المادة: فقه المجتمع
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 001.doc

تمهيد

موضوع البحث في فقه المجتمع ونتطرق إليه بقدر ما تسعه هذه المرحلة الدراسية بشكل موجز.

وقد قسمنا المنهج إلى مقدمة ومقاصد أما المقدمة فقد جعلناها للسن الشرعي الذي يصل إليه الإنسان فيكون مخاطباً بالتكاليف الشرعية ويتعين عليه الالتزام بالواجبات ويتجنب عن المحرمات فيكون مطيعاً فينال بها الثواب أو بالعكس بأن يترك الواجبات ويرتكب المحرمات فيكون عاصياً ويستحق العقاب مضافاً إلى سائر ما يترتب للإنسان أو عليه من الحقوق والواجبات والآداب والسنن وحيث أن ابتداء التكليف وتوجه الخطاب الإلهي إلى الإنسان يتوقف على بلوغ المراحل التكوينية من ناحية العقل والقدرة والبلوغ جعلنا هذا المبحث مقدمة لأصل المقاصد التي نتناول فيها فقه المجتمع.

و أما المقاصد فهي ثلاث نذكرها بشكل إجمالي أولاً ثم نتعرض إليها  بالتفصيل       

 1- المقصد الأول الأحكام الشخصية التي تتعلق بالإنسان في دائرته الخاصة ويصطلح عليها اليوم الأحوال الشخصية وفي هذا المقصد نتناول فصول أربعة إن شاء الله تعالى وهي كالتالي:

أ- الفصل الأول:

ونتناول فيه أحكام الزواج وتشكيل الأسرة وما يترتب عليها من حقوق ومن واجبات.

ب- الفصل الثاني:

في أحكام الأولاد

ج- الفصل الثالث:

في أحكام الطلاق

د- الفصل الرابع

في أحكام الإرث

2- المقصد الثاني

ونتناول فيه الأحكام الشخصية التي تتعلق بالإنسان في دائرته العامة وهو ما ربما يصطلح عليه اسم الأحوال المدنية في دائرتها الأخص، بمعنى أنه بعد توجه التكاليف الشرعية إلى الإنسان وابتداء الإنسان مسيرته الاجتماعية التي تبتدئ من الزواج وتشكيل الأسرة فأنه تتسع هذه الدائرة لتشمل الارحام والأقارب وتشمل الجيران أيضاً لذلك جعلنا هذا المقصد الثاني في فصلين:

الفصل الأول في أحكام الأرحام والأقارب والفصل الثاني في أحكام الجيرة والجيران وأما الفصل الثالث فهو في الأحكام التي تتعلق بالإنسان في دائرته الأعم وتشمل الأحكام السلوكية بمعنى أحكام السلوك الاجتماعي وهو ما يصطلح عليه بالأحوال المدنية بدائرتها الأعم لأنها تتسع وتشمل علاقات الإنسان في ما هو أوسع من الأقارب والأرحام والجيران بل وتشمل المجتمع وفي هذا المقصد سنبحث في فصلين.

  • الفصل الأول

نتناول فيه الواجبات الاجتماعية على الإنسان وفيه أربعة مباحث هامة هي العبادات الاجتماعية ومسائل الإصلاح الاجتماعي.

  • الفصل الثاني

نتناول فيه المحرمات الاجتماعية وفيه عشرة مباحث وهي ليست من باب الحصر وإنما من باب اختيار بعض الموارد الأهم ليكون البحث مستوعباً للفترة الزمنية التي خصصت لهذه الدراسة مضافاً إلى رعاية المرحلة الدراسية الأولى من الفقه هذا من حيث التقييم المبدئي للمنهج وتتفرع عليه تفريعات مهمة سنتطرق إليها من خلال المرحلة ونكون بإنهائها قد أنهينا المرحلة الدراسية الأولى أن شاء الله تعالى.

  • المقدمة

اتفقت الكلمة على اشتراط تعلق التكاليف الإلهية على العباد بأمور ثلاثة الأمر الأول هو العقل

 والأمر الثاني هو القدرة

والأمر الثالث هو البلوغ

فإذا كان الإنسان فاقداً للعقل لا يتوجه إليه الخطاب الشرعي كما أنه إذا كان فاقداً للقدرة فلا يكلفه الباري عز وجل وهو عاجز عن امتثال التكليف الشرعي .

