تجليات الانبعاث والموت في الطللية والتموزية طللية لبيد بن ربيعة وتموزية السيّاب انموذجاً (دراسة مقارنة)
المقدمة
في هذا البحث لسنا بصدد العزف على قيثارة الزمن وقضية التأثر والتأثير ، بل بصدد ابراز المشتركات الأساسية التي تجمع بين طللية العصر الجاهلي والقصيدة التموزية التي لمسنا صداها واضحاً في قصائد الشعراء الروّاد ، ومن هذه المشتركات قضية الانبعاث والموت التي تبدو تجلياتها واضحة في تلك القصائد. فالشاعر الجاهلي يقع تحت تأثير البيئة الصحراوية التي تمارس عليه نوعاً من أنواع القهر تجسد في وقوفه على الطلل وما يمثله من دمار وخراب، وللطلل برهة نفسية يفرّغ فيها الشاعر انفعالاته وأحاسيسه المكبوتة لتكون تعويضاً عما يعانيه من قهر وحرمان. "ومادام الابداع الفني إنما ينبع من الرغبة في التخلص من ثقل يرهق البنية النفسية، أي أنه تعويض يتم من خلال تفريغ الانفعالات"(([1].
حظيت مطالع القصائد باهتمام النقاد القدامى والمحدثين ومنهم ابن قتيبة الذي قال "سمعت بعض أهل الادب يذكر ان مقصد القصيد إنما ابتدأ بذكر الديار والدمن والآثار فبكى وشكا وخاطب الربع واستوقف الرفيق ليجعل لذلك سبباً لذكر أهلها الظاعنين عنها... ثم وصل ذلك بالنسيب فشكا شدة الوجد وألم الفراق، وفرط الصبابة والشوق ليميل نحوه القلوب ويصرف إليه الوجوه ويستدعي به اصغاء الاسماع إليه؛ لأن التشبيب قريب من القلوب ، لائط بالقلوب"([2]).
أما ابن رشيق القيرواني فقدم تفسيراً يقترب في جوهره من تفسير ابن قتيبة من حيث الصورة الظاهرة لدلالات المطالع في القصيدة فهو يرى ان الوقوف على الاطلال وافتتاح القصائد بالنسيب وربطه بالمكان يرجع إلى "ما فيه من عطف القلوب واستدعاء القبول بحسب ما في الطباع من حب الغزل، والميل إلى اللهو والنساء، وان ذلك استدراج إلى ما بعده"([3]).
أما الباحثون المحدثون فقد آثروا الجانب النفسي في تفسيرهم والابتعاد عن الجانب التقليدي في مفهوم الطللية([4]).
ويرى الدكتور محمود الجادر ان الطلل هو محاولة استرجاع الماضي المفقود([5])، اما
الدكتور عناد غزوان اسماعيل فيرى فيه أنه رمز لتجربة الألم([6]).
ومهما تعددت الآراء يبقى للجانب النفسي أثر كبير في تحديد مفهوم الطلل؛ لأن الوقوف على الطلل لم يكن تقليداً يتخذه الشاعر الجاهلي لافتتاح قصائده بل كان فضاءً نفسياً يشكّل رؤاه النفسية في النظرة إلى الماضي ومواجهة الواقع المؤلم الذي فرضته عليه الطبيعة واستشراف المستقبل وما يحمله من تصورات في نمط ابداعي متكامل البناء وواقع الحال أن الطللية أكثر من تعبير عن الواقع الجاهلي كقائم راهن، لأنها تجسّد برهة التحول من الماضي إلى المستقبل، إذ هي تختزن الماضي كنقيض مباشر للحاضر، وكمطابق صميمي للمستقبل المأمول"([7]).
فالشاعر الجاهلي قد جمع في طلله صورتين متناقضتين هما الموت والحياة، وليس اجتماع هذين النقيضين في لحظة زمنية واحدة إلا تأكيداً لإحساسه بالتناقض الموجود في عالمه الذي يحيا فيه "فالشعور بالموت لا يمكن ان يكون شعوراً واعياً كالشعور بالحياة، بل هو شعور غاية في الخفاء، يظهر أحياناً في ظروف خاصة، متخذاً من الأقنعة أو الرموز مرة أخرى ما يضمن اختفاءه وان نم عليه"([8]).
هذا ماذا نظرت إلى الطلل على انه شكل من أشكال التعبير الأدبي ونمط من الأنماط الفنية، أما من الناحية النفسية فهو انعكاس لذلك الصراع الأبدي في نفس الإنسان وفي الحياة من حوله بين "ايروس" و "ثاناتوس" أي بين حب الحياة وغريزة الموت أو التخريب التي تعمل في صمت كما يقول فرويد"([9]).
وعلى الرغم من التشابه الكبير بين الطللية والتموزية([10])، هذا التشابه الذي يتجلى في كون كلّ منهما ينطوي على عنصر البكاء احتجاجاً على الجدب والقحل، كما تحتوي التموزية على العنصر الجنسي مندمجاً اندماجاً عضوياً مع العنصر السابق المتمثل بممارسة نساء بابل للعملية الجنسية مع الأغراب في طقس معين هدفه الاخصاب واعادة الحياة إلى تموز إله الخصب. فنحن لا يسعنا إلا أن نقول ان الطللية استمرار للموروث التموزي السامي الذي ربما انتقل إلى ثقافات العرب البائدة في القرون السابقة على الجاهلية، غير اننا لا نملك الوثائق التأريخية التي تساعدنا في تقديم الحقائق المؤكدة([11]). إلا أننا ننظر إلى الطللية بأنها نمط من أنماط طقوس الخصب والانفعال أمام الشح الذي تمارسه الطبيعة على الإنسان مدغوماً بعنصري الانهدام الحضاري الذي يتمثل في الأطلال الدارسة والديار الخربة والانسلاب الجنسي الذي يتمثل بالحرمان من الحبيبة الراحلة([12]).
ان وقوف الشاعر الجاهلي على الطلل ليس من قبيل المصادفة أو المزاجية وإنما هي لحظة ذهنية نفسية شكّلت رؤية الشاعر ونظرته إلى الكون وتناقضات الحياة والوقوع تحت طائلة القهر والاستلاب الذي تمارسه الطبيعة بحق الإنسان بصورة عامة والشاعر بصورة خاصة، فالصراع بين البقاء والفناء والحياة والموت صراع أزلي منذ بدء الخليقة ولحد الآن، والشاعر يسبح في فضاء هذا الصراع ويؤطره بفلسفته الخاصة.
انَّ الطبيعة بكل عناصرها تمارس ضغطاً تسلطياً على الشاعر وتتحول إلى حشد من أسقطات الذات عنده وقد مارست الطبيعة هذه الضغوط التسلطية على كل البشر وفي كل بقاع الأرض وهذا هو عبيد بن الأبرص يؤكد هذه الحقيقة المؤلمة بقوله:
أرضٌ توارثها شعوبُ |
|
فكلُّ مـن حلَّها محروبُ |
فالقصيدة الطللية تعج بالألفاظ الدالة على القفر والجدب والقحل مثل "أقفر، قفر، امحت، الدار قفر، عفت" وهذه الألفاظ تعكس رؤية الشاعر بتوقف غريزة الحياة وانتصار قوة الموت وجبروته، فهو القوة القادرة على القضاء على كل فعل انساني والأداة المحطّمة لقدراته، مما يستدعي من الشاعر الوقوف بوجه التدمير والموت واستدعاء رموز الطبيعة الأخرى التي يبثّ من خلالها الحياة في طلله كالمطر، الماء، عوذ الحيوانات وهذه الرموز تشكّل حيزاً لا يستهان به في تغليب ارادة الانبعاث والحياة على عناصر الخراب والموت والدمار وهذه الثنائية الضدّية تؤطر حركية الابداع في قصيدته، ولو استعرضنا طللية الشاعر لبيد بن ربيعة العامري لوجدنا انها تتحرك في أبعاد هذه الثنائية (الانبعاث والموت) بقوله:
عفـت الديـارُ محلُها فمقامهـا |
|
بمنىً تأبـد غولُهـا فرجامُها |
ان بنية النص تقوم على أبعاد الثنائية الأساسية (الانبعاث/ الموت)، فالديار الدارسة وما حلّ بها من بلاء ودمار بفعل الطبيعة (المتمثلة بأحد طرفي الثنائية ـ الموت) قد أينعت فيها رموز الطبيعة الاخرى من مطر دافق، وارتفاع فروع الأيهقان، وتوالد الحيوانات، والسيول التي أظهرت معالم هذه الديار، الوشم" (الطرف الآخر للثنائية ـ الانبعاث).
