المادة: فقه الدولة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon fekeh_dawla 07.doc

- الفصل الخامس: في ضرورة التصدي لإقامة الدولة الشرعية العادلة

 وقبل الدخول في صلب الموضوع نمهد تمهيداً، تحصل مما تقدم من المباحث السابقة وجوب العمل على قيام الحكومة الشرعية في المجتمع البشري بالمعنى الجامع بين السلطة التشريعية التي تملك حق التشريع والتقنين في إطار الأدلة الأربعة في الإسلام والسلطة التنفيذية التي لها حق تنفيذ الأحكام والمقررات والسلطة القضائية التي لها حق القضاء رعاية للحقوق والواجبات وفصل الخصومات بين الناس ومن المعلوم أن إعمال الحاكمية في المجتمع لا ينفك عن التصرف في النفوس والأموال وتنظيم الحريات ونحو ذلك من غير فرق بين أن تكون الحكومة فردية أو تكون الحكومة اجتماعية لكن التسلط على الأموال والنفوس وإيجاد أي محدودية مشروعة بين الأمة يحتاج إلى ولاية بالنسبة إلى المسلط عليهم ولولا ذلك لعدّ التصرف تصرفاً حراماً لكونه عدوانياً أو لكونه تصرفاً في شؤون الغير من دون إذن منه ولا نعني بالولاية هنا الولاية المحدودة كولاية الولي بالنسبة إلى الأيتام والقصر والغيب والشؤون الحسبية بل المقصود هو الولاية التي يحق معها أن يتصرف الولي في شؤون المجتمع نفوساً وأموالاً وينظم أمورهم ويعمر بلادهم ويؤمن مجتمعهم بالسلطات الثلاث وما يتفرع عنها من آليات ومؤسسات ولولا ذلك لصار النظام حاكماً بغير ما أنزل الله عز وجل وهذا الحكم الذي يحكم بغير ما أنزل الله حرام توليه وحرام تصرفه وحرام التعاون معه ومن هنا وجب على المكلفين معرفة من له الولاية أصالة على العباد والبلاد والذي منه تتفرع باقي الولايات والسلطات وبما أن جميع الناس سواسية أمام الله عز وجل والكل مخلوق ومحتاج إليه لا يملك شيئاً حتى وجوده وفعله وفكره إذ لا ولاية لأحد على أحد بالذات والأصالة من ناحية المخلوقية بل الولاية لله الخالق المالك الحقيقي للإنسان والكون والواهب له وجوده وحياته كما قال تبارك وتعالى: (هنالك الولاية لله الحق هو خير ثواب وخير عقبا) وقد ظهر من هذا البيان أن المقصود من حصر الحاكمية في الله عز وجل هو حصر أصالة الحاكمية وجذورها وعللها المستتبعة لها وهي الولاية. فبما أن الولاية على العباد منحصرة في خالقهم فالحاكمية بمعنى الولاية والتصرف منحصرة فيه سبحانه أيضاً إذاً لا يجوز لأحد أن يتولى الحكومة إلا أن يكون مأذوناً ممن له الولاية الحقيقية وإلا كانت حكومته حكومة جور وعدوان ومتولية لمقام لا يرضاه الله عز وجل لها ولا نعني من عنوان انحصار حق الحاكمية في الله حصر الإمرة في الله بمعنى أن يتولى الباري عز وجل الإمرة على العباد والتسلط عليهم تسلطاً حكومياً كما سيتضح ذلك وإنما المقصود هو الولاية بالواسطة فإن للأنبياء والصلحاء وكل مأذون من قبله سبحانه وتعالى أن يتولى الحكومة من جانب الله عز وجل بل المراد أن الولاية وحق الحكومة بالأصالة حق لله وإنما يتصدى غيره بإذنه عز وجل أو بأمره لإقامة الدين وبسط العدل وإرساء الأمن وحفظ النواميس والحقوق والأعراض وتطبيق الأحكام الشرعية ونحو ذلك.

