المادة: فقه الدولة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon fekeh_dawla 01.doc

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.

موضوع البحث في فقه الدولة ونتعرض إليه بقدر ما تسعه هذه المرحلة الدراسية من الجامعة وقد قسمناه إلى تمهيدات ومباحث أما التمهيدات فكما ياتي:

 

- التمهيد الأول: في التعريف والاصطلاح فالدولة في اللغة بفتح الدال وضمها، يقال الدَولة والدُولة وهي بمعنى واحد يراد بها ما دار وانقلب من حال إلى حال يقال دالت له الدولة أي صارت إليه ومداولة الله الأيام بين الناس بمعنى صرفها بينهم فصيرها لهؤلاء تارة ولهؤلاء أخرى وتداولت الأيدي أي تعاقبته بمعنى أخذته هذه مرة وهذه مرة أخرى ومنه قولهم تداولوا الشيء بينهم أي تناقلوه وقلبوه بين أيديهم وتناوبوه والدولة هنا مصدر وجمعها دِول بكسر الدال وضمها ويراد ما يتداول فيكون مرة لهذا ومرة لذاك وعلى هذا المعنى تطلق على المال والغلبة كما تطلق على البلاد فيقال الدول الإسلامية أو الدول العربية والأوروبية كما تطلق على الهيئة الحاكمة يقال لكل زمان دولة ورجال بلحاظ أن الجميع ما يتداول بينه لكونه بحاجة إلى تدبير ونقل وانتقال أو بلحاظ التقلب والتصرف من جماعة إلى أخرى إذ لا استقرار للسلطة ولا ثبات لجهة النقص والحيف والظلم كما في الدول المستبدة أو الشوروية القاصرة أو لجهة اختبار الامتحان الإلهي للبشر في تقلب القدرة ومنه اشتهر الدهر دول ولو دامت لك لما وصلت إليك كناية عن الانتقال من قوم لقوم ومن ذلك يظهر أنها ليست حقيقة وشرعية ولا متشرعية وإنما هي مصداق من مصاديق المعنى اللغوي وقد أمضاها الشارع بحسب ما تعارف عليه عند العقلاء نعم ورد استعمال الدولة في القرآن بالمعنى اللغوي وكذا في كلمات مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) إذ ورد بعض مظاهره المعنى اللغوي وآخر مظاهره الحكم والسلطة وهو لا يثبت حقيقة شرعية بناءً على عدم كون الإمام شارعاً لانحصار المشرع بالخالق تبارك وتعالى أو لشموله للرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) فقط دون شموله للإمام (عليه السلام) على الخلاف بين الأصوليين في تحديد الشارع وعليه فإنما ورد من استعمالات في الكتاب والسنة ليس تأسيساً جديداً حتى يحمل على الحقيقة الشرعية وإنما يحمل على المعنى اللغوي وبحسب ما تعارف عليه عند العقلاء حقيقة العرفية الخاصة أو العرفية العامة فمما ورد بلفظ الدولة في الكتاب العزيز في قوله سبحانه وتعالى (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين).

