ويتأكد هذا اللزوم إذا كانت الزوجة من الأرحام كبنت العم وبنت الخال أو بنت الخالة أو بنت العمة فإنه يتأكد المعاشرة بالمعروف لانطباق العنوانين واند كاكهما حقوق الزوجية وحقوق الأرحام في الصلة والإكرام والاحترام.

المسألة الثامنة: يجب الغيرة على الأهل والأبناء ومعنى الغيرة أن يهتم الإنسان لئلا يمس بسوء شيء من دينه وعرضه  أو شيء من دين أقربائه وأرحامه فإذا أراد إنسان التعرض لولده أو ابنته أو زوجته أو عمته أو أخته أو أمه بعمل شيء وهكذا بالنسبة إلى عموم الأرحام أو أراد أن يمس دينهم هاج ومنع عن ذلك وهكذا يحتفظ على الدين والعرض كي لا يصاب بمكروه فيمنع زوجته أو أخته أو أمه أو ابنته أو بنت عمه أو خاله أو ما أشبه ذلك وكذا يمنع زوجته خصوصاً إذا كانت من الأرحام عن الخروج من الدار خوفاً على عرضه أن يستباح إلى غير ذلك من الأمثلة وهذا واجب مقدمي والصفة الباعثة على ذلك في نفس الإنسان تسمى غيرة وهذا الغيرة ممدوحة إذا كانت على المفاسد والمحرمات فأما الغيرة في موارد الحلال فمذمومة فمثلاً المرأة تحفظ نفسها عن زوجها فإن هذه غيرة مذمومة وكذلك فيما يشبه ذلك كمنع الوالد بنته من الزواج غيرة عليها فإن هذه أيضاً من المذمومات ففي صحيح جميل عن الصادق (عليه السلام) (لا غيرة في الحلال) وعليه فإن من مصاديق وقاية الأهل والأرحام من السوء ووقاية النفس في الآخرة من العذاب ومن النار يوجب الغيرة عليهم ومنعهم من الوقوع في المفاسد والمحرمات كما أن هذا من مصاديق دفع المنكر والنهي عن المنكر أيضاً إلى غير ذلك من الأدلة التي تدل على لزوم الغيرة على الأهل وعلى الأولاد.

المسألة التاسعة: المستظهر من الأدلة هو عدم وجوب قبول الوصية لأنه يخالف دليل السلطنة الذي مفاده الناس مسلطون على أنفسهم وأموالهم فإذا أوصى إنسان لإنسان يجوز للموصى له عدم القبول ويستثنى من ذلك موارد ومن تلك الموارد الاب والابن فإن الأب إذا أوصى لابنه يجب على الابن القبول والعكس أيضاً وأما إذا مات ولم يوص إلى شخص خاص بأن قال اوصيت بأن يصلى عني أو يعطي ديني فالظاهر انه إذا كان له أولياء من ورثة وأرحام وأقارب وجب عليهم الانفاذ فإذا لم يكن ذلك كان من الواجب على الحاكم الشرعي لكن من المستحبات الشرعية الوصية لذوي القرابة كما رواه الكليني (رضوان الله عليه) بإسناده عن ابن أبي عمير عن إبراهيم بن عبد الصمد عن سالمة مولاة أبي عبد الله (عليه السلام) قال كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) حين حضرته الوفاة فأغمي عليه فلما أفاق قال اعطوا الحسن بن علي بن الحسين وهو الأفطس سبعين دينارا وأعطوا فلاناً كذا وكذا وفلاناً كذا وكذا فقلت أتعطي رجلاً حمل عليك بالشفرة قال ويحك أما تقرأين القرآن؟ قلت: بلى. قال أما سمعت قول الله عز وجل ((وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ)) وروى الشيخ والصدوق بإسنادهما عن محمد بن أبي عمير مثله أيضاً وما رواه الشيخ بإسناده (عن السكوني عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليهم السلام) من لم يوص عن وفاته لذوي قرابته ممن لا يرثه فقد ختم عمله بمعصية) إلى غير ذلك من الروايات كما أن للورثة الولاية على الميت فأولاهم بميراثه أولاهم بأحكامه على ما ذكره الفقهاء في باب الأموات.

المسألة العاشرة: يجب قضاء حق الأقرباء والإخوان والزوجين الواجب ويستحب قضاء المستحب والمراد بالمستحب هنا هو الأداء، والمراد بالقضاء هنا هو الأداء كما في قوله سبحانه ((فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ)) وذلك للأدلة الدالة على حقوق الوالدين والأولاد وسائر الأقرباء كل على الآخر كما يجب قضاء حقوق الإنسان بما هو إنسان وإن كان كافراً حتى قال مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) أو نظير لك في الخلق وحق الحيوان أيضاً وحق الشجر وحق المال الجامد على ما ذكره الفقهاء في باب النفقات من النكاح .