وعلى هذا فالحاكمية خاصة بالله عز وجل ومنحصرة فيه بالأصالة وهي من إحدى مراتب التوحيد كما أشار القرآن إلى ذلك بصيغة الاستثناء الدال على الحصر في قوله سبحانه: (إن الحكم إلا لله أمر أن لا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) والمراد من الحكم في المعنى العام إن الحكم هو الحاكمية القانونية كما لا يخفى وهي تنبعث من الولاية الحقيقية التي تنشأ من خالقيته ومالكيته عز وجل لا الحاكمية التكوينية بمعنى التصرف في الكون بالإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة ونحوها من شؤون وتصرفات تكوينية على ما ستعرفه في المبحث القادم إن شاء الله.

نعم لا داعي لأن نحصر لفظة الحكم التي لها معنى واسع في خصوص القضاء أو في خصوص التشريع والتقنين بل الحكم في هذه الآية كما هو الظاهر من الإطلاق ذات مدلول أوسع يشمل القضاء ويكون من إحدى شؤونه ولا يكون ذلك المطلق في الجامع منه إلا السلطة والإمرة والحاكمية بمفهومها الواسع الذي يشمل السلطات الثلاث لكل دولة وحكومة ولا يخفى أن اختصاص حق الحاكمية بالله عز وجل ليس بمعنى قيامه بإدارة البلاد وإقرار النظام وممارسة الإمرة وفصل الخصومة إلى غير ذلك مما يدور عليه أمر الحكومة فإن ذلك غير معقول ولا محتمل بل المراد أن من يمثل مقام الإمرة في المجتمع البشري يجب أن يكون مأذوناً من جانبه عز وجل لإدارة الأمور والتصرف في النفوس والأموال وأن تكون ولايته مستمدة من ولايته سبحانه ومنبثقة منها لأن ما بالعرض ينبغي أن يرجع إلى ما بالذات ولولا ذلك لما كانت لتنفيذ حكمه جهة ولا دليل بل يكون الدليل على خلافه لكونه حكماً بغير ما أنزل الله عز وجل وكيف كان فإنه لا مناص في إعمال الولاية لله سبحانه من تنصيب من يباشر إدارة البلاد إذ تستحيل ممارسة الحكم لله بصورة مباشرة كما حقق في علم الكلام ولأجل ذلك نجد أمة كبيرة من جنس البشر ومنهم أنبياء وأولياء وعلماء وصلحاء تولوا منصب الولاية من جانبه سبحانه وإذنه الخاص أو العام يديرون شؤون الحياة الاجتماعية للإنسان وفي ذلك يخاطب الله عز وجل نبيه داود قائلاً: (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله) ومن الواضح أن الخلافة في الأرض أوسع مفهوماً ودلالة من الحكومة لأن الخليفة ينبغي أن يكون كاشفاً ودالاً ومتبعاً لكل ما أراده من استخلفه لا في الحاكم أو السلطان كيف كان فإن الآية الشريفة وإن كانت واردة في تنصيب داود على القضاء إلا أن المورد فيه خصوص و المورد لا يخصص الوارد على ما حقق في الأصول ومن الواضح أيضاً أن نفوذ قضاء داود في زمانه كان ناشئاً عن ولايته وحاكميته الواسعة التي تشمل الحكم والإمرة بحيث يكون نفوذ القضاء من لوازمها وفروعها فهو عز وجل لم ينصبه للقضاء فحسب بل أعطى له الحكومة الواسعة بأبعادها بل جعله خليفته في الأرض وأمره بالحكم بين الناس وعليه فإن داود (عليه السلام) نال منصب الحكومة الواسعة بأبعادها لأن نفوذ حكم القضاء غير ممكن من دون أن تكون له سلطة وحاكمية ولم يكن القضاء في تلكم الأعصار منفصلاً عن سائر شؤون الحكومة كما هو الرائج في عصرنا وقد كان داود (عليه السلام) يتمتع بسلطة تامة واسعة تشمل التنفيذية والتشريعية والقضائية حيث يقول سبحانه وتعالى: (وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء) ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفتنت الأرض فتحصل من ذلك أن استخلاف الله لداود بمعنى إعطاءه حق الحاكمية على الناس بمعناها الواسع الشامل لكل شؤون الحكم وبذلك يتضح الفرق بين قولنا بحصر الحاكمية في الله عز وجل وبين ما كان يردده الخوارج شعاراً ضد مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) عن شبهة حصلت لهم أو عن عمد ولو عند بعضهم حيث كانوا يقولون لا حكم إلا لله لا لك ولا لأصحابك وهؤلاء كانوا يريدون نفي أية حكومة في الأرض بتاتاً لا من جانب الله ولا من جانب الناس وبذلك هبوا في وجه حكومة مولانا أمير المؤمنين ولذا قال لهم كلمة حق يراد بها باطل نعم لا حكم إلا لله ولكن هؤلاء يقولون لا إمرة إلا لله وهذا أمر ممتنع كما هو واضح حيث أرادوا منه المباشرة لا الواسطة بمعنى أنهم ينفون أن يكون في الأرض أمير على الناس من جانب الله سبحانه والحاصل مما تقدم أمران:

 

- أحدهما: أن الحكومة ضرورة يتوقف نظام الحياة عليها وبما أنها تلازم التصرف في الأموال والأنفس وتلازم تحديد الحريات لذلك لا بد وأن تكون ناشئة من ولاية حقيقية واقعية تملك حق التصرف في شؤون الناس وتحدد من سلطاتهم على أنفسهم أو حرياتهم وقد ثبت أنها لا توجد أولاً وبالذات إلا في الله سبحانه عز وجل.

- ثانيهما: أنه لما كان يمتنع عليه سبحانه أن يباشر هذه الحكومة فلا بد أن يتصدى لها من ينصبه الله تعالى لذلك مباشرة أو بواسطة , فرداً كان أو جماعة وهذا ما ينبغي بحثه ومعالجته في البحوث الآتية إن شاء الله.

هذا ما يتعلق في المقدمة وأما ذو المقدمة فإنه يجب إقامة الدولة الإسلامية الشرعية وجوباً عينياً ضرورياً ويدل على ذلك جملة من الأدلة:

- الدليل الأول: أنه من باب الأسوة الواجبة إذ اللازم العمل طبق أعمال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيرته قال سبحانه: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخرة) والآية تدل على وجوب التأسي والاقتداء لكونها في مقام الإنشاء إلى غير ذلك من أدلة وجوب الأسوة كما حقق في الأصول وقد قال مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام): فليتأسى متأس بنبيه وإلا فلا يأمنن الهلكة والرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) قد عمل من أجل الدولة وأرسى الحكم في المدينة المنورة بعد أن جاهد في مكة طيلة ثلاث عشرة سنة بتربية الرجال الذين يمكن الاعتماد عليهم في إقامة شؤون الدولة وإرساء نظام الحكم فقد كون الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة المنورة الجيش وجلب المال وجعل موازين القضاء وبين القوانين المرتبطة بإدارة البلاد وبعث السفراء والرسل أي أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) جعل السلطات الثلاث وإن لم تكن منفصلة عن بعضها لضمانة العصمة أما في غير وجود العصمة فإنه ينبغي فصل السلطات على ما ستعرفه.

وكيف كان فحيث أن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) عمل من أجل الدولة وأقامها ومارس التصرفات في شؤون الحكم فإنه يجب الاقتداء والتأسي به في ذلك.

