العوامل المحركة للنشاط الانتاجي قراءة في النص القرآني
صاغ النص القرآني مجموعة من المبادئ المعتبرة لتنظيم الجهد التدبيري في مجالات النشاط العام والخاص اشتملت على موارد حيوية لتحريك دوافع الإنتاج وتنظيمها ضمن مجهودات مثمرة وحيوية تؤمن تحقيق المصالح العامة وطبقاً لسنن العدل وتكافوء المصالح والحقوق، وقد تناول البحث في ذلك أبرز المجالات التي جاء عليها النص القرآني في هذا الشأن مشتملة على مفردات: الايمان والعمل الصالح، كوجهين لدافعية النشاط الانتاجي، والقوة والأمانة، كركيزتين للعمل، وضوابط السلوك مجسدة للأدب الاداري الصارم، والشورى كقاعدة لصنع القرار العام، والثواب والعقاب، كمدعمات للسلوك، والعدل مبدأ ومنهاج، تناولها البحث بإيجاز دال ومسند من النص القرآني، وهي تمثل جانباً من منظومة الفكر الاداري والاقتصادي في الاسلام، والتي وجدت مجالها في التمثل على العهد الاسلامي في صور ومشاهد اشراقية في السلوك القيادي المرتهن لقيم الاسلام واعتباراته المبدئية.
وقد أشرنا في مستهل هذا البحث لفرضية البحث، وهدفه، وخلصنا في خاتمته للاستنتاجات المستخلصة منه مؤملين أن نكون قد أصبنا قدراً من الغاية المنشودة، وبالله التوفيق.
فرضية البحث:
ينطلق البحث من فرضية كون العوامل المحركة للنشاط الانتاجي- كما يرد بيانها في النص القرآني- مجسدة في الايمان والعمل الصالح، والقوة والأمانة، وضوابط السلوك، ونظام الشورى، والجزاء، تشكل القاعدة الاساسية لتنظيم الجهد التدبيري لمجالات النشاط العام والخاص.
هدف البحث:
يستهدف البحث- واسترشاداً بالمضامين الدلالية للنصوص القرآنية الخاصة بموضوعه- الوقوف على العوامل المؤثرة ايجاباً على الجهد الذاتي الفعال، والمحركة بشكل عام للنشاط الانتاجي وفي كل مواقع العمل وفروعه.
ضمن المجموعة القيمة من الأصول والمبادىء المتصلة بتنظيم الجهد التدبيري لمجالات النشاط العام والخاص كما ترد في النص القرآني كان الآتي من العوامل المحركة للنشاط الإنتاجي:
1) الايمان والعمل الصالح – وجها الدافعية للنشاط الانتاجي:
يجد المطالع للنصوص القرآنية تواتر عبارتي (الذين أمنوا) و(عملوا الصالحات) و(من أمن) و(عمل صالحا) في الكثير من موارد الخطاب القرآني وإذا ما فهمنا خاصية الايمان كمفردة أساسية من مفردات التحريك للنشاط الانتاجي فيما يعبر عنه في علم الادارة ب(الدافعية) والتي تعرف بأنها: القوى الداخلية الموجهة للسلوك([1]) وفهمنا حقيقة كون العمل الصالح هو العمل المستمر (المنتج)، فأن أرتباط الايمان بكونة الدافع الذاتي للنشاط بعمل التوجه للعمل المستمر (العمل الصالح) يشكل عنصرا حيويا لتحريك العملية الانتاجية،، ويطلق الاقتصاديون (الدوافع الاقتصادية Economic motives) على جملة العوامل المؤثرة على السلوك الانتاجي وأن أخص تلك الدوافع بالتأكيد هي دوافع الايمان أو الحوافز الذاتية والتي تشكل مولد الحركة الانسانية، ومن معاينة النصوص القرآنية نلاحظ أنه لا يكاد يرد نص في الخطاب القرآني لـ(الذين أمنوا) بدون ارفاقه كما أسلفنا بعبارة (وعملوا الصالحات) غالبا، وقد أحصيت