فإن الدولة هنا وردت بحسب المعنى اللغوي أي تقلب الأحوال من حال إلى حال وورد في الأحاديث الشريفة ما يحتمل الاثنين وفي بعضها ظاهر في المعنى اللغوي والآخر ظاهر في المعنى الاصطلاحي فعن الإمام الصادق (عليه السلام) إن للحق دولة وللباطل دولة فإن الدولة هنا تحتمل الاثنين إلا أنها ظاهرة في المعنى اللغوي وعن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) الدولة كما تقبل تدبر فكذلك هنا أيضاً ورد مع احتمال المعنيين إلا أن الظهور مع المعنى اللغوي ويحتمل الاثنين أيضاً في قول مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) دولة الأكابر من أفضل المغانم دولة اللئام مذلة الكرام وهنا ظاهر في المعنى اللغوي بقرينة ما بعده وهو قوله (عليه السلام) دولة الكريم تظهر مناقبه دولة اللئيم تكشف مساويه ومعايبه إلا أن يقال بأن المتبادر من الدولة في مثل هذه الأحاديث هو الحكومة فحينئذ تحمل على الحقيقة العرفية الخاصة ومما ورد أيضاً مظاهرة الحكومة ما ورد عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) زوال الدول باصطناع السفل وأيضا ورد عنه (عليه السلام) يستدل على إدبار الدول بأربع تضييع الأصول والتمسك بالفروع وتقديم الأراذل وتأخير الأفاضل وهذا الحديث ظاهر في أن المراد منه هنا هو الحكومات وورد عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) أيضاً قوله وأعظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق حقوق الوالي على الرعية وحق الرعية على الوالي فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه وأدى الوالي إليها حقها عز الحق بينهم وقامت مناهج الدين واعتدلت معالم العدل وجلت على إذلالها السنن فصلح بذلك الزمان وطمع في بقاء الدولة ويأست مطامع الأعداء وهذا الكلام ظاهر بل صريح في الحكومة بقرينتين قرينة خارجية لكون الإمام (عليه السلام) يتحدث عن الولاة وحقوقهم وقرينة داخلية للحديث عن السياق ومما ورد عنه (عليه السلام) أيضاً قوله ما حصن الدول بمثل العدل وهو ظاهر في الحكومة بمناسبة الحكم والموضوع وورد عنه أيضاً ثبات الدول بإقامة سنن العدل وورد عنه (عليه السلام) من عمل بالعدل حصن الله ملكه وعنه (عليه السلام) أيضاً صير الدين حصن دولتك والشكر حرز نعمتك فكل دولة يحوطها الدين لا تغلب وكل نعمة يحرزها الشكر لا تسلب ومما ورد عنه (عليه السلام) أيضاً في هذا المجال قوله من أمارات الدولة اليقظة لحراسة الأمور وبذلك يظهر أن إطلاقات الدولة على أنحاء ثلاثة:

 

- الأول: أن يراد بالدولة القوة التنفيذية أي الحكومة فيقال قد صممت الدولة على كذا أو قررت الدولة كذا أو كفت الدولة يدها عن كذا فإن المراد بالدولة حينئذ هو الحكومة والقوة التنفيذية.

- الثاني: أن يراد بالدولة كل التشكيلات الحكومية الشاملة للقوة السياسية والقضائية والتنفيذية والتشريعية وغيرها وهذا الإطلاق أعم من الإطلاق الأول.

- الثالث: أن يراد بالدولة ما يشمل الأمة أيضاً وذلك كما يقال أن دولة العراق محددة بإيران وتركيا والخليج مثلاً فإن الدولة يراد بها حينئذ مجموع السكان بحدودها الأرضية الخاصة وهذا الإطلاق أعم من الإطلاق الأولين وعليه فإنه فيما إذا أطلقت لفظة الدولة يحتمل المعاني الثلاثة إلا أن محل البحث فيما نحن فيه هو الإطلاق الثاني أي الدولة بمعنى كل التشكيلات الحكومية بأقسام السلطات فيها من ناحية السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية كما نتحدث عن سياسات الدولة ونتحدث عن مقوماتها وعناصرها ومبادئها إلى غير ذلك من مباحث تتعلق في أصل الحكومة وتركيبة نظام الحكم وسياسية الدولة الشرعية إن شاء الله وهذا هو المنصرف في استعمالات الناس في ما إذا أطلقوا لفظة دولة فإنهم اعتادوا أن يعبروا عن الدولة بمجموعة تشكيلات السياسية وغيرها فمجلس الأمة كمجلس الوزراء كالهيئة القضائية وسائر الإدارات والوظائف مسرح أعمال نفوذ الدولة وكذا مجموع الأمة بما لها من الأرض.