 والبلوغ أيضاً وهو المرحلة التي يصل فيها الإنسان ذكراً وأنثى إلى النضج الجنسي الخاص على التفاصيل التي سنأتي إلى بيانها إن شاء الله فيما نشرحه ونبينه من معنى البلوغ وعلاماته وخصوصياته إذ الإنسان غير البالغ لا يجب عليه امتثال التكاليف الإلهية بمعنى أنه لا يجب عليه أن يعمل بالتكليف وإذا لم يعمل لا يعاقب على ذلك.

ومن هنا تسمى هذه الشرائط الثلاثة بالشرائط العامة للتكليف التي بتحققها عند الإنسان يصبح مكلفاً وينبغي عليه أن يقوم بالواجبات واجتناب المحرمات سواء في دائرته الشخصية أو في دائرته العامة وإلا فلا.

أما العقل فقد جعله الشارع من الشرائط العامة للتكليف لأنه يقبح على الحكيم أن يكلف غير العاقل بأحكامه وبشرائعه كـ المجنون مثلاًً أو غير كامل العقل كـ الصبي الصغير مثلاً لأن الحجة الشرعية الإلهية لا تتم إلا مع كمال العقل فإذا كان الإنسان فاقداً للعقل و كان عقله ناقصاً لا يستوعب الخطاب الشرعي لا تكون الحجة عليه تامة فيكون معذوراً ولذا جعل الشارع الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة مرتبطين بالعقل ففي رواية محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام

قال:( لما خلق الله العقل، استنطقه ثم قال له: أقبل فأقبل ثم قال له: أدبر فأدبر ثم قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحب إليّ منك ولا أكملتك إلا فيمن أحب ألا إني إياك أأمر وإياك أنهي وإياك أعاقب وإياك أثيب) وقد وردت عنه روايات مقاربة لهذا النص فضلاً عن الروايات الأخرى التي تعضد هذه المضمون ومن هذه الرواية الشريفة يستفاد أمور، الأمر الأول أن العقل وكما يبدو من الرواية الشريفة أن الله سبحانه وتعالى استنطقه ثم خاطبه أقبل فأقبل وخاطبه أدبر فأدبر بهذه القرينة يستفاد أن العقل موجود مادي له كيان بحيث يأتي إذا نودي بالإقبال ويذهب إذا نودي بالإدبار وهذا لا يصح إلاّ إذا كان العقل حقيقة تكوينية موجودة في هذا العالم تستوعب الخطاب وتدرك مفاده وتتكلم إذا خوطبت وأريد لها الكلام وتقبل وتدبر وما أشبه ذلك من خصوصيات يتميز بها الموجود المادي والعقل ليس مجرد كما يذهب إليه جمهور الحكماء نعم ذكروا تتجرد أدلة وأنه منسلخ من المادية وأنه ليس بمادي إلا أنها في الواقع على رأي جمع كبير من الفقهاء، بل استفادة من أمثال هذه الروايات الشريفة أن هذه الأدلة غير كافية وغير مقنعة ولعل مما يعضد هذا أيضاً أن القوة العقلية عند الإنسان هي التي تنظم كلامه وتنظم حركاته وتصرفاته فبناءً على هذا يقول: العقل موجوداً مادياً وكون مجرد خلاف الدليل

أما الأمر الثاني إن قوله سبحانه كما في الرواية وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحب إلي منك يعني أن المحبة الإلهية للعقل ليس المراد منها المحبة المادية التي تتحقق في الأجسام والجسمانيات بمعنى الحركة العاطفية الخاصة أو الشعور العاطفي الخاص وإنما هي من باب خذ الغايات واترك المبادئ كسائر الصفات الإلهية التي ظاهرها مادي كالغضب والرضى ومنها المحبة والغضب ومعنى خذ الغايات واترك المبادئ أن الله سبحانه وتعالى إذا أحب شيئاً ليس بمعنى أنه يحبه عاطفياً كما يحب الإنسان أخاه الإنسان أو تحب الأم ولدها وإنما هو من باب أنه تبارك وتعالى أظهرآثر الحب على ذلك الشيء فإذا أحب الله عبداً أظهر أثر الحب عليه بمعنى أعطاه الفضل وأعطاه الكمال والصحة والرزق وما أشبه ذلك كما ورد في الأخبار إذا أحب الله عبداً فقه في الدين) فالفقه يكون أثر الحب فحب الله سبحانه وتعالى للعقل بمعنى إظهار أثر المحبة عليه من إعطائه الفهم والإدراك والقدرة على التوازن وجعله حجة على الإنسان وجعله القائد له في كل توجهاته وحركاته وسكناته