أكثر من خمسين أية في القرأن الكريم بهذا التوافق المقصود الغاية، وفي آيات من سور متفرقة لا يسع لنا ذكرها في هذا المقام، وبذلك يكون الايمان هو عنوان التحريك والتحفيز لكل نشاط موجه، وأنه بمثابة التخطيط الذهني (النظري) الذي يسبق كل نشاط ويتحول بخطوات العمل الى ناتج تتحدد طبيعته ومردوداته بحسب الغرض المنشود (الخطة) حيث أن التخطيط هو عبارة عن الأهداف المقصودة والمحولة الى برنامج عمل، وهو يعتبر العنصر الاول من عناصر العملية الاقتصادية والادارية، فهو لازمة اللوازم لكل مجهود أنتاجي، وأنه بمثابة النية التي تسبق الاداء لفرض الصلاة هدفاً مرسوماً في ذهن المصلي لتأدية الفرض الروحي تتبعه فروض عملية تستكمل فيها الغاية لمجمل السلوك الايماني، وقد عرفنا في المجال التعليمي أن الخطة هي لازمة من لوازم النشاط التعليمي يؤمن بها التدريسي دقة وكفاءة الاداء لمهامه التعليمية والتربوية معا، والواضح تماما أن أيمان كل فرد بعمله هو الضرورة المقتضية لنجاح عمله، وأنه لا يصلح عمل بلا أيمان، كما لا يصح الإيمان بلا عمل.
وثمة خاصية من خواص الإيمان ومن نواتجه الحيوية في تأمين حالة الاستقرار النفسي والذهني مجسده ب (الطمأنينة) والتي جاء على ذكرها النص القرآني بكونها العائد الايجابي للإيمان بالله تعالى وذكره على الدوام، والتي تساعد على اتخاذ القرارات الصائبة، وفي المواقف الهامة والتي كان من أبرزها على العهد الإسلامي تحقيق الانتصار في المواجهات الحاسمة مع أعداء التوحيد، أضافته إلى العائد الاعتباري المجزي في الدار الآخرة، وفي ذلك كان قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}. ([2])
{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي}. ([3])
{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}.([4])
ويعقب العلامة ناصر مكارم الشيرازي على الاية الكريمة مارة الذكر بأن الايمان بالله القادر المتعال الرحمن الرحيم، والذي تكفل برحمة عباده، هذا الايمان يستطيع أن يمحو أثار القلق والاضطراب ويمنحه الطمأنينة في مقابل الضعف أو المرض، وأن المواقف البطولية للمجاهدين في ساحات القتال، وشجاعتهم النادرة في المنازلة الفردية كلها تبين حالة الاطمئنان التي تنشأ في ظل الايمان كما يمكن أن يكون أصل المشقة التي تؤذي الانسان بالاحساس بتفاهة الحياة أو اللاهدفية فيها، ولكن المؤمن بالله والذي يعتقد أن الهدف من الحياة هو السير نحو التكافل المعنوي والمادي ويرى أن كل الحوادث تصب في هذا الاطار سوف لا يحس باللاهدفية ولا يضطرب في المسيرة وأن الايمان بالله تعالى والتزام المؤمن بالزهد والاقتصاد وعدم الاستئثار في مخالب الحياة المادية ومظاهرها يمكن أن ينهي حالة الاضطراب هذه. ([5])
وثمة الاشارة في النص القرآني للعلاقة القائمة ما بين الطمأنينة ومجال الأمن الاجتماعي، والأمن الغذائي معا، وقد ورد ذلك في مثل تاريخي ضربه الله تعالى بما كان لبلدة كانت تنعم بالطمأنينة فيما كان لها من الغنى في مواردها، فعاقبها الله تعالى بكفرها بأن جردها من نعمها وأحل عليها الخوف والجوع معاً.