- الدليل الثاني: النصوص الخاصة في التعيين حيث عين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من بعده خلفاءه بالناس بأسمائهم تارة وبالإجمال أخرى كقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): الخلفاء بعدي اثنا عشر وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): الأئمة من قريش وبالعموم عينهم ثالثاً كقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): اللهم ارحم خلفائي قيل يا رسول الله ومن خلفاؤك قال الذين يأتون من بعدي ويروون حديثي وسنتي والمقصود بهم هم الأئمة الاثنا عشر (عليهم الصلاة والسلام) كما دلت على ذلك النصوص الخاصة التي وردت بأسمائهم (عليهم السلام) وخصوصاً في مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) والحسن والحسين وغيرهم على ما فصله علماء الكلام في كتبهم الخاصة ومن الواضح أن نصب الخلفاء يكون دليلاً على إرساء الحكم والدولة وإلا كان النصب لغوياً وقد قام الأئمة (عليهم الصلاة والسلام) بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بدور الحكم إما مباشرة حيثما أمكنهم ذلك كما فعله مولانا أمير المؤمنين والحسنان عند تمكنهم وإما بصورة غير مباشرة كالثورات التي أقاموها (عليهم السلام) بواسطة أولادهم ومواليهم وأصحابهم فقد كانوا (عليهم السلام) يقودون الثورات ضد الحكومات الظالمة الجائرة كحكومة الأمويين والعباسيين من وراء الستار بعد أن كانوا يربون الثائرين في بيوتهم وحجورهم ومجالس دروسهم ثم كانوا يمدونهم بالدعاء وينعونهم بعد مقتلهم ويدفعون الأموال إلى من بقي منهم ويتكفلون بعوائلهم وإنما لم يكن الإمام (عليه السلام) هو الذي يقوم بالثورة الظاهرة لحكمة وهدف أهم وذلك من أجل تكميل المسيرة الفكرية عقيدة وشريعة على تفصيل لا يسعنا المجال بيانه هنا.

وأخيراً كان يظهر أمرهم (عليهم السلام) في معارضة السلطة والعمل لاجتثاثهم ولذا كان الجائرون يلقون عليهم القبض وينهبون أموالهم ويحرقون دورهم ويسجنونهم ثم يقتلونهم بواسطة السيف أو السم وإلا فهل السلطات الجائرة تفعل مثل ذلك بغير المعارضين لها المقوضين لدولها ومن هنا نجد عصور الأئمة (عليهم الصلاة والسلام) مليئة بالثورات الشعبية التي كان يتزعمها أولاد الأئمة وأقربائهم وتلاميذهم واتباعهم فمثلاً في عهد السجاد (عليه السلام) ثار التوابون وحكم المختار وثار أهل المدينة وفي عهد الإمام الباقر (عليه السلام) قام بالثورة أخو الإمام زيد بن علي بن الحسين (عليهما السلام) وبعد مقتله ثار ولده يحيى بن زيد وفي عهد الإمام الصادق (عليه السلام) حدثت ثورة عبد الله بن معاوية بن جعفر بن أبي طالب (عليه السلام) وبعده تفجرت ثورة محمد بن عبد الله ذو النفس الزكية من أحفاد الإمام الحسن (عليه السلام) وكذلك ثار أخوه إبراهيم بن عبد الله وفي عهد الإمام الكاظم (عليه السلام) ثار الحسين بن علي شهيد فخ بجمع كبير من بني هاشم كما ثار يحيى وإدريس وفي عهد الإمام الرضا (عليه السلام) ثار أخو الإمام زيد وثار محمد بن إبراهيم أبو السرايا ومحمد الديباج ابن الإمام الصادق (عليه السلام) وإبراهيم بن الإمام الكاظم (عليه السلام) وفي عهد الإمام الجواد (عليه السلام) ظهرت ثورة عبد الرحمن بن أحمد من أبناء عم الإمام الجواد (عليه السلام) ومحمد بن القاسم من أحفاد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى غيرها ما يجدها المتتبع في ثنايا التاريخ فإن التواريخ تدل على أن أهل البيت (عليهم السلام) قاموا لأجل إرساء دعائم العدل ورفع الظلم وردع الحيف وإقامة الدولة العادلة وإن كانوا في الغالب يتعرضون إلى القتل والسجن وما أشبه ذلك ولو لم يكن هدفهم ذلك لكان النهوض لغوياً كما هو واضح ولا يخفى أن إظهار بعض الأئمة (عليهم الصلاة والسلام) ما ينافي بعض الثورات المذكورة كان إظهاراً من باب التقية الإيجابية كما كانوا أحياناً يظهرون التبري عن أخص أصحابهم كما فصله علماء الرجال في كتبهم وذلك من باب الأهم والمهم على تفصيل لا يسعنا بيانه هنا ولذا كانوا يقولون لمن تبروا عنه في خفاء أن مثلهم مثل السفينة حيث خلقها العالم حفظاً لها حينما كان ورائهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً وقد أثرت تلك الثورات وما رافقها من تهجم الأئمة (عليهم الصلاة والسلام) على الحكام أموراً:

- الأول: تهييج الرأي العام ضد الحكومات الجائرة ولذا قامت ثورات أخر ضدهم.

- الثاني: إسقاط بعضهم كما اسقطوا الأمويين ومحوهم عن الوجود.

- الثالث: إسقاط شرعيتهم وإظهار أنهم غاصبون ديكتاتوريون لا يمتون إلى الإسلام بصلة وإن ادعوا ما ادعوا في ذلك في نسبتهم إلى الإسلام وبهذا يكونوا قد بينوا إلى الأمة طريق الاستقامة وطريق الهدى وأخرجوهم من الظلمات إلى النور.

- الرابع: الحد من ديكتاتوريتهم وإنقاذ المستضعفين من براثنهم وجعلهم يرتدعون من الرأي العام الإسلامي ولعله لولا قيام الأئمة وتحريض المؤمنين على المواجهة والمعارضة لفعل الحكام المستبدون ما هو أشنع وأفظع.

- الخامس: أسست حكومات في عرض حكوماتهم مما ذهبت بشوكتهم أمثال حكومة المختار وطباطبا في الكوفة زهاء عام 200 من الهجرة وحكومة الأدارسة في عهد الإمام الصادق في المغرب إلى غير ذلك مما يجده المتتبع في حكمة الأئمة (عليهم الصلاة والسلام) في مواجهة الظلم والدول المستبدة الجائرة ولا يخفى عليك أنه بعد الأئمة (عليهم الصلاة والسلام) قام العلماء الذين هم خلفاء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بنفس هذا الدور وشكل لنا سيرة المتشرعة متصلة بزمان المعصومين أو الكاشفة عن إرتكازات المتشرعة عن الشريعة وفهم ملاكاتها الذي هو وحده كاف في إعطاء الدليل الشرعي لذلك ولذا تصدى العلماء لرفع الظلم وإقامة الدولة العادلة فحاربوا السلطات الجائرة وأسسوا الحكومات بقدر إمكانهم وأوقفوا الطغاة إلى حد ما وتعرضوا في هذا السبيل إلى الطرد والسجن والقتل والحرق لأنفسهم أو لمكتباتهم أو لأعوانهم وإلى غير ذلك كما تمكنوا كثير ما من تسديد بعض الحكومات ولو بقدر كما لا يخفى ذلك لمن راجع تواريخ الرضي والمرتضى والمفيد والطوسي ونصير الدين الطوسي وأبناء طاووس والشهيدان والعلامة وابن فهد والمجلسيين والبهائي والكركي والشيرازيين وكاشف الغطاء والمجاهد والآخوند والخالصي والشفتي والسيد نور الدين صاحب التفسير والقمي والأصفهاني والحبوبي والسيد شرف الدين وغيرهم قدس الله أسرارهم مما ذكرت أحوالهم كتب الرجال والتراجم ومن الجدير أن يتصدى لجنة من العلماء الواعين لكتابة تفاصيل هذه الأمور ولعلها تبلغ مجلدات ضخام تنير الطريق إلى المجتمع المسلم وتدله على لزوم إقامة الدولة الإسلامية العادلة.

