شعر الشكوى عند أبي العتاهية وناصرخسرو القبادياني (دراسة موضوعية مقارنة)
يتناول البحث دراسة شعر الشكوى، بواعثها، وأصداءها في شعر أبي العتاهية وناصرخسرو القبادياني في إطار الأدب المقارن. ظهر شعر الشكوى عند هذين الشاعرينِ نتيجة البواعث المختلفة، فمنها ما تعود إلى البواعث الخارجية كالدّين والسياسة والاجتماع، ومنها ما تعود إلى البواعث الشخصية كالمشيب وفراق الأحباء والأقرباء والشعور بالوحدة والغربة.
تسبب معظم الشكاوى في شعر أبي العتاهية عن ذمّ الدهر والخوف من الموت بينما تنتج معظم الشكاوى عند ناصرخسرو عن التدهور في الظروف الاجتماعية والدينية نتيجة ما راج في المجتمع من التدهور الخلقيّ ومظاهر الحرمان والاعتداء على الحقوق.
تمهيد
يعتبر الأدب المقارن (Comparative Literature) منهجاً يحاول الكشف عن علاقات التقارب والتشابه بين الأدبين طلباً تقريب الآداب العالمية من مجالات المشاعر المشتركة ليخلد الأدب كتراث حيّ بين الشعوب. الأمر الذي لا ريب فيه أنّ الدراسات المقارنة تنجرّ إلى تنمية الآفاق الأدبية والأحاسيس المشتركة، تمكيناً للعلاقات الأدبية وتوطيدها بين الأمم المختلفة للحصول على أوجه التشابه والاختلاف بينها. انطلاقاً من هذا الموقف، يعدّ الأدب المقارن «علماً يزود القارئ بوسيلة تمكنه من النظر إلى الأعمال الأدبية المنفصلة في الزمان والمكان دون اعتبار لحدود الإقليمية... محيطاً وملمّاً بالظواهر الأدبية بغضّ النظر عن فضاءاتها ومناهجها المختلفة»([1]).
إذا أمعنا النظر في مطاوي الشعر العربي نجد أنّ ظاهرة الشكوى ضربت جذورها في القدم وافترشت مساحة واسعة من الشعر وحظي منها بنصيب وافر، فيعدّ الشعراء الصعاليك من أبرز الشعراء الجاهليين الذين امتلأ شعرهم بصرخات الجوع وسوء الحال والفاقة، ولذلك نجد الشاعر الجاهلي يقول:
وَما كثرةُ الشَّكوى بأمرِ حزامةٍ |
وَلا بُدَّ مِن شكوى إذا لم يكنْ صبر([2])
|
تعتبر الشكوى صرخة عارمة تجاه المشاعر والأحاسيس المكبوتة والخائبة وتُفصح عن فقدان الصبر وانعدام القوّات الداخلية أمام النوائب والكوارث واستجابة للنفس المثقلة بالأحزان والمآسي، وهي تعدّ حالة شعورية تنبني على وجع وألم داخليّ يلمّ بالإنسان نتيجة أمر يستلزم الإبانة عن الصراخ والتعب والبكاء.
في الحقيقة يصوّر المتوجع نفسه مصاباً بعذاب أو جراح أو تعسّف لا يرى لديه من الإمكانيات سوى الكلام الحزين أو الصارخ، فيسلك مسلكها للتعبير عن مكنوناته النفسية ودواخله. فالحزن والشكوى من حالات الإنسان النفسية التي تنشأ إثر الأسباب الداخلية والخارجية لتنمّ عن ضعفه أو انكساره، فمن ثمّ تلمّ بساحته القلاقل.
الدراسات السابقة
اهتمّ الباحثون بشعر أبي العتاهية وناصرخسرو من جوانب مختلفة، غير أنّهم لم يدرسوا شعر الشكوى عندهما خاصة في إطار الأدب المقارن، فلم تجر دراسة مستقلة قائمة بذاتها حتى الآن في شعر هذين الشاعرين من منظور الشكوى. تطرّق أحد الباحثين إلى دراسة شعر أبيالعتاهية من منظور تأثير القرآن وموضوعاته في شعره ونشر بحثاً تحت عنوان «المضامين القرآنية في شعر أبيالعتاهية» في مجلّة الدراسات الدينية في إيران. نشر بحث آخر حول شعر ناصرخسرو تحت عنوان «التأويل القرآنيّ من منظور ناصرخسرو» وكذلك بحث آخر في مجلة الأدب الغنائي (سنة 1389ﻫ).
لم يتطرق الدارسون في بحوثهم هذه إلى موضوع الشكوى، بواعثها وأنماطها في شعر هذين الشاعرين. فمن ثمّ يحاول البحث تسليط الضوء على شعر الشكوى وأنماطها وحوافزها عند أبي العتاهية وناصرخسرو معتمداً على المصادر الأدبية خاصّة ديوانيهما الشعريينِ والمصادر التاريخية وكتب السير والتراجم حتّى يحصل على أصداء الشكوى عندهما عثوراً على أفضل نتيجة في شعر الشكوى لديهما، فهماً لمصادر الشكوى وما ساقهما مساق التعبير عن الشكوى في الشعر.
سبب اختيار أبيالعتاهية وناصرخسرو للبحث
بما أنّ أباالعتاهية وناصرخسرو يعتبران في الأدب العربيّ والفارسيّ من الذين اهتمّوا بقضايا المجتمع في عصرهم، فحاولنا في هذا البحث أن نتطرّق إلى دراسة الشكوى عندهما، مع أنّنا نعلم أنّ موضوع الشكوى تمتّ بصلة وثيقة إلى موقف الشعراء تجاه ما ساد المجتمع من الأعراف والرسوم وهذا مما يجعلهم يعبرّون عن مواقفهم تجاه القضايا المختلفة فيه. لقد أطال أبوالعتاهية وناصرخسرو الكلام عن الحياة النموذجية المثالية التي طالما توقّعا أن تحدث في المجتمع خاصة عند ناصرخسرو الذي ملأ أدبه عامة وشعره خاصة بالمضامين الدينية والحكمية وأدرج فيها انتقاداته ابتغاء الإصلاح في مختلف المجالات كالدين والسياسة حيث عدّه أحد الأدباء «أشجع ممثّل لفكرة الاحتجاج في الأدب الفارسيّ»([3]).
أهداف البحث
تشكل هذه الدراسة محاولة للوقوف على ظاهرة الشكوى وأنماطها من خلال أشعار أبيالعتاهية وناصرخسرو وكيفية تطرّقهما إلى هذا الموضوع لنفهم هل كان هذا الموضوع مجرد فكرة عابرة خطرت بذهنهما، أم كان تدعمها الأسس الفكرية أو الاجتماعية أو الشخصية أو غيرها، وكذلك الكشف عن مدى تأثير البواعث الخارجية كالدين والسياسة والشعور بالوحدة والأسباب الداخلية في تكوين شعر الشكوى عندهما. يعتمد البحث على المدرسة الأمريكية من مدارس الأدب المقارن للعثور على أوجه الاختلاف والاشتراك في موضوع الشكوى عند أبيالعتاهية وناصرخسرو القبادياني.
1- مفهوم الشكوى
الشكوى مفردة تعبر عن الحزن والتوجع، فذكر صاحب «لسان العرب» أنّ الاشتكاء إظهار ما بك من مكروه أو مرض ونحوه وقال: الشكاية والشكية إظهار ما يصفك به غيرُك من مكروه واشتكيتُ فلاناً إذا فعلتُ به فعلاً أحوجه إلى أن يشكوك ([4]).
والمراد منها من منظور المصطلح «التوجع من شئ تنوء به النفس، كالمرض، والشيخوخة، والموت، والدهر وغير ذلك من المظاهر والحالات التي قد تعرض للشخص فتكدر عليه صفو الحياة ويشعر إزاءها بالهموم وشدّة اليأس» ([5]).
الأمر الذي لا ريب فيه أنّ الإنسان في حياته اليومية لا يكون على حالة واحدة من الثبات والاستقرار، بل تنتابه الأمراض والمتاعب طوال الحياة، فيختار الشكوى بمثابة قالب يفرغ فيه مكنوناته وهواجسه الداخلية. فمن ثمّ تنبعث الشكوى من الشعور بالتعسف أو الحرمان نتيجة ما شاع في المجتمع الإنساني من الفوضى والاعتداء على الحقوق وعدم الاهتمام بالمبادئ الإنسانية، فكلّما راج الحرمان والظلم ضدّ الإنسان زاده حسرة وشكوى «نتيجة لما أحدثته الأيام، فما عاد للسعادة طعم عند الناس حتّى وإن عرفوا الاستقرار في يوم من الأيام» ([6]). انطلاقاً من هذا الموقف، تعتبر الشكوى من أصدق الموضوعات الشعرية التي ترسّم حالة الإنسان أصدق ترسيم وتكشف عن واقع المرء ومعاشه وهي أفضل وسيلة للإبانة عن أشجانه وآلامه التي يواجهها طيلة الحياة.
