الإعجاز الصوتي في القرآن الكريم (نظرة في كتب الباحثين العرب القدامى والمعاصرين)
يشتملَ هذا البحث على مَبحَثَين هما:
1- الإعجاز الصوتي عند القدماء.
2- الإعجاز الصوتي عند المعاصرين.
وقد تَوَقَّفْنا في المبحث الأوّل عند أربعةِ علماء مِمّن اشتغلوا بالإعجاز القرآني، وأشاروا إلى الجانب الصوتي منه بصورةٍ أو بأخرى، وهم:الرماني(ت386هـ)، والخطابي(ت388هـ)، والباقلاني(ت403هـ)، وابن الأثير(ت637هـ). حيث استَوقَفَنا الباقلاني بِما طَلَعَ بِـهَ علينا بخصوص الإعجاز الصوتي في فواتح السُّوَر من الحروف المقطّعة، فَتَقَصَّيْنا مَلامِحَ الإعجازِ الصوتي فيها عند مَن جاء بعده، مُضيفينَ إليها ما فَتَحَ الله علينا، فكانت لنا مَعَها وَقْفَةُ تأمُّلٍ وخُشوع.
كما استَوقَفَنا عند ابنِ الأثير اعتمادُه مقياسَ (الذّوق) استناداً إلَى حاسّةِ السَّمع، وَجَعْلُها أداةً للحُكمِ الجمالي علَى ألفاظ اللُّغة. وقد تناوَلْنا معاييرَ الإعجازِ الصوتي لديه، مشيرين إلى تعليقات المعاصرين عليها، وإضافاتهم إليها.
أمّا الإعجاز الصوتي عند المعاصرين فقد قصَرناه على اثنينِ منهم، هما: الرافعي، وسيد قطب؛ وقد عَرَضنا للأوّل تَحديدَه لِسِـرِّ الإعجاز في الصوت القرآني. كما عَرَضنا للثاني ما ذَكَرَه من أوجُهِ التناسُقِ الفني الصوتي في التصويرِ القرآني.
مقدمة:
كان ولايزال القرآن الكريم يُمثل منطلقاً وهدفاً أساسياً لمباحث علمَي الدلالة والصَّوت، يستلهمانه ويستمدّان منه مادّة بحثهما، بُغيةَ الوقوف على أسرار معانيه، وذلك منذ باكورة نشأتِهما، وحتى اكتمالهما عِلمين شاخصين، لكلٍّ قواعده وأصوله.
ومن نافلة القول الحديث عن أهمية كلٍّ منهما، ومدى ارتباط أحدهما بالآخر. فإذا كانت مادّة الدلالة اللِّسانية هي الصّوت اللغوي، فإنّ الصّوت اللغوي ينطلق أساساً من دلالته على المعاني التي انتُدب لبيانها والتعبير عنها وتصويرها. فالدلالة اللغوية منطلَق صوتيّ، والصّوت اللغوي منطلَق دلاليّ.
وبِما أنّ دراستنا هذه تتناول الصوت في القرآن الكريم، فإنّ أصغر وحدة صوتية فيه يمكنها أن تمثل مادّة بحثية لها قيمتها الدلالية. فكلّ صوت في هذا الكتاب الحكيم وُضِع موضعه الذي لا يَصلح غيره ليحلَّ محلّه، فإذا وُقِفَ على سرِّه انكشف بعضٌ مِمّا فيه، وخَفِي ما هو أعظم، فإنه ﴿لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي ﴾ [الكهف:109]، وإذا لم يُوقَف عليه فإنّ لسان الحال يقول: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد:24].
لقد شغل بيانُ القرآن العربَ منذ اللحظات الأولى لنزوله، فغدا شغلهم الشاغل، سواء مَن آمَنَ به، أو مَن لم يُؤمن، فقد طَلَع عليهم القرآن الكريم فرأَوا في أسلوبه ذات ألفاظهم وقد تساوقت فيما ألِفوه من طُرُق الخطاب وألوان المنطق، دون عنَتٍ أو تصنُّع، غير أنه « ورد عليهم من طُرُق نظمِه، ووجوهِ تركيبِه، ونَسَقِ حروفه في كلماتها، وكلماته في جُملها، ونَسَق هذه الجمل في جملته ما أذهَلَهم عن أنفسهم، من هيبة رائعة وروعة مخوفة، وخوفٍ تقشَعِرُّ منه الجلود، حتى أحَسّوا بضعف الفطرة القوية، وتخلّف الملَكة المستَحكَمة، ورأى بلغاؤهم أنه جنسٌ من الكلام غير ما هم فيه، وأنّ هذا التركيب هو روح الفطرة اللُّغوية فيهم، وأنه لا سبيل إلى صرفه عن نفس أحد العرب، أو اعتراض مساغه إلى هذه النفس، إذ هو وجه الكمال اللغوي الذي عرف أرواحهم، واطّلع على قلوبهم، بل هو السِّرُّ الذي يفشي نفسَه وإن كَتَموه، ويظهر على ألسنتهم، ويتبيّن في وجوههم، وينتهي إلى حيث ينتهي الشعور والحسّ »([1]).
وهذه اللغة القرآنية السّاحرة التي أذهلت الناس عن أنفسهم، واقشعرّت لها أبدانُهم، فخرّوا لها خاشعين هي التي دَعَت إلى بَسْطِ القول في فنون فصاحة القرآن ونظمه ووجوه تأليف الكلام فيه. فانبرى علماء المسلمين للتأليف في وجوه إعجازه. وقد كان لنظم القرآن، وما يمكن أن يكون مرجعه الصّوت من وجوه البلاغة المحلّ الأرفع من بين وجوه الإعجاز الأخرى.
لقد كانت موضوعات الآيات والسُّوَر القلائل الأولى التي انبهر بها العرب أوّل الأمر خاليةً تماماً من أيّ تشريع، أو إخبار عن غيب يتحقّق بعد أعوام، أو علوم كونية في خلق الكون والإنسان، لكي تسترعي إحساسَهم، وتستحقّ منهم كلّ هذا الإعجاب. فلابد إذن أن يكون في تلك السُّور القلائل عنصرٌ آخَر غير ما ذكرنا، هو الذي سَحَر المستمعين، وأخَذَ عليهم قلوبَهم وعقولَهم.
وقد ثبت أنّ مِمّن لا يفهم القرآن ولا يعلم تفاسيره قد تأثَّر به وهو يستمع إليه لأوّل مرّة، كما رُوِيَ عن نصرانيّ أنه مرّ بقارئٍ فوقف يبكي، فقيل له مِمَّ بكيت ؟ قال: للشجاعة والنَّظم([2]).
فأين يكمن هذا السِّحر، وما هو مصدره، وكيف استحوذ القرآن على العرب هذا الاستحواذ؟ وكيف اجتمع على الإقرار بسحره المؤمنون والكافرون على حدٍّ سواء؟
إنّ عنصر السِّحر الذي عَناه الوليد بن المغيرة في مقولته الشهيرة([3]) بعد أن استوقفه القرآنُ طويلاً، ففكّر وقَدّر، ثم قُتِل كيف قَدّر، ثم نَظَرَ، ثم عَبَسَ وبَسَر، ثم أدبَرَ واستَكبَرَ ﴿فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ﴾ [المدثر:24] لابدّ أنه « كان كامناً في مظهر آخَر غير التشريع والغيبيّات والعلوم الكونية. لابدّ أنّه كامنٌ في صميم النّسَق القرآنيّ ذاته »([4]).
وقد اشتغل المسلمون بدراسة هذا النسق القرآني منذ نزوله وحتى يومنا هذا، لذلك كان حريٌّ بنا تناول ما قدّمه أولئك وهؤلاء، لنقف على مدَى إسهامِهم في هذا المضمار.
المبحث الأول:
1- الإعجاز الصوتي عند القدماء
بحث القدماء على اختلاف مشاربهم وعلومهم في موضوع الاعجاز القرآني، وتركوا الباب مفتوحاً على مصراعيه لأخلافهم في العصور التالية، فتوسّل كلُّ أهل زمان بما ظهر من علوم وفنون في زمانهم مستعينين بها لالتقاط دُرَرٍ من هذا البحر الزَّخّار، وراح كلٌّ يُدلي بدَلوِه، ويحوز من هذا النبع الالهيّ ما استطاع إلى حوزته. فبرزت وجوهٌ من الإعجاز عديدة، ينبغي الوقوف عندها، والتنويه بِها، لكي يُحفَظ لِكلٍّ حقُّه وفضلُه. وسنتناول في بحثنا هذا أهم العلماء الذين أشاروا إلى ملامح من الإعجاز الصوتي في آثارهم.
1. 1- الرُّماني
عَدّ الرماني (ت386هـ) من وجوه الإعجاز سبعة، جاعلاً البلاغة على رأس هذه الوجوه فابتدأ بها كتابه النُّكَت. وقد حَصَرَ البلاغةَ في ثلاث طبقات:« منها ما هو في أعلى طبقة، ومنها ما هو في أدنى طبقة، ومنها ما هو في الوسائط بين أعلى طبقة وأدنى طبقة. فما كان في أعلاها طبقة فهو مُعجِزٌ، وهو بلاغة القرآن»([5]).
ثم حَصَرَ وجوه البلاغة في عشرة أقسام هي: الإيجاز، والتشبيه، والاستعارة، والتلاؤم، والفواصل، والتجانس، والتصريف، والتضمين، والمبالغة، وحسن البيان.
وكما نرى فإنّ من هذه الأقسام العشرة ما يرتبط بالصوت كالتلاؤم، والفواصل، والتجانس. والتلاؤم أهمُّها جميعاً لأنها ألصق بمباحث الصّوت، وقد عرّفه الرماني بأنه: نقيض التنافر، وأنه تعديل الحروف في التأليف، جاعلاً التأليف على ثلاثة أقسام:
متنافر.
متلائم في الطبقة الوسطى.
متلائم في الطبقة العليا.
والقسم الثالث أي المتلائم الذي في الطبقة العليا يشمل القرآن كلَّه. والرمّاني يرى أنّ تلاؤم الحروف في القرآن بَـيِّنٌ لكلِّ متأمِّل فيه، والفرق بينه وبين غيره من الكلام كالفرق بين المتنافر والمتلائم من الطبقة الوسطى، ولكنّ الناس يتفاوتون في شدّة إحساسهم بذلك وفطنتهم له، كما يتفاوتون في شدّة إحساسهم بالشعر الموزون من المكسور.
ولما كانت مخارج الحروف متفاوتة بسبب موضعها من جهاز النطق، فمنها ما هو من أقصى الحلق، ومنها ما هو من أدنى الفم، ومنها ما هو بين هذا وذاك، فقد كان لزاماً أن يكون التلاؤم في تعديل الحروف من غير بعد شديد أو قرب شديد بين مخارجها، ويظهر ذلك « بسهولته على اللِّسان، وحسنه في الأسماع، وتقبّله في الطِّباع، فإذا انضاف إلى ذلك حُسنُ البيان([6]) في صحة البرهان في أعلى الطبقات ظهر الإعجاز للجيِّد الطِّباع البصير بجواهر الكلام»([7]).
والرمّاني يرى أنّ التحدّي بالتلاؤم يعَمّ جميع الناس، لا فرق في ذلك بين عربيّ وأعجميّ، وذلك أنّ الله تعالى قال: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾ [الإسراء:88]، وقال أيضاً: ﴿فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ﴾ [الطور:34]. « ولما تعلّلُوا بالعلم والمعاني التي فيه قال: ﴿فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ﴾ [هود:13]. فقد قامت الحجة على العربي والعجمي بعجز الجميع عن المعارضة إذ بذلك تبين المعجزة »([8]).