الأمر الثالث

ربما يمكن أن يستفاد من قوله عز وجل كما في هذه الرواية الشريفة   )ولا أكملتك إلا فيمن أحب( إنه إشارة إلى تفاوت الناس في العقول كمالاً ونقصاً لأن العقل قابل للزيادة والنقيصة كسائر الملكات والناس يتفاوتون كمالاً ونقصاً بحسب تفاوت كمال العقل ونقصه فكمال العقل في الأنبياء والرسل والأئمة المعصومين عليهم الصلاة والسلام في الدرجات العالية وهم الذين أحبهم الله سبحانه وتعالى وقدمهم إليه وجعلهم حججاً على الخلق كما جعلهم القدوة والأسوة لهم ثم يأتي من بعدهم سائر مراتب الناس ومن الواضح أنه كلما وجد كمال العقل في إنسان ما يكون هذا الكمال كاشفاً انياً عن محبة الخالق عز وجل له لأن الرواية الشريفة الواردة تصرح بأن سبحانه يقول: )لا أكملتك إلا فيمن أحب ( بمعنى أن من أكمله الله سبحانه وتعالى أحبه ولأنه سبحانه أحبه أعطاه كمال العقل فيكون كمال العقل كاشفاً عن المحبة الإلهية لذلك الإنسان وهذه الكمالات تبتدأ من الأنبياء والرسل والأئمة عليهم السلام وتتنزل من بعدهم إلى سائر الناس حتى تصل آدني مراتبها في المجانين والأطفال ووجوب أو استحباب تأديب الأطفال وتربيتهم شرعاً حسب مراتب التأديب والتربية كاشف عن أن لهم حصة من العقل لذلك ورد في الشريعة إن المجنون إذا أرتكب بعض الأخطاء في بعض تصرفاته فإن للحاكم الشرعي أن يؤدبه والطفل إذا أرتكب بعض الأخطاء أو بعض الأعمال المشينة أو المخالفة للشريعة فللولي أن يؤدبه ويعاقبه على ذلك وهذا كاشف عن أن له حصة من العقل لان غير العاقل لا يحاسب فبناء على هذا قوله سبحانه )لا أكملتك إلا فيمن أحب ( يدل على أن المرتبة الأولى لمن يحب الله عز وجل هم الأنبياء والرسل ثم تصل سلسلة الكمالات المتنازلة حتى تصل المرتبة إلى الأطفال والمجانين وما أشبه ذلك هذا المعنى الأول وهو من باب بيان المصداق الكامل ويمكن أن يكون مفاد الرواية    )ولا أكملتك إلا فيمن أحب ( عموم الناس الذين أعطاهم الله سبحانه وتعالى كمال العقل فيحبهم فإذا احب الله عبداً جعل عقله كاملاً فيه حتى تكون تصرفاته خاضعة إلى الموازين العقلية والعقلائية ولا يبعد شمول إطلاقها على كلا المعنيين هذا وهناك رواية أخرى عن أبى الجارود عن أبي جعفر عليه السلام تؤكد ما ورد في هذا الرواية الشريفة  يقول الإمام عليه الصلاة والسلام (إنما يداق الله العباد في الحساب يوم القيامة على قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا) وهذه الرواية مروية في أصول الكافي وفي كتاب المحاسن أيضاً ولعل يداق مدغمة أي يدققه والمراد يشدد الحساب ويدقق فيه وتدقيق الحساب على العباد في يوم القيامة على قدر عقولهم في دار الدنيا وفي هذا الرواية دلالة واضحة وصريحة على أن العقاب مرهون بقدر العقل.