تنشأ الشكوى من مصادر مختلفة، فمنها ما تعود إلى عدم تحقيق الطموحات والإحساس بالإحباط والفشل فيها، ومنها ما تنبعث من الظروف السائدة على المجتمع من الأخلاقية والسياسية والدينية، ومنها ما تنشأ عن خصائص الشخص النفسية وما جبل عليها. فمن هذا المنطلق، تعتبر الشكوى ذلك الطريق الوحيد للإبانة عن الوجع الداخليّ الذي يعانيه الإنسان إزالة للهموم والآلام.
تتميز الشكوى عن بقية الموضوعات الشعرية بفقدان التصنّع وتفيض بالمكابدة والوجد والصداقة في الإفصاح عن المكنونات المليئة بالألم والهمّ.
2- الشكوى قبل أبي العتاهية
لم تكن الشكوى في الشعر العباسيّ خاصة عند أبيالعتاهية ظاهرة حديثة ظهرت إثر الأسباب السياسية أو الاجتماعية أو غيرها، بل كانت ظاهرة قديمة قدم الأدب نفسه واختلطت بسائر الموضوعات الشعرية ضمن القصيدة، فإذا أمعنا النظر في الشعر الجاهليّ نرى الملك الضلّيل، إمرئ القيس، يعبر عن نفس المعنى قائلاً:
عُوجا على الطَّللِ المحيلِ نبكي الدّيارَ كما بَكى ابنُ حذام ([7])
عندما وجد الشاعر الجاهلي نفسه أمام مصائب الحياة وما ألمّ به من العجز والحرمان لم ير تجاهه طريقاً سوى التعبير عن المشاعر الدفينة وبثّ الشكوى «فإنّه قد تظلم حينما شعر بالظلم وشكا حينما أحسّ بالحيف» ([8]).
عندما بزغت شمس الإسلام ونوّرت المجتمعات الإنسانية بالمكارم الأخلاقية والمثل الدينية السامية اكتظت الحياة في جميع مجالاتها بمعالم الإصلاح والأسس الفكرية النبيلة، فالإسلام لم يهتمّ بالمبادئ العقيدية للمسلمين فحسب، بل «رسم لهم أيضاً طريق الفضيلة وما ينبغي أن يتحلّوا به في سلوكهم وأخلاقهم حتّى ينالوا رضا الله ومحبته» ([9]).
إنّ الممعن في شعر الشكوى في هذا العصر (العصر الإسلامي) يجد أنّ الإسلام وتعاليمه السمحة أضفى عليها نوعاً جديداً من الشكوى التي تختلف عمّا نجده عند الجاهليين. اتجه عدد من الشعراء في العصر الإسلاميّ في التعبير عن شكواهم إلى الله تعالى، فتكوّن هذا الأمر من خلال التعاليم الدينية السمحة، ومن ثمّ وجّه جميل بثينة شكواه إلى الله تعالى إثر صدود حبيبته قائلاً:
إلى اللهِ أَشكو، لا إلى النّاسِ |
|
وَلا بُدَّ مِن شَكوى حبيبٍ يروّعُ |
|
تأثّر الشعراء والأدباء في هذا العصر بالمعطيات والموضوعات الدينية والإسلامية، فنشأت الشكوى لديهم في محاور جديدة لم يسبق عهد بها عندهم، كالحنين إلى الديار والمواطن، نزوح المناضلين عن الوطن مجاهدةً في سبيل الله تعالى، والشكوى من الحكام وتعسفهم، والشكوى من الفاقة والفقر المدقع، فنلاحظ من خلال هذا الأمر أنّ الشعر جاء استجابةً للمؤشرات الجديدة التي تنطبق مع ما كان عليه المجتمعات من الظروف الحديثة، فتنوّعت موضوعاته وتشعبت واستقلّت قصائد الشكوى.
2-1- الشكوى قبل ناصرخسرو
ظهر شعر الشكوى في الأدب الفارسيّ في القرن الثالث الهجريّ وتنقسم حسب الموضوع إلى خمسة أقسام: الشكوى الفلسفية، العرفانية، الاجتماعية، السياسية والشخصية. إذا أمعنا النظر في ثنايا الشعر الفارسيّ نجد أنّ الشكوى عند القدامى أي قبل ناصرخسرو، جاءت بصورة غير مستقلة ومبعثرة في تضاعيف القصائد، لكنّها صارت بمثابة فنّ مستقلّ قائم بذاتها بعد عصر النهضة الدستورية ([11]).
ظهرت الشكوى في العصر السلجوقيّ بصورة واضحة في الشعر الفارسيّ نتيجة ما ألمّ بالمجتمع من التدهورات الاجتماعية والسياسية وما ترﻙ من بصمات واضحة ومؤثرة في نفسية الشعراء حيث نستطيع أن نعدّ الشكوى في القرن السادس فرعاً من فروع الأدب الغنائيّ واُستبدلت الشكوى في هذا العصر بالتشبيب والتغزّل الذي راج في العصر السامانيّ، ويعود السبب إلى التدهور وشيوع الفوضى في الظروف السياسية والاجتماعية ([12])، فجعلت هذه الظروف المتدهورة الشعراء يطلقون اللسان في الشكوى من الدهر وأبنائه والتنفير منه والشكوى من كساد سوق الفضل وطموس معالم المروءة ([13]).
3- نظرة موجزة إلى حياة أبي العتاهية وناصرخسرو
يعتبر أبوالعتاهية من أبرز وأهمّ الشعراء العراقيين الذي ولد وترعرع في حضن الأدب في العراق. ولد إسماعيل بن القاسم بن سويد بن كيسان الملقّب ﺑ «أبي العتاهية» سنة 130ھ، وكنّي ﺑ «أبيالعتاهية»، لأنّه كان يحبّ المجون والتّعتّه والشّهرة ([14]). عاش عصراً امتاز بكثرة الأزمات الرّوحيّة والفكريّة، وتكوّن موجات الشّك والحيرة في تعاليم الدّين الحنيف، وهذا ناتج عن كثرة الفرق والنّحل والأقوام ([15]). شاهد طوال حياته تعسف العبّاسيين وتقلّباتهم السّياسية، وما يلحق العلويين من أذى وتقتيل وتشريد ([16]). لا ريب أنّ العصر العباسيّ من العصور التي تجلّت فيه المتناقضات الفكرية والعقيدية، فمن جانب ظهرت طبقة من الشعراء الذين أسرفوا في حياة العبث والمجون وعبّوا من كوؤسها، كأبي نواس وبشّار بن برد، ومن جانب آخر ظهر آخرون ملأوا حياتهم بالتقوى والنّسك والزّهد، كإبراهيم بن أدهم، ورابعة العدوية. نشأ أبوالعتاهية في مثل هذه البيئة فلا غرو إن تأثّر بها، ومن ثمّ نستطيع أن نعدّ شكواه ردّة فعل ضدّ الشذوذ الخلقيّ والدّينيّ الذين سادا عصره.
ولد الحكيم ناصر بن خسرو بن حارث القباديانيّ المروزيّ المكنّي ﺑ «أبي معين» سنة 394ﻫ في «قباديان» من أعمال «بلخ»، وفي النّهاية تُوفّي سنة 481ﻫ في «قباديان» ﺑ «بدخشان» ([17]).
عاش ناصرخسرو في عصر كثر فيه الجدال بين الملل والنّحل الفكرية، وعانى الوطن ظلم عدد من الحكام الغزنويين والسّلاجقة، فتسرّبت أصداء هذا الجدال في شؤون النّاس وحدثت أحياناً الفتن والثورات. نشأ في فترة شاع فيها التّعصّب في العقائد والآراء الدينية ولم يكترث بحرية الفكر والقول وتدخّل بعض الحكام في شؤون النّاس لاسيما العقائد الفردية. فاشتغل عدد غير قليل من الأدباء والشعراء بمدح الملوك بدلَ الإقبال على المضامين والمعارف الدينية السامية ([18]).
4- أنماط الشكوى عند أبي العتاهية وناصرخسرو
4-1- أنماط الشكوى عند أبي العتاهية
تطرّق أبوالعتاهية في ديوانه الشعريّ إلى أنماط مختلفة من الشكوى نتيجة الأسباب المختلفة التي يعود بعضها إلى الظروف الاجتماعية والسياسية ويعود بعضها الآخر إلى الأسباب الشخصية والمواقف الفلسفية وما أحاط به من الهواجس الدفينة.
تنقسم الشكوى عند أبيالعتاهية بصورة عامة إلى أربعة أقسام:1- الشكوى من الشيب وما حلّ به من الضرّ والمرض والفتور، وقد أدرج الشاعر فيها الشكوى من الدهر، الناس، والشكوى من الأيام التي قضاها الشاعر في حياة العبث خاصة عهد الشباب 2- الشكوى الفلسفية وهي تشتمل على الشكوى من لغز الموت وتمنّي الخلود في الحياة الدنيا 3- الشكوى الذاتية وهي تشتمل على الشكوى من ضعة النسب، والشكوى من فراق الحبيبة وهجرها 4- الشكوى الاجتماعية.