ان النص يكشف بوضوح عن قوة العامل الزمني في احداث صور التخريب والدمار لهذه الديار وهذا استكناه للواقع الذي رآه الشاعر في وقفة تأملية أشعرته بهوة الموت السحيقة التي عززها قوله "صُمّاً خوالد" ويأسه القائل وعجزه عن لقاء الحبيبة. فاردفها بمفردات الخصب والانبعاث والنماء ورموز المواجهة وعناصر الحياة، فكان ودق الرواعد "المطر" الذي ساعد على نمو وارتفاع فروع الايهقان "النبت البري" دليلاً على البعث والنماء. والشاعر المحدث ينظر إلى المطر على انه البعث مثلما ينظر إليه الشاعر الجاهلي واذا كانت نظرته هذه شعورية واعية مقصودة، فربما كان الشاعر الجاهلي ينظر إليه بوصفه كذلك ولكن بدوافع لا شعورية بعيدة عن الصنعة والتقنية الأدبيتين([15]). كما ان احساس الشاعر الجاهلي بالمطر أكثر عمقاً وتأثيراً انطلاقاً من بيئته الصحراوية التي يعيش فيها.
ان المطر يحمل معان ودلالات متنوعة عند الشاعر، كما ان للمطر شحنات ايحائية يحشدها الشاعر في طلله لطرحه كبديل للجدب والاقفرار الذي أحال الطلل من حالة إلى أخرى مناقضة لها.
ان الشاعر هنا يعطي الطلل قدرة كبيرة على مواجهة عوامل الاندثار والخراب فكأنما يسلّح نفسه بعناصر المقاومة والتحمل والتصبر للانفلات من واقع مؤلم إلى واقع يتمناه، واقع يحلم فيه بالحياة بكل أبعادها، حيث ان التوجه إلى الطلل هو في النهاية توجه إلى الذات، كأن الشاعر يجد في هذه الدار الخربة الدائرة صورة عن نفسه المنهدمة الرّثة، كأن المجال المكاني مرآة تعكس له أوضاعه الداخلية المتضعضعة"([16])
فالشاعر يسعى جاهداً للانفلات من قبضة الواقع الأليم المتمثل بالديار الخربة التي عفا عليها الزمن، كما ان "الطلل رمز الزمن الذي يتسم رغم ما يشوبه من قسوة، المضي والانفلات بالايجابية الواضحة"([17]).
والمطر رمز الخصوبة والنماء والحياة يطرحه الشاعر بديلاً عن الجدب والقحط. وحضوره في الطللية إنما هو رمز واع في الدلالة يجدد دورة الحياة فتبث الحياة في الأرض والنبات، وينتقل الطلل من الموت إلى الميلاد، من الجمود إلى الحركة والحيوية ، من العفاء إلى الخصب والنماء.
كما ان عملية التوالد والانجاب بين الحيوانات اشارة إلى عمق الدفق الحياتي الذي أضفاه الشاعر على طلله ممّا يعزز طرف الثنائية الآخر (الانبعاث) ويعزز الشاعر طلله بمفردات التجدد والانبعاث المتمثلة بالوشم. والوشم أهم اشكال التبرج والزينة لدى المرأة الجاهلية وذلك الرجل على السواء فهو التبرج المقحم على الجسد ليغدو جزءاً منه فهو اعظم من العطور والمساحيق والحلي. واعادته اعادة لترميم الحياة في هذا الطلل واصلاح ما تهدم منها.
وهنا يتوارد إلى الذهن التشابه الكبير بين عملية التوالد بين هذه الحيوانات والطقوس الجنسية التي تمارس في القصيدة التموزية.
ان الصمت المطبق على هذا الطلل يعلم الشاعر لبيد بن ربيعة كنهه، كما انه يدرك عبثية السؤال واستحالة الجواب من تلك الحجارة الصمّاء الصلدة التي لا تفقه شيئاً، فيبدو الشاعر حاضراً ومستعداً للمواجهة بطرح البديل، ويكون البديل بث الحياة والرغبة في انبعاثه من جديد، وبذلك تتحقق عملية التواصل والمشاركة الوجدانية التي يسعى اليها. "فالمقدمة الطللية جمعت بين عنصرين أحدهما يذكّر بالفناء، وهو الأطلال، والآخر يذكّر بالحياة وهو الحب. وليس اجتماع هذين النقيضين: الحياة والفناء في الموقف الواحد، وارتباط أحدهما بالآخر، إلاّ تأكيداً لاحساس الشاعر بالتناقض العام الماثل سواء في العالم الخارجي أو عالمه الباطني، ولكن هذا التناقض هو الذي يكوّن سر حياة الإنسان في حد ذاته، بل سر الوجود في كليته والمبني وثنائية الحياة والفناء"([18]). ويتخذ الطلل شكلاً انسانياً حين يحاول الشاعر أنسنته أي بث الروح فيه من خلال السؤال عن أهله وكأنه كائن حي تسري فيه طاقة وحيوية فيعكس من خلالهما عمق المشاركة الوجدانية والاحساس بالألفة والانسجام، فاذا بالشاعر يخترق نظام الكون بأسره ليحاكي الجماد ويجعل منه صديقاً وأنيساً يحاوره ويوجه إليه الأسئلة التي يبتغيها، ومثلما كان هذا الطلل حلم الشاعر وحنينه وموطن ذكرياته فجيكور في تموزية السيّاب هي الولادة الأولى وهي الأم الأبدية، كما انها تتخذ شكلاً انسانياً يؤطره الشاعر بطاقة الروح والفعل.
وتتجلى الصورة أمام لبيد واضحة لا تقبل اللبس، فالجميع قد غادر المكان، موطن الذكريات، ومبعث اللذّات إلى مكان آخر يجدون فيه الخصب والنماء ويحاولون الانفلات من قبضة الطبيعة وقحلها، وهذا يجذب انتباهنا إلى هجرة أبناء القرية في تموزية السيّاب إلى المدينة فتبدو جيكور حزينة هي الاخرى بعدما أصابها الجفاف وهجرها أهلها، إلى المدينة القاحلة، مدينة بلا حب، بلا ربيع تعيش في جفاف، روحي قاتل على العكس من جيكور الخصب والنماء.
ومما يعزز مأساوية الشاعر في طلله ملاحقة هوادج النساء ومتابعتها وذكر تفاصيل رحيلها مدققاً في دخولهن الهوادج وصرير خيامهن وابتعادها عنه. ان دقة متابعته لحركة الهوادج يعكس عمقاً وجدانياً وانكساراً نفسياً لديه وتؤكد له حتمية الانفصال والفراق، ولهذا فان "الطلل هو بيت الذكرى، ولأنه بين الذكرى "بيت الحلم" ويرتبط الحلم والذكرى بالحبيبة اذن غابة أسرار سعيدة"([19]).
اما ارتباط الطللية بذكر فراق المرأة وجمالها ومحاسنها؛ فلأن المرأة هي التي تكمل الحضور الانساني للشاعر، وان نضوب ملامحها يعني تضعضع الحياة الاجتماعية وانهيارها([20]).
فيقول الشاعر لبيد بن ربيعة في لوحة الظعن:
شاقتك ظُعنُ الحيّ حين تحملوا |
|
فتكنّسوا قُطُناً تصـيّر خيامُها |
ان متابعة الشاعر لرحيل النساء وحركة الهوادج تبدو وكأنها "سعي للتواصل واصرار على التمسك بهؤلاء النساء يتعارض مع حركة الانفصال والابتعاد التي تقطع صلة النساء بالمكان وبالشاعر"([22]).
ويبدو حديث الظعن عند وهب رومية ينبوعاً دافقاً عذباً من ينابيع الشعر يجتمع عليه العشاق والقبائل ومن طردتهم الحياة من مرابع اللهو والشباب الى منازل الشيخوخة، والذين فرت من ايديهم ساعات الصفو والعيش الرغيد فصاروا إلى ضيق الحال، او هو القيثارة الجميلة التي يوقع عليها الشعراء انغام حياتهم في فرحها وحزنهافينوعون في النغم ويتفننون في التنويع([23]).
وهنا يمكن القول ان المرأة في حياة الشاعر الجاهلي رمز كرامته وكبريائه واحساسه بالرجولة وعنوان لذته الحسيّة، فهو يبحث عنها في كلّ مكان.