 

- التمهيد الثاني: الظاهر أن القليل من الفقهاء ممن ألف في هذا الموضوع كتاباً خاصاً إما لقلة محل الابتلاء وإما بسبب الظلم والجور الذي كان يحتف بحياتهم ويمنعهم من التعرض إلى مثل هذه المسائل الأسباب في ذلك كثيرة وعديدة منها شدة الظلم والجور الذي كان يستولي على حياة المسلمين ولا زال كذلك بما يمنعهم من التعرض بأمثال هذه المسائل الهامة ومنها استيلاء الأجانب على بلاد المسلمين بما يمنع من تطبيق أحكام الدولة على المجتمع والأمة ومنها الحكومات المستبدة التي تستولي على شؤون المسلمين وتمنع أهل الحق من التعرض لمثل هذه المسائل لما فيها من تهديد لعروشها وكياناتها وعلى الرغم من هذه الضغوطات الشديدة فإن بعضاً من الفقهاء قديما وحديثاً تعرضوا إلى أمثال هذه المباحث بشيء من التفصيل عند بعضهم وبشيء من الإيجاز عند آخرين وهذا ما يجده المتتبع في أمثال كتاب قاطعة اللجاج وتنبيه الأمة والفقه السياسية والفقه الدولة والفقه الحكم في الإسلام وغير ذلك من الكتب المؤلفة في هذا المجال نعم ربما ترك جمع منهم التعرض لمباحث الدولة وأحكامها الفقهية اكتفاءً منهم بما دونوه في الكتب الفقهية في ضمن المسائل وأبواب الفقه المتنوعة من أمثال كتاب الجهاد والمكاسب والقضاء والحدود والقصاص والديات وإحياء الموات وما أشبه ذلك إلا أن من تعرض إلى مباحث الدولة والحكومة الإسلامية بشكل مستقل قد خصصه في الكتب وقد ذكرنا بعضها مما تقدم وكان ذلك مما استنبطوه من الكتاب العزيز حيث قال سبحانه: (إني جاعل في الأرض خليفة) والسنة المطهرة حيث ورد عنهم (عليهم السلام) اللهم ارحم خلفائي وكذا الإجماع في كثير من مسائلها كما لا يخفى على من راجع كتب الفقه الاستدلالية وكذا العقل حيث أنه دلّ على وجوب تنظيم أمر البشر عامة والأمة الإسلامية خاصة وقبح ترك الناس فوضى لا نظام لهم أو لهم نظام غير صحيح بما لا تؤمن فيه السبل ولا يأخذ صاحب الحق حقه وإذ ثبت قبح الترك بلا راعي ووجوب تشكيل الحكومة الرشيدة عقلاً ثبت ذلك شرعاً أيضاً للتلازم في القاعدة المعروفة كلما حكم به العقل حكم به الشرع إذا كان الأمر في سلسلة العلل كما حقق ذلك في الأصول مما يقتضي التدوين المستقل لأنه أسهل إلى التناول وأجمع لشتات المسائل ولا يخفى على الطالب الكريم أن هذا البحث الذي نخن بصدده الآن مبني على تنقيح الموضوعات السياسية والحكومية بحسب متطلب الزمان في الحال الحاضر ليعرف انطباق الأحكام الشرعية عليها وجوباً وحرمةً واستحباباً وكراهةً وإباحةً كما هو شأن سائر المباحث والموضوعات في مسائل الحياة البشرية المختلفة.

 

- التمهيد الثالث: الحكم والدولة ضرورة فطرية للاجتماع البشري الظاهر أن عناية الإسلام بمسألة الحكم ليست بدعاً من الأمر وإنما هي استجابة للضرورة التي يقتضيها الاجتماع البشري بحد ذاته وبقطع النظر عن وجود شريعة ونظام للحياة ينتظم حياة الإنسان من جميع وجوهها ومجالاتها كما هو الشأن في الإسلام فمنذ أقدم العصور اكتشف العقلاء من بني البشر والمفكرون والحكماء هذه الحقيقة أي الضرورة في كل اجتماع بشري بدءاً من الأسرة والجماعة الصغيرة والقبيلة إلى المجتمعات الكبيرة في جميع أزمنة التاريخ ومهما كان الاعتقاد الديني أو النظام الاجتماعي وفلسفة الحياة التي يؤمن بها المجتمع أو الأمة فإن وجود حكومة ضابطة تملك سلطة فوق سلطة الأفراد والجماعات كان ضرورة في جميع الأحوال هذه الضرورة ناشئة من الأمور التالية:

 

- الأول: حاجة الجميع إلى الأمن والعيش بسلام.