4-1-1- الشكوى من الشيب
تعدّ الشيخوخة من مراحل الحياة الإنسانية التي يكثر فيها الشكوى والتذمّر لما فيها من التأثير البالغ في الاهتمام بذكر الموت والاستعداد للرحيل الأكبر، فهي رسول الموت الذي يكشف عن زوال الشباب وأيام الدعة والتنعم وتسرُّب الضعف في كيان الإنسان وينمّ عن ضعف القوّة وكلال البصر ودنوّ الموت ونهاية الأمر.
يعتبر الشيب والشباب وما يرافقهما طيلة الحياة حتى الموت من الموضوعات التي شغلت ذهن أبيالعتاهية وأثارت زوبعة في كيانه، فلا نغلو إن قلنا إنّ المشيب يعدّ بعد فكرة الموت ومصير الإنسان من الموضوعات الرئيسية التي شغلت باله في الحياة الدنيا. فهو فضلاً عن تحسّره عقبَ فقدان الشباب وما تمتّع به من الملهيات، نجده يسأل عن نهاية الإنسان في الحياة الأخرى وصلة الشيب والإنابة بتلك الحياة وما اقترف في الحياة الدنيا من الآثام والذنوب التي أثقلت كاهله.
إنّ المتأمّل في شعر أبي العتاهية يجد أنّ الشاعر برمّته يخاف من الشيب إثر ما ارتكب في الحياة من المنهيات ويخاف من مصيره في تلك الحياة الخالدة، وتصل كراهية الشاعر للشيب مرتبة يجعله مساوياً للموت فيعتبره إحدى الميتينِ، لأنّه يحرم وانقطعت أيديه مما تمتّع به من الملهيات في أيام الشباب ومن أجل ذلك يتحسّر أشدَّ التحسّر على انعدام الشباب، فيقول:
الليلُ شَيبَ والنَّهارُ كلاهما |
|
رأسي بِكثرَةِ ما تَدُور رحاهما |
|
||
|
||
|
تعدّ الشعرات البيض في رأسه وما رافقها من الضعف والآلام من أهمّ البواعث التي ساقت الشاعر مساق التعبير عن الشكوى في زمن الشيخوخة وهي من الملامح التي تشير إلى دنوّ الموت وذهاب النشاط وقدوم الهرم. وقف أبوالعتاهية من الشيخوخة موقف الغاضب والمتشائم الشاكي من اقترانها به، فوجد نفسه عاجزاً عن مواجهة الزمن، فيبكي زماناً قضاه في عنفوان الشباب أو زماناً تمتّع فيه بالملهيات الدنيا، ويذرف الدموع لأيام لم تثقل كاهله فيها سوى أعباء الشيخوخة وسقمها، فتحقق له البكاء والعويل على ما فقد وشعر بالخوف ممّا هو آتٍ.
الشكوى من ذهاب الشباب وحلول المشيب من الموضوعات التي شغلت بال الشاعر في زمن الشيخوخة، فنراه دائماً متحسراً متألماً على ما فات من فرص الشباب وما ألمّ به في الشيخوخة من الضعف والوهن والانكسار، فيقول باكياً على الشباب الذاهب:
لَهفي عَلى وُرقِ الشَّبابِ |
|
وغُصونِه الخضرِ الرِّطابِ |
يتّضح لنا من خلال هذه المقطوعة أنّ الشاعر قد بلغ من الطعن في السّنّ ما جعله يتحسّر على أيام الشّباب التي عاشها في سرور ودعة، فهو يرقب الموت بما يماثله من الضعف وما يصاحبه من مشاعر الاستسلام لقدر المشيب والخور والعجز الجسمانيّ بزمن القوّة والشباب وربما كان هذا العجز وخيبة الآمال من أهمّ دواعي التوجع والشعور بالأسى والانكسار لديه. فتتسم نظرته هنا بنظرة الإنسان المتأمل الذي كاد يغصّ بذرف الدموع السخينة خوفاً من الفناء وأصابت همومُه الفادحة وجدانه بالغضون في زمن الشيخوخة، فيحنّ من وطأة الشيب وفداحة موفقه.
4-1-1-1- الشكوى من الزمان
اكتظت العصور المختلفة في الأدب بالشكوى من الزمان، لأنّه يرفع الجهلاء والأراذل ويضع الفضلاء والعلماء. حفل العصر العباسيّ خاصة أيام أبي العتاهية بشكوى الزمان ومعاتبته للدهر ويعتبر هذا النوع من الشكوى آهات طبيعية لقساوة الدّهر وتدهور الظروف العامة في الحياة. إذا أمعنا النظر في مثل هذه الشكوى نجد أنّها لم تصدر من فلسفة ذات أبعاد محددة تدعمها المواقف الفكرية أو الفلسفية تجاه لغز الحياة والناس، بل كانت أصداء نفسية مليئة بالحوادث والوقائع التي جرّعته نُغب التَّهمام والأسى.
تصوّر مواجهة أبي العتاهية لشكوى الزمان في أوضح صورها أصداء واسعة لما تركته الظروف المتدهورة من بسمات واضحة في حياة العامّة، فعلى سبيل المثال عندما نراه متشاكياً من الواقع المعاش معبّراً عن السخط، لم يستطع أن يعبّر عن صريح الكلام في مواجهة الظالمين خوفاً من التنكيل والعقاب. فمن هذا المنطلق، تجاهل مصادر الفساد الحقيقيّ وكنّى عنه بالزمان أو الدنيا والدهر وأبنائه.
افترشت الشكوى من الزمن مساحة واسعة من شعر أبي العتاهية حتى صار الزمان رمزاً لمحنة الشاعر وقالباً لبثّ مصائبه وآلامه، فاتخذ من الزمان ما يساعده على التعبير عن آلامه وأشجانه، بينما نجد وراء هذا الأمر بواعث مختلفة أخرى كالسياسية والاجتماعية التي كانت من البواعث الخفية التي تكمّنت في نفسيته الكئيبة.
نشأت الشكوى في القرنينِ الثاني والثالث نتيجة اتّساع الفقر والبؤس في المجتمعات البشرية، فمن ثمّ اتجه عدد غير قليل من الشعراء في شعرهم نحو التعبير عن الشكوى إثر المتغيرات السياسية والاجتماعية التي ألمّت بالحياة، فأرادوا التعبير عن مدى أشجانهم وآلامهم للإفصاح عن سخطهم إزاء تلك الأحداث متجاهلين مصدر الاضطراب الحقيقيّ للقلق، فكنوا عن قلقهم وأسبابه بالزمان والدهر والدنيا ([21]).
اختلف الخطاب عند أبيالعتاهية للزمان حيث اختار له صوراً ومسمّيات مختلفة، منها الزمان، الأيام، الدّنيا والليالي وقد اهتمّ بالليل والنهار اهتماماً خاصّاً لما ينمّان عن شدة وجدانه وولهه في هذه الأوقات. الواقع الذي لا شكّ فيه أنّ الزمان في شعره يعدّ رمزاً للإفصاح عن طموحاته وآماله الضائعة، فاتخذ الزمان للدلالة على رفض الواقع العامّ حين يصف الليل والنهار يقضيان على كلّ شئ ويأخذان كلّ ما يعطيان، فيقول:
لَو عَقَلنا إِذ النَّهارُ يسوُق الـ |
|
ليلَ والليلُ إِذ يسوُقُ النَّهارا |
يأخذ الزمان مسمّى آخر عند أبي العتاهية حيث يخلق دلالة جديدة للإطار الزمني الذي عاشه، فمن ثمّ حضرت كلمة «الدّهر» في ديوانه الضخم حضوراً فعّالاً، فاختلطت همومه النفسية بمعطيات الدهر وأبنائه وحينما تصيبه كارثة يعزوها إلى الدهر، ويقول:
أَيا عَجَباً لِلدَّهرِ لا بِل لرَيبِه |
|
تَخرَّمَ رَيبُ الدَّهرِ كلَّ إِخاءِ |
تطرّق أبوالعتاهية إلى فكرة الزمن الذي يقرّبه من الشعراء المحدثين في عصره، فأرجوزته «ذات الأمثال» يمكن أن نسمّيها «لوحة الزمان والزوال»، لأنّ الشاعر صوّر فيها دبيب الزمن على نفسه كما صوّر فيها سرعة مرور الأيام، فجعل الزمان بمثابة كيان مستقلّ وعبّر من خلاله عن الهموم والمتاعب التي خلقتها كثرة الذنوب والمعاصي في الحياة خاصة عنفوان الشباب. نلاحظ من خلال هذه المقطوعة شعوره العميق بالخوف من مغبّات الحياة المثقلة بالذنوب والكبائر ومستقبلها في تلك الحياة الخالدة، فنراه مصارعاً مع آلامه النفسية.