الرواية الثالثة رواية السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام ( قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله إذا بلغكم عن رجل حسن حال فانظروا في حسن عقله فإنما يجازى بعقله) وربما تقرأ فإنما يجازي بعقله ، فإنما يجازى بعقله بنحو صيغة المفعول بمعنى أن الله سبحانه وتعالى يجازي هذا الإنسان صاحب العقل على قدر عقله وربما تقرأ بنحو صيغة الفاعل بمعنى أن هذا الإنسان هو الذي يجازي بنفسه والآخرين على قدر عقله وهذه الرواية أيضاً مروية في المحاسن وفي أصول الكافي.

الرواية الرابعة في هذا المجال عن عبيد الله بن وليد الرصافي عن أبي جعفر

عليه السلام قال في حديث (أوحى الله إلى موسى عليه السلام أنا أأخذ عبادي على قدر ما أعطيتهم من العقل) وهي صريحة أيضاً في أن المؤاخذة للعباد على قدر العقل ومن هنا نستفيد بأن العقل من الشرائط العامة للخطابات الشرعية فإذا بلغ الإنسان كمال العقل يكون صالحاً ومستعداً وله قابلية واستعداد لتوجه التكليف الإلهي إليه

وأما الشرط الثاني وهو القدرة فهو أيضاً شرط عقلي بديهي في التكليف الشرعي لاستحالة التكليف بغير المقدور فإذا كان الإنسان غير قادر على امتثال التكليف يستحيل على الحكيم أن يوجه إليه خطاباً ويكلفه بالطاعة والامتثال بل أن العقلاء هكذا لا يصنعون فكيف بالشارع وهو سيد العقلاء إذ العاقل لا يقول لولده الصغير مثلاً والذي عمره سنتين مثلاً ارفع من الثقل ما يزن مثلاً (100) كيلو وهو عالم بأنه عاجز عن هذا كما لا يكلف الأستاذ تلاميذه بحل معضلات المسائل وهو عالم بعجزهم عنها واستحالتها عليهم فإذا كان العقلاء لا يخاطبون ولا يكلفون الناس في الأمور التي يعجزون عنها فإن الشارع الحكيم سيد العقلاء وواهب العقل ومودع موازينه أيضاً لا يكلف بغير المقدور ومن الواضح أن القدرة تتضمن الاختيار أيضاً كما هو مشروح ومبين في علم الكلام لأن المقدورية بمعنى القدرة على الطرفين أي القدرة على الفعل والقدرة على الترك أيضاً كما أن القادر إنما يكون قادراً إذا تمكن على الشيء في طرف الوجود وفي طرف العدم وإلا كان موجباً ومن هنا قلنا بأن القدرة من الشرائط العامة للتكليف وهي تتضمن الاختيار لأن الإنسان القادر هو المتمكن من اختيار الفعل أو اختيار الترك ومن هنا يظهر أن ما يفعله المكلف في صورة الاضطرار أو في صورة الإكراه أو في صورة الإجبار مرفوع عنه قلم التكليف أو قلم المؤاخذة على الخلاف الأصولي فان بعض الفقهاء والأصوليين ذهبوا إلى أن الإنسان المضطر أو المكره أو المجبر لا تكليف عليه وهناك قول آخر ذهب إليه بعض أخر من الفقهاء والأصوليين يقول بان المضطر والمكره والمجبر لا يؤاخذ ولا يعاقب على ما يفعله في حالة الاضطرار أو الإكراه أو الإجبار وهناك ثمار فقهية عديدة تترتب على هذا الخلاف لا مجال لتناوله بالبحث هنا على كل حال فإن في المسألة خلاف ومحل بحثها في الأصول ومن هنا نقول أن الشارع رفع عن المكلف المضطر إما التكليف أو رفع عنه العقوبة بواسطة الأدلة الامتنانية والتي منها قوله سبحانه وتعالى )فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه   (  حيث قيدت الآية الشريفة الأثم بصورة وقوع البغي والعدوان، والاضطرار إلى الفعل بلا هذين القيدين أي البغي والعدوان لاإثم فيه ورفع الإثم ظاهراً بعدم العصيان والعقوبة إلا أن عدم حساب المعصية هل ينشأ من جهة عدم توجه التكليف إليه بسبب رفع التكليف عنه فيكون رفع الإثم من باب السالبة بانتفاء الموضوع أو يكون   - أي فيما نحن فيه- بسبب رفع العقوبة امتناناً لا يختلف .