ولا تخلو الأقسام الأخرى (البلاغية) من إشارات صوتية، كما في قسم الإيجاز، وذلك حين قارن بين قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ﴾ [البقرة:179] وبين قول العرب: (القتل أنفى للقتل) فقال: « وأما الإيجاز في العبارة فإنّ الذي هو نظير (القتل أنفى للقتل) قوله: ﴿الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ﴾ والأوّل أربعة عشر حرفاً، والثاني عشرة أحرف. وأما بُعده من الكلفة بالتكرير الذي فيه على النفس مشقّة فإنّ في قولهم: (القتل أنفى للقتل) تكريراً غيره أبلغ منه، ومتى كان التكرير كذلك فهو مقصِّر في باب البلاغة عن أعلى طبقة.
وأما الحسن بتأليف الحروف المتلائمة فهو مُدرَك بالحسّ وموجود في اللفظ، فإنّ الخروجَ من (الفاء) إلى (اللام) أعدل من الخروج من (اللام) إلى (الهمزة)، لبُعد (الهمزة) من (اللام)، وكذلك الخروج من (الصاد) إلى (الحاء) أعدل من الخروج من (الألف) إلى (اللام)([9])، فلاجتماع هذه الأمور التي ذكرناها صار أبلغ منه وأحسن، وإن كان الأول بليغاً حسَناً»([10]).
وأضاف السيوطي إلى أسباب ملائمة الحروف في الآية ما « فيها من الخروج من (القاف) إلى (الصّاد)، إذ (القاف) من حروف الاستعلاء، و (الصّاد) من حروف الاستعلاء والإطباق، بخلاف الخروج من (القاف) إلى (التاء) التي هي حرف منخفض فهو غير ملائم (للقاف) »([11]).
كما أضاف السيوطي بُعداً آخَر يُميِّز هذه الآية ويجعلها أخَفّ نطقاً وأكثر سلاسةً من المثل، ويتمثّل ذلك في الجانب الإيقاعي الناتج عن المقاطع الصوتية المشتملة عليها فيقول: « إنّ في المثل توالي أسباب كثيرة خفيفة([12])، وهوالسكون بعد الحركة، وذلك مستَكرَهٌ، فإنّ اللّفظ المنطوق به إذا توالت حركاته تَمكّن اللِّسان من النُّطق به، وظهرت بذلك فصاحته، بخلاف ما إذا تعقّب كلَّ حركة سكونٌ فالحركات تنقطع بالسّكَنات»([13]).
1. 2- الخطّابي
كان أبو سليمان الخطابي (ت388هـ) معاصراً للرماني وذهب هو الآخَر إلى أنّ سبب إعجاز القرآن هو بلاغته التي حازت من طبقات الكلام أرفعها؛ (البليغ، الرصين، الجزل)، وأوسطها؛ (الفصيح، القريب، السهل)، وأقصَدها؛ (الجائز، الطلق، الرسل) فحازت بلاغات القرآن من كلّ قسم من هذه الأقسام حصّة « فانتظم لها بامتزاج هذه الأوصاف نَمَط من الكلام يجمع صِفَتَي الفخامة والعذوبة، وهما على الانفراد في نعوتهما كالمتضادّين لأنّ العذوبة نِتاج السُّهولة، والجزالة والمتانة في الكلام تُعالجان نوعاً من الوعورة، فكان اجتماع الأمرين في نظمه مع نُبوّ كلِّ واحدٍ منهما على الآخر فضيلة خُصَّ بها القرآن، يَسّرها الله بلطيف قدرته من أمره ليكون آيةً لنبيِّه، ودلالةً له على صِحّة ما دعا إليه من دينه»([14]).
ثم يأتي بعبارة غاية في الحكمة والرَّوعة حَدّدَ بها عوامل الإعجاز بثلاثة أمور هي: اللفظ والمعنى والنظم، ووازن فيما بينها موازنةً دقيقةً فقال: « وإنما يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة:
- لفظٌ حامل
- ومعنًى به قائم
- ورباطٌ لهما ناظم
وإذا تأمّلت القرآن وجدتَ هذه الأمور منه في غاية الشَّرف والفضيلة... فتفهّم الآن واعلم أنّ القرآن إنما صار معجِزاً لأنه جاء بأفصح الألفاظ، في أحسن نظوم التأليف، مضمَّناً أصحّ المعاني»([15]).
فسبب إعجاز القرآن في رأي الخطابي هو فصاحة ألفاظه، ونظم تأليفه، ثم تَضَمُّنه للمعاني الصَّحيحة، وبذلك فإنّ ثُلُثَي إعجازه راجع في حقيقته إلى طبيعته الصوتية.
ورغم ذلك فإننا لا نكاد نلمح في كتابه بيان إعجاز القرآن شواهد قرآنية تتضمّن إشاراتٍ صوتيةً إلا في موضع واحد، وذلك في معرض الاستشهاد ببلاغة اللفظ القرآني ومقارنته لنماذج منه بما يرادفها من ألفاظ عَزَفَ عن استعمالها الأسلوب القرآني مؤثراً تلك عليها.
فالخطابي كأنّما يُلمِّح إلى الإيحاء الصوتيِّ للفظ (الصّدع) وما يُلقيه في ذهن السّامع من صوت الكسر، في قوله تعالى: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ﴾ [الحِجر:94] قائلاً: وهذا « أبلغ من قوله: (فاعمَلْ بِما تُؤمَرْ)، وإن كان هو الحقيقة، والصّدع مستَعار، وإنّما يكون ذلك في الزجاج ونحوه من فلزِّ الأرض، ومعناه المبالغة فيما أمَر به حتّى يُؤَثِّرَ في النفوس والقلوب تأثير الصّدع في الزُّجاج ونحوه »([16]).
1. 3- الباقلاني
سار القاضي الباقلاني (ت403هـ) على خُطَى الخطابي عند وقوفه على الوجه البلاغي للإعجاز، وعنده أنّ بلاغة القرآن معجزة بنظمها، فهو يقول عن القرآن: « أنه بديع النظم، عجيب التأليف، متناهٍ في البلاغة، إلى الحدِّ الذي يُعلَم عجزُ الخلق عنه. فالذي يشتمل عليه بديع نظمه المتضمن للإعجاز وجوهٌ منها: مايرجع إلى الجملة، وذلك أنّ نظم القرآن على تصرُّف وجوهه، واختلاف مذاهبه، خارج عن المعهود من نظام جميع كلامهم، ومُبايِن للمألوف من ترتيب خطابهم، وله أسلوبٌ يَختصُّ به، ويتميّز في تصرّفه عن اساليب الكلام المعتاد »([17]).
إنّ ما طرَحَه الباقلاني من أنّ القرآن (بديع النظم، عجيب التأليف) إشارة واضحة ودقيقة إلى فكرة النظم التي تطوَّرت فيما بعد عند عبد القاهر الجرجاني، خاصة في قوله: إنه تأمّلَ نظمَ القرآن فوجَدَ جميعَ ما يتصرّف فيه من الوجوه « على حدٍّ واحدٍ في حُسن النظم، وبديع التأليف والرصف، لا تفاوت فيه ولا انحطاط عن المنزلة العليا..»([18]).
لهذا يمكن القول: « أنّ فكرة النظم عند الباقلاني تكاد تكون إرهاصاً لولادة فكرة النظم عند الجرجاني»([19]).
أمّا أهم ما طلع به علينا الباقلاني بخصوص الإعجاز الصوتي في القرآن فهو التفاتته الرائعة إلى فواتح السُّوَر من الحروف المقطّعة التي افتُتِحَت بها سِتٌّ وعشرون سورة مكية، وثلاث سور مدنية، وما قدّمَه من تصنيف صوتيّ لهذه الحروف، استوقف عندها من جاء بعده من المشتغلين بإعجاز القرآن، معلِّقين ومُضيفين، وبذلك أوقفونا على سِرٍّ عظيم من أسرار الصوت القرآني، ومازال الباب مفتوحاً أمام الباحثين ليكتشفوا أسرار هذه الحروف النورانية، ولابدّ أنّ القادم من الأيام والقرون بِما يحمله من اكتشافات معرفية وعلمية سيقوم بِحَلِّ كثيرٍ من أسرارها الدفينة، وحِكَمِها الخفية، وآياتها الباهرة ﴿سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ ﴾ [الأنبياء:37]. فلأهمية هذه الحروف في بيان الإعجاز الصوتي للقرآن الكريم نتوقف عندها وقفة تأمُّل وخشوع.
1. 3. 1- الإعجاز الصوتي في فواتح السور
تَجدر الإشارةُ إلى أنّ القرآن الكريم افتَتَحَ عامةَ سُوَرِه الـ (114) بعشرة أنواع بيانية من فنون القول، لا يَخرج شيءٌ من السُّوَر عنها، وهي:
- الاستفتاح بحروف التهَجِّي: نحو: ﴿ق﴾ و ﴿طه﴾ و ﴿الم﴾ وغيرها، في (29) سورة.
- الاستفتاح بالجمل الخبرية: نحو: ﴿أتى أمرُ الله﴾ و ﴿الرحمن علّمَ القرآن﴾ وغيرها، في (23) سورة.
- الاستفتاح بالقَسَم: نحو: ﴿والصَّافات﴾ و ﴿الطّور﴾ وغيرها، في (15) سورة.
- الاستفتاح بالثناء على الله: نحو: ﴿الحمد لله﴾ و ﴿تبارك ﴾ و ﴿سبحان﴾ وغيرها، في (14) سورة.
- الاستفتاح بالنداء: نحو: ﴿يا أيُّها النبيّ﴾ و ﴿يا أيُّها الذين آمنوا﴾ وغيرها، في (10) سُوَر.
- الاستفتاح بالشرط: نحو: ﴿إذا وقعت الواقعة﴾ و ﴿إذا جاءك المنافقون ﴾ وغيرها، في (7) سُوَر.
- الاستفتاح بالأمر: نحو: ﴿إقرأ باسم ربِّك﴾ و ﴿قُل هو اللهُ أحَد﴾ وغيرها، في (6) سُوَر.
- الاستفتاح بالاستفهام: نحو: ﴿عَمَّ يتساءلون﴾ و ﴿هل أتاك﴾ وغيرها، في (6) سُوَر.
الاستفتاح بالدعاء: في (3) سُوَر: ﴿ويلٌ للمطففين﴾ و ﴿ويلٌ لكلِّ همزة﴾ و ﴿تبّت يَدا أبي لَهب﴾.
- الاستفتاح بالتعليل: في سورة واحدة: ﴿لإيلاف قريش﴾([20]).
والنوعُ الأوّل والأكثر مِمّا افتُتِحَت به السُّوَر هو الذي يَعنينا في هذا المجال. وقد شغلت فواتح السُّوَر من حروف الهجاء العلماءَ كثيراً، ففصّلوا القولَ في بيانها وتفسيرها، فاختلفوا في كثير من ذلك واتفقوا على كثير. أما ما يَعينينا من تلك التفصيلات فهو الأسرار الصوتية أو الإعجاز الصوتي الذي لَمَحوه فيها، والذي لم يختلف في شأنه إثنان منهم.
وكان أوّلُ مَن أشار إلى ذلك ودَوَّنَه في كتاب هو الباقلاني حيث قال عن فواتح السُّوَر أو الحروف المقطّعة: « إنّ الحروف التي بُنيَ عليها كلام العرب تسعة وعشرون حرفاً، وعدد السُّوَر التي افتُتِح فيها بذكر الحروف ثَمان وعشرون سورة. وجملة ما ذُكر من هذه الحروف في أوائل السُّوَر من حروف المعجم نصف الجملة، وهو أربعة عشر حرفاً، ليدلَّ بالمذكور على غيره، وليعرفوا أن هذا الكلام منتظم من الحروف التي ينظمون بها كلامهم.