وتتلاحق صور الحيوية التي يبثها الشاعر لبيد في طلله فيطرح صورة الناقة العظيمة امتداداً لقوته الذاتية وتجسيداً على القدرة والتحمل فيقول:
فاقطع لُبانةَ مـن تعرّض وصلُهُ |
|
ولشـرُّ اصـلِ خُلّةٍ صـرّامُها |
ان ناقة الشاعر ناقة قوية أنهكتها الأسفار، رشيقة ضامرة تقطع الفيافي والقفار بكل نشاط وحيوية، فهي تمتلك قيمة رمزية لمواجهة مخاطر الصحراء ففي وسط الجفاف والعقم تبدو الناقة بأوج قوتها وحيوتها، كما ان الناقة والأتان الوحشية العظيمة النشاط التي يشبه بها ناقته هما صورتان من صور النشاط والقوة، كما انها حافلة بالتقاطعات الحادة بين القوة والضعف والفناء والحياة أما البقرة الوحشية شبيهة الناقة تمثل صورة الحياة بكل أبعادها بما تحمله من صراعات وتناقضات، فالبقرة التي افترس الوحش ولدها والتي تصارع كلاب الصياد تمثل صراع الحياة بكل تناقضاتها والمواجهة بينها وبين الصياد وكلابه هي مواجهة بين الحياة والموت وانتصار البقرة هو انتصار لإرادة الحياة والاستمرارية وتخطي العقبات الصلدة التي يواجهها الشاعر:
أفتلـك أم وحشـيةٌ مسـبوعةٌ |
|
خذلـت وهادية الصِّوار قوامُها |
ان البقرة لا تعرف موت ابنها وهي ماضية في البحث عنه في عبثية يائسة لا طائل منها، فالموت يترصد الأحياء اينما كانوا والمواجهة مع الموت مازالت مستمرة وهذا المشهد الفجائعي الذي مرت به البقرة هو فجائعية الموت تجاه الحياة. ويبدو ان النص يستسلم لحكم الموت وحتميته لكن الحياة تنتفض من جديد وتعلن اصرارها على المواجهة في هذه اللحظة الحاسمة ويأتي المطر رمز الخصب والنماء لينفجر في سياق الموت:
باتت وأسبل واكفٌ من ديمةٍ يُرويُ الخمائل دائماً تَسجامُها
يعلو طريقـةَ متنها متواترٌ في ليلةٍ كفرَ النجـومَ غَمامُها([26])
ان هطول المطر هنا يأتي مسبلاً من ديمةٍ يروّي الخمائل بحركة هادئة ويمنح البقرة ملاذاً للاحتماء في ترنيمة وحدانية تمتلىء بالمشاعر العاطفية، فالمطر لم يكن قوة تدميرية بل قوة مانحة للدفء والحياة والاحتماء.
وينبثق الفجر من قلب الليل "وتضيء في وجه الظلامِ منيرة" فتندفع البقرة إلى خضم الحياة معلنة انتصارها في مواجهة الموت لعالم الخصب والنماء ، لكنه انتصار يحمل بين طياته اليأس القاتل من فقدان ولدها ، فهي تعيش أزمة حادة، أزمة الفقدان والحزن ويأتي الموت مرة اخرى يترصد حباة البقرة فهي تسمع "رز الأنيس" الصياد وتتهيأ للمعركة. ان الصراع الدائر بين البقرة وكلاب الصياد يمثل ثورة الشاعر على مواجهة معترك الحياة وخضم التناقضات التي يتحرك في فضائها ورفض الاستسلام للموت والرغبة في الحياة، فالموت قد انقض بمخالبه ليفترس ولدها وهاهو الآن يحاول افتراسها. هذا الصراع الجدلي بين الحياة والموت صراع أزلي يبعث القلق في نفس الشاعر، وتتأكد صورة الانتصار عند البقرة والنجاة من الموت وهو انتصار الحياة ضد الموت وانبثاق النقيض من قلب النقيض([27]).
وتتجدد رؤيا الانبعاث في وعي الشاعر والهامه من خلال العودة إلى الحبيبة "نوّار" فيقول:
أو لم تكـن تدري نوارُ بأنّني |
|
وصّالُ عقـدِ حبائـلٍ جّذّامُهـا |
ان الصراع الوحشي بين البقرة وكلابها له صلة بالصراع الداخلي في ذات الشاعر وربما كان له صلة بفراق الحبيبة نوّار، فهو يتحدث عن جهل نوّار بقدرته على الوصال والفراق من خلال تساؤله المطروح الذي يشكّل أزمة نفسية تعكس صراعه المستبطن كنوع من الاستدعاء الوجداني لهذه المرأة ، كما ان حضور الخمرة في الابيات السابقة نوع من أنواع استجلاب اللذّة تعويضاً عن لذة الاستمتاع بهذه الحبيبة الغائبة، فهو يندمج في الخمرة كاندماجه في المجتمع وحماية قبيلته في الحرب واعالتها عن طريق الصيد وقيامه بالمسؤوليات الملقاة على عاتقه، وهذا الاندماج يشير إلى حقيقة لا تقبل الشك إلى قدرته على بلوغ السلوك المثالي واستعداده للتواصل الاجتماعي لابرازه كقيمة عليا فهو يقول:
ومقسَّمٌ يعطـي العشـيرة حقَّها |
|
ومُغذمِرٌ لحقوقهـا هضَّامُها |
فالطلل كان مكاناً مسكوناً ممتلئاً بالحضور الإنساني والمشاركة الوجدانية غير ان الجدب والموت والصراع القبلي أحدث انقلاباً مخيفاً فأحال الطلل إلى فراغ موحش وصمت وطبق يتجسد فيه الغاء الملامح الإنسانية، تفوح منه رائحة الموت. كما أنه "تجسيد للهزيمة التي تحيق بإرادة الإنسان ، وتدمير لرغبة الجماعة البشرية في التوطن والاستقرار، واشارة إلى الكآبة العميقة إزاء الوطن الذي يستلب قهراً، ويصير يباباً"([30]).
وهذا ينطبق تماماً على تموزية الشعراء الروّاد في العصر الحديث، فالسيّاب "يجد معالم الماضي هذا خرائب ما ان ينزع الأبواب عنها حتى تغدو أطلالاً"([31]).
ان طللية لبيد تكشف عن عمق القحل الذي تمارسه الطبيعة على الإنسان وعمق الصراع النفسي والواقع المأسلوي الذي يعيشه في هذه الطبيعة، إذ تعدّ الطللية احدى النماذج الابداعية العليا التي اصطفتها فلسفة الخطاب الشعري الجاهلي، لتحمل رسالة الهم الاجتماعي، وان كان هذا الهم ممزوجاً بالذاتي إلا أن فيه صدق التعرف إلى الواقع وتناقضاته وادراك الفوارق الموجودة فيه وقد كانت محنة الشاعر الجاهلي تمثيلاً لديمومة الحياة النابضة بالحركة والمجاهدة من أجل صياغة التركيب الكلي للوعي السليم ، وان الشعور المغلق بالزمان هو الصورة الجوهرية لهذا التركيب الكلي للطللية الذي يجعل جميع التركيبات الشعورية الأخرى في حيز الامكان"([32]).
وهذا الأمر ينطبق على محنة الشاعر السيّاب الذاتية التي تمتزج بمحنة المجتمع وتناقضاته التي بدت جلية من خلال قصائده التموزية التي صوّرت الواقع المحيط أعظم تصوير وجهاد الشاعر في البحث عن منافذ حيوية للانبعاث والتجديد في سياق النكوص والتراجع أمام القهر المسلط على الإنسان لكن ليس بالطريقة المباشرة التي عرض بها الشاعر الجاهلي لبيد بن ربيعة العامري من خلال طلليته التي عرضناها، فالسياب استخدم الرمز ـ الأسطورة ـ لينفذ من خلالها إلى تجسيد رؤاه النفسية والذهنية والفكرية لاستجلاء الواقع المر بكل تناقضاته.
يلجأ كثير من شعراء القصيدة الحرة الى استخدام الرمز في قصائدهم لضرورة فنية تهدف إلى تكثيف الصور الشعرية أو ضرورة سياسية تقتضي الايماء والرمز لعدم توفر الحرية الكافية للتعبير عن تطلعاتهم وعرض آرائهم في جو ديمقراطي يتيح حرية التعبير أو ضرورة نفسية تتعلق بالذات المعبّرة التي لا تستطيع الافصاح عمّا يخالجها إلا عن طريق الرمز. فالرمز "بضعة من العالم الإنساني الخاص بالمعنى"([33]) والتصور الرمزي "هو الذي يفسّر الرمز بوصفه أفضل صياغة ممكنة لشيء مجهول نسبياً فهو لا يمكن أن يكون أكثر وضوحاً أو أنْ يقدّم على نحو مميز"([34])، وقد أكثر شعراء القصيدة العربية المعاصرة من استخدام الرمز الأسطوري في تضاعيف قصائدهم لضرورة أملتها عليهم الآنيّة؛ لأنَّ "الرمز ينتمي إلى الآنيّة وإلى عالم المعنى"([35]). وللرمز الأسطوري خصائص وسمات أصيلة جعلته يؤطر التجربة الشعرية بإطار يقوم "على التكثيف والادماج ، وصهر الأفكار المتماثلة، ومزج المعاني المتشابهة حيث تندمج الحدود والفوارق"([36]).
