المادة: فقه الدولة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon fekeh_dawla 09.doc

- المسألة السادسة: يجب على المجتمع الإسلامي تكوين التكتلات والمؤسسات لحفظ حقوقه وضمان التقدم والاستقرار حتى تصبح دولته دولة عصرية آمنة من التزعزع والانهيار والانهزام أمام الأعداء.

وفي الحديث الشريف: يد الله مع الجماعة فإن التكتل لأجل البناء والمنافسة في الخير وتقوية الإسلام وبلاده ليس من مصاديق التفرقة المضعفة بل التكتل الإيجابي من مصاديق القوة والإعداد والعزة فلا يقال بأن التكتلات مشمولة بقوله عز وجل: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) أو قوله عز وجل: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم)، وذلك لأن المراد بالتفرق المنهي عنه ما كان من عداء وبغضاء وتفاخر لا ما كان لأجل التنافس في الخير وتقديم الأفضل وإيجاد الحماس للتقدم فذلك محبوب بل وراجح لأنه من مصاديق الأسبقية إلى الخير وقد جرت عليه سيرة العقلاء وقامت عليه أنظمتهم وفي ذلك قال سبحانه وتعالى: (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون) وقال عز وجل: (سارعوا إلى مغفرة من ربكم) وقد كان التكتل منذ زمان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بين القبائل من ناحية وبين الأوس والخزرج كأكبر قبيلتين قديمتين في المدينة من ناحية ثانية وبين المهاجرين والأنصار من جهة ثالثة وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أقرها جميعاً حيث كان يجعل لكل قبيلة رئيساً ولواء ويستثمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المنافسات بينهم لأجل تقدم الإسلام وتقدم المجتمع الإسلامي نعم يجب أن تكون التكتلات إيجابية يجمعها الهدف المشترك وهو وحدة الوطن وتقدمه ورفاه الأمة ونيل حقوقها فهي تكتلات لأجل التعارف على ما صرح به القرآن لا للتناكر والصراع قال عز وجل: (إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا أن أكرمكم عند الله اتقاكم) ولا يخفى عليكم حيث أن الزمان الحاضر لا يمكن فيه التكتل القبلي لأن الثقافة والآلة الحديثة ونوعية الحياة وتطورها لا تنحصر في قبيلة دون قبيلة بل اتسعت لتشمل المهن والثقافات والآداب والأفكار والفنون ما أشبه ذلك.

فالكتلة أصبحت تحت وحدات عصرية فوحدة بالصنف كالمحامين والمعلمين والفلاحين وكتلة العمال إلى غير ذلك وكتل أخرى في الفكر وكتل أخرى في السياسة إلى غير ذلك فإذا انحشرت البلاد تحت كتلتين كبيرتين مثلاً لإبداء نشاطات السياسة تنقسم كل كتلة إلى فروع وكتل صغيرة لاحتواء مختلف نشاطات البناء والتقوية التقدم ولا بأس أن نتعلم من الحضارة المعاصرة أسباب قوتها لنأخذ بها وفي الحديث الشريف أعقل الناس من جمع عقل الناس إلى عقله وفي حديث آخر الحكمة ضالة المؤمن يأخذها أين وجدها وفي حديث آخر الحكمة كالجوهر يأخذ ولو من فم الكلب وقال مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام): الله الله ونظم أمركم.

ولا يخفى الفوائد الكبيرة التي تعود بها التكتلات لصالح الأمة فإن التكتلات الأرض الصالحة والمدرسة لتربية الأفراد فالفرد المثقف المجرب في هذه التكتلات هو الذي يصلح أن يقفز إلى الأمام لأجل إدارة البلاد حينئذ سواء في مجلس الوزراء أو في مجلس الأمة أو في المجلس البلدي أو في السفارات أو في الإدارات أو المؤسسات الحكومية أو الشعبية أو غير ذلك.