4-1-1-1-1- الشكوى من الناس
أدرج الشاعر في ثنايا القصائد التي تتعلق إلى شكوى الزمان، شكوى الناس وما كانوا عليه من القبائح والذمائم. يستنتج من شكوى أبي العتاهية من الدهر وأهله أنّ هذه الشكوى ربما تصدر من عدّة مصادر: التجربة الشخصية التي اكتسبها الشاعر بين أبناء الدهر وما أصابه خلالها من الحرمان والقنوط وسوء التصرف به، شعوره بضعة النفس والنقص، التدهور في الظروف الاجتماعية خاصة الدينية والخلقية، استعداده الفطريّ للذّم والأخذ على الآخرين بدلَ المدح. فهو حيناً ينسب البخل إلى الناس وحيناً آخر ينسب إليهم فساد الأخلاق وأخيراً بقلّة جدواهم وزوال الوفاء بينهم ويتّصفهم بالغدر والشماتة، فيقول:
برِمتُ بِالنَّاسِ وأَخلاقِهم |
|
فَصِرتُ أَستَأنِسُ بِالوَحدَةِ |
تكشف هذه الشكوى عن نفس خائبة محبطة لم تثق أحداً من الناس وصارت ترقب أبناء البشر على أنّ أهمّ ما يميزهم الخيانةُ والغدر قائلاً:
فَيا رَبِّ إِنَّ النَّاسَ لا ينصِفونَني |
|
وَكيفَ وَلَو أَنصفتهم ظَلَموني |
لقد أدرج الشاعر في تضاعيف قصائده الشكوى من قلّة الأصدقاء المخلصين والذين يتمنّى الشاعر الاتّكاء عليهم في أيام الشّدّة أو الرّخاء، فيشتكي من قلّة الأصدقاء الأوفياء في زمن تكالب الناس فيها على ملهيات الدنيا ومغرياتها، فيقول:
إِنَّ أَخاكَ الصّدقَ مَن كانَ مَعَكَ |
|
وَمَن يضرُّ نَفسَكَ لِينفَعَكَ |
|
يتضح لنا من خلال هذه المقطوعة أنّ الشاعر «يعاني قلّة الأصدقاء ويشتهي توافر الصداقة الحقّة فيمن يصادقهم» ([29])، فمن ثمّ ذهب أحد النقاد إلى أنّه «لو لم يكن لأبيالعتاهية إلاّ هذه الأبيات التي أبان فيها صدق الإخاء ومحض الوفاء لكان مبرزاً على غيره ممن كان في عصره» ([30]).
4-2- الشكوى الفلسفية
تتضمن الشكوى الفلسفية على لغز الموت وما أثار في نفسية أبي العتاهية من المخاوف تجاه هذا الموضوع في الحياة، فهو دائماً يشعر بخوف شديد من الموت وكان موت الأقرباء والأصدقاء يمرّ على قلبه ويبكيه، فضلاً عن أنّ الموت نفسه دليل على الحزن ومبعث الشكوى. اتخذ أبوالعتاهية الموت أداة طيعة للتخويف والتحذير خاصة في العصر الذي يعجّ بالظروف القاسية خاصّة من الجانب السياسيّ التي تهدّد استقرار الإنسان وحياته بأسباب الموت، فكلُّ هذا جعل من الرثاء والنصح والموعظة شكوى، وصار التناقض العقيديّ وكثرة الملل والنحل الفكرية والجوع والبؤس مؤشّرات تدفع إلى القلق والخوف من المصير.
تنوعت أسباب خوف الشاعر من الموت، فمنها ما تعود إلى ما تحمّل طيلة حياته من عقدة النقص والتعيير وضعة النسب، ثمّ ما عانى الضعف الجسمانيّ إضافة إلى رؤيته لما أُريق في الكوفة من دماء أثناء طفولته الأولى بسبب مقاومتها للعباسيين، فكلّ ذلك انجرّ إلى تهيئة أرضيّة مناسبة لنموّ بذرة الخوف الشديد من الموت، أي إنّه قبل أن يهدّد الناس بالموت ويتمنّاه لهم قد ظلّ يرتعش ساعات وأياماً طوالاً أمام شبح غوله المخيف ([31])، فللموت قوة مسيطرة ومهيمنة لا تستطيع أيّ قوّة مواجهته، فلهذا أقام صلات وطيدة بين الموت والزمن.
اتخذ الشاعر القبور من أهمّ المظاهر في الحياة التي تثير الأشجان في نفس الإنسان ويعدّ الأجداث هي المصير النهائيّ للإنسان. فالشاعر رغم إقباله الشديد على الدّنيا والتهافت على مغرياتها يحاول أن يقلّل من شأن الحياة والدنيا حين يقبح التفجّع والتحسّر على ذهابها الحثيث ويعدّ تجربة الموت بين الأنام بمثابة مصدر ثرّ للتعزية والهدوء ويقول:
الموتُ بَينَ الخَلقِ مُشتَرَكُ |
|
لا سوقةٌ يبقي وَلا مَلِكُ ([32]) |
4-3- الشكوى الذاتية
يشتمل هذا النوع من الشكوى على الشكوى من ضعة النسب ومحاولة الهروب من واقعه المؤلم، والشكوى من فراق الحبيبة وصدودها خاصة من قبل «عتبة» التي هام أبوالعتاهية بها وقاسى من حبّها صنوف العذاب والألم، لكنّه خاب وأحبط في ذلك الحبّ وهذا الأمر من البواعث التي ساقت الشاعر مساق التزهّد والتنسّك.
هرب أبوالعتاهية طيلة حياته من الأصالة النبطية، لأنها كانت من الطبقات الحقيرة في الحيرة، فساقه هذا مساق التعويض للإحساس بهذا النقص والهوان. إنّ ضعة الشاعر لم تنشأ من خلال اضطراب الشاعر في أصالته فقط، بل تعود إلى مهنة أبيه الذي كان حجّاماً زمن حياته ويشير الشاعر إلى نفس الموضوع في شعره ليزيل عن نفسه عار هذه المهنة قائلاً:
أَلا إِنَّما التَّقوى هُوَ العزُّ وَالكرمُ |
|
وَحُبُّكَ لِلدُّنيا هُوَ الذُّلُّ وَالعَدم |
|
أفصحت هذه الشكوى النفسية عن حسرة وألم دفين في نفس الشاعر وكانت شكواه ناتجة عن نفس متعبة ومثقلة بالهموم وما ألمّ بها من المصائب والكوارث. انطلاقاً من هذا الموقف، نرى الشاعر يحنّ إلى حبّ «عتبة» في شعره ونبض قلبه بحبّها وهام بها وأحبّها بكل عواطفه، وحينما قنط من العثور عليها أذرت عيناه الدموع السخينة ووجف فؤاده وعبّر عن شكواه تجاه الحبيبة آملاً ودّها ووصولها، فيقول:
يا عُتبُ هَجرُكِ مُورثُ الأَداوءِ |
|
وَالهجرُ لَيسَ لِوُدّنا بِجزاءِ |
لقد تراكم جمّ غفير من مقطوعاته بالشكوى من الحبيبة المجافية التي صدّت عن الشاعر المتيم، فهزّت النفس من أعماقها ويلقي الشاعر من صدودها ما لقى، ومن أجل ذلك وردت أصداء هذا الأمر في شعره مما تمثل مدى معاناته ومكابدته صارخاً شاكياً باكياً مصرحاً بما يعانيه من الوجد وألم الفراق.
سالت دموعه الغزيرة على فقدانها وأصيب بالنكد والحزن إثر صدودها، فصارت «عتبة» جزءاً لا يتجزّأ من عقدة النقص التي يعانيها الشاعر، ومن الثورة العارمة على الأوضاع الاجتماعية، وفي هاتين الأخيرتين تكمن الأسباب الحقيقية والعميقة لتحوّله إلى الزهد الظاهريّ ([35])، فالهمّ وعدم تحقق الرجاء يعصران قلبه بعد أن تبين له هذا الهجر الأبديّ.
نجد في ثنايا ديوانه الشعري أنّ الشكوى لديه ناجمة عن قلب أحرقه الفراق والأسى وكوته معالم الحبّ واصطلى بنار الفراق والصدود، فزال التلاءم والالتحام بين قلبه وعقله نتيجة ما انتابه من الحبّ الخائب وسيطرة الهوى الذي أفقده السلوان والصبر، وهذا مما ساقه مساق الشكوى من استحواذ الحبّ عليه ومرارة العشق، فانفطر قلبه حبّاً، فأصيب بالإحباط النفسيّ الكبير الذي جاءت أصداءه في مثل هذه الشكوى عنده.