وتعني الأساطير في اللغة: الأباطيل، وأحاديث لا نظام لها كما ورد في لسان العرب لابن منظور([37]). وقد عدّها بعض الباحثين "انها تجربة حدسية، أو رؤية حاول الإنسان بوساطتها فهم معاني الوجود المتناقضة، واكتشاف طبيعة العلاقات والأشياء من حوله"([38]). وعدّها آخرون "عنصراً وظيفياً راسخاً في الأدب، وليس مجرد زخرفة"([39]). فالأسطورة شبيهة بالرمز لكنها أكثر دلالة منه، لأنها تحمل وقائع متعددة وشبكة متداخلة من الصيغ المعرفية التراثية في حين أنَّ الرمز هو واقعة فقط. أمّا أهم ما يميّز البنية الأسطورية هو اسلوب السرد الحكائي والحوار، وتفتيت وحدتي الزمان والمكان، والتجسيد بالصور الحسية والتكرار الذي تعتمده لتأكيد قضية مركزية، والتعبير بالرؤيا بلغة بسيطة تحمل رؤية وموقفاً واضحاً من الوجود يقود هذه العملية زاوية تنتظم من خلاله الأحداث([40]).
وتبرز وظيفة الأسطورة على مستويين : الأول: بنائي فني، والثاني: موضوعي يربط بين عالم الأساطير والواقع المعاصر([41]).
يعدّ توظيف الأسطورة من الدلالات الإبداعية والفنية في قصائد الشعر الحر التي تعبّر عن رؤى الشعراء وفهمهم العميق للكون والمجتمع والطبيعة والزمان، فالأسطورة أخذت بعداً كبيراً وحيزاً واضحاً في تلك القصائد إلى الحد الذي قال فيه الشاعر عبد الوهاب البياتي (إنَّ الرمز والأسطورة والقناع أهم اقانيم القصيدة الحديثة ، وبدونهم تجوع وتعرى وتتحول إلى مشروع ،أو هيكل عظمي إلى جثة ميتة([42]) .
فالأسطورة حقل معرفي يستقي منه الشعراء اكتساب المعرفة وتساعدهم على فهم الحياة بكل إبعادها ومعانيها :" لان نشأة الأساطير ترتبط بفجر الإنسانية وقد كان الوعي الأسطوري يؤمن لأصحابه مقدارا من التناغم والتجانس والمواءمة بينهم وبين الكون وعناصره ولكن هذا الوعي بدأ يخسر شيئاً فشيئاً منذ بزغت النظرة العلمية إلى الكون. وكلما زادت سيطرة الإنسان على العالم بالعلم تقلصت النظرة الأسطورية وتعرت الكائنات من قداستها"([43])
واختلف الباحثون والدارسون في تحديد دواعي استخدام الأسطورة في الشعر الحر واندفاع عدد كبير من الشعراء إلى توظيفها في تضاعيف قصائدهم، فمنهم من يرى أنها تخضع لمزاج شخصي أو تكويني نفسي اجتماعي كما فسر الصائغ استخدام السيّاب للرمز الأسطوري بسبب "مزاجه الشخصي المنفعل وميله إلى الأجواء الغريبة الشاذة وحسّه الديني"([44]). وقد يكون المزاج الشخصي المنفعل أساساً مهماً في استخدام السيّاب للرمز الأسطوري نتيجة للتقلبات المتناقضة في حياة السيّاب لكن تأثير العامل الديني لم يظهر واضحاً في شعره ولذلك لا نجد فيه سبباً في اندفاعه لأستخدام الأسطورة، ومن الدارسين من يرى أن السيّاب اتخذ من الرمز الأسطوري وسيلة للتخفي والتستر تحت قناع هذا الرمز واذا كان هذا السبب قد ينطبق على السيّاب في بعض الأحيان وفي بعض قصائده نتيجة للظروف والتقلبات السياسية التي مرّت به لكنها لا تنطبق على بقية الشعراء وفقاً لما صرّح به السيّاب في قوله:
"لعلني أول شاعر عربي معاصر بدأ باستعمال الأساطير يتخذ منها رموزاً، كان الدافع السياسي أول ما دفعني إلى ذلك فحين أردت مقاومة الحكم الملكي السعيدي بالشعر اتخذت من الأساطير التي ما كان زبانية نوري السعيد ليفهموها ستاراً لأغراضي ، كما أني استعملتها للغرض ذاته في عهد عبدالكريم قاسم. ففي قصيدتي "سربروس في بابل" هجوت قاسماً ونظامه أبشع هجاء دون أن يفطن زبانيته لذلك، كما هجوت النظام أبشع هجاء في قصيدتي الأخرى "مدينة السندباد"، وحين أردت أن أصور فشل أهداف ثورة تموز استعضت عن اسم تموز البابلي باسم أدونيس اليوناني الذي هو صورة منه"([45]). واذا كان سبب التخفي وراء الرمز الأسطوري عند السيّاب في مرحلة معينة قد لاقى بعض القبول لكنه أصبح لا جدوى منه في مراحل حياته الأخرى.
ويرى البعض أنَّ ثمة أسباب دعت إلى استخدام الأسطورة هي التوق الشديد إلى الماضي، والشعور بجفاف الموضوعات المعاصرة، والشعور بالقلق والتفكك والوحدة، فضلاً عن اقتقاد حرية التعبير([46])، لقد حاول الشعراء العبور بالأسطورة من معناها الضيق إلى مرحلة أكثر تطوراً تعج بعوامل النضج الفكري والفني والوصول بها إلى أعلى مرحلة من مراحل التكثيف في البنية الدلالية للقصيدة واستلهام المعنى الشامل لها خدمة للبناء الشعري وانسجاماً مع متطلبات الواقع وتعبيراً عن القضايا العامة بمستوى عالٍ من التكنيك التقني والدرامي.
ولعل ما يؤكد هذا القول ان السيّاب حين استخدم الأسطورة وسيلة للتخفي لأسباب خاصة كان وليد مرحلة معينة من مراحل حياته سرعان ما انتهت لكنها عادت عنده باطلالة جديدة أسهمت اسهاماً فاعلاً في بناء قصيدته بناءً فنياً عالي المستوى أظهر مهارته وقدرته في توظيف الأسطورة توظيفاً يخدم الواقع ويعبر عن محنة الإنسان المعاصر لتتحول الأسطورة إلى "نسيج شعري متدفق شديد الارتباط بالحاضر وبالحياة المعاصرة"([47]).
وبهذا استطاع السيّاب أن يجسّد فكرة الموت والانبعاث والاهتمام بالجانب الأسطوري الذي بدأه في قصيدته "أنشودة المطر" التي كتبها عام 1952م فقد وظّف السيّاب الأسطورة في شعره ليعبّر عن قضية انبعاث الحضارة العربية بعد موتها في عصور الانحطاط ليتخذ منها رموزا تعبّر عن الحياة العامة والقضايا المصيرية ولهذا أكثر الشاعر من استخدام الشخصيات الأسطورية في شعره ولعلّ كلمة المطر المحور الأساس في قصيدته " أنشودة المطر " لأنها رمز الحياة وانبعاثها ففي إشارة ضمنية إلى أسطورة الإله تموز أو أدونيس الذي تعبده الشعوب السامية التي سكنت العراق وسوريا وكانت هذه الشعوب تحتفل كل عام بموت الإله ثم قيامته وانبعاثه من جديد تأكيدا لانتصار الحياة في صورة إخصاب الأرض بالمطر.