وفي الحقيقة فإن التكتلات والمؤسسات ليست إلا مدارس التجربة الحيوية لصقل المواهب وظهور الكفاءات وتبيين المعادن المختزنة في كل الناس فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الناس معادن كمعادن الذهب والفضة و من الواضح أن معدن الناس لا يظهر إلا بالاختبار والتجربة وخير ميدان للاختبار والتجربة هو التكتلات والمؤسسات ولا يخفى عليكم أيضاً يجب على الدولة أن تهيئ وتوفر الحريات والخدمات الكافية للمساعدة على روح المنافسة من باب مقدمة الواجب أو علو الإسلام ونفي السبيل كما يحرم التخلف عنه مع القدرة لأنه هضم للحقوق وتضييع للواجب وبخس للناس أشيائهم وعليه فإنه يجب على الدولة أن توفر لكل فرد ولكل كتلة كل أسباب حاجتها وتقدمها فكل من يريد مقراً لكتلته أعطي أرضاً أو بناية وتسهيلات وكل من يريد جريدة أو مطبعة أو مجلة أو دار إذاعة أو دار تلفزيون أو فضائية أو يريد فتح مدرسة أو نادي أو يريد بناء مسجد أو حسينية أو مكتبة أو غير ذلك يجب على الدولة أن توفر له وكذا الأمة كذلك يجب عليها أن تهيئ هذه الوسائل والأسباب لعلو الإسلام والمسلمين وفي مثل هذا الجو تظهر المواهب وتخدم الكل ويكون التنافس الحر في التقدم والتقديم ولا فرق في مثل هذه الصورة بين المؤسسات الخارجية عن بلاد الإسلام أو الداخلة ولذا كان من الضروري أن يكون من مهمة السفارات الإسلامية فتح الطريق أمام الإسلام لترويجه ونشره ودعوة الناس إليه بالكلمة الطيبة وفي هذا يقول السيد الشيرازي (رضوان الله عليه) في كتابه الحكم في الإسلام في الصفحة( 77 ) إذا تبدلت البلاد إلى المؤسسات وحرض الناس على أعمال طاقاتهم وتفجير إمكانياتهم وكانت كل أقسام الحريات متوفرة لهم قفز بلد الإسلام في أقل مدة ممكنة إلى أعلى مراتب الاجتماع الإنساني وظهر ثانياً مصداق الإسلام يعلو ولا يعلى عليه كما ظهر مصداق قوله سبحانه: (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنت الأعلون إن كنتم مؤمنين).

المسألة السادسة: الظاهر استحباب السعي من العالم الجامع للشرائط لنيل منصب الرئاسة في الدولة الإسلامية بقصد إقامة الأحكام إذا كان يرى نفسه أكفأ من غيره أو أراد نيل الثواب في ذلك كما قال سبحانه وتعالى: (فليتنافس المتنافسون) وأما لو توقف عليه إقامة العدل ودفع الجور وإحياء السنة وإماتة البدعة فيصبح من الواجبات إذا انحصر به واجباً عينياً ومع تعدد الغير يكون واجباً كفائياً إن قلت لكن السيرة تتنافى مع ما ذكرتم من وجوه:

- الوجه الأول إباء مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) عن تقلد الحكم بعد عثمان مع أن الأكثرية كانت منحصرة به.

- الوجه الثاني دعوة الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام) لأصحابه في التخلي عن بيعته إذ أحل لهم البيعة وقال لهم هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً وأنتم في حل من بيعتي فرخص لهم في مفارقته ولو كان التولي من الواجبات لما أجاز الإمام (عليه الصلاة والسلام) لأصحابه المفارقة عنه.