والذي ينقسم إليه هذه الحروف: على ما قسّمَه أهل العربية، وبَنوا عليها وجوهها: أقسامٌ نحن ذاكروها: فمن ذلك أنهم قسّموها إلى: حروف مهموسة، وأخرى مجهورة، فالممهموسة منها عشرة، وهي: الحاء، والهاء، والخاء، والكاف، والشين، والثاء، والفاء، والتاء، والصاد، والسين: وما سوى ذلك من الحروف فهي مجهورةٌ. وقد عرَفنا أنّ نصف الحروف المهموسة مذكورة في جملة الحروف المذكورة في أوائل السور، وكذلك نصف الحروف المجهورة على السواء لا زيادة ولا نقصان »([21]).
ثم يُضيف أنّ ما وَرَدَ في هذه الحروف المقطّعة هو نصف الحروف الحلقية، ونصف الحروف الشديدة، ونصف الحروف المطبقة([22]).
وقد جاء مِن بعد الباقلاني من أضافَ إليها ملاحظاتٍ وأسراراً أخرى من صفات الحروف، كما فَعَلَ الزمخشري في تفسيره([23])، والسيوطي في كتابه: معتركه([24])، وغيرهما.
وخلاصة القول فيما تشتمل عليه هذه الحروف من أسرارٍ صوتية ودلالية، جمعناها من كتب المتقدمين، وأضفنا إليها ما ارتأيناه، ما يلي:
1. 3. 1. 1- عدد الحروف المقطعة وعدد سور القرآن
1-وردت هذه الحروف مستَفتَحاً بها في تسع وعشرين سورةً من سور القرآن الكريم، أي بعدد حروف المعجم مع احتساب الألف اللّينة غير الهمزة. وإنما جاءت الأحرف « في تسعة وعشرين سورة لتكون عِدّة السُّوَر دالّةً على عدّة الحروف »([25]).
وفي افتتاح رُبع سُوَر القرآن بحروف الهجاء « إشارةٌ للتنبيه إلى أنّ هذا الكتاب مؤلَّف من جِنس هذه الأحرف، وهي في متناول المخاطَبين به من العرب. ولكنه - مع هذا - هو ذلك الكتاب المعجز، الذي لا يُمكن أن يصوغوا من تلك الحروف مثله»([26]).
2- إنّ عدد هذه الحروف المقطّعة (بعد استثناء الحروف المكرّرة) أربعة عشر حرفاً هي: (الألف، اللام، الميم، الصاد، الراء، الكاف، الهاء، الياء، العين، الطاء، السين، الحاء، القاف، النون) مجموعة في عبارة: (نَصٌّ حكيمٌ قاطعٌ له سِرٌّ) فهي نصف عدد حروف المعجم الثمانية والعشرين([27]).
وكأنّ « الحروف التي ألغَى اللهُ ذكرَها من هذه الأجناس المعدودة مكثورة بالمذكورة منها، فسبحان الذي دقّت في كلِّ شيء حكمته. وقد علمتَ أنّ معظم الشّيء وجُلّه ينزل منزلةَ كلِّه، وهو المطابق لِلَطائف التنزيل واختصاراته »([28]).
1. 3. 1. 2- أنصاف الصفات في الحروف المقطّعة
عند إمعان النظر في الحروف المقطّعة الأربعة عشر نجدها تشتمل على أنصاف أجناس « الحروف الهجائية على أيِّ وجهٍ من الوجوه التي اصطلح عليها علماءُ اللغة بعد نزول القرآن بزمنٍ طويلٍ »([29])، ففيها:
نصف حروف الهمس، وهي: (الصاد، والكاف، والهاء، والحاء، والسين)، فهذه خمسة من مجموع حروف الهمس العشرة.
نصف حروف الجهر، وهي: (الألف، واللام، والميم، والراء، والعين، والطاء، والقاف، والباء، والنون)، فهذه تسعة من مجموع حروف الجهر الثمانية عشر.
نصف حروف الشِّدَّة، وهي: (الألف، والكاف، والطاء، والقاف)، فهذه أربعة من مجموع حروف الشِّدّة الثمانية.
نصف حروف الرَّخاوة، وهي: (اللام، والميم، والراء، والصّاد، والهاء، والعين، والسين، والحاء، والياء، والنون)، فهذه عشَرَة من مجموع حروف الرّخاوة العشرين.
نصف الحروف الحلقية، وهي: (العين، والحاء، والهاء)، فهذه ثلاثة من مجموع حروف الحلق الستة.
نصف الحروف غير الحلقية، وهي ما عدا حروف الحلق الثلاثة من الحروف الأربعة عشر.
نصف حروف الإطباق، وهي (الصّاد، والطّاء)، فهذان حرفان من مجموع حروف الإطباق الأربعة.
نصف حروف الإنفتاح، وهي: (الألف، واللام، والميم، والراء، والكاف، والهاء، والعين، والسين، والحاء، والقاف، والياء، والنون)، فهذه اثنا عشَرَ حرفاً من مجموع حروف الإنفتاح الأربعة والعشرين.
نصف حروف الإستعلاء تقريباً، وهي: (الصّاد، والقاف، والطّاء)، فهذه ثلاثة من مجموع حروف الإستعلاء السبعة.
نصف حروف الاستفال تقريباً، وهي: (الألف، واللام، والميم، والراء، والكاف، والهاء، والياء، والعين، والسين، والحاء، والنون)، فهذه أحَدَ عشَرَ حرفاً من مجموع حروف الاستفال الحادية والعشرين([30]).
ومن عجيب ما يُلاحَظ في حروف الاستعلاء والاستفال أنها لَمّا كان مجموع كلٍّ منهما من ذوي الأعداد الفردية فقد استحال التنصيف فيها، لذا أُنقِصَ من نصف حروف الاستعلاء شيءٌ، وللتعويض عن هذا الحذف أُضيف ما بِمقداره إلى نصف حروف الاستفال التي هي ضدّها « وبهذا يتمَّ التنصيف على أتَمِّ صورة »([31]).
وقد ذهب الباقلاني إلى أنّ مَجِيء هذه الحروف على حَدِّ التنصيف مِمَّا تواضَع عليه العلماء بعد عهدٍ طويل من نزول القرآن دليل قاطع على كونه من عند الله عَزَّ وجلّ لأنه يجري مجرَى علم الغيوب « وكلُّ ذلك يوجب إثبات الحكمة في ذِكر هذه الحروف عَلَى حَدٍّ يتعلّق به الإعجاز من وجه»([32]).
1. 3. 1. 3- أبنية الكلمات العربية في أبنية الحروف المقطّعة
افتُتِحت السُّوَر التسعة والعشرون بهذه الحروف الأربعة عشر بصور مختلفة من حيث عدد الأحرف المستَفتَح بها، وذلك بالشكل التالي:
- الافتتاح بحرفٍ واحدٍ كما في: (ص) و (ق) و (ن). في سور: ص، ق، و القلم.
- الافتتاح بحرفَين، كما في: (طـه) و (طـس) و (يـس) و (حـم)، موزَّعة على تسع سُوَر هي: طـه، والنمل، ويـس، وغافر، وفُصِّلَت، والزخرف، والدخان، والجاثية، والأحقاف.
- الافتتاح بثلاثة أحرف، كما في: (الـم) و (الـر) و (طسـم)، موزّعة على ثلاث عشرَة سورة هي: البقرة، وآل عمران، ويونس، وهود، ويوسف، وإبراهيم، والحِجر، والشعراء، والقصص، والعنكبوت، والروم، ولقمان، والسّجدة.
- الافتتاح بأربعة أحرف، كما في: (المـص) و (المـر)، في سورَتَي الأعراف والرعد.
- الافتتاح بخمسة أحرف، كما في: (كهيعص) و (حمعسق)، في سورَتَي مريم والشورى.
والسِّرُّ في ورود الأحرف المقطّعة بهذه الصُّوَر الخمسة من حيث تركيبها راجع إلى « أنّ أبنيةَ كلماتهم على حرفٍ أو حرفين إلى خمسة أحرُفٍ لم تتجاوز ذلك، سَلَك بهذه الفواتح ذلك المسلك »([33])، فقد صيغَت هذه الأحرف على صِيَغِ تركيب الكلمة في العربية.
كما أنّ اللّهَ تعالى عدّدَ على العرب الألفاظَ التي منها تراكيبُ كلامِهم، وذلك تَبكيتاً لهم، وإلزاماً للحُجَّة عليهم»([34]).
1. 3. 1. 4- الدلالة الصوتية للحروف المقطّعة
كثرت آراء علماء الإعجاز ومفسري القرآن الكريم حول دلالة الحروف المقطّعة في مفتَتَح السُّوَر، وما يمكن أن تعنيه، وقد قال القاضي أبو بكر بن العربي فيما ذُكر فيها من أقوال: « قد تَحصَّلَ لي فيها عشرون قولاً وأزيَد، ولا أعرف أحدًا يحكم عليها بعِلمٍ ولا يصِلُ منها إلى فهم »([35]).
والرأي الذي يكاد يُجمِع عليه أهلُ النظر في دلالة هذه الحروف هو « أنّ هذه الحروف ذُكِرَتْ لتدلّ على أنّ القرآن مؤلَّفٌ من الحروف التي هي: أ، ب، ت، ث... فجاء بعضها مقطّعاً، وجاء تَمامها مؤلَّفاً، ليدلّ القوم الذين نزل القرآنُ بلغتهم أنه بالحروف التي يعرفونها، فيكون ذلك تقريعاً لهم، ودلالةً على عجزهم أن يأتوا بمثله، بعد أن يعلموا أنه مُنزَّل بالحروف التي يعرفونها ويبنون كلامهم منها »([36]).
ولهذا فإنّ جميع السُّوَر التي افتُتِحَتْ بالحروف المقطّعة ذُكرَ فيها « الإنتصار للقرآن وبيان إعجازه وعظمته([37])، وهذا معلوم بالإستقراء، وهو الواقع في تسعٍ وعشرينَ سورةً»([38])، ولهذا يقول تعالى:
﴿الـم ﴾ ثم يليه: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة:1-2]
﴿الـم ﴾ ثم يليه:﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾[آل عمران:1-3]
﴿المـص ﴾ ثم يليه: ﴿كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ ﴾ [الأعراف:1-2]
﴿الـر ﴾ ثم يليه: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ﴾ [إبراهيم:1]
وغير ذلك من الآيات الدّالة على صِحّة دلالة هذه الحروف على أنّ القرآن مُعجِز جاء من مألوف حروفهم. وهذا بِحَدِّ ذاته يُمكن حَمْلُهُ على جهة الدلالة الصوتية، على اعتبار أنّ أصوات هذه الحروف رغم افتقارها للدلالة الذاتية إلاّ أنها دلّت هنا على معنى بعينه، فالله سبحانه وتَعالَى يقول: ﴿طس تِلْكَ آَيَاتُ الْقُرْآَنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [النمل:1] ويقول: ﴿الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ ﴾ [الحجر:1] أي: إنّه على الرغم من أنّ هذه الحروف ليست مُبينةً في ذاتها، إلاّ أنها عندما ائتلَفَت صارت قرآناً وكتاباً مبيناً ومُعجزَةً، فهذا عجزٌ عن شيءٍ هم يَملكونه. ومن هذه النكتة ذاتها، وهي ورود لفظ القرآن تارةً، وورود لفظ الكتاب تارةً أخرى بعد الحروف المقطّعة ندخل في صميم دلالتها الصوتية فنُشير إلى الوجوه الصوتية التالية:
1- يَلي الحروف المقطّعة عادَةً لفظ (القرآن) وحده، أو لفظ (الكتاب) وحده، أو كلاهما معاً. ويجـيء استعمال هذين اللّفظين بعد الحروف المقطّعة باعتبارهما اسْمَي علَمٍ لكتاب الله يدلاّن على خصوصيّتين من خصائصه المهمة وهما القراءة والكتابة، فاسم (القرآن) مُشتَقٌّ من القراءة، لأنه يُقرأ ويُتلَى آناء الليل وأطراف النهار، واسم (الكتاب) مأخوذ من الكتابة لأنه مكتوب بين الدفتين، فكلام الله مقروءٌ فهو ﴿قُرْآَنٌ مَجِيدٌ﴾ ومكتوب فهو ﴿فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ﴾ [البروج:21-22]، وعندما تَعَهّدَ الله تعالى بِحِفظِه ذَكَرَ هاتَين الصفَتَين فقال: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ ﴾ [القيامة:17].