- الدليل الثالث:الدلالة العقلية الإلتزامية فإن من الواضح أن قوانين الإسلام شاملة لقوانين الحكم فلو لم يرد الإسلام الحكم ويرتضي بالدولة العادلة الشرعية لم يكن وجه لجعل هذه القوانين بل جعلها يصبح لغوياً يتنزه الشارع الحكيم عنه والقوانين التي تتضمن الإشارة إلى الحكم والدولة أو تتوقف على وجود حكم أو دولة عديدة منها قوانين الحرب المذكورة في كتاب الجهاد الذي ينقسم إلى الجهاد الابتدائي ويهدف إنقاذ الناس من الخرافة وإنقاذهم من المستكبرين الذين يظلمونهم كما قال عز وجل: (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين) وقال عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا) ومن الواضح أن الرباط هو البقاء في الثغر الإسلامي لمراقبة تحركات العدو.

والجهاد الثاني هو الجهاد الدفاعي الذي هو يكون لحماية النفس أو العرض أو البلد الإسلامي من الأخطار الخارجية ونحو ذلك والى الجهاد مع البغاة أيضاً وفي كلمات الرسول الأعظم والأئمة (عليهم السلام) ثروة كبيرة من هذا الجانب كما فصله الفقهاء في كتاب فقه الجهاد ومنها قوانين الأموال من الخمس والزكاة والخراج والجزية ومن الواضح أن الخراج والجزية من شؤون الدولة أما الخمس والزكاة فأحكامهما المتعددة تدل على أنهما أيضاً في الجملة من شؤون الدولة ككون الخمس على أرض الذمي التي اشتراها من المسلم مثلاً وهذا ما لا يمكن تحقيقه إلا بواسطة دولة وحكومة إذ من الواضح أن الذمي لا يعتقد بالخمس فكيف يدفعه بدون القوة ولو دفعه ينبغي أن يذهب إلى المصارف التي تعرفها في الشؤون العامة للمجتمع ومثل إرسال الجباة لأجل جمع الزكاوات أيضاً ومثل كون الإمام الزائد له والمعوز عليه ومثل أحكام بيت المال وغير ذلك مما ذكره الفقهاء في الشؤون المالية.

ومنها الأحكام المرتبطة بالمرافعات والحدود والقصاص والديات فإن القضاء والشهادات ومعاقبة المجرمين حداً وقصاصاً ودية وتعزيراً من شؤون الدولة إذ بعض هذه الأمور وإن كان بالإمكان إجراءه بدون الدولة إلا أن المجموع من حيث المجموع مما لا يمكن أن يقوم به إلا دولة بحيث لولا جعل الدولة كان تشريع هذه المجموع من دون فائدة بل لغو.

ومنها الأحكام المتفرقة في مختلف الأبواب مثل حضور الوالي جنازة فهو أحق بها وصلاة الجمعة من شأن الإمام.

والخلفاء ابتزوا هذا المنصب كما في دعاء الإمام السجاد (عليه السلام) وأحكام الحج المرتبطة بالإمام أيضاً إلى غير ذلك من الأحكام التي تتوقف على وجود إمام ودولة فنحصل من ذلك إذاً أن الدلالة العقلية الالتزامية المستفادة من تشريع الإسلام لجملة من القوانين والأحكام التي يتوقف العمل بها وتطبيقها وما أشبه ذلك على وجود دولة فلولا حكم الإسلام وارتضائه بلزوم إقامة الدولة لكان تشريعه لهذه الأحكام تشريعاً لغوياً.