4-4- الشكوى الاجتماعية
تصدر الشكوى الاجتماعية عند أبي العتاهية إثر التدهور في الظروف الأخلاقية والفكرية والسياسية والاقتصادية السائدة على المجتمع العباسي. ذهب شوقي ضيف إلى أنّ الطبقات البائسة في هذا العصر كانت أكثر الطبقات عدداً وكانت تكدح وتشقي وتتصبّب عرقاً لينعم الخلفاء والوزراء وعليّة القوم وكبار التجّار والأقطاعيون بالحياة الرغدة والعيش الناعم غير مفكرين في جوع جائع ولا في عرى عارٍ، بينما تتجرّع الطبقات الفقيرة آلاماً ثقالاً وأهوالاً طوالاً وكأنّما عميت الأبصار وصمّت الأسماع ([36]).
ظهرت أصداء هذا التدهور في شعر أبي العتاهية، فيقدّم للمتلقّي أفضل صورة عمّا يعانيه جمهور الشعب من التعب والعناء والتفاوت الطبقيّ الهائل بين الشرائح المختلفة، فيقول:
طَغَى النَّاسُ مِن بَعدِ النَّبيِّ محمّدٍ |
|
فَقَد دُرِسَت بَعدَ النَّبيّ الشَّرائِعُ |
|
||
|
||
|
5- شعر الشكوى عند ناصرخسرو
يتضمن شعر ناصرخسرو على أنماط مختلفة من شعر الشكوى، فمن جرّاء ذلك نستطيع أن نعدّ أهمّ مظاهرها عنده فيما يلي:
1- الشكوى من الزمان وأبنائه 2- الشكوى من الشعراء 3- الشكوى من الهجر والغربة 4- الشكوى من الأصدقاء 5- الشكوى من الشيب 6- الشكوى من السجن.
5-1- الشكوى من الزمان وأبنائه
تعتبر الشكوى من الزمان (الدهريات) وأهله من أهمّ صور الشكوى عند ناصرخسرو، فالذي لا شكّ فيه أنّ معظم هذه الشكاوى تعود إلى عاملينِ هامّينِ: الأول منهما تغيير المذهب الفكريّ من قِبَل الشاعر واعتناق الإسماعيلية واتهامه إثر ذلك بالزندقة والإلحاد، والثاني تهجير الوطن واختيار التنحّي والإقامة بين الجبال الشاهقة في منطقة «يمكان». حظيت الشكوى من قِبَل ناصرخسرو بالقدح المعلى وكان الشاعر في هذا الفنّ يعبر عن غضبه وسخطه لما ساد المجتمع من الأعراف البالية، فمن أجل ذلك اتّسمت شكواه بصدق العاطفة وشدة الحرارة ويقدّم للمخاطب في تضاعيف أشعاره تلك البيئة التي عاشها بجميع جوانبها المختلفة.
إذا أجلنا النظر في ثنايا قصائده نجد أنّ الشكوى منبثّة في طياتها وتتمحور أحياناً حول أشخاص معينين ينتمون إلى أصحاب السلطة في المجتمع كالملوك الأتراك من الغزنويين والسلاجقة، فتشبه الشكوى في هذا المجال بالانتقادات اللاذغة منهم، فضلاً عن أنّ ناصرخسرو كان أكثر إحساساً من الآخرين خاصّة الشعراء المعاصرين له بما يجري في البلدان ومسقط رأسه من ظلم واعتداء على الحقوق ودمار، فنجد أنّ الشكوى مبثوثة في تضاعيف مقطوعاته المختلفة ولم تكن عنده غرضاً مستقلاً بذاتها.
تصدر شكواه من خلال إحساسه بفداحة الظروف القاسية السائدة على «الخراسان» خاصّة الظروف الدينية وكثرة التلاعب بالدين والمعتقدات الإسلامية التي جلبها الاحتلال الغزنويّ والسلجوقيّ، فراح يحمل على عاتقه تبليغ الأسس والمبادئ الدينية في المجتمع، ومن ثمّ أعطي أدبه عامّة وشعره خاصّة مهمّة دينية، وحاول أن يصوّر صراعه النفسيّ بين احتماله لوضعه المؤلم وبين كيانه الأدبيّ الذي ربما فقده في مثل هذا المجتمع.
رغم كثرة الشكوى في شعره فإنّ الشاعر لم تتح له الفرصة كثيراً ولم ينشد القصائد الطويلة في هذا المجال مع ما رأى في المجتمع من شيوع الرياء والنفاق والحرمان والتعسف وكساد بضاعة الشعر، فلعلّ السبب يعود إلى أنّ الشاعر تطرّق في شكواه إلى القضايا والموضوعات التي تخصّ المجتمع، ومن أمثلة أبياته ما يقول:
شاد مبادا جهان هكرز كه او كرد |
|
شادي و عزّ مرا بدل به غم وذلّ |
أي: لا جُعلت الدنيا مسرورةً، فإنّها بدّلت سروري حُزناً وعزّتي ذلّاً. كانت نفسي كالقصب النحيف وجسمي كالجبل، فقد جعل العالَمُ تلك النفسَ قويّة كالجبل، والجسم كالقصب. أيها الفلك الدوّار الأخضر بما فيك من الضعف والقوّة، أيها الفلك، أيتها الأمّ الغاشمة، أيتها الأمّ، لماذا تظلميننا هكذا؟.
يستنتج من خلال هذه المقطوعة أنّ دلالة الزمن في شعره ناجمة عن نوع من هاجس نفسيّ وتعتبر لوناً من التمرد عن الزمن الفيزيائي. ولربّما يعود السبب إلى كثرة الصراعات الفكرية والدينية وعدم الاستقرار والموت المتواصل بين الثورات التي نشأت بين الناس والسلطات الحاكمة إثر إهراق دماء الأبرياء والاعتداء على الحقوق.
لاحظنا أنّ الشاعر رأى نفسه أمام قساوة الزمن وشدته، فجعل نفسه رهين الخطوب والكوارث الواقعة، ونرى من خلال شكواه نفسية قلقة متناسية تئنّ من جرّاء ما أحاطت به من مؤديات الدهر وغوائله، فكانت شكواه من الزمان وتقلباته شكوى تكوّنت من واقعه المؤلم الذي أدركه وأراد بشكواه التعبير عن السخط والتذمّر من الأوضاع التعسة والمتردية التي شهدها مجتمعه آنذاك.
لقد اشتكى الشاعر كثيراً في شعره من أبناء الدّهر الذين رموه بالزندقة رغم علمهم بكثرة فضله وأدبه ومكانته المرموقة بين معاصريه، فالشاعر يشتكي من ثلاث طبقات من الشعب في شعره، فالأولى منها الذين اتخذوا الدين أداة للعثور على المناصب والاتصال الوثيق ببلاط الحكام وذوي الثروات وهم الفقهاء، والثانية منها الغَفَلة والجَهَلة الذين يزدرون الشاعر ويقللون من شأنه من دون علم ولا بصيرة، وأخيراً الثالثة وهي الحكام والمتنفذون الذين أخذوا بزمام الحكم وكبتوا صوت حرّيّة الفكر والقول، فيقول:
جون حكم فقيهان نبود جز كه به رشوت |
|
بي رشوت هر يك ز شما خود فقهائيد |
أي: يصدر حكم الفقهاء من أجل الرشوة، فكلّ أحد منكم فقيهٌ من دون الرشوة. عندما يرتشي العدوّ فإنّكم تصدرون الأحكام طلباً للرشوة. يتّهمني عامّة النّاس بالزندقة والإلحاد حسادةً على فضلي. إنّ فضلي جَلَبَ لي كلَّ هذه الفتن والفوضى. لقد سئمتُ من أبناء الدهر وابتعدتُ عنهم قولاً وفعلاً. عندما كنتُ أعمى كالآخرين لم يأخذوا عليَّ أينما ذهبتُ. إنّ الحاكم في الخلوة مع الغواني نهاراً، والمحتسب في معاقرة الخمرة ليلاً.
5-2- الشكوى من الشعراء
تمتّ هذه الشكوى بصلة وثيقة إلى مكانة الشعر وتوظيفه في عصر ناصرخسرو، فقد استخدم معاصروه الشعر أداةً للعثور على الصلات الهائلة بغية التزلّف إلى الحكام والمتنفذين، فمن ثمّ صار الشعر أداة للتكسُّب في أيدي شعراء البلاط لمدح الحكام والإشادة بهم. كانت نظرة ناصرخسرو إلى الغزل والتشبيب سلبية، وكان يضيق بأسلوب الشعراء الذين يبدئون القصائد بالتشبيب مع أنّه كان في بداياته من أهل التشبيب ووصف المعشوق ([44]) ويعدّ المدح كذباً ويضيق بمن يمدح الأمراء والسلاطين من الشعراء ([45]). انطلاقاً من هذا الموقف، فقد نهى نفسه عن وصف الذؤابة والعيون الزُّرق في الشعر معتقداً بأنّ هذا الأمر يحقّر مهمّة الأدب ويزدريه، فاتخذ الشعر أداة للتعبير عن المثل الدينية السامية والدعوة إلى الديانة الإسماعيلية وبثّ معالمها الدينية والعقيدية. فيقول في ذمّ التشبيب والغزل:
با بشت جو حلقه جند كوئى |
|
وصف سرِ زلفك معلّق؟ |
أي: كم تحدّثتَ عن وصف الذؤابة المعلّقة التي يداعبها الهواء؟. لقد أنشدتَ فترةً من الزمن حول الشَّعر الأسود والعيون الزُّرق. يا من تتكسّبون بالشعر في «الخراسان»، استمعوا إلى كلامي العميق إن كنتم شعراء. كيف تريدون العثور على الحكمة مع أنّكم تغترّون بالتشبيب ومدح الأمراء حرصاً واستزادةً.