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}. ([6])
2) القوة والامانة – ركيزتا العمل:
يعتمد العمل كعنصر حيوي من عناصر الإنتاج على توفير القدرة (القوة) المحركة لنشاط العاملين ووفقاً لمقدراتهم الذاتية وبمؤازرة العوامل المساعدة (التقنية)، وأنه بقدر قوة البدن والعقل معاً تتشكل القدرة الإنتاجية، والتي هي حاصل توافر عنصري (القوة البدنية، والقوة العقلية)، وقد أفاد القرآن الكريم بشأن ذلك بما أمتاز به طالوت في قومه بما منحه الله تعالى من عوامل القدرة العقلية (العلم) والجسدية (البدن) والتي مكنته من أن يقوم بالأعباء الجسمية التي تكفل بأدائها مع قوم موسى عليه السلام {إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ}([7])
ومع القوة العقلية والبدنية فأن الأمانة، وهي الوفاء والاخلاص للواجب تشكل خاصية أضافية من خواص العمل المنتج، وقد أفاد النص القرآني لحقيقة التالف بين عنصري (القوة والأمانة) في الاختيار لوظيفة العمل بما كان للنبي شعيب مع النبي موسى عليهما السلام.
{إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِين}.([8])
وقد ذكر الامام موسى بن جعفر عليه السلام بشأن ذلك: أن شعيب قد أستوثق من أبنته عما ذكرت من قوة موسى وأمانته بأن: قال لها: ((يا بنية هذا قوي وقد عرفته برفع الصخرة والأمين من أين عرفته؟ قالت: يا أبتِ أني مشيت قدامه فقال: أمشي من خلفي فأن ضللت فأرشديني الى الطريق فأنا قوم لا ننظر في أدبار النساء))([9]), وقد دعا ذلك شعيب الى أن يأتمن موسى على مواشيه وأمواله عشر سنين من العمل.
ويعقب الزمخشري على عبارة (القوة والأمانة) في الآية المذكورة: أن ذلك الكم الجامع لا يزيد عليه لانه أذا أجتمعت هاتان الخصلتان في القائم بأمر فقد فرغ الله وتم مرادك، وقد استغنت بأرسال هذا الكلام الذي سياقه سياق المثل والحكمة أن تقول بأستئجاره لقوته وأمانته))([10]) وأن ملك مصر قد أستخلص النبي يوسف عليه السلام وكلفه بأمور الخزانة أعتمادا على أمكانيته وأمانته:
{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}.([11])
وفي الادارة الحديثة فأن الجدارة البدنية (القوة) والجدارة السلوكية (الأمانة) تشكل أهم خواص العمل الاداري الناجح.
3) ضوابط السلوك (الادب الاداري الصارم):
وتتوضح ضوابط السلوكية الملتزمة بما يمكن تسميته ب(قواعد الأدب الإداري) مجسداً في أسلوب التصرف والمخاطية بين قواعد العمل وقيادتها، وأن في مناهج الحكم و أدبيات الادارة وفي فترات متفاوتة من نشوء الدول وسلطات الحكم ما يؤكد خاصية التعامل والمخاطبات في مجرى العمل ما بين وحدات وهيئات النشاط ضمن خطوط السلطة والمسؤولية، وفي مواقع الانتاج والعمل بشكل عام، وقد برزت ضمن فترة الحكم على العهد الاسلامي قواعد عامة ومرعية في ذلك كان لها أعتبارها وأهميتها في تقرير واعتماد الصيغة المبدئية لامتثال المسلمين للقرارات الالهة والنبوية في ذلك