- الدليل الرابع: اللابدية العقلية وذلك لأنه إذا لم نقل بوجوب إقامة دولة وحكومة فإن الأمر لا يخلو من احتمالات ثلاثة:

الاحتمال الأول: أن نقول بأن المجتمع الإنساني يقوم بدون حكومة.

الاحتمال الثاني: أن نقول بأنه يقوم بحكومة لكن بحكومة جائرة.

الاحتمال الثالث: أن نقول أنه يقوم بحكومة ولكن بحكومة عادلة.

وحيث أن الاحتمال الأول والثاني باطلان إذاً يتعين الثالث بحكم العقل أما بطلان الأول فبديهي وذلك لاستلزام عدم وجود الحكومة هدر الدماء وسفكها وهدر الأموال وسلبها وانتهاك الحرمات واستلزام الهرج والفوضى واختلال النظام وهذا مما يأباه كل عاقل وحكم عقلي وإن زعم ماركس أنه يأتي يوم يعيش الناس فيه بدون حكومة لأن الاختلاف بين الطبقات يزول حيث يتساوى تقسيم المال فلا حاجة إلى الحكومة كلام بديهي البطلان على ما عرفته.

وأما بطلان الاحتمال الثاني فلأن الله سبحانه وتعالى نهى عن الجور وأمر بالعدل وحرض على إزالة العدوان فكيف يقر الظلم ولا يأمر بإقامة حكومة عادلة بل الظلم قبيحٌ عقلاً الحكم العقلي يستقل بقبحه فكيف يجيزه الشارع إلا إذا قلنا بأن الشارع يمكن أن يكون متناقضاً ونجوز له ذلك وهذا ما لا يرتضيه أحد وإذاً حيث أنه لم يبقى إلا الاحتمال الثالث يتعين وجوب إقامة حكومة حماية للإنسانية وإقامة للعدل وهذه الحكومة لا يمكنها أن تبسط العدل إلا إذا كانت هي عادلة هذا بالإضافة إلى أنه عقلي قد دل عليه الشرع أيضاً كما في الآيات والروايات منها قوله سبحانه وتعالى: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويأتون الزكاة وهم راكعون). ومن الواضح أن الآية نصت على أن ولي الأمر ينبغي أن يتصف بإقامة الصلاة وإتيان الزكاة وما أشبه.

وحيث أن ولاية سائر الأئمة والعلماء امتداد لولاية من ذكر في الآية الكريمة فكذا أيضاً في مثل هذه الأزمنة إذاً ينبغي أن يتصدى العدول لإقامة الدولة ولا يخفى أن معنى الولاية هو حقه في التصرف في شؤونهم كما بيناه فإن مقتضى الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم أنه لا حق لأحد في التصرف في أمور الناس والآية تدل على استثناء تصرف الولي فلا يقال أن الحكم مستلزم للتصرف والناس مسلطون يمنع كل تصرف ومن الآيات قوله سبحانه وتعالى: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) ومن الواضح أن أولي الأمر هم خلفاء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) سواء عينهم بالاسم أو عينهم بالصفة كما تقدم في قوله اللهم ارحم خلفائي وفي الوارد عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة: أما والذي فلق الحبة وبرئ النسمة لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كيد ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها.