الشعر عند الشاعر أرقى وأكثر قيمة من توظيفه للتعبير عن المدح الكاذب أو الثناء، فيعطي اهتماماً بالغاً بألفاظه وكلماته ويقول:
من آنم كه در باى خوكان نريزم |
|
مر اين قيمتى درّ لفظ درى را ([48]) |
أي: أنا الذي لا يطرح تحت أرجل الخنازير ثمين الجوهر في لفظ دريّ.
5-3- الشكوى من الهجر والغربة
عجّت حياة ناصرخسرو بالاضطرابات السياسية المختلفة مما دفعته إلى تهجير الوطن والابتعاد عن الموطن، إلاّ أنّه يستمرّ في ذكر موطنه متعلقاً بترابه مهما ابتعد عنه وارتحل متناسياً بذلك شظف الحياة وتقلّب الأيام. إذا أمعنا النظر في شعر ناصرخسرو نجد أنواعاً مختلفة من الشعور بالغربة لديه، فمنها الغربة السياسية، الاجتماعية، الدينية، الروحية، المكانية والزمانية، فليس لدينا متّسع من المجال في بحثنا هذا للتطرُّق إلى جميع هذه الأنماط، بل نكتفي من بينها بالغربة المكانية والدينية لما فيهما من أثر عظيم وبالغ التأثير في نزوع الشاعر نحو إنشاد الشكوى.
الغربة المكانية ناتجة عن ابتعاد الشاعر من مسقط الرأس والإقامة لفترة طويلة بين الجبال الراسية في «يمكان» والغربة الدينية ناجمة عن التلاعب بالدين والمعتقدات الدينية من قبل الأدخلاء والأغرباء الذين يتحكمون في المجتمع، فتحوّلت قصائده في هذا المجال إلى آلام وأنات تفوح بالشكوى الصارخة وتتسم باللوعة والأسى.
تتجلّي الغربة المكانية عند الشاعر إثر تهجير الشاعر عن موطنه ومسقط رأسه، لهذا نجده منطلقاً في الحنين إلى الوطن واشتكى من الغربة وظهرت عنده في قالب الصور والمعاني التي طفحت بالشكوى المفعمة بصدق العاطفة ويتّسم شعوره في هذا النوع من الشكوى بالتميز الناجم عن معطيات الإحساس بالغربة، فكان اغترابه عن الموطن إحدى وسائله في التعبير عن ذاتيته، فيقول:
بـــــــــانــــــزده سال برآمد كه به يمكانم |
|
جون و از بهر جه؟ زيرا كه به زندانم ([49]) |
أي: لقد مضت علي خمسة عشر عاماً في «يمكان». لماذا؟ لأنّني سجّين. أقمتُ ﺑ «يمكان» بين الجبال الشاهقة وليس حلولي هنا من العجز والضعف. بين آونة وأخرى هام رجالُ «الخراسان» بكلامي. إن يسمع رؤبة والعجّاج أشعاري يعترِهما الصّممُ.
نشأت الغربة الدينية من خلال التلاعب بالدين والاستبداد السائد من قبل الدولتينِ الغزنوية والسلجوقية وشيوع ظاهرة الارتشاء من قبل الفقهاء الذين انتموا إلى البلاط. ومن هنا انتشر البذخ والترف في عصر الشاعر وشاعت المذاهب الفكرية المنحرفة من قبل النظام السائد، واتخذت الحكومة الأسس الدينية كأداة للقتل والنفي وتعقيب المخالفين والتنكيل بهم.
كسدت سوق الحكمة والعلوم العقلية في عصر ناصرخسرو خاصة في «غزنة» و«الخراسان»، وعلى خلاف ذلك شاعت سوق المناقشات العقيدية والصراعات الدينية في هاتين البلدتين ([51]). يصف الشاعر الظروف الدينية والعقيدية السائدة على المجتمع ويقول:
همجو شب دنيا دين را شبست |
|
ظلمت از جهل و ز عصيان سحاب |
أي: اسودّ ليل الدين كليالي الدنيا من أجل ظلمة الجهل وسحب العصيان. ألم تَرَ أنّ الناس انصرفوا عن العلم، فنُسِي العدلُ وراجت الفوضى. صار بيت الخمّار كالقصر المشيد والمنبر مهدّم والمساجد خربة. هذه ليلة الدين فلا تعجب.
5-4- الشكوى من الأحبّاء والأصدقاء
تعتبر الصداقة من المؤشرات التي تؤدّي إلى ديمومة الحياة واستمرارها، فيبحث ناصرخسرو في شعره عن الذين يحبّون الفضائل الأخلاقية والدينية ويدخلون السرور على نفسه الكئيبة، وصار هذا الموضوع جزءاً من معاناته من الناس، فلربما هذه النظرة ناجمة عن فقدان الصديق المخلص والوفيّ طيلة الحياة خاصة في زمن الغربة.
يصور الشاعر الوحيد الكئيب في ثنايا أشعاره أياماً تمتع فيها بالأصدقاء الأوفياء لكنّهم بعد مدّة انقلبوا أعداء لُدّاً يغتنمون كلَّ فرصة عليه. اشتدّت أحاسيس الشعور بالوحدة من الأصدقاء حينما خلا بنفسه بين الجبال العالية في «يمكان» وعبّر هناك عن خلجاناته النفسية مشتكياً من ابتعاد الأصدقاء حتّى الأقرباء منه، فيقول:
من به يمكانم در به زندانم از اين ديوانكان |
|
عالم السّرّى تو فرياد از تو خواهم، آى ربّ |
أي: سُجنتُ في «يمكان» من أجل هؤلاء المجانين، اللهمَّ أنتَ عالم الغيب والسّرّ فأغثني. اشمأزّ ونفر منّي كلُّ مصاحب وذوو الأرحام والأقرباء. لا يقرأ أحدٌ كتابتي ولا يبوح باسمي، فانصرف الجاهل عنّي تقصيراً منه والعالِمُ خوفاً من الوقوع في الفتنة. حينما كنتُ سكرانَ تفقّد كلّهم علي وأمّا الآنَ فصحوتُ وصاروا علي كالحية والعقرب والجراد. ابتعد عنه الأقرباء كالأغرباء فلا يغيثه أحدٌ إلاّ الله تعالى.
5-5- الشكوى من الشيب
تميز هذا النوع من الشكوى عند ناصرخسرو بالذي نجده عند أبي العتاهية من عدّة جوانب، منها أنّنا لا نجد ناصرخسرو باكياً على ما مضى في الحياة من عهد الشباب والمرح، بل نراه متحسراً عليه لما قضاه في اللهو والمجون والغيّ، فاتخذ تلك الأيام بمثابة ذخر لأيام المشيب، فمن ثمّ حاول أن يبحث عمّا يعوض تلك الأيام، فوجد ذلك في الدين والعقل، ولا يزال يتخذ الشباب والمشيب تمهيداً للتعبير عن هذا الموضوع ويتمحور معظم مقطوعاته في الشباب والمشيب حول هذه المسألة.
إنّ المتأمّل في موضوع الشيب عند ناصرخسرو يجد أنّه يدور حول المحاور التالية: استرجاع أيام الشباب وما كان فيه من المرح واللهو- التحسّر على مرور تلك الأيام وما حلّ به من الضعف والفتور في الأيام الباقية- التأمّل وتدقيق النظر فيما سيؤل به الأمر إلى الحياة الأخرى- التعبير عن الموعظة والنصح لتنبيه المتلقّي بعدم الاغترار بالدنيا ونعيمها الزائل والاعتصام بالمثل الدينية - رجاء الغفران في أيام الشيخوخة والاعتبار بمن مضوا في القرون الخالية.
يقول الشاعر في التعبير عن الضعف والنصب أيامَ الشيخوخة:
لشكر بيرى فكند و قافله ذُلّ |
|
ناكه بر ساعدين و كردن من غل |
أي: لقد جعلني جيشُ الشيخوخة وقافلةُ الذّلّ مغلولاً. إذا حلّ جيشٌ بمكان يسمع فيه الجلب والأصوات، أمّا جيش المشيب فقد أفحمني. لا جُعلت الدنيا مسرورةً، فإنها بدّلت سروري حزناً وعزّتي ذلّاً. كانت نفسي كالقصب النحيف وجسمي كالجبل، فقد جعل العالَم تلك النفس قويّة كالجبل، والجسم كالقصب. فدقِّق النظر إن لم تثق، فإنّ الدهر جعل جسمي كالقصب. قد أفسد الدهرُ أسناني كلُّها وصِرتُ أدردَ.