و قد لوحِظَ أنّه إذا كانت الحروف المقطّعة تتكوّن من مقطعٍ واحدٍ، أو مقطعين أحدهما أو كلاهما مقطع متوسط مفتوح (ص م) فإنّ الذي يليها هو لفظ (القرآن). فما ورد منها على مقطع واحد قوله تعالى: ﴿ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ ﴾ [ص:1]، و ﴿ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ﴾ [ق:1]، وكلٌّ من (ص) الملفوظة: (صاد) و (ق) الملفوظة: (قاف) مقطعٌ واحدٌ لا غير، ومِمّا ورد منها على مقطعين قوله تعالى: ﴿طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى (2) ﴾ [طه]، و ﴿يس (1) وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ (2)﴾ [يس]، وكلٌّ من (طه) الملفوظة: (طا - ها)، و(يس) الملفوظة: (يا - سين) مكوّنة من مقطعين: هما في (طـه) مَقطَعان مُتَوسِّطان مفتوحان، وفي (يـس) أوّلهما: متوسط مفتوح (يا)، والثاني: طويل مغلَق بصامت (ص م ص) (سين)([39]).
ولكن إذا كان المقطعان المفتَتَح بهما كلاهما من النوع الطويل المغلَق بصامت،كما في (حـم) الملفوظة: [(حاء – ميم) = (ص م ص - ص م ص)]، وهو ما يتتطلَّب جهداً أكبر أثناء النطق، فإنّ الذي يَليها هو لفظ (كتاب) لا لفظ (القرآن)، كما في أوائل سُوَر الحواميم التالية:
﴿حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2)﴾ [غافر].
﴿حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3)﴾ [فصلت].
﴿حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)﴾ [الزخرف].
﴿حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)﴾ [الدخان].
﴿حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)﴾ [الجاثية].
ويُستَثنَى منها سورة الشورى التي افتُتِحَت بقوله تعالى: ﴿حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ﴾ [الشورى] فهي تختلف عن أخواتها في أمرين:
أحدهما: ورود آية (عسق) بعد الآية الأولى (حـم).
الثاني: عدم ورود لفظ (القرآن) فيها مباشرةً بعد هذه الحروف المقطّعة، وإنما ورد في الآية السابعة منها في قوله: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ﴾ [الشورى:7].
أمّا عند مجيء (القرآن) و (الكتاب) معاً بعد فواتح السُّوَر كما في سورتَي (النمل): ﴿طس تِلْكَ آَيَاتُ الْقُرْآَنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ ﴾، و(الحجر): ﴿الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ ﴾؛ حيث وَلِيَ ﴿طس ﴾ قوله: ﴿تِلْكَ آَيَاتُ الْقُرْآَنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ ﴾، ووَلِيَ ﴿الر ﴾ قولُه: ﴿ تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ ﴾. فإنّ الملاحَظ فيها أيضاً أن يتَقدَّم لفظ (القرآن) عندما تكون الحروف المقطّعة قليلةً، و يتَقدَّم لفظ (الكتاب) عندما تكون الحروف المقطّعة كثيرة.
والعِلّة في جميع ذلك أنّ القراءةَ أسهل بكثير من الكتابة، فهي متيسِّرة لجميع الناس، والكتابة ليست كذلك، كما أنّ الكتابةَ يُبذَلُ فيها جُهدٌ أكبر من القراءة لاحتياجها إلى أدواتٍ من قلم و دواةٍ وقرطاس، والقراءة ليست كذلك، ولهذا فإنّ قِلّـةَ الحروف المقطّعة، وما ينتج عنها من قلّة مقاطعها الصوتية، وسهولة ذلك على النطق والقراءة ناسَبه ورود لفظ (القرآن).
أمّا كثرة الحروف المقطّعة، وما ينتج عنها من كثرة المقاطع الصوتية، فإنها أثقل نطقاً، لذا تلاها لفظ (الكتاب)، لِتَناسُبِ الجهد المبذول في الكتابة مع الجهد المبذول في نطق المقاطع الكثيرة في الحروف المقطّعة.
2- سِرُّ تركيب ﴿الـم ﴾ ودلالة كلٍّ صوت من أصواتها الثلاثة، فإنّ « الألف إذا بُدِئَ بها أوّلاً كانت همزةً، وهي أوّل المخارج من أقصَى الصدر، واللاّم من وسط مخارج الحروف، وهي أشدّ الحروف اعتماداً على اللِّسان، والميم آخِر الحروف ومخرجها من الفم. وهذه الثلاثة هي أصل مخارج الحروف؛ أعني: الحلق واللسان والشفتين، وترتّبت في التنزيل من البداية، إلى الوسط، إلى النهاية...
وكلّ سورة استُفتِحَت بهذه الأحرف فهي مشتملة على مبدأ الخلق ونهايته وتوسّطه، مشتملة على خلق العالم وغايته، وعلى التّوسُّط بين البداية من الشرائع والأوامر. فتأمّلْ ذلك في سورة البقرة، وآل عمران، وتنزيل السجدة، وسورة الروم »([40]).
3- السُّوَر المفتَتَحة بالحروف المفردة، وهي: (ق) و (ص) و (ن) تشتمل الكثيرُ من كلماتها على الحرف المبدوء بها. فالسورة المفتَتَحة بقوله تعالى: ﴿ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ ﴾ [ق:1] « مبنيّةٌ على الكلمات القافيّة؛ من ذِكر القرآن، ومن ذِكر الخلق، وتكرار القول ومراجعته مِراراً، والقرب من ابن آدم، وتَلقِّي الملكَين، وقول العَتيد، وذكر الرقيب، وذكر السابق، والقرين، والإلقاء في جهنّم...
وسِرٌّ آخَر وهو أنّ كلَّ معاني السورة مناسب لِما في حرف القاف من الشِّدّة والجهر والقلقلة والانفتاح»([41]).
أما سورة (ص) فإنّ الصوت الصفيريّ الذي افتُتِحَت به فسببه الخصومات المتعدّدة التي اشتملت عليها السورة وأوّلها « خصومة الكفّار مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. وقولهم: ﴿أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا﴾ [ص:5]، إلى آخر كلامهم، ثم اختصام الخصْمَين عند داود، ثم تَخاصُم أهل النار، ثم اختصام الملأ الأعلى في العلم، وهو الدّرجات، والكفّارات، ثم تَخاصُم إبليس واعتراضه على ربِّه بالسجود، ثم اختصامه ثانياً في شأن بنِيه وحَلِفه لَيُغوِينّهم أجمعين إلاّ أهل الإخلاص منهم »([42]).
وكذلك الأمر في سورة: ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ﴾ « فإنّ فواصلَها كلَّها على هذا الوزن، مع ما تضمّنَت من الألفاظ النونيّة »([43]).
وقد أفاد بعض المعاصرين من ذلك فعَدَّ هذه الحروف وقال: « وقد عدَدتُ القافات التي وردت في هذه السورة (ق) فوجدتُها (57) مع أنّ آياتها (45). وفي سورة (ن) قد تكرّرَ هذا الحرف فيها (124) مرّةً، وآياتها (52)، وجميع فواصل هذه السورة تنتهي بهذا الحرف وهو (ن) إلاّ عشر آيات تنتهي بالحرف (ميم)، وهذان الحرفان متقاربان موسيقيّاً، إذ هما حرف الغنَّة التي تخرج من الخيشوم، وقد ارتضَى هذا الرأي من المستشرقين (نولدكه)، و (رودويل) في مقدمة ترجمته للقرآن »([44]).
إنّ هذه الملاحظات الصوتية وغيرها مِمّا أهملنا ذكرها تدلّ، بشكل لا يقبل الشك أو الترديد، على أهمية الجانب الصوتي في القرآن الكريم بِبُعدَيه الإعجازي والدلالي، وتدلّ كذلك على الدور الكبير الذي اضطلع به علماء الاسلام في رصد الأبعاد الصوتية المختلفة لكتاب الله.
1. 4- ضياء الدين ابن الأثير
لعلّ من أكثر الباحثين الذين عناهم إعجاز القرآن من الناحية الصوتية هو ضياء الدين بن الأثير (ت637هـ) الذي عَكَفَ على كتب المتقدمين من أصحاب البيان والإعجاز دراسةً وتَمحيصاً، قبل تأليف كتابه: (المثل السائر) فانتهى إلى تحديد مقياس (الذّوق) أداةً للحُكم الجمالي على ألفاظ اللُّغة.
فالحسَن من الألفاظ هو ما استَحسَنه الذَّوق السليم، يقول: « واعلم أيها الناظر في كتابي أنّ مَدار علم البيان على حاكم الذوق السليم الذي هو أنفع من ذوق التعليم »([45]).
وقد ثبت عنده أنّ « الفصيح من الألفاظ هو الظاهر البيّن وإنما كان ظاهراً بَيّناً لأنه مألوف الاستعمال، وإنما كان مألوف الاستعمال لمكان حُسنِه، وحُسنُه مُدرَك بالسّمع، والذي يُدرك بالسمع إنما هو اللّفظ لأنه صوت يأتلف عن مخارج الحروف، فما استلذَّه السّمع منه فهو الحسَن»([46]).
وفي محاولة منه لإثبات نظريته هذه يلجأ إلى قياس حاسة السّمع التي تلتقط الأصوات ومقارنتها بالحواس الأخرى فيقول: « ومن له أدنى بصيرة يعلم أنّ للألفاظ في الأذن نغمةً لذيذةً كنغمة أوتار، وصوتاً مُنكَراً كصوت حمار، وأنّ لها في الفم أيضاً حلاوة كَحَلاوة العَسَل، ومَرارة كمَرارة الحنظل، وهي على ذلك تجري مجرَى النّغمات والطّعوم »([47]).
ومِمّا اهتدى إليه ابن الأثير في تصويره لكيفية تلقّي الألفاظ من قِبَل المتلقّي قوله: « وبعد هذا فاعلم أنّ الألفاظ تجري من السّمع مَجرَى الأشخاص من البصَر، فالألفاظ الجزلة تُتَخيّل في السّمع كأشخاص عليها مَهابة ووقار، والألفاظ الرقيقة تُتَخيّل كأشخاص ذي دَماثة ولين أخلاق ولطافة مزاج، ولهذا ترى ألفاظ أبي تمام كأنها رجال قد ركبوا خيولهم واستلأموا سِلاحهم وتأهَّبوا للطِّراد وترَى ألفاظ البحتري كأنها نساءٌ حِسان عليهم غلائل مُصبَّغات وقد تَحَلّين بأصناف الحلّي، وإذا أنعمتَ نظرك فيما ذكرتُه ههنا وجدتَني قد دلَلْتُك على الطريق وضربتُ لك أمثالاً مناسبة »([48]).