- الثاني: تواتر الفرص الكافية للوصول إلى الأهداف والطموحات التي يتطلع إليها الإنسان وتلازمه في كل مراحل حياته.

- الثالث: تأمين الضرورات الحيوية التي تتكون بها حياة الإنسان والأخرى الكمالية التي يتوقف عليها كماله وهذه جميعاً لا تتحقق إلا بإيجاد سلطة تمنع من الفوضى واختلال النظام والهرج والمرج وتسلط الأقوياء على الضعفاء وبخسهم لحقوقهم وهذا لا يتم إلا بحكومة ودولة فلا يمكن أن تستقيم حياة الإنسان في المجتمع ويؤمن الإنسان على حقوقه ويضمن سلامته كما لا يمكن أن تستقيم حياة المجتمع نفسه من دون نظام يحدد الواجبات والحقوق والمسؤوليات والحدود ومن دون حكومة ذات سلطة تنفذ بها هذا النظام على الأفراد والجماعات وتضمن تطبيقه على الجميع بصورة عادلة ومنصفة لا شك في أن كل دولة كبرى وربما بعض الدول الصغرى تدعي لنفسها رسالة تعتبرها مقدسة بغض النظر عن صحة الرسالة أو سقمها أو واقعية الادعاء أو كذبه لأننا نناقش من الناحية الأصلية والجوهرية وليس من ناحية التفاصيل فمثلاً الليبرالية والنظام الحرف العالم بالنسبة إلى دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة تعتبرها هذه الدول أيديولوجيتها ورسالتها المقدسة كما أن الاشتراكية بالنسبة إلى مثل روسيا والصين يعتبرانها رسالتهما المقدسة فهذا الأمر لا يختص بالإسلام والدولة الإسلامية ولكن الفرق واسع بين الرسالة المقدسة ومشروعية الدولة التي يقيمها الإسلام وبين ذلك في الدول الأخرى فتارة تكون الدولة قائمة استجابة للضرورة الناشئة عن طبيعة الاجتماع البشري بصورة سابقة على الرسالة المقدسة ثم تتبنى الرسالة أو تغزوها الرسالة وتفرض نفسها عليها ويمكن أن تتخلى الدولة عن الرسالة المقدسة إلى رسالة أخرى أو إلى لا شيء وهذا ما ينطبق على جميع صيغ الدولة المعروفة في التاريخ فالدولة الرومانية مثلاً كانت قائمة وتبنت المسيحية رسالة مقدسة ثم تخلت عنها ثم تبنتها مرة أخرى وهذا حال الدول الغربية الحديثة أيضاً حيث تخلت عن المسيحية إلى الألمانية وإلى الليبرالية ويمكن أن تتخلى عنها إلى الاشتراكية أو غيرها وتبقى الدولة قائمة في جميع هذه الحالات وما يجري الآن في أوروبا الشرقية وروسيا من التخلي عن الرسالة الاشتراكية بدرجة أو أخرى إلى الليبرالية واقتصاد السوق بدرجة أو أخرى شاهد على ما نذكر وتارة أخرى لا تكون الدولة قائمة إطلاقاً وإنما تتكون على أساس كونها تعبيراً على الرسالة المقدسة وحامل لها ومطبقة لمبادئها وقيمها بحيث لو لم تكن هذه الرسالة لما كانت هنالك ضرورة للدولة ولا ما قامت الدول إطلاقاً والمجتمع الإسلامي بالنسبة إلى مشروع الدولة الإسلامية من هذا القبيل لأنه ليس المطلوب في المجتمع الإسلامي مع الإمكان مجرد إنشاء دولة وحكومة كيفما اتفق استجابة لضرورة الاجتماع البشري فقط وهو أمر مطلوب على كل حال كلما كان ذلك ممكناً وإنما هو إنشاء دولة وحكومة تحقق رسالة الإسلام الحضارة الإسلامية الإنسانية للمسلمين وفي العالم لأن الدولة والحكومة في قانون الإسلام طريقية إلى الحق والعدل والكمال البشري والطاعة للخالق تبارك وتعالى وليست موضوع يضحى بكل القيم والمبادئ لأجلها ونسجل هنا حقيقة هامة جداً وهي