ومن الأدلة أيضاً قولهم عليهم السلام في حديث الرفع المشهور بين الفريقين وهو حديث نبوي أيضاً (رفع عن أمتي تسع ومنها ما استكرهوا عليه ومنها ما اضطروا إليه)

وأيضاً من الأدلة قولهم عليهم السلام (ما من شيء حرمه الله إلا أحله لمن أضطر إليه) وواضح أن دليل العقل يدل على هذا أيضاً فبناء على هذا أن الإنسان ما لم يصل إلى مرحلة القدرة على الامتثال لا يتوجه إليه تكليف سواء في أموره الشخصية أو في أموره الاجتماعية

وأما البلوغ الذي هو الخصوصية الثالثة التي يكون فيها الإنسان مخاطباً بالتكاليف الشرعية فيمكن أن يكون شرطاً عقلياً كالعقل والقدرة لأن العقل والقدرة من الشرائط العقلية. وذلك إذا لوحظ البلوغ كحالة تكوينية لها مدخلية تكوينية في كمال العقل وكمال القدرة لما له من مدخلية كبيرة في بلوغ الحجة وتمامها على الإنسان وذلك لأن البلوغ بمعنى النضج الجنسي الخاص كما بيناه سابقاً فإذا قلنا فإن للنضج الجنسي مدخلية خاصة في كمال العقل وكمال القدرة كانت له مدخلية أيضاً في بلوغ الحجة للإنسان وتمام الحجة عليه ومن الواضح أنه بهذه الصورة يمكن أن يكون البلوغ من ضمن الشرائط العقلية كالقدرة والعقل كما ويمكن أن يكون شرطاً شرعياً أيضاً إذا لوحظ أن البلوغ حالة جسدية يصل فيها الإنسان إلى النضج الجنسي فقط ولم تلحظ مدخليته في كمال العقل وكمال القدرة فإن العقل في هذه الحالة قد لا يحكم بأن الإنسان ينبغي أن يكون بالغاً حتى يشمله الخطاب الشرعي إذا كان النضج الجنسي لا مدخلية له في الخطاب الشرعي لأن العقل يلحظ الاستعداد ووجود المقتضي وانعدام المانع فإذا تحققا يحكم بامتثال توجه الخطاب إليه وإلاّ فلا وحيث أن النضج الجنسي الخاص لم يلحظ في هذه الصورة فأن العقل لا يحكم بلزومه.

 نعم يمكن أن شرط البلوغ شرعياً إذا أخذه الشارع بالاعتبار فبناءاً على هذا لا علاقة للبلوغ بالتكليف من ناحية العقل وإنما ينبغي أن يستفاد شرطيته من الدليل الشرعي فإذا دل الدليل على ذلك نأخذ به.