ومثله الأعلَى في كلِّ ذلك هو أسلوب القرآن الكريم لأنّنا « إذا نظرنا إلى كتاب الله تعالى الذي هو أفصح الكلام وجدناه سَهلاً سَلساً، وما تضمّنه من الكلمات الغريبة يسيرٌ جداً، هذا وقد أُنزل في زمن العرب العرباء، وألفاظه كلّها من أسهل الألفاظ وأقربها استعمالاً وكفَى به قدوة في هذا الباب »([49]).
1. 4. 1- معايير الإعجاز الصوتي في القرآن
وبعد أن حَدّد ابن الأثير روحَ الجمال اللُّغوي وجوهره الذي حصره في (إمتاع الصوت للأذن) عَمَد إلى القرآن مُتلمّساً الشواهد التي تُؤيد مذهبه، بالإستناد إلى عدد من المعايير([50]) منها:
1. 4. 1. 1- عدد أحرف الكلمة
نفَى أن يكون من أوصاف الكلمة أن تكون مؤلّفة من أقلّ الأوزان تركيباً كما ذهب ابن سنان الخفاجي « والدليل على ذلك أنّـه قـد ورد في القرآن الكريـم ألفاظ طِـوال وهي مع ذلك حَسَـنة كقوله تعالى: ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة:137] فإنّ هذه اللّفظة تسعة أحرف، وكقوله تعالى:﴿لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ﴾ [النور:55] فإنّ هذه اللّفظة عشرة أحرف، وكلتاهما حَسَنة رائقة، ولو كان الطُّول مِمّا يوجب قُبحاً لَقبُحَتْ هاتان اللّفظتان»([51]).
وتأييداً لما ذهب إليه ابن الأثير في شأن جمال هاتين الكلمتين قال مصطفى صادق الرافعي: « وردت في القرآن ألفاظ هي أطول الكلام عدد حروفٍ ومقاطع مِمّا يكون مُستَثقَلاً بطبيعة وضْعه أو تركيبه، ولكنها بتلك الطريقة التي أومَأنا إليها قد خرجت في نظمه مخرجاً سِرِّياً، فكانت من أحضر الألفاظ حلاوةً وأعذبها منطقاً، وأخفّها تركيباً، إذ تراه قد هَيّأ لها أسباباً عجيبةً من تكرار الحروف، وتنوّع الحركات، فلم يُجرِها في نظمه إلا وقد وجد ذلك فيها، كقوله: ﴿لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ﴾ [النور:55] فهي كلمة واحدة من عشرة أحرف، وقد جاءت عذوبتها من تنوع مخارج الحروف، ومن نظم حركاتها، فإنها بذلك صارت في النطق كأنها أربع كلمات، إذ تُنطق على أربعة مقاطع، وقوله: ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ ﴾ [البقرة:137] فإنها كلمة من تسعة أحرف، وهي ثلاثة مقاطع، وقد تكرّرت فيها الياء والكاف، وتوسّط بين الكافين هذا المدُّ الذي هو سِرُّ الفصاحة في الكلمة كلّها »([52]).
1. 4. 1. 2- خفّة الحركة وثقلها
ويَقصد بها دور الحركات القصيرة في سهولة نطق الكلمات أو صعوبته، فيقول: « ومِن أوصاف الكلمة أن تكون مبنيّةً من حركات خفيفة ليخفّ النطق بها، وهذا الوصف يَترتّب على ما قبله من تأليف الكلمة، ولهذا إذا تَوالَى حركتان خفيفَتان في كلمة واحدة لم تُستَثقَل، وبخلاف ذلك الحركات الثقيلة فإنه إذا توالَى منها حركتان في كلمة واحدة استُثقِلَت، ومن أجل ذلك استُثقِلَتْ الضّمة على الواو، والكسرة على الياء، لأنّ الضمة من جنس الواو والكسرة من جنس الياء، فتكون عند ذلك كأنّها حركتان ثقيلَتان»([53]). ثم يأتي إلى القرآن فيذكر ما شَذّ من ذلك فيقول: « واعلم أنه قد توالت حركة الضّم في بعض الألفاظ ولم يُحدِث فيها كراهةً ولا ثقلاً كقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ ﴾ [القمر:36]، وكقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ ﴾ [القمر:47]، وكقوله تعالى: ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ ﴾ [القمر:52] فحركة الضَّمِّ في هذه الألفاظ متوالية وليس بها من ثِقَلٍ ولا كراهة »([54]).
واعتماداً على مقياس الذوق، الذي صرّح به في أوّل كتابه، فقد عزف ابن الأثير عن أن يفسِّر علّة عدم الثقل أو الكراهة في هذه الأمثلة. فجاء الرافعي بعد قرون، وقدّم رأياً وجيهاً في تعليل ذلك بقوله: « من ذلك لفظة (النُّذُر) جمع نذير، فإن الضّمة ثقيلة فيها لتواليها على النون والذال معاً ً، فضلاً عن جَسْأة هذا الحرف ونُبُوِّه في اللِّسان، وخاصةً إذا جاء فاصلةً للكلام. فكلّ ذلك مِمّا يكشف عنه ويفصح عن موضع الثقل فيه، ولكنه جاء في القرآن على العكس، وانتفَى من طبيعته في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ ﴾.
فتأملْ هذا التركيب، وأنعِمْ ثم أنعِم على ما تأمله، وتذوّق مواقع الحروف، وأجْرِ حركاتِها في حِسِّ السَّمع، وتأمّل مواضع القلقلة في دال (لَقَد)، وفي الطاء من (بَطْشَتنا)، وهذه الفَتحات المتوالية فيما وراء الطاء إلى واو (تَماروا)، مع الفصل بالمد، كأنها تثقيل لخفّة التتابع في الفتحات إذا هي جرَت على اللسان؛ ليكون ثِقل الضَّمة عليه مُستخَفّاً بعد، ولكون هذه الضمة قد أصابت موضعها كما تكون الأحماض في الأطعمة. ثم ردِّد نظرَك في الراء من (تَمارَوا) فإنها ما جاءت إلا مساندةً لراء (النُّذُر) حتى إذا انتهَى اللِّسان إلى هذه انتهَى إليها من مثلها، فلا تَجفُ عليه ولا تغلُظ ولا تَنبو فيه، ثم أعجب لهذه الغنَّة التي سبقت الطاء في نون (أنذرهم) وفي ميمها، وللغنَّة الأخرى التي سبقت الذال في (النُّذُر) »([55]).
1. 4. 1. 3- الجدّة وعدم الابتذال
جعل ابن الأثير من أسباب جمال المفردة « أن لا يكون طول الاستعمال قد ابتذلها، فمَجّها الذوق، وكرهَها السمع. ويلوِّح أنّ قانون التغيّر يُصيب كلَّ شَيء؛ فما كان جديداً في زمن يغدو سَفسافاً حين تلوكُه الألسنة، ويغدو مُلكاً للناس جميعاً، ومن هنا يَجنح البلغاء إلى اصطناع كلِّ وسيلة لمباغتة المتلَقِّي بالجديد. وكأنّ المبدأ القائل انّ (لكلّ جديد روعة) ينسحب على اللغة نفسها »([56]).
ويضرب لذلك مثلاً من الشعر في استعمال لفظ (آجُرّ)، واستعمال القرآن لهذا المعنى دون لفظه فيقول: « فمن ذلك قول النابغة الذبياني في قصيدته التي أوّلها:
مِن آلِ ميّـةَ رائـحٌ أو مغتدي .......................
أو دُميـة في مَـرمَرٍ مرفوعـة بُنيت بآجُـرٍّ يُشـادُ بِقرمـدِ
فلفظة (آجرّ) مبتذَلة جداً، وإن شئت أن تعلم شيئاً من سَرِّ الفصاحة التي تضمّنها القرآن فانظر إلى هذا الموضع، فإنه لما جِيء فيه بذكر (الآجرّ) لم يُذكَر بلفظه، ولا بلفظ القرمد أيضا، ولا بلفظ الطّوب الذي هو لغة أهل مصر، فإنّ هذه أسماء مبتذلة، لكن ذُكر في القرآن على وجهٍ آخَر، وهو قوله تعالى: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا ﴾ [القصص:38] فعبّر عن الآجرّ بالوقود على الطين»([57]).
وجاء الرافعي فقدّم تفسيراً رائعاً لعزوف القرآن عن استعمال هذه اللفظة أو ما يرادفها مِمّا استعمله العربُ في كلامهم وضمّنوه آدابَهم، واختياره لهذا التعبير دون غيره. فقد تبين له « في الاستخدام القرآني لهذه الصورة وجوهاً من المعاني والأغراض مِمّالم يُلِمّ به ضياء الدين، ولا اقترب منه»([58]).
يقول الرافعي عن لفظة (آجرّ) بأنها « ليس فيها من خفّة التركيب إلا الهمزة، وسائرها نافِر متقَلقِل لا يَصلح مع هذا المدّ في صوت ولا تركيب على قاعدة نظم القرآن، فلمّا احتاج إليها لَفَظَها ولَفَظَ مرادفَها وهو (القرْمد) وكلاهما استعمله فصحاء العرب ولم يعرفوا غيرهما، ثم أخرج معناها بألْطَف عبارة وأرقّها وأعذبها، وساقها في بيان مكشوف يفضح الصُّبح، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا﴾.
فانظرْ، هل تَجد في سِرّ الفصاحة وفي روعة الإعجاز أبرَع وأبدَع من هذا ؟ وأيّ عربيّ فصيح يسمع مثل هذا النظم وهذا التركيب ولا يَملِّكه حِسُّه، ولا يسوِّغه حقيقة نفسه، ولا يُجَنُّ به جنوناً، ولا يقول آمنتُ بالله ربَّاً، وبِمحمدٍ نبيَّاً، وبالقرآن معجزة ؟ و تأمّل كيف عَبّر عن (الآجُرّ) بقوله: ﴿ فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ ﴾، وانظر موضع هذه القلقَلَة التي هي في الدال من قوله: (فأوقدْ) وما يتلوها من رقّـةِ اللاّم، فإنها في أثناء التلاوة مِمّا لا يُطاق أن يُعبَّر عن حُسنِه.
وكأنما تنتزع النفس انتزاعاً. وليس الإعجاز في اختراع تلك العبارة فحسب، ولكن ما ترمي إليه إعجاز آخر؛ فإنها تحقر شأن فرعون، وتصِف ضلالَه، وتُسَـفِّه رأيه، إذ طمع أن يبلغ الأسباب أسباب السّموات فيطّلع إلى إله موسَى، وهو لا يجد وسيلة إلى ذلك المستحيل ولو نصب الأرض سلَّماً، إلاّ شيئاً يصنعه هامان من الطين »([59]).