والتي نوه القران الكريم الى جوانب منها وتنفيذها بكل دقة مع ما تقتضيه من وجائب الطاعة ونكران الفرات، وقد تمثل ذلك بشكل خاص في تعامل المسلمين مع قائدهم الاعظم محمد صلى الله عليه وآله والذي أنعكس بدوره على طبيعة علاقتهم مع قادتهم الآخرين، مماخلق أرادة ممتثلة ومنفذة لأحكام وفروض عقيدتهم والتي توضحت مبادئها في النص القرآني:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ}.([12])
{لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.([13])
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ}.([14])
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}.([15])
والكثير من ذلك مما ورد من المزايا والشمائل للسلوك المنضبط واللازم للمسلك الاداري القديم والتي انتظمها النص القرآني في مجرى التصرف ما بين الصف الاداري الواحد، ومابين الرؤساء المرؤوسين مما يشكل دالة معتبرة من دلالات السلوك الاداري المنضبط، وقد ذكر القران الكريم ما يكون من ذلك في دائرة الملكوت السماوي ما يجسد لوصحة في دائرة الارض بالتمام أرقى درجات الضبط الاداري:
{يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا}.([16])
وعلى ذلك يكون الملاك السماوي القدوة المثلى لملاك الخدمة في نواحي الأرض أنهم: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}.([17])
وأنهم {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}.([18])
واستهداء بذلك كان الأنبياء من ذرية إبراهيم عليه السلام وكما وصفهم البلاغ القرآني: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}([19]) وينوه القرآن الكريم بأن الأمر في مشهد الحشر يعبر بالتمام عن الأمثال والطاعة والشخوص لارادة الرحمن:
{يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا}.([20])
ونجد في وثيقة العهد للامام أمير المؤمنين علي بن طالب عليه السلام لعامله مالك الاشتر علائم مجلّاة للأدب الإداري الصارم تستحق لوحدها دراسة كاملة.
4) الشورى: قاعدة صنع القرار العام:
يعتبر مبدأ الشورى في الإسلام إمتدادا متطورا لما كان جاريا في حياة العرب الذين كانوا يعتدون بالشورى حتى ولو لم تكن سلطة الحكم العامة قائمة بينهم, فقد وجدت أحكام الجماعة ممثلة بما يسمون بأهل الحل والعقد فيكون أجتماعهم في دار الندوة في الجاهلية حيث كان يدور الصلح ويجري الفصل في القضايا, وعقد الأحلاف, وقد انتظمت على عهد الاسلام هذه المهمة بانتظام العلاقة ما بين الجمهور والقيادة على وفق قواعد الشريعة الإسلامية وفي أصول ومبادئي مرعية اعتمدت بمقتضيات الشورى أساسا لقيام الحكم وصنع القرار لعام, وقد صدر في ذلك البلاغ القرآني: {وشاورهم في الأمر} ما يقتضي الوجوب {فإذا عزمت فتوكل على الله} أن الآية دلت على أنه ليس التوكل أن يهمل الأنسان نفسه, بل التوكل هو أن يرى الأسباب الظاهرة ولكن لا يعول بقلبه عليها, بل يعول على عصمة الحق.