ومنذ أن كنّا صغارا كانت السماء
تغيم في الشتاء
ويهطل المطر
وكلّ عام – حين يعشب الثرى – نجوع([48])
وعاد السيّاب فوظّف أسطورة تموز في قصيدته "النهر والموت" توظيفا ضمنياً حيث يمثل بويب نهر جيكور رمز السعادة والخصب والحياة والأمل :
وأنت يابويب
أود لو غرقت فيك ألقط المحار
أشيد منه دار
يضئ فيها خضرة المياه والشجر
ما تنضح النجوم والقمر([49])
يتضح في القصيدة حدة الصراع وعمق المتناقضات بين الحياة والموت ، فالنهر الذي يمثل الخصب والعطاء يحمل بين طياته باباً نحو الموت :
فالموت عالم غريب يفتن الصغار
وبابه الخفيّ كان فيك ، يا بويب........([50])
ويتحرك الشاعر في مناخ أسطوري يكشف عن طبيعة التواصل بين الإنسان والنهر. وتكشف كلمة "النذور" التي تقدّم إلى النهر هي بحد ذاتها دائرة يتحرك فيها هذا المناخ الأسطوري وهو اله الخصب الذي يمثل رمز الانبعاث والعطاء والحلم بالفردوس المفقود، فالتقرب والتعبد إلى هذا النهر يعكس عمق الصورة الأسطورية التي تتمحور حولها القصيدة فهو اله الخصب تقدم له النذور يجلب الخير والعطاء :
أودّ لو عدوت في الظلام
أشدّ قبضتي تحملان شوق عام
في كل إصبع كأنّي أحمل النذور
إليك من قمح ومن زهور([51])
ويوظّف السيّاب أسطورة تموز في قصيدة "جيكور والمدينة" بمهارة شعرية عالية ، فهي تحمل نبرة اليأس وعمق عبثية الصراع وحدته في نفس الشاعر فلا أمل لهذه القرية التي نزح أبناؤها عنها إلى المدينة التي لا تعرف الحب .وهنا نجد تأثير مدينة الوهم في قصيدة "الأرض اليباب" للشاعر اليوت في قصيدة السيّاب حيث يلتقي الشاعران في نقطة أساسية هي كراهية المدينة التي تمثل الحياة المعاصرة وتستقطب أبناء القرية ليقعوا في شراكها:
ويمناي : لا مخلب للصراع فأسعى بها في دروب المدينة
ولا قبضة لانبعاث الحياة من الطين ...لكنّها محض طينة
وجيكور من دونها قام سور ، وبوابة واحتوتها سكينة([52])
تمثل جيكور أنموذجا أمثل في البراءة والعطاء والحكم ،جيكور الحضارة المتهاوية امام ضربات المدينة التجارية التي يهجرها أبناؤها وقد التهمتهم المدينة القاحلة:
قتلت، إذ قتلته ،الربيع والمطر([53])
ويموت تموز في قصيدة الشاعر "أغنية في شهر آب" ويعم الجدب والافقرار ويسيطر البرد على مرجانة ويموت الخصب بموت تموز ولا يرجى عودته مما يكشف لنا حالة اليأس والقلق اللتين يعيشهما الشاعر في حياته، فقلقه من الموت قلق فريد من نوعه "وهذا ناتج عن عملية الكبت في اللاشعور التي تتحول إلى حالة من القلق الدائم"([54])
تموز يموت على الأفق
وتغور دماه مع الشفق
في الكهف المعتم والظلماء
نقالة إسعاف سوداء([55])
ويظل الموت ماردا جبارا يقتل الأمل ويهدّد الإنسان في أسطورة السيّاب "تموز" (أدونيس) في قصيدته "مدينة السند باد":
أدونيس ! يالاندحار البطولة
لقد حطّم الموت فيك الرجاء([56])
إن استخدام الشاعر السيّاب للرمز قد عزز رؤيته الفلسفية النابعة من صميم الواقع المعيش والتجربة الحية وقد حرص الشاعر في إطار رؤيته على تقديم الرمز الأسطوري الذي تبلور في وعيه للكشف عن المحتوى التضادي لحقيقة الحياة وعمق الصراع فيها.
ويتجدد الأمل في إحياء "تموز" من جديد في قصيدة السيّاب "مدينة بلا مطر" بعد إن كان مدفونا في مدينة بابل تلك المدينة التي تشكل صورة أسطورية بمنائرها وأبراجها، إنَّ هذه المدينة المدمرة التي تخيم فيها الوحشة والسكون؛ لأنَّ تموز اله الخصب والحب ميّت حيث يرسم لها صورة تحمل بين طياتها معالم الخواء والجفاف :
مدينتنا تؤرق ليلها نار بلا لهب
تحّم دروبها والدور ، ثم يزول حمّاها
ويصبغها الغروب بكل ما حملته من سحب
فتوشك ان تطير شرارة ويهبّ موتاها:([57])
يصور السيّاب حالة العقم التي تسيطر على هذه المدينة وقد هيأ لها كل مستلزمات الإثارة والإحساس بالرعب من صور السواد والظلام والسحاب العقيم الذي لايمطر غير أن تموز أوشك أن يحيا ليعود إلى تلك المدينة الخضراء لتخصب من جديد لكن الأمل يتضاءل وتعود نبرة اليأس إلى نفس الشاعر فبدلا من أن تدق طبول بابل لتعلن هطول المطر وإنماء الأرض تصفر الريح ويئن المرض ولا يهطل المطر :
صحا من نومه الطيني تحت عرائش العنب
صحا تموز ،عاد لبابل الخضراء يرعاها
وتوشك أن تدقّ طبول بابل ، ثم يغشاها
صفير الريح في أبراجها وأنين مرضاها([58])
وتعكس هذه الصورة القاتمة حالة الشاعر النفسية وكأن الأسطورة قد أخذت مداها واكتملت عناصر نجاحها فحققت كل ما يريده الشاعر من شحن لطاقاته الإبداعية لكل ما يوحي بالأجواء الأسطورية التي تخيّم على كل مفاصل القصيدة وتسبغ إضاءة على واقع الشاعر والتناقضات التي تشكّل عالمه الخاص وترتفع الدعوات ومظاهر الطقوس الخاصة بالاستسقاء. ونزول المطر والخلاص من الجدب:
ويرتفع الدعاء ،كأنّ كل حناجر القصب
من المستنقعات تصيح :لاهثة من التعب
تؤوب آلهة الدم ، خبز بابل ،شمس آذار
ونحن نهيم كالغرباء من دار إلى دار
لنسأل عن هداياها
جياع نحن...واسفاه !فارغتان كفّاها ،
وقاسيتان عيناها
وباردتان كالذهب
سحائب مرعدات مبرقات دون إمطار
قضينا العام ،بعد العام ، بعد العام ،نرعاها ،
وريح تشبه الإعصار ،لامرّت كإعصار([59])
إنَّ عشتار آلهة الخصب أصبحت آلهة للدم والمجاعة؛ لأنّها الآن فارغة الكفين ، ذات عينين باردتين ،وهذا الأمر يدعو إلى العجب والاستغراب؛ لآنّ عشتار دائمة الخير والعطاء وهذا يعكس مدى الخيبة واليأس الذي تصوره القصيدة مما جعل عذارى بابل يندبن هذه الآلهة الامر الذي يوسع دائرة الأسى والحزن لما آلت إليه الأمور :
عذارنا حزانى ذاهلات حول عشتار
يفيض الماء شيئا بعد شئ من محيّاها
وغصنا بعد غصن تذبل الكرمة([60])
إن ممارسة الطقوس وتقديم القرابين للآلهة موجودة منذ أقدم الأزمنة وخاصة في عصر ما قبل الإسلام وكان العرب يعتمدون على الشعر في ممارسة طقوسهم الدينية كما يروي ابن الكلبي إن قبيلة عك إذا خرجوا حجّاجا قدّموا أمامهم غلامين أسودين يصيحان "نحن غرابا عك" فتقول عك بعدها ملبية:
"عك إليك عانية ...عبادك اليمانية ..كيما نحجّ ثانية"([61])
وتشكل الطقوس وتقديم النذور للآلهة في هذه القصيدة وإشعال البخور "أفي عينيه مبخرتان أوجرتا لعشتار". مرتكزات أساسية مهمة لتجسيد ثنائية الانبعاث والموت في النص وتؤطرها بأطر ذهنية وفكرية على حد سواء.
ويخرج الأطفال في مواكب يتضرعون إلى عشتار طلبا للاستسقاء وهطول المطر لكنّ الأرض لم توفر لهم غلالا لكي يقدّموها قرابين للآلهة مما اضطرهم إلى حمل الصبّار والفخّار ويرتلون تراتيل حزينة لاستدرار رحمة الآلهة عشتار لكي تمنّ عليهم بالخصب والعطاء:
وسار صغار بابل يحملون سلال صبّار
وفاكهة من الفخّار ، قربانا لعشتار
ويشعل خاطف البرق
بظلِّ من ظلال الماء والخضراء والنار
وجوهم المدوّرة الصغيرة وهي تستسقي .
فيوشك أن يفتّح –وهي تومض –حقل نوّار
ورفّ- كأن ألف فراشة نثرت على الأفق
نشيدهم الصغير
قبور إخوتنا تنادينا
وتبحث عنك أيدينا([62])
وتتوالى صرخات الأطفال الأبرياء لاستدرار عطف الآلهة عشتار معلنة عن أسى وحزن عميقين فالجوع يفتك بهم بلا هوادة وهم يرون إخوتهم يموتون جياعا:
جياع نحن مرتجفون في الظلمة
ونبحث عن يد في الليل تطعمنا ، تغطينا([63])
ويقدّم هؤلاء الأطفال لوحة من قرارات الاتهام بعدم الرحمة لهذه الآلهة ويتهمونها بالقسوة وتأتي هذه الاتهامات لتشكل مرتكزا أساسيا في استفزاز الآلهة المعطاء لتكون عنصر خير تنعم بالرحمة والعطاء على هؤلاء الأطفال الجياع:
سمعتِ نشيجا ورأيتِ كيف نموت ......... فاسقينا !