فالله عز وجل أخذ على العلماء تولي الحكم لأن الإمام كان في صدد وجه تقبله للأمارة بعد عثمان فقرينة الحال والمقال تدلان على أن الكلام في مقام السلطة والحكومة ومما ورد في الروايات أيضاً عنهم (عليهم السلام) لابد للناس من أمير بر أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر إلى غير ذلك مما بيناه سابقاً فإن في أثر النظم والاستقرار المؤمن يعمل لدنياه وآخرته والكافر يتمتع في دنياه وقد قال عز وجل: (يأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم) أي في وصف الكفار فإذاً المؤمن والكافر كلاهما يعيشان تحت حكم الدولة فيصل الكافر إلى أجله المقرر الطبيعي كما يصل المؤمن إلى أهدافه العليا والدنيا فلا فوضى حتى يخترم القتل الناس قبل آجالهم الطبيعية وبواسطة الحاكم يجمع المال لأجل المصالح وينفق لأجل تحقيقها ويقاتل به المعتدون ولا ينتشر قطاع الطرق حتى لا يتمكن الناس من السفر أو يأكل القوي الضعيف إلى غير ذلك ولذا وصف الإمام (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله فاجر ولم يقل ظالم إذ الظالم تجب إزالته لقباحة الظلم ووجوب ردعه أما الفاجر الذي هو عاص في نفسه لكنه يلتزم بالنظام فيترتب عليه ما ذكره (عليه السلام) من الفوائد وإن لم يكن حاكماً شرعياً هذا وقد روى الفضل بن شاذان عن مولانا الرضا (عليه السلام) أنه قال: إنا لا نجد فرقة من الفرق ولا ملة من الملل بقوا وعاشوا إلا بقيم ورئيس لما لا بد لهم منه في أمر الدين والدنيا فلم يجز في حكمة الحكيم أن يترك الخلقة لما يعلم أنه لا بد لهم منهم ولا قوام لهم إلا به فيقاتلون به عدوهم ويقسمون به فيئهم ويقيم به جمعهم وجماعهتم ويمنع ظالمهم من مظلومهم وقد ورد عن الصادق (عليه السلام) اتقوا الحكومة فإن الحكومة إنما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين فإن الظاهر من هذا الحديث أن العادل العالم جعل الحاكم من قبل الله سبحانه وتعالى كما يفيده الحديث الذي هو في مقام الإنشاء وصيغته بلسان الحصر كما تفيده كلمة إنما وفي خبر عمر بن حنظلة المروي في كتب المشايخ الثلاثة الذي يعطيه قوة الاعتبار عن الصادق (عليه السلام) ينظر إلى من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما بحكم الله استخف وعلينا رد والراد علينا كالراد على الله وهو في حد الشرك بالله ومن الواضح أن الإمام (عليه الصلاة والسلام) في مقام التنصيب والجعل الإنشائي بما يفيده كلمة جعلته عليكم حاكماً وهذه الرواية وإن كانت واردة في باب الرواية إلا أنه تشمل الحكومة والسلطة إما بالإطلاق وإما بالمناط لعدم فهم الخصوصية في الرواية أو فهم عدم الخصوصية أو ربما يقال باستفادة الأولوية فإنه إذا كان ذلك بالنسبة إلى الرواية فإن إقامة الدولة من بعض جوانبها أهم لأهمية حفظ النفوس والأعراض والدماء والفروج وما أشبه ذلك هذا مضافاً إلى اعتضاد مضمونه بطائفة أخرى من الروايات كما رواه في تحف العقول عن مولانا الحسين (عليه السلام) قال بأن مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه وفي الكافي عن مولانا الباقر (عليه السلام) لا تصلح الإمامة إلا لرجل فيه ثلاث خصال ورع يحجزه عن معاصي الله وحلم يملك به غضبه وحسن الولاية لمن يلي حتى يكون لهم كالأب الرحيم ومن الواضح أن حسن الولاية مطلق فيشمل الحكومة وهو أجلى مصاديقها وروى الحديث عن الإمام الحسن (عليه السلام) أنه قال: إنما الخليفة لمن سار بكتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن الواضح أن من سنن النبي هو الحكم والحكومة وفي نهج البلاغة عن مولانا أمير المؤمنين إن أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه إلى غير ذلك من النصوص الخاصة أو العامة الدالة على لزوم إقامة الحكومة والدولة والتصدي لهما والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين. خو الإمام زيد بن علي ابن الحسين عليهما السلام وبعد مقتله ثار ولده يحيى بن زيد وفي عهد الإمام الصادق  حدثت ثورة عبد ا