وتظهر الثمرة بين هذين الاحتمالين في الفتيان والفتيات الذين أدركوا عقلياً ولم يصلوا بعد إلى مرحلة البلوغ الجنسي لأن الإنسان قد يكون في أوائل فتوته وشبابه أي في سن 12 سنة للذكور مثلاً في 8 أو 7 سنوات للبنات ويكمل فيهم العقل وتكمل فيهم القدرة لكنهم لم يصلوا بعد إلى مرحلة البلوغ الجنسي والثمرة هنا تظهر فأنه بالنسبة لمثل هذه الأعمار على القول الأول يكونون غير مكلفين بينما على القول الثاني هم مكلفون لأن القول الأول لاحظ أن البلوغ الجنسي له مدخلية في كمال العقل والقدرة وتمامية الحجة ومن الواضح أنه ما لم يصل الإنسان لهذا النضج - وهو كمال العقل وكمال القدرة -  لم يصل الى مرحلة التكليف لكن بناء على الاحتمال الثاني الذي لا يرى للنضج الجنسي مدخلية في ذلك يقول أن ما دام العقل كاملاً والقدرة كاملة أمكن للشارع أن يوجه الخطاب الشرعي بالتكليف إليه وإن كان لم يكلفه بالفعل في هذه المرحلة وعليه يصبح عدم تكليف بالنسبة إليه من باب الإرفاق والتسهيل الشرعي وليس لعدم وجود القابلية والظاهر إمكان الجمع بين هذين الاحتمالين أيضاً بما يصح أن يكون قولاً ثالثاً وحاصله أن نقول أن مقتضى حكم العقل عدم مدخلية النضوج الجنسي وتوجه الخطاب الشرعي إلى الفتيان والفتيات ما داما قد كملا عقلياً وكانت لهم قدرة على امتثال الأحكام الشرعية وذلك لوجود المقتضي وانعدام المانع فان العقل لا يشترط في توجه التكليف إلى العباد أن يكونوا من الناحية الجسمانية قد وصلوا إلى مرتبة البلوغ الجنسي بل العقل يحكم فقط بلزوم وجود العقل لدرك الحجة وفهم الخطاب فهماً مستوعباً والقدرة لأنه مع عدم القدرة يعجز المكلف عن الامتثال فإذا عجز عن الامتثال لا يخاطبه الشارع الحكيم لأنه لا يكلف العاجز لأن تكليفه له مع علمه بالعجز يكون تكليفاً بغير المقدور والتكليف بغير المقدور قبيح على الشارع ،هذا إذا أراد منه الامتثال حقيقة وأما إذا كلفه ولم يرد منه الامتثال حقيقة فإنه أيضاً قبيح لأنه يستلزم لغوية الخطاب واللغو قبيح على الشارع الحكيم نعم إلاّ إذا أخذنا خطابه حينئذ على الامتحان ولكن مع ذلك يبقى اشكال التكليف بغير المقدور دافعاً لاحتمال الامتحان إذ أن الأمر الامتحاني هو الآخر لا يتوجه إلى العبد إلاّ إذا كان قادر عليه وأما في صورة العجز فيستحيل الخطاب إليه بهذ المعنى فتأمل .

إذن العقل لا يحكم بأن النضج الجنسي له مدخلية في توجه الخطاب الشرعي بل العقل يحكم بأنه مادام الاستعداد لدرك الحجة وامتثالها مقدوراً فأنه يحكم بأن الشارع يصح له أن يخاطب العبد ويكلفه لوجود المقتضي وانعدام المانع لكن حيث أن الناس يختلفون في مستويات العقول ويختلفون من حيث الرشد والكمال ويصعب جعل معيار شاخص لتميز هذا الرشد العقلي والنضج الخاص بما يوقع الناس بالعسر والحرج واختلال النظام من جهة التكاليف لأن بعض الناس يكملون عقلياً قبل غيرهم وبعضهم عندهم قصور من هذه الجهة فإذن إذا كان العقل والقدرة فقط وفقط هما الملاك لتوجه الخطاب الشرعي فيصبح تميز المكلف متعذراً شرعاً وعقلاً لاختلافه الشديد بين الناس وعدم قدرة الناس على تمييزه لذلك اشترط الشارع البلوغ الجسدي أيضاً ليكون البلوغ الجسدي معياراً واضحاً وشاخصاً يتميز فيه الإنسان المكلف من غير المكلف ومن الواضح أن البلوغ الجسدي يمكن تمييزه وتشخيصه بالعلامات التكوينية أو الدلائل الطبية الخاصة كما سنتعرض إليه إن شاء الله لأن الشارع قد جعل معايير عديدة لتميز الإنسان البالغ جنسياً من غيره سواء في الفتيات أو الفتيان والروايات التي جعلت البلوغ شرطاً عاماً للتكليف متظافرة منها

رواية حمدان قال:( سألت أبا جعفر عليه السلام قلت له متى يجب على الغلام أن يأخذ بالحدود التامة ؟ قال: إذا خرج عنه اليتم وأدرك )

والمقصود من الحدود هنا الحدود الإلهية يعني أعم من الحدود الاصطلاحية الخاصة بمعنى الحدود والتعزيرات وإنما الحدود الإلهية الكاملة لكل الاحكام أي متى يجب على الغلام تقام عليه ويأخذ بها،- يقام عليه الحد - وتجب عليه