وفي قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}([21]) فأن ثمة من يذكر بأن في تنكير ال (شورى) في الآية دليل على أطلاقها وعمومها وأنها ليست شورى على صفة خاصة معروفة بأهلها، فكل مسلم ومسلمة أهل للشورى كما هو للصلاة في جماعة،([22]) وكان الرسول صلى الله عليه وآله قد عمل بالشورى في حياته وكان يستشير السواد الأعظم من المسلمين ويختص أهل الرأي والعقل الراجح في الأمور التي يضر أفشاؤها فأستشار في بدر، وأستشار في أحد، وأستشار أصحابه من بعده،([23]) وقد أمتثل النبي صلى الله عليه وآله في ذلك لسنة الشورى كمثل أمتثاله للتواضع والتسامح مع قومه، وحال مجابهته للسفهاء:
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}([24]) والعزم المشار إليه في الآية الكريمة مارة الذكر هو الحزم والجد في اتخاذ القرار الذي يتوجب مع المشورة ليكون القرار الذي يتوجب مع المشورة صائبا وسديدا باعتماده على الرأي الراجح والتقدير السليم المستند إلى وقائع سابقة، وقد نوه النص القرآني بشأن ذلك بأفعال أمم سابقة، صحت فيها العبرة لتجنب الوقوع في مثل أخطائهم، مؤكدا على الاستقراء من حوادث الماضي لاتخاذ قرار المستقبل، وبيّن سبحانه في ذلك ضرورة قيام الإنسان بجمع المعلومات الصحيحة في التخطيط للأعمال فقال: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}([25])، وأن اتخاذ القرار النهائي يكون بعد استقصاء وموازنة الأفعال كما في قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}. ([26])،([27])
5) الثواب والعقاب – مدعما السلوك:
وتعتبر جملة الجزاءات التي ترد ضمن النص القرآني– إيجابياً أو سلباً في مداولاتها الاعتبارية وضوابطها القانونية – الشرعية مقابلة موضوعية بين الفعل والنتيجة تجعل الحياة بمثابة مرحلة اختبار وامتحان لإرادة الإنسان ومجمل أفعاله يرى بعدها النتيجة والحكم عليها بصورة جزاء يقابل حسناته وسيئاته {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ}([28])
{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}([29])
{وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}([30])
وبذلك يكون الإنسان في يوم الحساب قبالة أعماله التي تنشر له في كتاب يقرأه ليصدر حكمه على صاحبه قبل أن يصدر عليه الحكم الإلهي:
{وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً}.([31])
ويلاحظ من سير الأحكام المنصوص عليها في مجال الإثابة في القرآن الكريم أن الموازنة ترجح كفة العمل الصالح بأجر مضاعف مما يمثل حوافز للإقبال على العمل لصالح والإكثار من إتيانه:
{وَإِنْ تَكُ حَسَنَة يُضَاعِفهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}([32])
{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}([33])
وتبرز في سياق مبدأ الجزاء والإثابة خاصية تشكل الحياة المادية و الروحية و تلازم طرفها حيث تعد الحياة الدنيا مرحلة لحياة أخرى ينبغي أن يكون لها أعداد خاص يتولاه الإفراد أنفسهم في سلوكهم وتتولاه الدولة في مسلكها تجاه الأفراد إذ تكون أنشطتها وأعمالها مستوحاة من هذه الحقيقة وقد أنعكس ذلك على شكل تركيب الدولة وطبيعة المهام التي يتولاها حاكموها كما أن ولاء أفراد الدولة للسلطة وحقوق الأفراد وواجباتهم، ومسؤوليات الحاكمين، وأعمال السيادة، وعلاقة الدولة الخارجية.. كل ذلك يتقرر ويتحدد على وفق تلك الحقيقة، وفي الدراسات الإدارية الحديثة وضمن نظرية السلوك أطلق على مفهوم الثواب مصطلح (الحوافز الإيجابية)، وعلى العقوبات (الحوافز السلبية) وبعد ذلك فأن موسوعة الإدارة الحديثة والحوافز تورد: أن دافعية الفرد لأداء العمل تتوقف على خبرات الثواب والعقاب التي حصل عليها من البيئة الخارجية كنتيجة للأداء، وهذا المدخل يقوم على ما يسميه علماء النفس ب(قانون الأثر ومبدأ التدعيم), و يقرر هذا القانون بأنه أذا قام الفرد بعمل معين وأتبع بثواب (Reward) فأن احتمال تكرار الفعل