1. 4. 1. 4- المناسبة الصوتية في اختيار لفظ دون آخَر
وهو أن تكون هناك لفظتان مترادفتان، على وزن واحد، وكلتاهما حَسَنة في الاستعمال، إلاّ أنّ إحداهما قد تصلح لموضع دون أختها من جهة السّبك فَـيُفَرَّق بينهما لهذا السبب. وهذا أمر لا يُدركه، كما يقول ابن الأثير، إلا من دَقّ فهمُه، وجَلّ نظرُه. ويمثل له بقوله تعالى: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ﴾ [الأحزاب:4]، وقوله تعالى: ﴿رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا ﴾ [آل عمران:35] « فاستعمل (الجوف) في الأولى و(البطن) في الثانية، ولم يستعمل (الجوف) موضع (البطن) ولا (البطن) موضع (الجوف). واللّفظتان سَواءٌ في الدلالة، وهما ثلاثيّتان في عدد واحد، ووزنهما واحد أيضا، فانظر إلى سبك الألفاظ كيف تفعل؟ »([60]).
و يمكن أن يكون السبب في هذا الاختيار عائداً إلى الدلالة الإيحائية لكلّ من هاتين اللفظتين، وذلك لأنّ « مادّةَ كلٍّ منهما تختلف بعض الاختلاف عن مادّةِ اللّفظة الأخرى. فمادّة (الجوف) توحي بالضمور والخلوّ والانحسار والعُمق، وخاصة بِما يرسمه (الجيم) وبعده (الواو) الساكن ثم (الفاء) من دلالة إيحائية، على عكس مادّة (البطن) التي توحي بالنتوء والبروز والانكشاف، وهي أنسَب للحَمل من مادّة الجوف؛ فالجنين المكنَّى عنه بقوله تعالى على لسان مريم3: ﴿مَا فِي بَطْنِي ﴾ يناسبه كثيراً النتوء والبروز والانكشاف، مثلما هي حال (الحامل)، ويناسبه، تبعاً لذلك، لفظ (بطن) دون (جوف)»([61]).
ويدخل في هذا الباب استعمال ألفاظ وردت في القرآن مجموعةً لا غير، وعُدل عن استعمال مفردها أو ما يرادفها، ويعزو ابن الأثير ذلك إلى الذوق السليم واصفاً إياه بقوله: « وهذا موضع عجيب لا يُعلَم كُنْهُ سِرِّه، فمن ذلك لفظة (اللُّبّ) الذي هو (العقل) لا لفظة اللُّبّ الذي تحت القشر، فإنها لا تَحسُن في الاستعمال إلا مجموعةً، وكذلك وردت في القرآن الكريم في مواضع كثيرة وهي مجموعة، ولم تَرِد مفردةً كقوله تعالى: ﴿وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص:29] و﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر:21] وأشباه ذلك، وهذه اللّفظة الثلاثية خفيفة على النطق، ومخارجها بعيدة وليست بِمُستَثقَلَة ولا مَكروهة »([62])
ويرصد الرافعي هذه الملاحظة من ابن الأثير فيعرِّج عليها ببيانه البديع مُحلِّلاً ومُفَسِّراً دون الاكتفاء بالتعليل الذي قدّمه سَلَفه مِن ردِّه إلى الذوق السليم فحسب، فيقول: « ومِمّا لا يَسَعه طوق الإنسان في نظم الكلام البليغ، ثم مِمّا يدلّ على أن نظم القرآن مادّة فوق الصنعة ومن وراء الفكر، وكأنها صُبَّت على الجملة صَبّاً أنك ترى بعض الألفاظ لم يأتِ فيه إلا مجموعاً، ولم يُستعمَل منه صيغة المفرد، فإذا احتاج إلى هذه الصيغة استعمل مرادفها: كلفظة (اللُّبّ) فإنها لم ترد إلاّ مجموعةً، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ وقوله: ﴿وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [إبراهيم:52] ونحوهما، ولم تجئ فيه مفردةً، بل جاء في مكانها (القلب)؛ ذلك لأنّ لفظ (الباء) شديد مجتمع، ولا يُفضي إلى هذه الشِّدّة إلاّ من (اللاّم) الشديدة المستَرخِية، فلمّا لم يكن ثَمَّ فصل بين الحرفين يتهيّأ معه هذا الانتقال على نسبةٍ بين الرخاوة والشدة، تحسن اللفظة مهما كانت حركة الإعراب فيها؛ نصباً أو رفعاً أو جرَّاً، فأسقَطَها من نظمه بتّة، على سعة ما بين أوله وآخره، ولو حَسُنت على وجه من تلك الوجوه لجاء بها حَسَنةً رائعة، وهذا على أن فيه لفظة (الجبّ)، وهي في وزنها ونطقها، لولا حُسْن الائتلاف بين (الجيم) و (الباء) من هذه الشدة في الجيم المضمومة »([63]).
ويورد ابن الأثير أمثلة أخرى فيقول: « وإذا تأمَّلتَ القرآن الكريم ودقّقت النظر في رموزه وأسراره وجدتَ مثل هذه اللفظة قد رُوعيَ فيها الجمع دون الإفراد كلفظة (كوب) فإنها وردت في القرآن مجموعةً ولم تَرِد مفردةً، وهي وإنْ لم تكن مستَقبَحةً في حال إفرادها فإنّ الجمع فيها أحسَن »([64]).
ثم إنه يورد عكس ذلك من استعمال القرآن للفظٍ مفردٍ، والعزوف عن استعمال جمعه فيقول: « وفي ضدِّ ذلك ما ورد استعماله من الألفاظ مفرَداً ولم يَرِد مجموعاً كلفظة (الأرض)، فإنها لم تَرِد في القرآن إلاّ مفردةً، فإذا ذُكرَت (السماء) مجموعةً جِيء بها مفردةً معها في كلِّ موضع من القرآن، ولَمّا أُريدَ أن يُؤتَى بها مجموعةً قيل: ﴿وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ﴾ في قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ﴾ [الطلاق:12] »([65]). وقد عَلّل الرافعي سبب عدم قوله: (وسبع أرضين) « لهذه الجسْأة التي تدخل اللّفظ ويَختلّ بها النظم اختلالاً»([66]).
ونظير ذلك « مِمّا ورد من الألفاظ مفرداً فكان أحسن مِمّا يرد مجموعاً لفظة (البقعة)، قال الله تعالى في قصة موسى 7: ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ ﴾ [القصص:30]، و الأحسن استعمالها مفردةً لا مجموعةً وإن استُعمِلَت مجموعةً فالأَولى أن تكون مضافةً كقولنا: بقاع الأرض أو ما جرَى مَجراها »([67]).
1. 4. 1. 5- التقديم والتأخير بسبب صفات الحروف
ويستشهد له بالكلمات الخمسة المعطوفة على بعضها البعض في قوله تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آَيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ ﴾ [الأعراف:133]. وفيها يقول: « وإذا نظرنا إلى حكمة أسرار الفصاحة في القرآن الكريم غُصنا منه في بحرٍ عميقٍ لا قرارَ له، من ذلك هذه الآية المشار إليها فإنها قد تَضمّنت خمسةَ ألفاظٍ هي: (الطوفان والجراد والقمّل والضفادع والدّم)، وأحسن هذه الألفاظ الخمسة هي: الطوفان والجراد والدّم، فلمّا وردت هذه الألفاظ الخمسة بِجُملَتها قُدّمَ منها لفظة الطوفان والجراد، وأُخِّرتْ لفظة الدَّم آخراً، وجُعلت لفظةُ القُمّل والضفادع في الوسط، ليطرقَ السمعَ أولاً الحسَنُ من الألفاظ الخمسة وينتهي إليه آخراً، ثم إنّ لفظة الدم أحسَن من لفظتَي الطوفان والجراد، وأخَفّ في الاستعمال، ومن أجل ذلك جِيءَ بِها آخراً. ومراعاة مثل هذه الأسرار والدقائق في استعمال الألفاظ ليس من القدرة البشرية »([68]).
ويأتي الرافعي فيضع النقاط على الحروف مفسِّراً سِرَّ ذلك التقديم والتأخير فيقول: « وما يَشذُّ في القرآن الكريم حرف واحد عن قاعدة نظمه المعجز، حتى أنك لو تدبّرت الآيات التي لا تقرأ فيها إلا ما يسرده من الأسماء الجامدة، وهي بالطبع مظنَّة أن لا يكون فيها شيء من دلائل الإعجاز، فإنك ترَى إعجازها أبلغ ما يكون في نظمها وَجِهات سردها، ومن تقديم اسم على غيره أو تأخيره عنه، لنظم حروفه ومكانه من النطق في الجملة، أو لنكتةٍ أخرَى من نُكَت المعاني التي وردت فيها الآية، بحيث يُوجد شيئاً فيما ليس فيه شيء.
تأمّلْ قوله تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آَيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ ﴾ فإنها خمسة أسماء، أخفُّها في اللفظ (الطوفان والجراد والدم)، وأثقلُها (القمَّل و الضفادع)، فقدَّم (الطوفان) لمكان الـمَدّيْن فيها، حتى يأنسَ اللسان بِخِفّتها، ثم (الجراد) وفيها كذلك مَدّ، ثم جاء باللفظين الشديدين مبتدئاً بأخفِّهما في اللسان وأبعدهما في الصوت لمكان تلك الغُنَّة فيه، ثم جِيء بلفظة (الدّم) آخِراً، وهي أخفّ الخمسة وأقلُّها حروفاً؛ ليُسرِعَ اللسان فيها ويستقيم لها ذوق النظم، ويتمُّ بهذا الإعجاز في التركيب »([69]).
1. 4. 1. 6- ملائمة جرس اللفظ للسياق
كان ابن الأثير قد عطف الأنظار على أمرٍ في غاية الخطورة، وذلك أن يكون جَرْسُ اللفظة خالياً من الحسْن شديد الثقل خارج السياق، ولكنه يتحوّل إلى لفظ في غاية العذوبة عندما يَنضَمّ إلى السياق الذي يلائمه. ومثاله لفظة (ضِيزَى) فقد ردّ علَى من أنكر حُسنَ هذه اللفظة بقوله: « فإنها في موضعها لا يَسُدّ غيرها مسدّها، ألا ترى أنّ السورة كلّها التي هي سورة النجم مسجوعة على حرف (الياء) فقال تعالى: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى*مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ﴾ [النجم:1-2] وكذلك إلى آخر السورة. فلما ذكر الأصنام وقسمة الأولاد وما كان يزعمه الكفار قال: ﴿أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى* تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى﴾ [النجم:21-22] فجاءت اللفظة على الحرف المسجوع الذي جاءت السورة جميعها عليه، وغيرها لا يَسُدُّ مَسَدَّها في مكانها، وإذا نزلنا معك أيها المعاند! على ما تريد قلنا: إنّ غير هذه اللفظة أحسَن منها، ولكنها في هذا الموضع لا تَرد ملائمةً لأخواتها ولا مناسبة، لأنها تكون خارجة عن حرف السورة، وسَأُبيِّن ذلك فأقول: إذا جئنا بلفظةٍ في معنى هذه اللفظة قلنا: قسمة (جائرة) أو (ظالمة) ولا شك أنّ (جائرة) أو (ظالمة) أحسَن من (ضيزى) إلاّ أنا إذا نظَمنا الكلام قلنا: (ألَكُم الذّكر وله الأنثى تلك إذاً قسمة ظالمة) لم يكن النظم كالنظم الأول، وصار الكلام كالشيء المعوِز الذي يحتاج إلى تمام، وهذا لا يخفى على مَن له ذوق ومعرفة بنظم الكلام»([70]).