- الوجه الثالث عدم قبول الإمام الصادق (عليه السلام) للولاية حينما عرضها عليه أبو مسلم الخراساني ولو كان التولي من قبل الكفؤ من الواجبات لما رده الأئمة (عليهم الصلاة والسلام) والجواب أن كل ذلك كان للتزاحم بين الأهم والمهم أما إباء مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) عن تقلد الحكم بعد عثمان فقد كان لأجل إتمام الحجة على الذين يشقون العصا بعد البيعة كما أتم عليهم بذلك الحجة بعد ذلك وقد أشار (عليه السلام) إلى شيء من ذلك في خطبته الشقشقية حيث يقول فيها لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم لألفيت حبلها على غاربها مما يدل على وجوب القيام بالأمر مع الإمكان فإن كان واحداً وجب وإن كان متعدداً وجب على نحو الكفاية فإن في ذلك أسوة بالأنبياء والأئمة حيث طلبوا الحكم بالإضافة إلى أنه مقدمة إقامة الدين ونشر العلم وقطع دابر الظلمة وقد قال عز وجل أن أقيموا الدين إلى غير ذلك من الوجوه التي كانت أهم في نظر الإمام (عليه الصلاة والسلام) فرد الخلافة عنه وأما إظهار الإمام الحسين (عليه السلام) أن أصحابه في حل من بيعته فكان لأجل أنه أراد هدم صروح الأمويين ومن على شاكلتهم بسب المظلومية كما فعل ذلك بالفعل ولذا وقف إلى اليوم (عليه السلام) خطاً في قبال الحكام الجائرين وهذه الغاية لا تتأتى إلا بما يكون في غاية المظلومية ومراده (عليه السلام) بحل البيعة البيعة التي بايعوه فيها لا البيعة التي في أعناقهم من الله سبحانه حيث أنه إمام مفترض الطاعة كما أن إرساله الرسل إلى أهل البصرة وأهل الكوفة يستنجدهم لنصرته كان لأجل إتمام الحجة أيضاً ومزيداً في إظهار المظلومية كما يقال أنه استنجد فلم ينصره أحد ولا يخفى أنه لا تنافي المظلومية مع تلك الحروب المريرة التي خاضها هو (عليه السلام) وأصحابه وذلك لأن يعطي طلاب الحق درساً في الثبات وإيقاع أكبر الهزائم بأصحاب الباطل وإن علموا أن المصير هو الموت وربما أيضاً كان تخلي كان إحلال الإمام (عليه الصلاة والسلام) البيعة من أصحابه كان من باب الاختبار والامتحان وربما كان لأجل إظهار فضل أصحابه ومقاماتهم السامية في الوقوف إلى جانب الحق والدفاع عن إمام زمانهم (عليهم السلام) إذ لولا أن يرخصهم الإمام فهو لولا أن يثبتون مع ترخيص الإمام لعله لم يظهر منهم كامل الفضل والمقام إلى غير ذلك من الوجوه المحتملة في هذا الصدد ولا يسعنا المجال لبيانها.

وأما عدم قبول الإمام الصادق (عليه السلام) الرئاسة حيث عرضها عليه أبو مسلم الخراساني فلأنه كان أمامه خياران إما أن يقبل بالخلافة والرئاسة ويقع حينئذ آلة بيد أبي مسلم وأتباعه حيث أنه بحكم كونه ثائراً كان بيده القوة وكان معنى ذلك أن يكون الإمام ستاراً لهوى أبي مسلم وجماعته لا أن يكون السلطة والحكم بيد الإمام حتى يتصرف بما يراه صحيحاً في خدمة الإسلام والمسلمين وهذا الخيار لا مجال للإمام المعصوم من قبوله أو يقبل بالخيار الثاني وهو أن يقبل الحكم ويكون دكتاتوراً يزيح أبي مسلم بالقوة كما فعله المنصور حيث قتل أبا مسلم وهذا ليس من شأن المعصوم فعله لأنهم منزهون عن كل ذلك مضافاً إلى أنه يوجب تحطم معنويات الإمام وإخراجه عن كونه أسوة صالحة للمستقبل وللبشرية وكونه حجة على الناس وهذه من أسوأ المفاسد نعم قبل الإمام الرضا (عليه السلام) ولاية العهد ولكن لم يكن قبوله عن اختيار منه وإنما كان بالقوة لأنه كان يعلم كذب المأمون وإنما قبل أخيراً لا لخوفه من الموت من أجل تهديد المأمون بل لإرادته إسقاط شرعية حكم المأمون الذي كان يتستر بحب آل البيت وأنه يريد تقريبهم حيث أن ولي العهد إذا تولى المقام ولم يتدخل في أي شأن من شؤون الدولة كان ذلك وصمة عار على جبين الدولة ودلالة على عدم اعتراف ولي العهد بالشرعية وبذلك هدم الإمام أسس دولة المأمون إلى غير ذلك من الوجوه العقلية والعقلائية التي تجيب عن هذه الأسئلة فبناء على هذا ما ذكر من أن السيرة تتنافى مع وجوب التصدي هذه السيرة نشأت من العناوين الثانوية وليس من العنوان الأولي وإلا لو كان لو لم تكن هنالك مصالح أخرى أهم أو مفاسد تترتب فإن الأصل هو وجوب تصدي الأئمة (عليهم الصلاة والسلام) كما يجب تصدي الفقهاء الذين جمعوا الشرائط من الفقاهة والإدارة والعدالة وما أشبه ذلك تصدوا لإقامة الدولة.