إن تشريع الدولة والنظام والحكومة ليس جزءاً من التشريع الإسلامي انضم إلى أجزاء أخرى وإنما هو بالإضافة إلى ذلك نتيجة طبيعية وضرورية للعقيدة والشريعة لأنه ينبثق من طبيعة تكوين العقيدة والشريعة فهو تعبير طبيعي عن الشريعة ولو ألغيناه أو تجاهلناه للزم أن نلغي أو نتجاهل جانباً كبيراً من الشريعة الإسلامية هذا وقد ورد التعبير عن فكرة الدولة والحكومة باعتبارها من الضرورات والمسلمات التي لا يسأل عنها في السنة الشريفة وكذا ورد عن أصل تشريعها وإنما يقع السؤال عن تفاصيلها فلم يرد في السنة بحسب التتبع سؤال من المسلمين لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن أصل فكرة الدولة والحكومة وضرورة إقامتها مع أن هذا الموضوع من أعظم الأمور التي تختلف حياة الإنسان والمجتمع من جميع وجوهها والملحوظ أن المسلمين سألوا عن جملة من الأشياء بتفاصيلها كما تحدث عن ذلك القرآن الكريم فهم سألوا عن الأهلة وعما ينفقون وعن القتال في الشهر الحرام وعن الخمر والميسر وعن المحيض وعن اليتامى وأحوالهم وعما أحل لهم وحرم عليهم وعن الساعة وعن الروح وعن الأنفال وعن الجبال وغير ذلك مما ورد ذكره في القرآن الكريم وقد حفلت السنة الشريفة بآلاف الأسئلة عن كل ما يتصل بحياة الإنسان وأنشطته المختلفة مع غيره من الناس وفي الطبيعة ولكنهم لم يسألوا عن أصل تشريع الدولة والحكومة والظاهر أنه لا تفسير لذلك إلا كونهم يعون ضرورتها وبديهيتها من إدراكهم بطبيعة كونهم مجتمعاً سياسياً لا بد له بحكم الفطرة من دولة وحكومة ولأنهم عرفوا شرعيتها من طبيعة الشريعة الإسلامية ومن ممارسة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) لشؤون الحكم وتدبير شؤون المسلمين بل قد ذكر القرآن الكريم خيرة بعض أنبياء الله سبحانه وتعالى وتعرض إلى حكومتهم وأخبر عن تكوينهم للدول وتوليهم لرئاستها أو لرئاسة الحكم فيها كما في قصة يوسف (عليه السلام) وداود وسليمان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وغيرهم بل إن بعضهم سأل الله سبحانه ذلك لأجل تحقيق الغرض مما يكشف عن أن الدولة الشرعية لها جنبة طليقية لا موضوعية وذلك لأجل إقامة العدل وإماتة الجور وهو المستفاد من السنة الشريفة كما تعرض القرآن الكريم أيضاً إلى بعض دول الظلم والضلالة كدولة فرعون ودولة أصحاب الكهف والرقيم ودولة الملك الذي تحدث عنه الخضر وموسى عليهم السلام وغير ذلك مما يجده المتتبع تفاصيلها في كتب التفسير ونحوها ومن باب النموذج فقد ورد تصريح في القرآن الكريم في أن الله عز وجل أعطى الحكم والملك لطائفة من أوليائه قال سبحانه وتعالى في سورة النساء: ( فقد آتيانا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً) وفي قصة يوسف بعد أن سأل أن يجعله على خزائن الأرض لكونه القوي الأمين وأعطاه الله ذلك شكر هذه النعمة وقال عنه القرآن الكريم: (ربي قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث وفي سليمان قال تبارك وتعالى: ( قال ربي اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي) على غير ذلك من الآيات الشريفة كما وقد ورد بعض الأحاديث في السنة الشريفة مما يعبر عن كون فكرة الدولة