لهذا العمل في المستقبل سيزداد، أما أذا قام الفرد بعمل معين ولم يتبع هذا الفعل بأي شيء أو أتبع بعقاب (Punishment) فأن احتمال تكرار الفعل لهذا العمل سيقل، وبصدد ذلك ينوه إلى أن الإسلام قد أرسى قواعد الثواب و العقاب قبل أن يخرج (ماك جريجور) بنظريته الشهيرة (X-y) الى عالم النور بحوالي أربعة عشر قرنا، فكما خلق الله خلق النار، وكما خلق الحلال خلق الحرام، و كما خلق الملائكة خلق الشياطين، وكما خلق الثواب خلق العقاب.. وأنه في الوقت الذي يردد رجال الإدارة الأمريكية، ومنهم (بيتر دراكر) أستاذ الإدارة في جامعة نيويورك بأن هناك الأبيض ويقصد به المبادئ القويمة، وهناك الأسود ويقصد به الانحرافات وبينهما ضلال كثير ضلال كثير تشبه ألوان الطيف في القوس قزح، فأن هذا المفهوم قد سبقه اليه الإسلام من وقت بعيد، وبذلك يكون الإسلام قد أوضح الطريق السليم في القرآن للسلوك الواجب الأتباع قبل أن ينطق به علماء الأداة الأمريكان وينشروا هذا الكلام على أنه أنتج فكرهم في علوم الإدارة منذ سنة 1950 وما بعدها إلى الآن. ([34])
6) العدل – مبدأ ومنهاج:
غالبا ما ترد كلمة العدل في النص القرآني مترافقة مع كلمة (القسط)– وهي النصيب بالعدل وكذلك "القسطاس" وهو الميزان،([35]) وأن القرآن الكريم بإيراده ذلك يقصد توازن الحصص وأنصبتها من العدل بين الناس في كل أمر وأن، وأن توزن حقوقهم وواجباتهم بميزان العدل والتكافؤ كما توزن بالقسط المكاييل ومعاملات الناس بقدر يمنع التجاوز والغبن، وتعبيرا عن أهميته أبتغاء العدل فأن مطلبه يرد بصيغة الامر الملزم للرسول صلى الله عليه وآله كونه مبلغ رسالة تلزم بتنفيذ القرارات في الحدود التي ينتظمها ابلاغه الرسالي، وهو المدى الانساني كله, كما يفهم من صيغة الخطاب القرآني للرسول الكريم صلى الله عليه وآله في ذلك، ولكل من يعنيه امر الحكم والمسؤلية:-
{وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} ([36])
{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} ([37])
{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} ([38])
{وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} ([39])
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان}([40])
وكان نداء الله تعالى للنبي داود عليه السلام، وهو نداء لكل أنبياء الرسالات السماوية ولكل خلفائهم في الحكم:-
{يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} ([41])
ويطالعنا النص القرأني بحقيقة ان النظام الكوني يقوم كله على العدل وفي قوائمه الثلاثة الأساسية في ذلك النظام. وما بين دائرتي السماء والأرض والتي تشتمل على قدرة الله تعالى، والملاك السماوي، وملاك أهل العلم في الأرض ما يفيد خاصية المعرفة كمكون أساسي من مكونات القدرة:-
{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ}.([42])
وان مشهد القيامة ورسالات الانبياء كلها تنتظم على قوائم القسط وموازينه والتي تعد معياراً لا يعدله معيار آخر في اداء المضمون الحقيقي لرسالات الله في الأرض، وهو اقامة العدل بين الناس.
{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}. ([43])
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}. ([44])
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}.([45])
ومن يشأ أن يحصي الآيات التي ترد فيها الاشارة الى العدل والقسط، والميزان المستقيم، ويتابع دلالاتها الموضوعية والموارد التي تشتملها فانه يقف عند منظومة من القيم الاعتبارية الخاصة بالنظام العدلي للاسلام، وفيها وما أسلفنا من عوامل النشاط نجد المبادىء الحيوية لنظام تدبيري متكامل يصوغ الحياة على وفق مبدأ الحق والعدل الالهي الذي ترتسم فيه نظم الحكم المستهدية بذلك، وانما أوردناه من ذلك هو غيض من فيض مما اشتملته الأحكام والقرارات التشريعية في القرآن الكريم من موارد التدبير لشؤون الحياة يحتاج كل مورد منها الى بحث يختص به.