وهنا سؤال آخر ربما يفرض نفسه حاصله أنه ألم يكن بإمكان الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) أن يجمعوا أصحابهم وينظموهم ويثوروا بثورة من الداخل الحكم ويأخذوا الحكم بمعنى أنهم يقبلوا بولاية العهد ويقبلوا بالرئاسة ثم يمهدوا الأجواء للانقلاب الداخلي على الحكام والجواب أنه كان بإمكانهم ذلك إلا أن ذلك كان يترتب عليه مفاسد كبيرة وعظيمة جداً:

الأول ما عرفته من أنه يوجب سقوط معنوياتهم وتصبح السلطة حتى عند أهل الدين تصبح هي الغاية ويمكن الوصول إليها بأي سبيل كان ولو خالف الشريعة أو خالف الأحكام الشرعية وهذا ما لا مجال للالتزام به مضافاً إلى أنه سيكون مبرراً لغير المعصوم أيضاً في ارتكاب مثل هذه الأعمال ومن الواضح أن الانقلابات الداخلية وما أشبه ذلك غالباً ما تسبب المفاسد الكبيرة والعظيمة كما تكون بدوافع شيطانية نعم العصمة عند الإمام المعصوم تعصمه من ذلك إلا أنه سيكون أسلوب الإمام قدوة وأسوة يقتدي به غير المعصوم فيرتكب المفاسد الأعظم مضافاً إلى ذلك إن انشغال الأئمة (عليهم الصلاة والسلام) إذا كان بتهيئة الظروف والأعوان بالانقلابات الداخلية كان يمنعهم من توفر الفرصة الكافية لتقوية الدين فكرياً وعقيدياً وتثقيف الأمة وتوعيتها بالثقافة الفقهية الإسلامية وذلك لأن لوازم الحكم من الحرب والسلم وتقسيم المال والإدارة وغيرها لا يدع لهم مجالاً لتثقيف الأمة وتعليمها ولذا أن الرسول والإمام (عليهم السلام) حيث كانا مشغولين بذلك لم يتمكنا من نشر الأحكام بالقدر الكافي ولم ينشر من آثارهما الفقهية إلا القليل مع أن وضع القانون من أهم الأمور فبناء على هذا حيث أن مصلحة تقوية الدين ونشره وتثقيف الأمة وتوعيتها كانت أهم انشغلوا إلى الأهم وتركوا المهم.