والحكومة من المسلمات في الشريعة الإسلامية نذكر هنا بعض الشواهد الأخرى منها ما رواه الشريف الرضي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في رده على الخوارج لما سمع قولهم لا حكم إلا لله قال (عليه السلام) كلمة حق يراد بها باطل نعم إنه لا حكم إلا لله ولكن هؤلاء يقولون لا إمرة وإنه لا بد للناس من أمير بر أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر ويبلغ الله فيها الأجل ويجمع به الفيء ويقاتل به العدو وتأمن به السبل ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح بر ويستراح من فاجر وستعرف بعض الشرح لما ورد في هذا الحديث الشريف في التنبيهات الأخرى ومنها ما رواه سليم بن قيس عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) قال والواجب في حكم الله وحكم الإسلام على المسلمين بعدما يموت إمامهم أو يقتل ضالاً كان أو مهتدياً مظلوماً كان أو ظالماً حلال الدم أو حرام الدم أن لا يعملوا عملاً ولا يحدثوا حدثاً ولا يقدموا يداً ولا رجلاً ولا يبدءوا بشيء قبل أن يختاروا لأنفسهم إماماً عفيفاً ورعاً عارفاً بالقضاء والسنة يجمع أمرهم ويحكم بينهم ويأخذ للمظلوم من الظالم حقه ويحفظ أطرافهم والمستفاد من هذا الحديث الشريف أهمية الدولة والأهداف التي ينبغي أن تقوم عليها وكذا روى الآمدي عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: وآل ظلوم غشوم خير من فتنة تدوم لأن الفتنة فيها الهرج والمرج واختلال النظام ومنها ما رواه الفضل بن شاذان عن مولانا الرضا (عليه السلام) ولعله أجمع ما ورد في سنة أئمة أهل البيت عليهم السلام في شأن مسألة الحكم والدولة والحكومة في الإسلام حيث يقول فإن قال قائل ولم جعل أولي الأمر وأمر بطاعتهم قيل لعلل كثيرة منها إن الخلق لما وقفوا عند وقف محدود وأمروا أن لا يتعدوا تلك الحدود بما فيه من فسادهم لم يكن يثبت ذلك ولا يقوم إلا بأن يجعل عليهم فيها أميناً يأخذهم بالوقت عندما أبيح لهم ويمنعهم من التعدي على ما حظر عليهم لأنه لو لم يكن ذلك لكان أحد لا يترك لذته ومنفعته لفساد غيره فيجعل عليهم قيماً يمنعهم من الفساد ويقيم فيهم الحدود والأحكام ومنها إنا لا نجد فرقة من الفرق ولا ملة من الملل بقوا وعاشوا إلا بقيم ورئيس لما لا بد لهم منه في أمر الدين والدنيا فلم يجز في حكمة الحكيم أن يترك الخلق مما يعلم انه لا بد لهم من ولا قوام لهم إلا به فيقاتلون به عدوهم ويقسمون به فيئهم ويقيمون به جمعتهم وجماعتهم ويمنع ظالمهم من مظلومهم ومنها إنه لو لم يجعل لهم إماماً قيماً أميناً حافظاً مستودعاً لدرست الملة وذهبت الدين وغيرت السنن والأحكام ولزاد فيه المبتدعون ونقص منه الملحدون وشبهوا ذلك على المسلمين إذ قد وجدنا الخلق منقوصين محتاجين غير كاملين مع اختلافهم واختلاف أهوائهم وتشتت حالاتهم فلو لم يجعل فيها قيماً حافظاً لما جاء به الرسول الأول لفسدوا على نحو ما بيناه وغيرت الشرائع والسنن والأحكام والإيمان وكان في ذلك فساد الخلق أجمعين إلى غير ذلك مما أورده شيخنا الصدوق رضوان الله عليه في كتابه علل الشرائع وهذا الحديث الشريف يشرح الضرورة الفطرية إلى الدولة والحكومة كما يشرح الضرورة