كما أن اليتم هنا من باب المثال وإلا لا خصوصية لليتم 

لكنه حيث أن اليتيم غالباً يكون صغيراً ويكون غير بالغ هنا اخذ مثال للقضية من باب أظهر المصاديق وليس الحصر (قال إذا خرج عنه اليتم وأدرك قلت فلذلك حد يعرف به؟ ) يعني الخروج عن اليتم والادراك فقال: إذا احتلم أو بلغ 15 عشر سنة أو أشعر أو أنبت قبل ذلك أقيمت عليه الحدود التامة وأخذ بها وأخذت له) يعني أخذت له الحدود فيما إذا كانت له حقوق في ذمة الآخرين، وهنا نلاحظ هذه الرواية جعلت علامات أربعة للبلوغ والاحتلام أولاً والبلوغ السني ثانياً والإشعار ثالثاً والإنبات رابعاً

(قلت فالجارية متى يجب عليها الحدود التامة بها وتأخذ لها ؟، قال: إن الجارية ليست مثل الغلام إذا تزوجت ودخل بها ولها تسع سنين ذهب عنها اليتم ودفع إليها مالها وجاز أمرها في الشراء والبيع) هنا الجواز بمعنى النفوذ وجاز امرها أي نفذت معاملاتها بيعاً وشراءً وأقيمت عليها الحدود التامة وأخذ بها ولها بالحدود وقال( الغلام لا يجوز أمره في الشراء والبيع) أي لا ينفذ ولا يخرج من اليتم حتى يبلغ 15 عشر سنة أو يحتلم أو يشعر أو ينبت قبل ذلك ) وهذه الرواية مروية في فروع الكافي وهي صريحة في البلوغ الجسدي الخاص الذي جعله الشارع معياراً لتمييز المكلف من غير المكلف.

وأما الرواية الثانية فهي رواية طلحة بن زيد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (إن أولاد المسلمين موسومون عند الله شافع ومشّفع فإذا بلغوا 12 سنة كتبت لهم الحسنات فإذا بلغوا الحلم كتبت عليهم السيئات) موسومون هنا يعني أي معروفون بالعلامات والسمة: أي العلامة ولعل المراد هنا قبل وصول سن التمييز الذي هو 12 سنة بالنسبة  للأولاد ومن الواضح أن الطفل الصغير لا تكليف عليه فيكون بريئاً ومبرئاً من الذنوب والمعاصي ويكون عند الله في غيره شافعاً ويكون مشفعاً من عند الله سبحانه وتعالى فالشافع من جهة الفاعل والمشفع من جهة القابل فإذا بلغوا 12 سنة كتبت لهم الحسنات فإذا بلغوا الحلم كتبت عليهم السيئات وطبعاً في كتابة السيئات والحسنات بحث طويل لا يسعنا في هذا المجال التعرض إليه ولعل المراد منه هنا أنه عند الذكور السن الذي قبل 15 سنة تكتب له الحسنات أما من باب التفضل والتمنن الإلهي خصوصاً على مبنى من يرى أن غير البالغ لا يتوجه إليه الخطاب أو من باب إن إطلاقات الأدلة التي تقول (إنما الأعمال بالنيات) (ولكل امرئ ما نوى) تدل على أن الإنسان في أعمال الخير مستحق للثواب إذا نواها فضلاً عن النية المصحوبة بالعمل وعليه فأنه على هذا المعنى يكتب الحسنات لغير البالغين استحقاقاً من باب أنه نوى الخير وعمل به والرواية الشريفة تقول لكل امرئ ما نوى نعم في السيئات يرفع الشارع عنه قلم الكتابة لرفع العقوبة عنه تفضلاً والحاصل فانه قد يستفاد من الرواية أن كتابة الحسنات ان تكون من باب التفضل أو تكون من باب الاستحقاق وأما رفع العقوبة فيكون من باب التفضل وكيف كان فلعل هنا سؤال يرد في المقام :عن السبب الذي جعل الشارع لأجله بلوغ البنت قبل الولد؟