الثاني انشغالهم (عليهم السلام) بالانقلاب الداخلي كان يسبب غزو الثقافات الغريبة على الإسلام في بلاد المسلمين فإن توسعة البلاد الإسلامية ودخول الثقافات الأصولية الغربية والشرقية كفلسفة الرومان والفرس إلى أذهان المسلمين كان من أخطر ما يكون على مباني الإسلام وعقائده الصحيحة القويمة والتي هي سبب سعادة البشر وهذا كان بحاجة إلى أكبر قدر من العمل والجهد والتثقيف لتقوية مباني الإسلام وهذا ما لا يمكن لأحد القيام به سوى الإمام المعصوم وكيف كان فإن هذا الانشغال كان لا بد من أحد أمرين إما أن يتصدى الإمام (عليه السلام) للحكم ويقوم بذلك ولو بواسطة الانقلابات الداخلية وإما ينشغل الإمام ببيان أسس الإسلام وتركيز العقيدة وحيث أن الثاني أرجح لامتداد ذلك على طول الأجيال فاختار الله عز وجل للأئمة (عليهم السلام) أن يقوموا بهذا الدور ويتركوا الحكم لمصلحة أهم.

الثالث لا إشكال في أن توليهم (عليهم السلام) للحكم من الملاكات المهمة جداً كما أن القيام بالتوعية والتربية أيضاً من الملاكات المهمة جداً ولكن لم يكن بالمقدور قيام الأئمة (عليهم السلام) بكلا الدورين مباشرة وإنما كان بإمكانهم القيام بأحدهما مباشرة والثاني بالواسطة فاختاروا (عليهم السلام) التربية والتوعية بالمباشرة وقاموا بالثاني بالوسائط لعدم قدرة الوسائط المتوفرة على القيام بالدور الأول وعليه فإنهم (عليهم السلام) في نفس الوقت الذي كانوا يشرحون القوانين الإسلامية في أسسها الفقهية كانوا يهيئون مقدمات إسعاد البشر إلى الأبد كانوا يعملون الأعمال السياسية بواسطة أولادهم وتلاميذهم ولذا قامت الثورات الشيعية في طول البلاد وعرضها ابتداءً من ثورة المختار ثم ثورة طباطبا ووصولهم للحكم في العراق قبل سنة المائتين من الهجرة ثم الداعي الكبير في إيران وقبله الأدارسة في المغرب إلى غيرها من الثورات التي وصلت إلى الحكم مع غض النظر عن غيرها التي لم تصل كثورة زيد وعيسى ويحيى وغيرهم وبذلك يكون الأئمة (عليهم الصلاة والسلام) قد جمعوا بين السياسية وبين التثقيف الفكري وبين إرساء دعائم الأصول الإسلامية التي هي من أهم أسباب سعادة البشر وإنقاذهم من الخرافة وإذا كانوا يأخذوا الأئمة (عليهم السلام) بزمام الحكم فاتهم الأمران الأولان ولهذه الأمور تفاصيل تاريخية وشواهد كثيرة لسنا بصددها الآن والحاصل إذاً المستحب للإنسان الذي يجمع الشرائط السعي لنيل الرئاسة إذا رأى نفسه أكفأ أو أراد الثواب والأجر في ذلك أما إذا رأى توقف تطبيق الإسلام على رئاسته فذلك من أوجب الواجبات عليه وقد قامت الأدلة الأربعة على كلا الأمرين ولعل من باب الإشارة نذكر هذه الرواية التي رويت في تحف العقول عن مولانا الحسين بن علي (عليه السلام) يرويها عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: اعتبروا أيها لناس بما وعظ الله به أولياؤه إلى أن قال وأنتم أعظم الناس مصيبة لما غلبتم عليه من منازل العلماء لو كنتم تسعون ذلك بأن مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه فأنتم المسلوبون تلك المنزلة وما سلبتم ذلك إلا بتفرقكم عن الحق واختلافكم في السنة بعد البينة الواضحة ولو صبرتم على الأداء وتحملتم المؤونة في ذات الله كانت أمور الله عليكم ترد وعنكم تصدر واليكم ترجع إلى آخر الخبر.