الاستنتاجات:
- ان دافعية النشاط الانتاجي تنتظم ضمن قائمتي الايمان، والعمل الصالح، كون الايمان يشكل مفردة أساسية من مفردات التحريك للنشاط الانتاجي (الدافعية)، ومخرجها العمل المثمر (العمل الصالح).
- أن عوامل التحريك للنشاط، والتي تتشكل منها القدرة الانتاجية تعتمد على عنصري (القوة، والأمانة)، (أن خير من استأجرت القوي الأمين)، (القصص/ 126).
- ان ضوابط السلوك والتي ترد مفرداتها الحيوية في جملة النص القرآني تعتبر من القواعد الاساسية للأدب الاداري المنظم، والموجه لفعاليات الأداء.
- ان الشورى، والتي يؤكد عليها النص القرآني كقاعدة أساسية لنظام العمل العام (وأمرهم شورى بينهم)، (الشورى/38)، تعتبر من القواعد الأساسية لصنع القرار العام.
المراجع:
القرآن الكريم.
- المفردات في غريب القرآن , الراغب الاصفهاني , تحقيق: - محمد خليل عيتاني , دار الفكر , بيروت , الطبعة الرابعة 2005.
- التفسير الكبير , الفخر الرازي , دار احياء التراث العربي , بيروت , الطبعة الرابعة 2002.
- الامثل في كتاب الله المنزل , ناصر مكارم الشيرازي , مدرسة الامام علي بن ابي طالب عليه السلام قم , الطبعة الاولى 1426 ه.
- تفسير الجلاليين , المحلى والسيوطي , مكتبة النهضة , الدار العربية للموسوعات , بغداد.
- تقريب القرآن الى الاذهان , محمد الحسيني الشيرازي , دار العلوم , بيروت , الطبعة الاولى 2003.
- التفسير القرآني للقرآن , عبدالكريم الخطيب , دار الفكر العربي.
- موسوعة الادارة الحديثة والحوافز , حامد الحرفة مع نخبة من الاخصائيين , الدار العربية للموسوعات , بيروت الطبعة الاولى , 1980.
- معجم مصطلحات العلوم الادارية الموحدة , د. بشير عباس العلاق , الدار العربية للموسوعات , بيروت , الطبعة الاولى , 1983.
- مبادىء الادارة , د. خليل محمد حسن الشماع , دار المسيرة , عمان , الطبعة الخامسة , 2007.
[1]) معجم مصطلحات العلوم الادارية الموحدة، ص, 180.
([2] آل عمران / 126.
([3] الفجر / 37 - 38.
([4] الرعد / 28.
[5]) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج6 ص446.
[6]) النحل / 112.
([7] البقرة / 247.
([8] القصص / 26.
([9] تقريب القرآن الى الأذهان، مج 4/ص147.
([10] تفسير الجلالين، ص520.
[11]) يوسف / 54-55.
([12] النور / 62.
[13]) النور / 61.
([14] الحجرات / 2.
([15] النساء / 59.
([16] النبأ / 38.
([17] النحل / 50.
([18] الأنبياء /27.
[19]) طه / 108.
([20] آل عمران / 159.
([21] الشورى / 38.
[22]) التفسير القرآني للقرآن ، ج25 ، ص71.
([23] تفسير الجلالين ، ص89.
([24] المائدة / 159.
([25] يونس / 36.
([26] آل عمران / 159.
[27]) مبادئ الادارة، ص37.
([28] آل عمران / 30 .
([29] الأنبياء / 111.
([30] هود / 111.
[31]) الإسراء / 13-14
([32] النساء/40.
([33] يونس / 6.
[34]) موسوعة الادارة الحدية والحوافز, مج1 ص134.
[35]) المفردات في غريب القرآن، ص404.
[36]) الشورى / 15.
([37] الأعراف / 29.
[38]) هود / 11.
[39]) المائدة / 58.
([40] النحل / 9.
([41] ص/ 29.
[42]) آل عمران/ 18.
([43] الأنبياء/ 27 .
([44] الحديد/ 25 .
[45]) يونس/ 27 .