نموت ، وأنتِ – وأسفاه – قاسية بلا رحمة([64])
وتأتي الاستجابة من الآلهة تؤكد إن عنصر الخير موجود متمثلة ببريق السماء كأنه زنبقة من نار تنشر ضوءها فوق بابل معلنة انتهاء الجدب والعقم فيهطل المطر ويكلّل تضرع الأطفال الأبرياء بالفرح وعودة الأمل إلى ربوع نفوسهم الجدبى وتغتسل الأرض من ذنوبها ويعمّ الخير والسلام على ربوع هذه المدينة ليحيا فيها الإنسان بحياة حرة كريمة :
وأبرقت السماء كأنَّ زنبقة من النار
نفتَّح فوق بابل نفسها ، واحناء وادينا ،
وغلغل في قراره أرضنا وهج فعرّاها
بكل بذورها وجذورها وبكلّ موتاها([65])
وتظل الأسطورة فكر الإنسان وخلاصة تجاربه في الحياة تهيمن على وعيه وذهنه في كل مراحل تكوينه تمدّه بروافد النجاة إلى بر الأمان وتخرجه من دائرة اليأس إلى دائرة الأمل لآنَّ "الجو الذي تخلق فيه الأسطورة هو جو مشحون بالحوادث والأمل معا وفيما يجد الإنسان إنَّ الخوف بات يكبر حتى يكاد يلتهم أحلامه يستبد به القلق فلا يجد حلا إلا بالأسطورة"([66])
في قصيدة " مرحى غيلان" تصبح الارض قفصاً من الدم والأظافر والحديد، ويبدو المسيح متأرجحاً بين الحياة والموت فلا يحيا ولا يموت حتى يبعث ثانية فهو هيكل منهار وجليد بارد، أمّا الأرض فتموت ويسيطر عليها الخراب فعشتار آلهة الخصب ورمز الأرض ورحل عنها الاله بعل وبدلاً من أنْ تعلن الحياة مولد الشمس والدفء يركض الموت في الشوارع وضريح تموز يُرشّ بالدم ويسدل الظلام أستاره وينتصر الشر ، وتبدو الغلبة لصالح رمز الموت ويدعّي الموت أنه هو المسيح الذي يهب الحياة في أرض العراق وتدعّي النار انها ماء نهر الفرات الذي يبعث الخصب فتنفتح الورود ويولد الربيع:
" بابا ... " كأنَّ يَد المسيح ِ
فيها ، كأنّ جماجم الموتى تُبَرعم في الضريح
تموزُ عادَ بكل سنبلةٍ تُعابث كلَّ ريح ِ
" بابا ... بابا "
جيكور من شفتيك تولَدُ من دمائكَ ، في دمائي
فتحيل أعمدة َ المدينهْ
أشجار توتٍ في الربيع ِ، ومن شوارعها الحزينهْ
إلى أن يقول :
حيث المسبح يظلُّ ليس يموت أو يحيا .. كظلِّ
كيدٍ بلا عصبٍ ، كهيكل ميّتٍ ، تضحّى الجليدِ
النورُ والظلماءُ فيه متاهتان ِ بلا حدود
عشتارُ فيها دون بقل ِ
والموتُ يركض في شوارعها ويهتفُ : يانيامُ
هبّوا فقد ولد الظلامُ
وانا المسيحُ ، أنا السلام
والنارُ تصرخ : ياورودُ تفتّحي، ولد الربيعُ ([67])
وتحمل القصيدة بين طياتها خطرات فلسفية حول ثنائية الخير والشر والحياة والموت فكل شيء في صراع وتنتصر ارادة الحياة ويولد الربيع من جديد ويعود الانبعاث بعد الموت إلى هذه الأرض، فالشاعر يبحث عن الخلود والحياة بعد الموت فهو في حالة نفسية من شأنها أن تعّمق لديه عنصر الأمل في حياة طيبة بعد الموت" وهكذا يقلب الزمن صورة العالم ، بمنح الأشياء دلالات متناقضة لها ويجعلها تتجسد في رموز مناقضة لها " ([68])
غير ان الشاعر كان على يقين تام وايمان مطلق بالانبعاث بعد الموت فهو يشعر إن بامكانه أن تحدى الموت ويحقق الخلود لنفسه باستمرار وجوده في نسله وباتحاده بالأرض. فتمتد صور الأنبعاث اليها فيدخل الدفء إلى السجن الحديدي ويدبّ الشباب في دم الشاعر ويعود الأخضرار إلى الطبيعة ويتحدث الشاعر عن عبثية الحياة وتناقضاتها فيوظف لها "اسطورة سيزيف" الذي حكمت عليه الآلهة بالاستمرار في دحرجته صخرة إلى قمة الجبل ، حيث تعود الصخرة إلى النزول متدحرجة بفعل ثقلها ، فقد أرتأت الآلهة بشيء من الحق انّ ليس من عقوبة أشد فظاعة من جهد بلا جدوى ولا أمل، لكن سيزيف يرى أنّه متفوق على مصيره فهو أقوى من صخرته:
" بابا ... بابا "
يا سُلَّم الأنغام ـ أيةُ رغبةٍ هي في قرارك ؟
" سيزيف " يرفعها فتسقط للحضيض مع انهيارك ([69])
تبدو القصيدة محكمة البناء متلاحمة الأجزاء يشكّل فيها الموت والانبعاث عصباً يشّد أجزاءها فتؤلف كياناً متماسكاً لا انفراط فيه .
فالشاعر لبس كياناً منفصلاً عمّا حوله فهو متجذر في الأرض والأرض هي أرض الوطن الذي يهبها الشاعر من عرقه ودمه فتعطيه الخير والخصب والدفء:
" بابا ... بابا"
من أيِّ شمس ٍ جاء دفؤك أيِّ نجم ٍ في السماء ِ ؟
ينسَلُّ للقفص الحديدِ فيورقُ الغدُ في دمائي([70])
ان الشاعر يعُلن عدم استسلامه للموت، فموت تموز إله الحياة والنماء يعدّ استسلاماً واندحاراً وهذا شيء لا يرضاه. ومثلما اعلن الشاعر السياب عدم استلامه للموت كذلك الشاعر لبيد ابن ربيعة العامري في لوحة الرحلة اراد ان ينتصر للحياة بركوب الناقة؛ كذلك في لوحة الطلل، فالطلل يمثل ماضي الشاعر او في بعض صوره يمثل الموت.
ويبدو أتيس صورة أخرى لتموز الاله البابلي عند السيّاب في قصيدة " رؤيا في عام 1956م":
تموز هذا أتيس
هذا وهذا الربيع
يا خبزنا يا أتيس
أنبت لنا الحبّ وأحيي اليبيس
التأم الحفل وجاء الجميع
يقدمون النذور
يحيون كلّ الطقوس
ويبذرون البذور
سيقان كل الشجر
ضارعة والنفوس
عطشى تريد المطر ..... ([71])
ان الشاعر لا يكتفي من الاسطورة بذكر رموزها ، بل ينظر اليها على أنها أشخاص من خلال رؤيا مخيفة يعبّر عنها باحساس مرهف يبيّن مدى تأثير هذه الرؤيا على الناس والمدينة بسبب الجدب الذي أصاب مدينته في الربيع ، كما انّه ينجح في توظيف الشعائر والطقوس الأسطورية التي كانت تمارس لعودة الخصب والنماء وسقوط المطر، ولعلّ اشارة الشاعر إلى مظاهر الطقوس التي كانت تقام لإله الخصب "أتيس" عند سكان آسيا الصغرى القدماء الذي يحتفلون بعيده في الربيع حيث يربط تمثاله على ساق الشجرة تهدينا إلى معرفة نوعية الطقوس التي كانت تقام لذلك الإله([72]) وهذا يتضح في اشارة الشاعر إلى نوعية تلك الطقوس في قوله :
شدّوا على كلِّ ساق
ياربّ تمثالك ([73])
أن النص يعكس قدرة الشاعر على المواءمة ويبن الماضي وابتهالاته للخلاص من الجدب والجفاف وبين الواقع المعاصر المجدب.
من خلال التصوير الدقيق لعمق المأساة التي تقدمها هذه الرؤيا على الناس والمدينة .