ولعل مما يؤيد ذلك ما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال ما منا إلا مقتول أو مسموم والحديث وإن فسر بالنبي وابنته الزهراء والأئمة الطاهرين (عليهم الصلاة والسلام) إلا أن السؤال هنا في أنه كيف كان نصيب حجج الباري عز وجل هو القتل والسم والشهادة في سبيل الله وهم خيرة أهل الأرض والجواب الوحيد هنا هو أنهم كانوا يزاولون الأعمال السياسية بكل شجاعة وصمود في قبال الظالمين ويتصدون لرفع الجور والظلم ولبسط العدل فكانوا يتعرضون للقتل والسم من قبل الظالمين نتيجة ذلك من هنا أيضاً جاءت سيرة العلماء الأبرار قديماً وحديثاً عن الاقتداء بسنتهم والاهتداء بهديهم فإنهم أيضاً عبر التاريخ الطويل يتعرضون لمثل ذلك بالقتل أو السم لأن العلماء لم يفتئوا يمارسون الأعمال السياسية في كل الأبعاد بوجه الظالمين والمستبدين ولعل من باب تأكيد هذه السيرة وبيانها بشكل موثوق به على ما ورد في التاريخ من المناسب أن نذكر بعضاً منهم ممن زاول السياسة الإسلامية وتصدى لإقامة العدل ودفع الظلم من هؤلاء العلماء جد الشريف الرضي الحسن بن علي الملقب بالأطروش والناصر الكبير الجد الأمي للشريف الرضي جامع نهج البلاغة حيث خرج على الظلم والظالمين في بلاد الديلم أيام المقتدر العباسي وحكم مدة 13 سنة واستشهد عام(304 )هــ في بلدة آمول من أعمال طبرستان القديمة وله من العمر 79 سنة وله قبر ومزار معروف هناك عليه قبة جميلة.