ويُعلِّل الرافعي مجيء هذه اللفظة الغريبة تعليلاً جميلاً، ويُعدّد لها خمس دلالاتٍ صوتية، فيقول: إنها وردت « في معرض الإنكار على العرب، إذ وردت في ذكر الأصنام وزعمهم في قسـمة الأولاد، فإنهم جعلوا الملائكة والأصنام بـناتٍ لله مع أولادهم البنات، فقال تعالى: ﴿أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى ﴾، فكانت غرابة اللفظ أشدّ الأشياء ملاءمةً لغرابة هذه القسمة التي أنكرها، وكانت الجملة كلّها كأنها تصوّر في هيئة النطق بها، الإنكارَ في الأولى والتهكُّمَ في الأُخرى، وكان هذا التصوير أبلغ ما في البلاغة، وخاصة في اللفظة الغريبة التي تمكّنت في موضعها من الفصل، ووصفت حالة المتهكِّم في إنكاره من إمالة اليد والرأس بهذين المدّين فيها إلى الأسفل والأعلى. وجمعت إلى كل ذلك غرابة الإنكار بغرابتها اللّفظية...
وإن تعجبْ فاعجبْ لنظم هذه الكلمة الغريبة وائتلافه على ما قبلها، إذ هي مقطعان: أحدهما مدٌّ ثقيل، والآخر مدٌّ خفيف، وقد جاءت عَقِب غُنَّتين في (إذن) و (قسمةٌ). وإحداهما خفيفة حادّة، والأخرى ثقيلة متَفَشِّية، فكأنّها بذلك ليست إلا مجاوَرة صوتية لتقطيع موسيقي. وهذا معنى رابع للثلاثة التي عددناها آنفاً. أما خامس هذه المعاني، فهو أنّ الكلمة التي جمعت المعاني الأربعة على غرابتها، إنما هي أربعة أحرف أيضاً »([71]).
إذا كانت الملاحظة التي يمكن أن يُؤاخَذ عليها ابن الأثير في نظرته إلى إعجاز القرآن الصوتي هي عدم تدعيم ما ذهب إليه في أغلب الأحيان بالأدلة القاطعة، وذلك اعتماداً منه على مبدأ الذوق السّليم الذي رفَعَه شعاراً له في كتابه (المثل السائر)، فإنّ ما يُحسَب له هو وضْعُه تلك المعايير الصوتية التي لم يَكد يُشَر إليها من قِـبَلِ سابقيه، وإيراده الأمثلة العديدة من كتاب الله، بحيث لا تكاد تخلو صفحة من صفحات كتابه من آية من آياته، وكذلك فَتْحُه الطريق لمن جاء بعده للنظر فيما أورده من نماذج دلالية صوتية، كما فعل الرافعي الذي يُعَدّ من أكثر المعاصرين اهتماماً بإعجاز القرآن.
المبحث الثاني:
2- الإعجاز الصوتي عند المعاصرين
تناول الباحثون المعاصرون الإعجاز الصوتي للقرآن ضمن إطار الإعجاز البياني، شأنهم في ذلك شأن الباحثين القدامى، وعلى الرغم من الأبحاث الصوتية الدقيقة التي صدرت عن بعضهم في ثنايا دراساتهم لإعجاز القرآن البياني، إلاّ أنها في الغالب تبقَى حَبيسة الذوق الفنيّ السليم الذي أسّس له ابن الأثير، وبذلك لا يمكن أن تَرقَى في مُجمَلها إلى مستوى الدراسة العلمية الشاملة.
أما الدراسات المحكَمة التي مَزَجَت بين الجانب البياني والجانب الفني فأبرزت ملامحَ من عنصرَي الصّوت والإيقاع في القرآن فتكاد تكون معدودة، ولعلّ أوفَى مَن كتب في هذا المجال مصطفى صادق الرافعي وسيد قطب.
2. 1- الرافعي
ذهب الرافعي إلى أنّ جهات الإعجاز كلّها إنما هي صفات من نظم القرآن وطريقة تركيبه. ولما وَجَدَ أنّ سِرَّ الإعجاز منعقد في نظمه فقد حَصَرَ جهات النظم في ثلاث: الحروف، والكلمات، والجمل([72]).
2. 1. 1- جهات الإعجاز في الصوت القرآني
2. 1. 1. 1- الحروف وأصواتها
ينطلق الرافعي في دراسة النظم من أصغر وحدة في الكلام، وهي الصوت الذي يُحدِثه الحرف، ويجعل هذه الوحدة أساساً لحدوث النغم، فأصوات الحروف « إنما تنزل منزلة النبرات الموسيقية المرسَلة في جملتها كيف اتّفَقَت، فلابدّ لها مع ذلك من نوع في التركيب وجهة من التأليف حتى يُمازج بعضُها بعضاً، ويتألف منها شيء مع شيء، فتَتَداخل خواصُّها، وتجتمع صفاتُها، ويكون منها اللَّحن الموسيقيّ، ولا يكون إلا من الترتيب الصوتي الذي يُثير بعضُه بعضاً على نِسَبٍ معلومةٍ ترجع إلى درجات الصوت ومخارجه وأبعاده »([73]).
ويمزج الرافعي بين الدلالة الصوتية للحرف القرآني وبين دلالته النفسية البعيدة، باعتبار أنّ مادّة الصوت تُمثِّل مظهرَ الانفعال النفسي، فالأصوات التي تأتلف في الجملة مقصودة لذاتها، لأنه « إنما يكون الكلام سامياً إذا جاءت مادّة صوته مُكيَّفةً بشكلٍ موسيقيّ دالّ »([74])، وذلك على عكس طريقة العرب في تَرَسُّلهم وخَذمِهم([75]) في منطقهم كيفما اتَّفَقَ لهم.
ولكنهم (عرب الجاهلية) سرعان ما فطنوا إلى هذا البون الشاسع بين أساليبهم التي ألفوها من شعر ونثر، وبين الأسلوب الجديد الذي طلع عليهم فجأة، وذلك أنهم « لما قُرِئَ عليهم القرآن، رَأَوا حروفَه في كلماته، وكلماتِه في جُمَلِهِ، ألحاناً لغويةً رائعة؛ كأنها لائتلافها وتناسبها قطعةٌ واحدةٌ، قراءتُها هي توقيعها، فلم يَفُتْهُم هذا المعنَى، وأنه أمر لا قِبَلَ لهم به... وحَسبُك بهذا اعتباراً في إعجاز النظم الموسيقيّ في القرآن، وأنه مِمّا لا يتعلّق به أحد، ولا ينفق على ذلك الوجه الذي فيه إلا فيه، لترتيب حروفه باعتبار من أصواتها ومخارجها، ومناسبة بعض ذلك لبعضه مناسبة طبيعية في الهمس والجهر، والشدة والرخاوة، والتفخيم والترقيق، والتفشي والتكرير، وغير ذلك »([76]).
ويُلمِّح الرافعي قبل أن يُنهي بحثه هذا إلى أهمية الحركات أو الأصوات القصيرة الصرفية والنحوية في تشكيل صور الحروف وصفاتها باعتبارها تمثل مظاهر الكلمات([77])، لذا تناول الحديث عنها في المبحث التالي.
2. 1. 1. 2- الكلمات وحروفها
بعد أن أزاحَ الرافعي الستارَ عن الجانب الصوتي المعجز في القرآن انتقل إلى بناء الألفاظ التي تقوم على اجتماع الحروف بعضها إلى بعض. فدرس الكلمات من ثلاثة جوانب:
الجانب الأول: صوت النفس: دَرَسَ فيه دلالة الكلمة باعتبار حقيقتها الوضعية والتي يرى أنها « صوت النفس؛ لأنها تلبس قطعةً من المعنى فتختصّ به على وجه المناسبة قد لحِظته النفس فيها من أصل الوضع حين فُصِّلت الكلمة على هذا التركيب »([78]). وهو مبحث قديم سبقَت الإشارة إليه من قبل الخليل وسيبويه وابن جني وغيرهم.
الجانب الثاني: صوت العقل: وقصد به الصوت المعنوي وما يشتمل عليه جملة الكلام من الوجوه البيانية التي يُداوَر بها المعنى.
الجانب الثالث: صوت الحسّ: وهو تفاوت الجمل في دقة التصوير « والابداع في تلوين الخطاب، ومجاذبة النفس مرّةً وموادَعَتها مرّةً، واستيلائه على مَحضها بما يورد عليها من وجوه البيان، أو يسوق إليها من طرائف المعاني »([79]).
وعندما يتحدّث عن الحركات القصيرة ودورها في إيفاء الألفاظ لمعانيها يقول الرافعي: « ولو تدبّرتَ ألفاظ القرآن في نظمها، لرأيت حركاتها الصرفية واللغوية تجري في الوضع والتركيب مجرَى الحروف أنفسها فيما هي له من أمر الفصاحة... حتى إنّ الحركة ربما كانت ثقيلة في نفسها لسبب من أسباب الثقل أيّها كان، فلا تعذُب ولا تُساغ... فإذا هي استُعملت في القرآن رأيتَ لها شأناً عجيباً، ورأيتَ أصوات الأحرف والحركات التي قبلها قد امتهدت لها طريقاً في اللسان، واكتنفَتْها بضروب من النّغَم الموسيقيّ حتى إذا خرجتْ فيه كانت أعذبَ شيءٍ وأرقّه »([80]).
ثم يستعرض لذات الأمثلة التي استشهد بها ابن الأثير معلِّقاً، ومضيفاً إليها ما وَسِعَه من التعليل والتفسير مِمّا أوردنا قسماً منه في الصفحات السابقة.
2. 1. 1. 3- الجمل وكلماتها
من الحروف تتشكّل الكلمات، ومن الكلمات تتكوّن الجمل التي هي مظهر الكلام، وهذا الكلام لا يكون معجِزاً في رأي الرافعي إلاّ إذا بَعُدَ « وأمعن حتى يكون بدقائق تركيبه وطرق تصويره كأنما يفيض النفسَ على الحواسّ إفاضةً، ويترك هذا الإنسان من الإحساس به كأنه قلب كلُّه، ثم يبلغ من ذلك إلى أن يكون روح لغة كاملة وبيان أمة برمّتها... فذلك هو الكلام المعجز »([81]).
ولقد تَهيَّأت للقرآن الكريم « من جهة تركيبه الذي انتظم أسبابُ الإعجاز من الصوت في الحرف، إلى الحرف في الكلمة، إلى الكلمة في الجملة، حتى يكون الأمرُ مقدَّراً على تركيب الحواسّ النفسية في الإنسان تقديراً يُطابق وضعَها وقواها وتصرّفها »([82]).
لقد أفاض علينا الرافعي بأسلوبه البديع في بيان تَصَوُّره للإعجاز الصوتي في القرآن من خلال إيمانه بنظمه المعجِز ابتداءً من الحرف فالحركة فالكلمة فالجملة، ولكنه لم يَزِدْ على الشواهد القرآنية التي أوردها ابن الأثير شيئاً كثيراً إلاّ ما كان من تعليله إيّاها التعليل المناسب وتوجيهها التوجيه السليم.
2. 2- سَيِّد قُطب
يُعتبر سيد قطب أكثر الباحثين المعاصرين اهتماماً بالجانب الصوتي والإيقاعي في القرآن الكريم، ويمكن ملاحظة ذلك في كتبه العديدة التي كان القرآن محورَها الأساسيّ، وكان للصّوت والإيقاع فيها جميعاً نصيبٌ وافٍ وسَهمٌ وافِر.