ولعل السبب يعود إلى اكتمال جسدها أسرع من الولد ولذلك تحيض بعض البنات وتحمل ولو في بعض البلاد أحياناً في سن ثمان سنوات إلى تسع سنوات وتصل أي سن البلوغ الكامل من الناحية الجسدية أسرع من الولد ولكن في بعض البلدان قد يتأخر هذا وقد تصل سن الحادية عشر وربما إلى الثانية عشرة ولم تكمل بنيتها مرحلة البلوغ ، لكن الشارع جعل سن التاسعة هي المرحلة العامة للبلوغ عند الفتيات والخمس عشر هي المرحلة العامة للبلوغ عند الفتيان من باب أن إهدار غير القابل لأجل القابل أولى عند العقلاء من إهدار القابل لأجل غير القابل فإذا  كان الفتيان و  الفتيات في بعض البلدان يبلغون أسرع فهم أولى من غيرهم بشمول الخطاب ولأجلهم  يشمل الخطاب غيرهم من الفتيان والفتيات الذين في البلدان الأخرى ويصلون مرحلة البلوغ متأخراً ، أي إنه إذ كان يدور أمر الشارع بين أن يجعل هذه المرحلة هي مرحلة للتكليف العام فيشمل غير القابل أيضاً وفيها يهدر طاقة غير القابل لأجل القابل أو يعمل العكس بأن يؤخر التكليف رعاية لغير القابل ويحرم القابل عن كمالات التكليف ومن الواضح أنه عند العقلاء الأول أولى من الثاني لأن إعطاء الكامل  ما يستحقه ولأجله يرفع من مستوى غير الكامل أفضل وأليق بشأن الحكيم من حرمان الكامل من استحقاقه لأجل وصول الناقص إلى كماله فتأمل.

هذا مضافاً الى أن الرجل مهيء للإدارة حيث أن الرجل، عقلاني بطبعه بخلاف المرأة فأنها بطبعها عاطفية ولذا يجب أن يتأخر تكليف الرجل حتى يكون استعداده للإدارة والتدبير أكثر وتكون القابلية فيه أقوى وأشد .

وطبعاً هناك جهة ثالثة في المقام والبعض هي ملاكاً في هذا المجال وهي أن المرأة بعد إكمال مراحل النضج الكامل تعود إلى الذبول والنقص الجسدي أسرع من الرجل حيث تظهر عليها علامات الترهل والذبول الجسدي أسرع من الرجل وذلك لطبيعة تكوينها ومسؤولياتها خصوصاً إذا تقدم بهما السن وذلك لأن بناء المرأة الجسدي المرتبط بالعاطفية وشؤون الحمل والرضاع و ما أشبه ذلك مما يلقي عليها مهاماً صعبة ومسؤولية كبيرة يجعلها تكبر أسرع من الرجل لذلك جعل الله سبحانه تكوينها أسرع كما جعل سنها الشرعي أسرع من بلوغ الرجل لتستمتع بالحياة الشخصية والاجتماعية مدة طويلة توازي مدة استمتاع الرجل بها فبينما نلاحظ أن المرأة تنتهي عندها مدة الحمل والولادة وما أشبه ذلك في سن الخمسين سنة في الغالب يبقى الرجل إلى سن السبعين مثلاً قادراً على الإنجاب.

وأما الرواية الثالثة فهي رواية يزيد الكناسي عن أبي جعفر عليه السلام قال(الجارية إذا بلغت تسع سنين ذهب عنها اليتم وزوجت وأقيمت عليها الحدود التامة لها وعليها) ومن الواضح أنه لا خصوصية هنا البنت هنا بل هي تشمل الولد أيضاً وإنما ذكرت البنت من باب المثال.

الرواية الأخرى هي رواية ابن ظبيان قال: (أُتي عمر بامرأة مجنونة قد زنت فأمر برجمها فقال: علي عليه السلام أما علمت أن القلم يرفع عن ثلاثة عن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ) والمقصود من القلم هو قلم التكليف أما لأنه يكتب التكليف في ذمة الإنسان أو لأنه يكتب طاعاته ومعاصيه في ذمة حسابه ليحاسب عليها في الآخرة، ومن الواضح أن هذه الرواية تشير إلى شرط العقل حيث صرح بأن المجنون غير مكلف حتى يفيق وشرط البلوغ حيث يقول أن الصبي غير مكلف حتى يصل إلى مرحلة الحلم وعليه فإن الإنسان إذا وصل إلى هذا السن الخاص بالمستوى الخاص عقلاً وقدرة وجسداً يكون لائقاً بتوجه الخطاب الشرعي إليه فيترتب عليه حقوق وواجبات من الناحية الإجتماعية يجب عليه مراعاتها على تفصيل سنأتي إليه إن شاء الله تعالى.

ـــــــــــــــ

الهامش

1-  الكافي: 1/10 ج1