ومنهم بديع الزمان الهمذاني أحمد بن الحسين بن يحيى الكاتب الشيعي الشهير والأديب والخطيب والشاعر الطائر الصيت اتصل بالصاحب ابن عباد وكان صريحاً في الحق متكلماً منطقياً فيه استشهد بالسم عام (397)هـ ومنهم الأزدي الأندلسي محمد بن هاني الأزدي المعروف بمتنبي الغرب باعتباره من الأندلس الواقعة غرب البلاد الإسلامية آنذاك كان من المجاهدين بالحق والمزاورين للسياسة في عصره وقد عده ابن شهراشوب من المجاهرين بالتشيع ولد في عام (326)هـ في الأندلس واستشهد بها قتلاً أو خنقاً على خلاف بين المؤرخين في كيفية شهادته في عام (362 )هـ وعمره يوم ذاك 36 سنة ومنهم أبو فراس الحمداني العالم والشاعر المعروف الذي نقل عن الصاحب ابن عباد أنه قال في حقه بدأ الشعر بملك وختم بملك يعني امرؤ القيس وأبا فراس ونقل أن المتنبي كان لا ينبري بمبارزته إكباراً له وقد مارس السياسة وخاض غمارها وعمر البلاد والعباد وقد حارب الروم عدة مرات وأسروه مرتين وقتل شهيداً في سبيل الله في المرة الثانية في عام (358)هـ ومنهم ابن الفرات أبو الحسن علي ابن الفرات إذ كان من كتاب الشيعة في القرن الرابع الهجري من عائلة معروفة بالنبل والفضل والكرم تولى الوزارة في أيام المقتدر العباسي عدة مرات ونقل أن أيامه كانت مواسم للناس قبض عليه وقتل في أيام الغيبة الصغرى سنة (312)هـ ومنهم أبو الحسن التهامي علي بن محمد العاملي الشامي كان من العلماء والشعراء والأدباء في مفتتح القرن الخامس الهجري كان يمارس السياسة الشرعية في أيام بني العباس فطورد واختفى وجعل يجوب البلاد والقرى متنكراً فراراً عن ظلم حكم بني العباس حتى دخل مصر فظفروا به وعرفوه فاعتقلوه وأودعوه في السجن وعذبوه كثيراً وشديداً ثم قتل في السجن سراً ولعله قضى نحبه تحت التعذيب وذلك في عام (416)هـ ومنهم أبو القاسم القزويني الشيخ عبد الكريم القزويني كان من علماء الفقه والأصول والحديث في القرن الخامس الهجري من الطائفة المعروفة بالكردية كان منطقياً يقول الحق ويصمد فيه ويتدخل في سياسة العباد والبلاد ويناقش الملحدين ويفهمهم حتى قتلته الملاحدة في سنة(498)هـ ومنهم الحسن بن مفضل ابن سهلان كان من كتاب الشيعة وعلماءها وساستها مارس السياسة وتولى الوزارة لسلطان الدولة الديلمي وقتل في سبيل الله وهو الذي بنى سوراً لحائر الحسين (عليه السلام) في كربلاء ومنهم الطغرائي الحسين بن علي من أحفاد أبي الأسود الدؤلي كان عالماً فاضلاً وشاعراً مجيداً ولاميته مشهورة ومعروفة كان يزاول السياسة ويروج لأهل البيت (عليهم السلام) في خطبه وأشعاره ومواقفه وكان صامداً تولى الوزارة مدةً ثم لصمود مواقفه قتل ظلماً في عام 500 وبضعة عشر وقد بلغ 75 من عمره أو تجاوزها ومنهم أبو القاسم ابن الفضل السيد أبو القاسم يحيى ابن الفضل شرف الدين ينتهي نسبه إلى الإمام زين العابدين (عليه الصلاة والسلام) وكان من أفاضل العلماء وله ممارسة عميقة في سياسة البلاد فقد كان نقيب الطالبيين في العراق عارضه الملك خوارزنشاه تكش وقتله بالسيف عام 558هـ ومنهم الشهيد الأول محمد بن المكي العاملي الذي لا تزال كتبه وفتاواه وآرائه مدار الحوزات العلمية الإسلامية في الفقه والأصول والحديث وغيرها جاهد في الله حق الجهاد حتى استبيح دمه فقتل ثم صلب ثم احرق بالنار في رحبة قلعة دمشق عام 786هـ وله من العمر 52 سنة ومنهم الشهيد الثاني زين الدين العاملي ثاني الشهيد الأول في كل المكرمات في الشهادة والعلم والفضيلة وكذلك في أن كتبه وفتاواه وآرائه مدار البحث والنقاش في الحوزات العلمية الإسلامية في الفقه والأصولين والحديث وغيرها كان مجاهداً في سبيل الله حتى ضاق عنه حكام لبنان وحكام الروم وبحثوا عنه تحت كل حجر ومدر وأخذوه في أيام الحج فقتل على ساحل البحر في قصة طويلة وأهدي رأسه إلى ملك الروم وترك جسده الشريف على الأرض وكان بتلك الأرض جمع من التركمان فرأوا في تلك الليلة أنواراً تنزل من السماء وتصعد فدفنوه هناك وبنوا عليه قبة ومنهم المحقق الكركي نور الدين علي بن حسين بن عبد العال العاملي المعروف بالمحقق الثاني كان في عهد الملك طهماسد الصفوي وتولى شؤون سياسة البلاد وإدارة العباد وكان أمر المحقق الكركي نافذاً على الناس فوق أمر الملك وكان الملك يعتبر من عماله وولاته دس إليه السم غيلة فمات على أثره في عام 945 هـ ومنهم السيد القاضي نور الله التستري مؤلف الموسوعة الضخمة المسماة بإحقاق الحق وعشرات المؤلفات الأخرى المذكورة في كتب التاريخ تولى القضاء في الهند في العهد الصفوي وكان مجاهداً صامداً حتى قتل في سبيل الله شهيداً في عام 1019 وكيفيته أنه جرد من ثيابه وضرب بالسياط الحديدية الشائكة حتى تقطعت أعضائه واختلط لحمه بدمه.