5-6- الشكوى من السجن
أسهمت الأسباب المحيطة بالمجتمع الإنسانيّ التي شهدها ناصرخسرو على بروز ظاهرة السجن كعقوبة فرضها الجهّال والمتزمتون عليه فضحّى الشاعر بنفسه وجعل ذاته في بحبوحة الأحداث من أجل مقاومة المحاكاة العمياء خاصة في القضايا الدينية والوقوف من وجه التعسف والاعتداء على الحقوق ورفض امتهان مصائر المجتمع الذي عاشه.
إذا أمعنا النظر في ظاهرة السجن وكثرة تردادها في شعر ناصرخسرو نجد لديه ثلاثة أنواع منها، النوع الأول السجن المكانيّ وهو الذي نسج من نوع الجبال الشامخة والراسية التي تستطيع أن تحصر كلَّ إنسان وهي منطقة «يمكان» التي قضى الشاعر فيها خمسة عشر عاماً وأكثر من تَرداد ذكرها في ديوانه الشعريّ وأشاد بها لما فيها من علوّ شأنه وفخره بها، والنوع الثانيّ نشأ من خلال آرائه ونظرياته الفلسفية التي نستطيع أن نسمّيه «السجن الفلسفيّ» وهو السجن الذي حصر فيه الشاعرُ الروحَ في سجن الجسم، واعتبر الجسم بمثابة سجن للروح، والنوع الثالث هو سجن العالَم وحصر الشاعر أبناء البشر في سجن الدّنيا، فمن ثمّ نستطيع القول إنّ الشاعر سمّى نفسه «رهين المحابس الثلاثة».
إنّ صورة الإباء والمنعة لازمته طوال هذه السنوات المديدة، فأظهر تحمّله على مضض الأيام غير أنّ هذا السجن طال ورقّ قلبه فعمّه الذلّ والشعور بالوحدة وغلب عليه الألم والشكوى ووجد في الشكوى طريقاً للنجاة من هذا السجن بعدما دبّ اليأس في كيانه وانقطع رجاءه:
بكذر اى باد دل افروز خراسانى |
|
بر يكى مانده به يمكان درّه زندانى |
أي: أيّتها الريح الخراسانية، مُرّي على السجين ﺑ «يُمكان» الذي أقام فيه حزيناً محروماً من النعمة والضيعة والتمليك. سلبه الدهرُ الجائرُ الراحة والرفاهية. قلبه أحرقُ وأحزن من نار مليئة بالحبّات والجسم أكثر احتراقاً من القصب اليابس.
يعتبر السجن الفلسفيّ نوعاً آخر من السجن الذي ذكره ناصرخسرو في تضاعيف أشعاره، وهو يعبر عنه باغتراب الروح في الجسم، فيطمع إلى عالم روحيّ مثاليّ وراء هذا العالم الأرضي فتطلّع إلى الانعتاق من العالم المحيط به إلى عالم صناعيّ من عند نفسه. هذه الفكرة تذكرنا بعقيدة أبي العلاء المعري الذي سمّى نفسه «رهين المحبسينِ» أو «رهين المحابس الثلاثة» حيث قال في ديوانه «اللزوميات»:
أَراني في الثَّلاثَةِ مِن سُجوني |
|
فَلا تَسأَل عَن الخبرِ النَّبيثِ |
انطلاقاً من هذا الموقف، اعتبر ناصرخسرو الجسم بمثابة سجنٍ للروح يمنعها من التحليق في فضاء الحكمة والمعرفة الحقيقيتينِ، ويقول:
زندان جان تست تن اى نادان |
|
تيمار كار او جه خورى جندين؟ |
أي: أيها الجاهلُ، إنّ جسمك سجن روحك، فلماذا تمرّضه هكذا؟. الجسم تنّينك فاحذر منه، لأنّه سيقضي عليك. أُنظر إلى ما رُبط في هذا السجن وبأيّ شئ يحيى هذا الجسم؟!.
اختلط الدّين وما يتصل به من المفاهيم في كيان الشعراء المغتربين خاصّة عند الزّهّاد والنّسّاك الذين تركوا الدنيا ومتاعها الزائل وانكبّوا على الورع والتقوى، ومن هذا الموقف يقترب الزّهّاد من المتصوّفين و«لا شكَّ أنّ الوصول إلى هذا الفهم مرّ بمراحل وصل فيها مفهوم الزهد بصورته البسيطة إلى هذا المعنى الخاصّ لدى الصوفية عن غربة الرّوح في الجسد بل في هذا العالم» ([60]). من هنا يشكل انحباس الروح رافداً من روافد الشكوى عند ناصرخسرو ليضيف إلى أحزانه ومآسيه نوعاً آخر من الحزن الفلسفيّ الذي يعمق الحسرة والشكوى للحدّ من تطلعاته، وجعلت هذه الشكوى حياته ممزوجة بالشعور من الكبر والخضوع والانتصار.
النتيجة
اتّضح لنا من خلال ما سبق عن الشكوى في شعر أبي العتاهية وناصرخسرو أنّ شعرهما يمثل صورة صادقة من الفرح أو الترح والحبّ والكره والشحنات النفسية للقارئ وتعطي صورة واضحة لحالاتهما الشعورية وكذلك الظروف بمختلف أنواعها التي عاشها الشاعران.
إذا دقّقنا النظر في شعر الشكوى عند هذين الشاعرينِ نجد أنّ الشكوى لم تأتِ في تضاعيف قصائدهما بصورة مستقلة، فانتشرت ضمن مقطوعاتهما مما يؤكد على تفاعل الشكوى مع الأغراض الأخرى في شعرهما. لقد حاول كلا الشاعرينِ أن يعبّرا عن الشكوى العامة والخاصة في شعرهما، فمنها ما يتعلّق بذاتهما ومنها ما يتعلّق بقضايا العصر والظروف السائدة على المجتمع.
يوجد في شعرهما تداخل كبير بين الشكوى والرفض العامّ للواقع، فاستغلّ أبوالعتاهية من خلالها لتمرير أمانيه والتعبير عن تطلعاته والصراخ واتخذ الندب أداة للتعبير عن سوء حاله وما حلّ به من المصائب والغوائل. تلقي الشكوى ظلالها على شعر أبي العتاهية وناصرخسرو فتكسب شعرهما طابعاً حزيناً ونوعاً من التّمرّد والرفض العامّ الذي يتميز بجماله الفنيّ الذي يؤثّر على نفسية الإنسان، وحاول كلا الشاعرينِ أن يزيلا المسافة الموجودة بين العالم الواقع الذي يعيشانه والطموحات والتطلعات التي يرسمانها نصب أعينهما، فاشتكا من الواقع المتناقض الذي أحاط بهما.
اتّسمت الشكوى عندهما بصدق العاطفة وقوّة التأثير والابتعاد عن التكلّف والتنميق اللفظيّ، فمن ثمّ تمسّ شغاف القلوب وتعالج الشؤون الإنسانية التي تتعلّق بالفرد والمجتمع لما تكشف عن التدهور الاجتماعيّ والسياسيّ والخلقيّ سعياً للعثور على الحلول المناسبة لمشاكل الإنسان وتذليلها.
يستنتج أنّ شعر الشكوى لديهما وليدة المعاناة وفاضت نفسهما أسى ولوعة، فجاءت الشكوى عندهما في كثير من محاورها تقريرية مباشرة.
المصادر والمراجع العربية
1- أبوالعتاهية، إسماعيل بن القاسم بن سويد بن كيسان، أشعاره وأخباره، تحقيق شكري فيصل، دمشق، دار الملاح للطباعة والنشر، 1965م.
2- أشرف علي، الدعدور، الغربة في الشعر الأندلسي عقب سقوط الخلافة، ط1، القاهرة، دار نهضة الشرق، 2002م.
3-الأصفهاني، أبوالفرج، الأغاني،شرحه سمير جابر، مج4، ط1، بيروت- لبنان، دار الكتب العلمية، 1986م.
4- ابن منظور، أبوالفضل جمال الدين محمد محمد بن محمد: لسان العرب، بيروت، دار صادر، 1410 ھ، مادّة شكا.
5-بروكلمان، كارل، تاريخ الأدب العربي، ترجمة عبدالحليم نجار، مج1، ط5، القاهرة، دار المعارف، 1983م.
6-بثينه، جميل، ديوان، شرح وتقديم مهدي محمد ناصر الدين، ط1، بيروت، دار الكتب العلمية، 1407ھ.
7-التميمي، قحطان رشيد، «الشكوى في الشعر الجاهليّ»، مجلة كلّية الآداب، جامعة بغداد،مج 2، العدد 13، 1970م.
8-ثقفان، عبدالله بن علي، الشكوى من العلّة في أدب الأندلسيىن، ط1، الرياض، مكتبة لتوبة، 1417 ھ.
9- الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر، البيان والتبيىن (مج3)، تحقيق وشرح عبد السلام هارون،بيروت، المجمع العلمي العربي الإسلامي، 1979م.