ويطوّع الرمز عشتار آلهة الخصب والحب عند البابليين وهي حبيبة تموز لتكون حاضرة في المشاركة بهذه المأساة وقد صلبت على ساق الشجرة وهذا احساس مخيف يعكس نبرة اليأس وقتل الأمل في التخلص من الواقع المؤلم:
عشتار على ساق الشجرة
صلبوها ، دقّوا مسماراً
في بيت الميلاد ـ الرّحم ِ
عشتار بحفصة مستترة
تدعى لتسوق الأمطارا ([74])
ويصور مأساة عشتار وهي مصلوبة والعذارى يندبنها باكيات ويبكين تموز القتيل فأيّ يأس يسيطر على احساس الشاعر وشعوره بعد أن قتل تموز وصلبت عشتار، لكنّ الشاعر يضيء لنا بارقة من الأمل في الانبعاث والعودة الى الحياة والخصب في قوله :
العازر قام من النعش ـ
شخنوب العازر قد بعثا
حّيا يتقافز أو يمشي
أترى عاماً أو عامين ؟
أم دامت ميتتهُ ساعة ؟ ([75])
وهذا يدل على رؤيا الشاعر بالعودة إلى الحياة والانبعاث من جديد فالأمل يحيا ولا موت يدوم ولا بُدّ أن تأتي الحياة بعد الموت وهذا هو سر الخلود فالموت بعده الحياة كما بعد الدماء المطر.
ومن الضروري أنْ نبين في هذا البحث إنَّ توظيف الأسطورة في الشعر يتطلب قدرا من الوعي والثقافة والاطلاع على الآداب الغربية، كما إنَّ التوظيف الأسطوري في شعر السيّاب جاء متناغما مع واقعه النفسي. وانفتاحه على الثقافة العالمية بحكم إجادته لللغة الانكليزية التي مهدت له الطريق للاطلاع على أدب الأمم الأخرى والاطلاع على تجارب الشعراء الآخرين، كما إن أسطورتي تموز وعشتار كانتا الأقرب إلى واقعه وحياته المليئة بالصراعات فكان صراع الحياة والموت قد جسّد عمق التناقضات النفسية والحياة الواقعية للشاعر بكلّ إبعادها وعلى قارئ الأدب أن يفهم دلالات الرموز والأساطير في قصائد الشعراء بسبب تغيّر دلالات الرمز من قصيدة لأخرى.
فالشاعر يعيش حالات نفسية كثيرة ومتناقضة في بعض الأحيان وهذا يؤثر على إبداعه الفني لآنَّ موضوع القصيدة "لم يأت ارتجالا وإنّما عاش قبل التأليف حياة متطورة منفعلة بمختلف المؤثرات النفسية والتي تتصل به من قريب أو بعيد"([76])
إنَّ الأسطورة في شعر السيّاب لم تأتِ اعتباطا أو ارتجالا بل دعت إليها ضرورة نفسية أولا ووعي وثقافة واطلاع على تجارب الآخرين في آدابهم.
- بعد تحليل طللية الشاعر لبيد بن ربيعة العامري وتموزية السيّاب نخلص الى ان حالة العقم والجذب كانت اقوى وأشد في تموزية السيّاب منها في الطللية نتيجة للتناقضات الاجتماعية والسياسية والحضارية التي تبلور الواقع الذي يعيش فيه الشاعر على الرغم من اشتراكهما في القمع الذي تمارسه الطبيعة على الشاعرين وفي عصرين مختلفين تماماً.
- يبدو الطلل عند الشاعر الجاهلي مثيراً للأسى والبكاء حين يصاب بالعقم والجفاف والخراب ورحيل اصحابه عنه مثلما نرى جيكور عند الشاعر السيّاب تبدو حزينة اذا أصابها الجفاف وهجرها أهلها إلى المدينة.
- ان المقدمة الطللية المعاصرة المستمدة من الطللية الجاهلية كما تقول المصادر تؤكد استمرار التقاليد الفنية عبر القرون كما تؤكد ان المقدمة الجاهلية نفسها مستمدة من التراث البابلي العربي القديم.
- تعلق الشاعر الجاهلي بطلليه أشبه بتعلق الشاعر بمدينته (جيكور) التي يتردد صداها في معظم قصائده التموزية.
- ان الشاعر الجاهلي في وقوفه على الطلل أشبه بعشتار التي تنوح على تموز إله الخصب والنماء.
- يستحضر الشاعر الجاهلي في معظم طللياته أسماء ألاماكن التي ترتبط ارتباطاً مباشراً ببيئته ويحاول التركيز عليها مثلما يفعل السيّاب في استحضار أسماء الأماكن البيئية التي يعشقها ويحن اليها "جيكور"، "نهر بويب"، وهذا الحنين الدائم للبيئة قد شكّل عنصراً أساسياً في معظم قصائده التموزية.
- هطول المطر سمة تلقائية في طللية الشاعر لبيد بن ربيعة العامري؛ لأن المطر عند الشاعر الجاهلي هو الخير والخصب والحياة. وربما إحساسه بالمطر أكثر عمقاً منه عند الشاعر الحضري، أما المطر عند السيّاب من خلال الاسطورة فأنه يرتبط بالنذور وتقديم القرابين للإلهة لغرض استدراره ليعم الخير والنماء على مدينته.
- كان الشعر في العصر الجاهلي تسجيلاً لواقع العصر وتناقضاته وأحداثه ينقلها الشاعر بتفصيلاتها مثله كمثل السيّاب الذي تألق شعره وسط الركود الذي أعقب الحرب العالمية الثانية فأخذ ينقل الأحداث التي عاصرها في زمانه ويصفها بأدق لتفاصيل؛ لذلك يعدّ شعره وثيقة تاريخية تسجيلية للأحداث التي عاصرها في زمانه مع الوعي العميق لللحظة التأريخية واستكناه جذورها.
- يمثلّ المكان الاغتراب النفسي منذ التجربة الطللية وحتى المنحى الرومانسي في الشعر العربي، فأنه مع السيّاب لم يعد صيغة اغترابية بل أصبح اقرب إلى الإحساس الغريزي والفطري صلة وتمثلاً فلم تكن هنالك مسافة بين الذات والمكان بل هنالك تواصل وجداني وانفعال كبير يتخلل معظم قصائده التموزية.
- حين نستقرىء النصوص الجاهلية الطللية وتموزيات السيّاب نجد فيها رفضاً للواقع المفروض على الشاعرين نتيجة العقم والجذب التي تمارسه الطبيعة على الشاعرين.
قائمة المصادر والمراجع
1- الاتجاه النفسي في نقد الشعر العربي – دراسة – الدكتور عبدالقادر فيدوح- منشورات اتحاد
الكتّاب العرب – دمشق 1992.
2ـ أصول علم النفس – الدكتور احمد عزت راجح – مطبعة اشبيلية – بغداد – د.ت .
3- آليات الخطاب النقدي العربي الحديث في مقاربة الشعر الجاهلي – بحث في تجليات القراءات السياقية دراسة. الدكتور محمد بلوحي –منشورات اتحاد الكتاب العرب – دمشق -2004م .
4- تجليات الحداثة ـ قراءة في الابداع العربي المعاصر ـ ماجد السامرائي ـ الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع ـ دمشق ـ الطبعة الأولى ـ 1995م.
5-التفسير النفسي للأدب – عز الدين إسماعيل – دار العودة – بيروت – الطبعة الرابعة – 1981 م .
6- تطور الصورة الفنية في الشعر العربي الحديث ـ نعيم اليافي ـ منشورات اتحاد الكتّاب العرب ـ دمشق 1983م.
7- توظيف الأسطورة في الشعر الجاهلي ( بحث ) للدكتور وهب رومية مجلة التراث العربي – ( دمشق – العدد ( 93 – 94 ) لسنة 2004 م .
8- دير الملاك ـ دراسة نقدية للظواهر الفنية في الشعر العراقي المعاصر ـ د. محسن اطميش ـ بغداد ـ 1981م.
9- ديوان بدر شاكر السيّاب – المجموعة الكاملة – دار العودة – بيروت – 1971 م.
10ـ ديوان عبيد بن الأبرص ـ شرح أشرف أحمد عدرة ـ دار الكتاب العربي ـ بيروت ـ الطبعة الأولى ـ 1994.
11- الرؤى المقنعة ـ نحو منهج بنيوي في دراسة الشعر الجاهلي ـ (1) البنية والرؤية ـ كمال أبو ديب ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ 1986م.
12- الرحلة في القصيدة الجاهلية – وهب رومية – مؤسسة الرسالة – بيروت – الطبعة الثانية – 1979م.
13ـ الرمز الشعري عند الصوفية ـ د. عاطف جودت نصر ـ دار الكندي للطباعة والنشر والتوزيع ـ بيروت ، الطبعة الأولى ـ 1987م.