هذا وهناك طائفة أخرى من العلماء لا يسعنا المجال لذكرهم وقد ذكر العلامة الأميني في كتابه شهداء الفضيلة الكثير الكثير ممن تعرضوا إلى القتل والسجن والتعذيب في سبيل إقامة الدين وإصلاح الأمة وتولي إقامة الحكومة والدولة وأما من العلماء المتأخرين والمعاصرين نذكر منهم السيد محمد المجاهد حيث تحرك من العراق إلى إيران لمحاربة الروم الطاغية التي أرادت أن تهدم الإسلام وتستعمر ديار المسلمين ولهذا لقب بالمجاهد ومنهم السيد محمد حسن الشيرازي المجدد الكبير حيث حارب الإنكليز حينما أرادت الدخول في إيران باسم تجارة التبغ المعروفة فحرم استعمال التبغ وكان في ذلك أكبر قسمة في ظهر بريطانيا في ذلك الوقت ومنهم الشيخ محمد تقي الشيرازي الذي أعلن وجوب مطاردة الاستعمار حينما أراد الدخول في العراق سنة 1337 فوقف بوجه الإنكليز ودافع عن الإسلام وأبناء الإسلام في ثورته الشهيرة المعروفة بثورة العشرين في عام 1920 ومنهم العلماء الأعلام في كربلاء المقدسة والنجف الأشرف بعد ثورة العشرين بقليل حيث ثاروا ضد البرلمان الغربي الذي أرادوا تطبيقه في العراق آنذاك وكان هذا هو السبب في تسفير جماعة من العلماء من العراق من أمثال المرجع الديني السيد أبو الحسن الأصفهاني والمرجع الديني الميرزا حسين النائيني والمرجع الديني السيد ميرزا علي الشهرستاني والعلامة الحجة السيد محمد علي الطباطبائي وغيرهم وغيرهم ومنهم المرجع الديني السيد حسين القمي حيث أخرج من إيران إلى العراق بعدما أدى استنكاره للكفر والاستعمار ضد رضا خان الفهلوي إلى تهديد الحكومة الفهلوية كما ارتحل مرة ثانية من العراق إلى إيران ليطالب السلطة عندما ترأسها محمد رضا فهلوي برفض الضلال فأخذ مطالبه ورجع إلى العراق وكان هناك القياماني منه مجازفة بنفسه وبمن معه ومنهم المرجع الديني السيد عبد الحسين شرف الدين الذي حارب فرنسا وأفتى ضدها حتى طرد من لبنان إلى مصر وكاد أن يقتل وأحرقت داره ومكتبته التي كانت تضم نفائس الكتب وقسماً من تآليفه التي كانت مخطوطة ولا تزال المكتبة الإسلامية محرومة ومنها المرجع الديني أبا الحسين البروجردي حيث قاوم الظلم في إيران مرتين في أيام رضا خان الفهلوي حتى أشرف على القتل ومنهم مراجع التقليد في العراق أيام المد الشيوعي في زمان عبد الكريم قاسم كالسيد الحكيم والسيد الشيرازي حيث قاوموا وحاربوا الكفر والإلحاد والضلال حتى قتل بعضهم وسحل آخرون وسجن وسفر جمع كثير منهم إلى غير ذلك من سيرة العلماء الشهداء الذين تصدوا للظلم وأرادوا تطبيق الإسلام وإقامة الدولة الإسلامية العادلة وما ذكرناه طائفة قليلة قليلة جداً من الذين استشهدوا في سبيل الله نتيجة مزاولتهم للأمور السياسية وتدخلهم في شؤون الدول والملوك وتصديهم لإقامة الحكومة الإسلامية العادلة والدولة البارة ولولا أنهم يرون أن ذلك كان من الواجبات اقتداءً بسيرة الأئمة (عليهم الصلاة السلام) لا ما تصدوا لذلك ولا ما تعرضوا لذلك كله ولاقوا في سبيله كل تعذيب وكل أذى وتسفير وتهجير ونحو ذلك والحاصل إذاً من مجموع ما تقدم أن التصدي لإقامة الدولة الإسلامية يعد من الضرورات بل يعد من الواجبات التي ينبغي التصدي إليها وتهيئة الوسائل لذلك والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.