الرسالية للإسلام والمجتمع الإسلامي لذلك كما بيناه فيما تقدم والحاصل فإنما يمكن أن يستظهر من خلال الروايات الكثيرة لزوم وجود دولة تقوم بالأعمال الكثيرة الاجتماعية والسياسية والحقوقية التي لم يكلف بها في الإسلام مسؤول خاص من عامة الناس بل جعل أمر إجراءها والقيام بها على عاتق الإمام أو الحاكم وذلك يدل على لزوم وجود جهاز تنفيذي يقوم بهذه المسؤوليات والأعمال ويدل على أن الحكومة قد كانت مفروضة الوجود في نظر أصحاب الشريعة وإليك بعض النماذج الأخرى من الروايات التي توكل بعض الأعمال إلى الإمام والحاكم اللذين يعدان رمزاً للحكومة منها ما ورد عن مولانا الصادق (عليه السلام) في الأنفال وما أخذ بالسيف فذلك إلى الإمام يقبله بالذي يراه كما صنع رسول الله (صلى الله عليه آله وسلم) بخيبر ومنها في تقسيم الزكاة عن مولانا الصادق (عليه السلام) والغارمين يجب على الإمام أن يقضي عنهم ويفكهم من مال الصدقات وفي سبيل الله قوم يخرجون في الجهاد ليس عندهم ما يتقون به أو قوم من المؤمنين ليس عندهم ما يحجون به أو في جميع سبل الخير فعلى الإمام أن يعطيهم من مال الصدقات حتى يقووا على الحج والجهاد وابن السبيل أبناء الطريق يكونون في الأسفار في طاعة الله فيقطع عليهم ويذهب مالهم فعلى الإمام أن يردهم إلى أوطانهم من مال الصدقات وفي رؤية الهلال قال الإمام الباقر (عليه السلام) إذا شهد عند الإمام شاهدان أنهما رأيا الهلال منذ ثلاثين يوماً أمر الإمام بإفطار ذلك اليوم إذا كانا شاهدا قبل زوال الشمس وإن شهدا بعد زوال الشمس أمر الإمام بإفطار ذلك اليوم وأخر الصلاة أي صلاة العيد إلى الغد فصلى بهم وفي أمر إقامة الحج عن مولانا الصادق (عليه السلام) لو عطل الناس الحج لوجب على الإمام أن يجبرهم على الحج إن شاءوا وإن أبوا فإن هذا البيت إنما وضع للحج وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في أداء دين الغريم ما من غريم ذهب إلى وال من ولاة المسلمين واستبان للوالي عسرته إلا برء هذا المعسر من دينه وصار دينه على والي المسلمين فيما يديه من أموال المسلمين وعن مولانا الصادق (عليه السلام) في ذلك أيضاً إن الإمام يقضي عن المؤمنين الديون ما خلى مهور النساء وفي مسؤولية الحاكم تجاه ثقافة الأمة عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) على الإمام أن يعلم أهل ولايته حدود الإسلام والإيمان وفي مسؤولية الحاكم اتجاه أصحاب الفكر والمهن عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) يجب على الإمام أن يحبس الفساق من العلماء والجهال من الأطباء والمفاليس من الأكرياء وفي مسؤولية الحاكم تجاه الأسر والعوائل عن مولانا الباقر (عليه السلام) من كانت عنده امرأة فلم يكسها ما يراعي عورتها ويطعمها ما يقيم صلبها كان حقاً على الإمام أن يفرق بينهما وفي مسؤولية الحاكم في أمر المساجين ورد عن مولانا الصادق (عليه السلام) على الإمام أن يخرج المحبسين في الدين يوم الجمعة إلى الجمعة ويوم العيد إلى العيد فيرسل معهم فإذا قضوا الصلاة والعيد ردهم إلى السجن والظاهر أن خصوصية الحبس في الدين هنا من باب قلة موارد الحبس والسجن في الشريعة وإلا فلا خصوصية لذلك