14ـ روح العصر ـ دراسات نقدية في الشعر والمسرح والقصة ـ الدكتور عزالدين إسماعيل ـ دار الرائد العربي ـ بيروت ـ الطبعة الأولى ـ 1972م.
15- الزمن في الشعر الجاهلي – الدكتور عبد العزيز شحادة – دار الكندي للنشر والتوزيع الأردن – 1995 م
16- سيكولوجية الإبداع في الفن والأدب – يوسف ميخائيل أسعد دار الشؤون العامة – بغداد – د. ت.
17- شرح ديوان لبيد بن ربيعة العامري ـ حققه وقدم له الدكتور احسان عباس ـ الكويت ـ 1962م.
18ـ الشعر الحر في العراق منذ نشأته حتى 1958ـ يوسف الصائغ ـ مطبعة الأديب البغدادية ـ 1978.
19ـ الشعر والشعراء – تأليف ابن قتيبة (ابي محمد عبدالله بن مسلم ت 267هـ) – دار الثقافة – بيروت – 1969م.
20ـ العمدة – ابن رشيق القيرواني (ابو علي الحسن بن رشيق القيرواني الازدي ت 456هـ) – حققه وتفصله وعلق على حواشيه محمد محيي الدين محمد الدارجي – بيروت ـ الطبعة الرابعة – 1972م.
21ـ الغابة والفصول ـ طرّاد الكبيسي ـ دار الرشيد للنشر ـ بغداد ـ 1979م.
22- في النص الشعري العربي ـ مقاربات منهجية ـ الدكتور سامي سويدان ـ دار الآداب ـ بيروت ـ الطبعة الثانية ـ 1999م.
23- في النقد الجمالي ـ رؤية في الشعر الجاهلي ـ الدكتور أحمد محمود خليل ـ دار الفكر ـ دمشق ـ الطبعة الأولى ـ 1996م.
24- قراءة ثانية لشعرنا القديم ـ الدكتور مصطفى ناصف ـ دار الاندلس للنشر والتوزيع ـ الطبعة الثانية ـ 1981.
25- قراءة معاصرة في مقدمة القصيدة الجاهلية (بحث) – الدكتورمحمود عبدالله الجادر- مجلة الاقلام- اصدرتها وزارة الثقافة والاعلام- دار الجاحظ – العدد الثاني عشر – السنة الرابعة عشرة – بغداد – 1979م.
26_كتاب الأصنام عن ابي المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي_تحقيق أحمد زكي باشا_دار الكتب المصرية 1343ه_1924م.
26_لسان العرب (ابن منظور) (جمال الدين بن مكرم ت 711هـ) – دار صادر – بيروت – د. ت.
27_المرثاة الغزلية في الشعر العربي – الدكتور عناد غزوان اسماعيل – مطبعة الزهراء – بغداد – 1974م.
28_ مقالة في النقد – غراهام هو – ترجمة محيي الدين صبحي – مطبعة جامعة دمشق- 1973م.
29_ مقالات في الشعر الجاهلي ـ يوسف اليوسف ـ دار الحقائق ـ بيروت ـ الطبعة الرابعة ـ 1985م.
([1]) مقالات في الشعر الجاهلي (يوسف اليوسف): 28.
([2] ) الشعر والشعراء: (ابن قتيبة): 20.
([3]) العمدة، (ابن رشيق) ، ج1: 255.
([4]) ينظر الاتجاه النفسي في نقد الشعر العربي (عبدالقادر فيدوح): 247 حيث يذكر لنا ثلاثة انواع من التقسيمات من حيث كونها تعتمد النظرة النفسية ميداناً لبحثها على وفق المناحي الآتية: 1) المنحى الوجودي النفسي. 2) المنحى النفسي. 3) المنحى الاجتماعي النفسي.
([5]) قراءة معاصرة في مقدمة القصيدة الجاهلية (الدكتور محمود الجادر) بحث: 6.
([6]) المرثاة الغزلية في الشعر العربي (الدكتور عناد غزوان): 2
([7]) مقالات في الشعر الجاهلي (يوسف اليوسف): 120.
([8]) روح العصر (الدكتور عز الدين اسماعيل): 21.
([9]) ينظر: المصدر نفسه: 22.
([10]) الطللية القصيدة الجاهلية التي تبدأ بالوقوف على الاطلال والديار الدارسة للحبيبة بعد ارتحالها عنها، اما التموزية القصيدة الحديثة التي تتضمن اسطورة تموز اله الخصب والحياة.
([11]) ينظر: مقالات في الشعر الجاهلي (يوسف اليوسف): 138
([12]) ينظر: مقالات في الشعر الجاهلي (يوسف اليوسف): 139.
([13]) الديوان: 20.
([14]) شرح الديوان: 297ـ 300.
([15]) ينظر: مقالات في الشعر الجاهلي (يوسف اليوسف): 143.
([16]) في النص الشعري العربي ـ مقاربات منهجية (الدكتور محمد بلوحي): 292.
([17]) قراءة ثانية لشعرنا القديم (الدكتور مصطفى ناصف): 11.
([18]) آليات الخطاب النقدي العربي الحديث في مقاربة الشعر الجاهلي (الدكتور محمد بلوحي): 108.
([19]) تجليات الحداثة ـ قراءة في الابداع العربي المعاصر (ماجد السامرائي): 39.
([20]) ينظر: في النقد الجمالي ـ رؤية في الشعر الجاهلي (الدكتور احمد محمود خليل): 147.
([21]) شرح الديوان: 300-302.
([22]) في النص الشعري العربي ـ مقاربات منهجية (الدتور سامي سويدان): 221.
([23]) ينظر: الرحلة في القصيدة الجاهلية (وهب رومية): 226.
([24]) شرح الديوان: 303- 304.
([25]) شرح الديوان: 307-312.
([26]) شرح الديوان: 309.
([27]) الرؤى المقنعة (كمال ابو ديب): 81.
([28]) شرح الديوان: 312-315.
(2) شرح الديوان : 319 ـ 320
([30]) في النقد الجمالي ـ رؤية في الشعر الجاهلي (الدكتور احمد محمود خليل): 144.
([31]) تجليات الحداثة ـ قراءة في الابداع العربي المعاصر (ماجد السامرائي): 38.
([32]) آليات الخطاب النقدي العربي الحديث في مقاربة الشعر الجاهلي (الدكتور محمد بلوحي): 106.
([33]) الرمز الشعري عند الصوفية (عاطف جودت نصر): 21.
([34]) المصدر نفسه: 2.
([35]) المصدر نفسه: 21.
([36]) الرمز الشعري عند الصوفية (الدكتور عاطف جوت نصر): 27.
([37]) ينظر: لسان العرب (ابن منظور): مادة (س ط ر).
([38]) تطور الصورة الفنية في الشعر العربي الحديث (نعيم اليافي): 308
([39]) مقالة في النقد (اغراهام هو): 177.
([40]) الغابة والفصول (طراد الكبيسي): 76.
([41]) دير الملاك (الدكتور محسن اطيمش): 129.
([42]) مجلة الجامعة العدد الرابع لسنة 1947 مقابلة مع الشاعر عبد الوهاب البياتي:21
([43]) توظيف الأسطورة في الشعر الجاهلي – بحث- (للدكتور وهب رومية):39
([44]) الشعر الحر في العراق منذ نشأته حتى 1958 (يوسف الصائغ): 197 .
([45]) من مقابلة صحفية مع كاظم الخليفة ، جريدة صوت الجماهير، بغداد ، 6، تشرين الاول عام 1963م.
([46]) الغابة والفصول (طراد الكبيسي): 113.
([47]) دير الملاك (الدكتور محسن اطيمش): 138.
([48]) الديوان:497.
([49]) الديوان: 455.
([50]) الديوان: 455.
([51]) الديوان:454.
([52]) الديوان :419.
([53]) الديوان : 417.
([54]) اصول علم النفس (الدكتور احمد عزت راجح): 126.
([55]) الديوان: 328
([56]) الديوان: 466
([57]) الديوان: 486
([58]) الديوان : 486
([59]) الديوان: 487
([60]) الديوان: 488
([61] ) الأصنام (ابن الكلبي):7
([62]) الديوان: 489
([63]) الديوان: 490
([64]) الديوان: 490
([65]) الديوان : 491.
([66]) الزمن في الشعر الجاهلي (الدكتور عبدالعزيز شحادة): 47
([67]) الديوان : 327
([68]) الرؤى المقنعة (كما ابو ديب) : 652
([69]) الديوان : 325.
(2) الديوان: 327.
([71]) الديوان : 434
([72]) دير الملاك (الدكتور محسن اطيمش): 293
([73]) الديوان : 436.
([74]) الديوان : 437.
([75]) الديوان : 440.
(2) سيكولوجية الابداع في الفن والأدب (يوسف ميخائيل اسعد): 107.