10-الزهيري، محمد، الأدب في ظلّ بني بويه، مصر، الأمانة، 1949م.
11- الشهريّ، ظافر عبدالله، الشكوى في الشعر العربيّ حتى نهاية القرن الثالث الهجريّ، ط1، السعودية، مكتبة الملك فهد الوطنية، 2002م.
12-ضيف، شوقي، تاريخ الأدب العربي (العصر الإسلاميّ)، ط7، مصر، دار المعارف، د.ت.
13------- ب. الشعر وطوابعه الشعبية على مرّ العصور، مصر، دار المعارف، 1977م.
14-علوش، سعيد، الأدب المقارن في العالم العربي، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1987م.
15-الفاخوري،حنّا، الموجز في الأدب العربي وتاريخه (الأدب المولّد)،مج2، بيروت، دارالجيل، 1991م.
16-الكفراوي، محمد عبدالعزيز، أسطورة الزهد عند أبي العتاهية، القاهرة، دار نهضة مصر، 1972م.
17-المعري، أحمد بن عبدالله، اللزوميات،مج1، بيروت، دار بيروت للطباعة والنشر، 1983م.
18-المسعودي، أبوالحسن علي بن الحسين بن علي، مروج الذهب ومعادن الجوهر، مج3، بيروت، دار الأندلس للطباعة والنشر.د.ت.
19-نوفل، محمّد محمود قاسم، المختار من الشّعر و الشّعراء في العصر العبّاسيّ، ط1، القاهرة، مكتبة وهبة، 1987م.
المصادر والمراجع الفارسية
20-اسلامى ندوشن، محمّد على، بيوند فكر و شعر در نزد ناصرخسرو، مشهد، دانشكاه فردوسى، 1355 ھ.
21-دادبه، اصغر، دايرة المعارف بزرك اسلامى، ج11، تهران، 1381 ھ.
22-زرين كوب، عبدالحسين، از كذشته ادبى ايران، جاب اول، تهران، انتشارات بين المللى الهدى، 1375.
23-شميسا، سيروس، سبك شناسى شعر، جاب دوم، تهران، فردوس، 1375 ھ.
24---------، سبك شناسى2، جاب اول، تهران، دانشكاه بيام نور،1372 ھ.
25-صفا، ذبيح الله، تاريخ ادبيات در ايران،ج 2،تهران، فردوس، جاب هشتم، 1366 ھ.
26-قباديانى، ناصرخسرو، ديوان اشعار، جاب هفتم، تصحيح مجتبى مينوى ومهدى محقق، تهران، دانشكاه تهران، 1378 ھ.
[1] - علوش، سعيد: الأدب المقارن في العالم العربي، بيروت، دار الكتاب اللبناني، 1987م، ص13.
[2] - الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر: البيان والتبيىن (مج3)، تحقيق وشرح عبدالسلام هارون، بيروت، المجمع العلمي العربي الإسلامي، 1979م، ص63.
[3] - اسلامى ندوشن، محمّد علي: بيوند فكر و شعر در نزد ناصرخسرو، مشهد، دانشكاه فردوسى، 1355 ھ،ص50.
[4] - ابن منظور، أبوالفضل جمال الدين محمد بن محمد: لسان العرب، بيروت، دار صادر، 1410 ھ، مادّة شكا.
[5] - الشهريّ، ظافر عبدالله: الشكوى في الشعر العربيّ حتى نهاية القرن الثالث الهجريّ، ط1، السعودية، مكتبة الملك فهد الوطنية، 2002م، ص11.
[6] - ثقفان، عبدالله بن علي: الشكوى من العلّة في أدب الأندلسيين، ط1، الرياض، مكتبة لتوبة، 1417 ھ، ص 60.
[7] - بروكلمان، كارل: تاريخ الأدب العربي، ترجمة عبدالحليم نجار، مج1، ط5، القاهرة، دار المعارف، 1983م، ص60.
[8] - التميمي، قحطان رشيد: "الشكوى في الشعر الجاهليّ"، مجلة كلّية الآداب، جامعة بغداد، المجلد الثاني، العدد 13، 1970م، ص140.
[9] - ضيف، شوقي: تاريخ الأدب العربي (العصر الإسلاميّ)، ط7، مصر، دار المعارف، د.ت، ص14.
[10] - بثينه، جميل: ديوان، شرح وتقديم مهدي محمد ناصر الدين، ط1، بيروت، دار الكتب العلمية، 1407ھ،ص 25.
[11] - دادبه، اصغر: دايرة المعارف بزرك اسلامى، ج11، تهران، سخن، 1381 ھ، ذيل بثّ الشكوى، ص320.
[12] - صفا، ذبيح الله: تاريخ ادبيات در ايران،ج 2،تهران، فردوس، جاب هشتم، 1366 ھ، ص366.
[13] - شميسا، سيروس: سبك شناسى شعر، جاب دوم، تهران، فردوس، 1375 ھ، ص180-179.
[14] - الأصفهاني، أبوالفرج: الأغاني، شرحه سمير جابر، مج4، ط1، بيروت- لبنان، دار الكتب العلمية، 1986م،ص 5.
[15] - الفاخوري،حنّا: الموجز في الأدب العربي وتاريخه (الأدب المولّد)،مج2، بيروت، دار الجيل، 1991م، ص314.
[16] - نوفل، محمّد محمود قاسم: المختار من الشّعر والشّعراء في العصر العبّاسيّ، ط1، القاهرة، مكتبة وهبة، 1987م، ص181.
[17] - صفا، المصدر السابق، مج 2، ص452.
[18] - نفس المصدر،ص 235.
[19] - أبوالعتاهية، إسماعيل بن القاسم بن سويد بن كيسان: أشعاره وأخباره، تحقيق شكري فيصل، دمشق، دار الملاح للطباعة والنشر، 1965م، ص353.
[20] - نفس المصدر، ص45.
[21] - الزهيري، محمّد: الأدب في ظلّ بني بويه، مصر، الأمانة، 1949م،ص 243.
[22] - أبوالعتاهية، المصدر السابق،ص 146.
[23] - نفس المصدر،ص 3.
[24] - نفس المصدر،ص 123.
[25] - نفس المصدر، ص226.
[26] - نفس المصدر،ص 134.
[27] - نفس المصدر، ص365.
[28] - نفس المصدر،ص 274.
[29] - ضيف، د.ت، السابق،ص 251.
[30] - المسعودي، أبوالحسن علي بن الحسين بن علي: مروج الذهب ومعادن الجوهر، مج3، بيروت، دار الأندلس للطباعة والنشر.د.ت، ص319.
[31] - الكفراوي، محمد عبدالعزيز: أسطورة الزهد عند أبيالعتاهية، القاهرة، دار نهضة مصر، 1972م، ص66.
[32] - أبوالعتاهية، المصدر السابق، ص267.
[33] - نفس المصدر، صص349-348.
[34] - نفس المصدر،ص 476.
[35] - الكفراوي، المصدر السابق،ص 38.
[36] - ضيف، شوقي: الشعر وطوابعه الشعبية على مرّ العصور، مصر، دار المعارف، 1977م،ص 88.
[37] - أبوالعتاهية، المصدر السابق،ص 217.
[38] - قباديانى، ناصرخسرو: ديوان اشعار، جاب هفتم، تصحيح مجتبى مينوى ومهدى محقق، تهران، دانشكاه تهران، 1378 ھ،ص 341.
[39] - نفس المصدر،ص 4.
[40] - نفس المصدر،ص 447.
[41] - نفس المصدر،ص 97.
[42] - نفس المصدر،ص 138.
[43] - نفس المصدر،ص 141.
[44] - شميسا، سيروس: سبك شناسى2، جاب اول، تهران، دانشكاه بيام نور،1372 ھ،ص 36.
[45] - زرين كوب، عبدالحسين: از كذشته ادبى ايران، جاب اول، تهران، انتشارات بين المللى الهدى، 1375، ص278.
[46] - قباديانى، المصدر السابق،ص 451.
[47] - نفس المصدر،ص 447.
[48] - نفس المصدر،ص 143.
[49] - نفس المصدر،ص 195.
[50] - نفس المصدر،ص 347.
[51] - زرين كوب، المصدر السابق،ص 238.
[52] - قباديانى، المصدر السابق،ص 141.
[53] - نفس المصدر،ص 96.
[54] - نفس المصدر،ص 297.
[55] - نفس المصدر،ص435.
[56] - نفس المصدر،ص 341.
[57] - نفس المصدر،ص 435.
[58] - المعري، أحمد بن عبدالله: اللزوميات،مج1، بيروت، دار بيروت للطباعة والنشر، 1983م،ص 249.
[59] - قباديانى، المصدر السابق،ص 144.
[60] - أشرف علي، الدعدور: الغربة في الشعر الأندلسي عقب سقوط الخلافة، ط1، القاهرة، دار نهضة الشرق، 2002م،ص 45.