وورد عن مولانا الباقر (عليه السلام) من قتله القصاص بأمر الإمام فلا دية له في قتل ولا جراحة والملحوظ أن بعض الروايات أن كان ظاهراً في الإمام المعصوم إلا أن كثير من هذه الروايات ظاهر في المطلق القائم بالأعمال المذكورة سواء أكان معصوم أم غير معصوم وهو ما يستلزم مطلق الحاكم الإسلامي ويدل على ذلك ما ورد في أمير الحج والوالي بالإمام مما يدل على أن الأفضل الإمام الموجود في هذه الروايات وأشباهها يراد به مطلق الحاكم الإسلامي وليس الإمام المعصوم المصطلح في علم الكلام ويؤيد هذا الاتجاه ما قاله صاحب الوسائل رضوان الله عليه في تعليقه على إحدى الروايات المشتملة على لفظ الإمام كالروايات المتقدمة هنا قال الإمام العدل أعم من المعصوم وصفوة القول إن الناظر في مثل هذه الروايات وغيرها يجد أن هناك أحكام اجتماعية اقتصادية أخلاقية سياسية إدارية وغيرها جعلها الإسلام على عاتق الإمام أو الوالي أو من شابههما وذلك يدل على ماهية هذه الأحكام ماهية خاصة يتوقف تحقيقها في الخارج على وجود سلطة وجهاز يجريها في المجتمع وقد عبر في هذه الروايات عن تلك السلطة والجهاز بالإمام والوالي أو السلطان وذلك يدل بالدلالة الالتزامية على أن هذه أحكام سلطانية وواجبات حكومية لا تنفك عن وجود السلطة والدولة وقد فرضها الأئمة (عليه السلام) مسلمة الوجود في الواقع الخارجي وإنما أدرجنا لك هذه من باب النماذج لإثبات أمر واحد هو أن الحكومة الإسلامية أمر مسلم الوجود وإيجادها فريضة يتوقف عليها الكثير من الأحكام الدينية وتطبيق العدل والحق في المجتمع ومع ذلك كيف يسمح البعض لأنفسهم أن يقولوا أن الإسلام يمكن أن يطبق في المجتمع دون حاجة إلى حكومة قوية وسلطة سياسية قادرة تحصل من جميع ما سبق إن فكرة الدولة والحكومة في الإسلام هي ضرورة تنبثق من طبيعة الشريعة الإسلامية وليست مجرد تشريع منفصل من جملة تشريعاتها بل هي استجابة للفطرة والضرورة التي يقتضيها الاجتماع البشري الذي لا يعقل تحققه من دونها والمجتمع الإسلامي ليس شذوذاً خارجاً عن هذه الفطرة وعن هذه الضرورة فهي ضرورة يفرضها كون الإنسان المجتمع جزء من الكون المحكوم بالنظام الكوني ثابت وشامل لجميع الموجودات في عوالم الجماد والحياة النباتية والحيوانية هذه العوالم التي يقف الإنسان في قمتها كائناً واعياً عاقلاً مريداً مختاراً حراً وقد سخر الله له سائر العوالم وزوده بالوسائل والقدرات المادية والعقلية والنفسية للانتفاع بها في نطاق استخلافه لهذا كله نجد أن القرآن الكريم والسنة الشريفة قد تضمن التعبير عن فكرة الدولة والنظام والحكومة في التشريع الإسلامي بعد أن رأينا أن الإسلام يكون مسلماً ملتزماً ذا رسالة ومجتمع سياسياً ذا رسالة عالمية إن هذه الحقيقة النظرية في الواقع التكويني والاجتماعي والتشريعي الإسلامي قد وجدت بالفعل بالواقع التاريخي الموضوعي بالإسلام كما هو الملحوظ في سيرة رسول الله وأمير المؤمنين والنصوص التي من هذا القبيل كثيرة جداً في السنة المروية عن النبي وعن أئمة أهل البيت من طرق الشيعة والسنة يجدها المتتبع في ثنايا معظم أبواب الحديث والفقه وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.