لقد شُغِفَ سيد قطب بالقرآن الكريم، لأنه وَجَدَ فيه « سِرّاً خاصّاً، يشعر به كلُّ من يواجه نصوصَه ابتداءً، قبل أن يشعر أنّ هنالك شيئاً ما، وراء المعاني التي يُدركها العقل من التعبير، وأنّ هنالك عنصراً ما، يَنسكب في الحسِّ بِمجرّد الاستماع لهذا القرآن. هذا العنصر يصعب تحديد مصدره:
- أهو في العبارة ذاتها ؟
- أهو المعنى الكامن فيها ؟
- أهو الصور والظلال التي تشعُّها ؟
- أهو الإيقاع القرآني الخاصّ، المتميِّز من إيقاع سائر القول المصوغ من اللغة ؟
- أهي هذه كلُّها مجتمعة ؟
- أم إنّها هي، وشيء غيرها غير محَدود؟
ذلك سِرٌّ مودَع في كلّ نَصٍّ قرآنيّ، يشعر به كلُّ من يُواجه نصوصَ هذا القرآن ابتداءً... ثمّ يأتي وراءَه الأسرار المدرَكة بالتّدبُّر والنظر والتفكير في بناء القرآن كلِّه »([83]).
ولكنه بعد بحثه الطويل في تحليل البيان القرآني وأسرار إعجازه خَلصَ إلى الاحتمال الأخير، فَعَدّ خمسةَ عناصر أساسية للبيان القرآني المعجز تَستمد منها العبارةُ القرآنية بشكل خاصّ دلالتَها، وهذه العناصر الخمسة يدور جُلُّها حول مِحورَي الصوت والإيقاع وهي:
- مفردات الدلالات اللغوية للألفاظ.
- الدلالة المعنوية: الناشئة عن اجتماع الألفاظ وترتيبها في نَسَق معيّن.
- الإيقاع الموسيقيّ: الناشئ من مجموعة إيقاعات الألفاظ، متناغماً بعضُها مع بعض.
- الصور والظلال: التي تشُعُّها الألفاظ متناسقةً في العبارة.
- الأسلوب: أو طريقة تناول الموضوع والسير فيه؛ أي: التنسيق الذي يسمح لكلِّ لفظٍ بأن يشعّ شُحنتَه من الصور ومن الإيقاع، والذي يُؤلف إيقاعاً متناسقاً بين الألفاظ، وظلالاً متناسقةً من ظلال الألفاظ([84]).
وقد تناول السيد أغلب هذه العناصر في مؤلفاته العديدة، فمنها ما بَـثَّّه في تفسيره ذي المسحة العصرية: (في ظلال القرآن)، ومنها ما فصّل القول فيه كالإيقاع، والصور والظلال، وتناسق الألفاظ في كتابَيـه الرائعين: (مشاهد القيامة في القرآن) و(التصوير الفني في القرآن) اللَّذين خَصَّصَهما لبيان إعجاز القرآن الفني في جوانبه المختلفة.
2. 2. 1- التناسق الصوتي في القرآن
لقد رأى سيد قطب في كتابه (التصوير الفني في القرآن) أن يكشف عن أوجُه التناسق الفني التي تبلغ في التصوير القرآني ذُروَتَها. ومِمّا اهتدَى في الكشف عنه مِمّا تدخل فيه الدلالة الصوتية كعنصر أساسيّ:
2. 2. 1. 1- تخيُّر الألفاظ
وهو التنسيق في تأليف العبارات بتخيُّر الألفاظ، ثمّ نظمها في نسق خاصّ من التأليف، وصولاً إلى أرقَى درجات الفصاحة. وقد اعترف سيد قطب بأنّ مَن سبقوه قد أكثروا من القول فيه، وبلَغوا غاية مداه([85]). إمّا ما جاء هو به فتحديده لقيمة اللفظ القرآني في كونه « يرسم الصورة، تارةً بجرسه الذي يُلقيه في الأذن، وتارةً بظلِّه الذي يُلقيه في الخيال، وتارةً بالجرس والظلّ معاً »([86]). ويضرب لكلٍّ من هذه الأنواع الثالثة أمثلةً وشواهد قرآنية ما سُبق إليها.
ومن الألفاظ التي ترسم صورة الموضوع وتدلّ عليه بجرسها الذي تُلقيه في الأذن: لفظة (لَيُبَطِّئنَّ) في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا ﴾ [النساء:72] فيقول إنك لتقرأ هذه اللفظة من هذه الآية « فترتسم صورة التبطئة في جرس العبارة كلِّها وفي جرس ﴿لَيُبَطِّئَنَّ﴾ خاصةً. وإنّ اللِّسان ليكاد يَتَعثّر، وهو يتخبَّط فيها، حتى يصل بِبُطءٍ إلى نهايتها »([87]).
ومن الألفاظ التي ترسم صورة الموضوع بظلِّها الذي تُلقيه في الخيال لفظة (انسلخ) في قوله تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا ﴾ [الأعراف:175] « فالظلّ الذي تُلقيه كلمة ﴿انْسَلَخَ ﴾ يرسم صورةً عنيفةً للتمَلُّص من هذه الآيات، لأنّ الانسلاخ حركة حسِّية قوية »([88]).
أما الألفاظ التي يشترك الجرس والظلّ معاً في رسم صورة الموضوع فمثالها لفظة (الدّعّ) في قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا ﴾ [الطور:13] فلفظة (الدّعّ) تعني « الدفع في الظهور بعنف، وهذا الدفع في كثير من الأحيان يجعل المدفوع يُخرج صوتاً غير إرادي فيه عينٌ ساكنة هكذا: (أعْ) وهو في جرسه أقرب ما يكون إلى جرس (الدّعّ)»([89]). فيكون قد اشترك جرسه وظلُّه معاً في تصوير مدلوله.
2. 2. 1. 2- الإيقاع الموسيقيّ
وهو الإيقاع الناشئ من تَخيُّر الألفاظ ونظمها في نَسَقٍ خاصٍّ، وهو الذي اقتصر حديث القدامى عنه بالاشارة إلى الإيقاع الظاهري « ولم يَرتَقِ إلى إدراك التعدُّد في الأساليب الموسيقية، وتناسق ذلك كلّه مع الجو الذي تُطلَق فيه هذه الموسيقى، ووظيفتها التي تؤدِّيها»([90]).
وهذا الأمر أي - وظيفة الإيقاع الدلالية - هو مالم يتنبّه إليه الأقدمون، على الرغم من أنّ أهم ما يجب ملاحظته في هذا الجانب هو كون الإيقاع الموسيقيّ للقرآن « يتناسق مع الجوّ ويؤدّي وظيفةً أساسيّةً في البيان»([91]).
وهذه الموسيقى القرآنية المتعدّدة الأنواع تُلقي بظلالِها على مُجمل النصِّ القرآنيّ، وهي « تابعة لقِصَرِ الفواصل وطولها،كما هي تابعة لانسجام الحروف في الكلمة المفردة، ولانسجام الألفاظ في الفاصلة الواحدة»([92]). وهذا كلّه تابع للغرض الدلاليّ الذي انتُدِبَت له الآية أو الآيات أو السورة.
ويتجلّى هذا الإيقاع في السياق القرآني حيثما تُلِيَ القرآن، ولكنه يزداد وضوحاً في السُّوَر القصار ذات الآيات القصيرة والفواصل القصيرة، وقد يتوارَى قليلاً أو كثيراً في السُّوَر الطوال. ونختار مِمّا استشهد به سيد قطب نَموذجاً واحداً فقط لأننا سنفصِّل القول في الإيقاع في الفصل الأخير. فلنقرأ معاً سورة النجم مثلاً، ثم نُسجِّل ملاحظاته عليها حَتَّى نتبيّن منهجه الذي اعتمده في التحليل الإيقاعي:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) ﴾.
يُعلِّق سيد قطب على هذه السورة بقوله: « والإيقاع الموسيقي هنا متوسط الزمن تَبَعاً لتوسّط الجملة الموسيقية في الطول، متّحد تبعاً لتوحّد الأسلوب الموسيقيّ، مسترسِل الرويّ كَجَوِّ الحديث الذي يُشبه التسلسل القصَصيّ. وهذا كلُّه ملحوظ. وفي بعض الفواصل يبدو ذلك جليّاً مثل: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى ﴾. فلو أنك قلتَ: (أفرأيتم اللاّت والعزّى ومناة الثالثة)، لاختلّت القافية [الفاصلة]، ولَتأثَّرَ الإيقاع. وكذلك في قوله: ﴿ألكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنثى؟ تلكَ - إذَن- قِسمَةٌ ضيزَى ﴾ فلو قلت:(ألَكُم الذكرُ وله الأنثى؟ تلك قسمةٌ ضيزى)، لاختلَّ الإيقاع المستقيم بكلمة (إذن). ولا يعني هذا أنّ كلمة ﴿الْأُخْرَى ﴾ وكلمة ﴿إذَنْ ﴾ زائدتان لمجرّد القافية [الفاصلة] أو الوزن، فهما ضروريّتان في السياق لنُكَتٍ معنويةٍ خاصّة»([93]).
فالإيقاع القرآني لا يقوم على حساب المعنى، كما هو شأن الشعر حيث يستقيم الوزن وتقوم القافية في أغلب الأحيان على حساب المعنى، فالوزن والقافية كثيراً ما يَسُوقان الشاعر، وهو ينظم قصيدته، إلى معانيه سوقاً، قد لا يقصدها أو إذا قصَدَها فقد لا يرتَضيها. أما في القرآن فإنّ الإيقاع والفاصلة يتعانقان سويّة في رسم الصورة الفنية من جهة، وبيان الجانب الدلالي من جهة ثانية، من دون أن ينقص من هذا شيء أو يزيد على ذلك شيء.
نتائج البحث:
يمكن إجمال نتائج البحث الرئيسية بالنقاط التالية:
- إنّ القرآن الكريم كان ولا يزال يمثل منطلقاً وهدفاً أساسيّا لمباحث علم الصَّوت - في اللغة العربية - يستلهمه ويستمد منه مادّة بحثه، بُغيةَ الوقوف على أسرار معانيه، وذلك منذ باكورة نشأته، وحتى اكتماله عِلما شاخصا، له قواعده وأصوله.
- إنّ كثيراً من علمائنا القدامى والمحدثين كانوا قد تَنبَّهوا إلى أهمية الجانب الصوتي في تشكيل الصورة الفنية. وأشاروا إلى بعضٍ مِمّا تنطوي عليه الأصوات اللغوية والظواهر الصوتية من معاني ودلالات وإيحاءات.
- إنّ الجانب الصوتي في اللغة العربية بصورة عامة، وفي القرآن الكريم بصورة خاصة، عنصر أساسيّ مهم لا يمكن الاستغناء عنه بأي حالٍ من الأحوال في بلوغ المعنى المراد، و الإحاطة به. وبناءً على ذلك إنّ تحليل النصّ القرآني يتطلّب الإحاطة بالمستويات الدلالية المختلفة جميعاً؛ فبالإضافة إلى المستوى اللغوي والصرفي والنحوي والسياقي، هناك المستوى الصوتي الذي يقف على القمّة من هذه المستويات، والذي لابدَّ من الاستعانة به، واتِّخاذه أداةً يُضيفها المفسِّر إلى أدواته العديدة الأخرى في التحليل والتفسير والتأويل.
- إنّ هناك العديد من الظواهر الصوتية التي يمكن أن تتوافر عليها الحروف والحركات والكلمات القرآنية، منفردةً و مركّبة. وهي تتلاءم جميعاً وتتناغم، وفق نظام صوتي وإيقاعي خلّاب في رسم صور القرآن الكريم وتشكيل معانيه.
- هناك علاقة وثيقة ومحكمة بين الجانب البياني والجانب الصوتي في إبراز المعنى. وإن تشكيل الصورة الفنية للجملة القرآنية قائم على امتزاج الصُّورة البيانية بالصورة الصوتية والإيقاعيّة.
- إنّ أصغر وحدة صوتية في القرآن الكريم يمكنها أن تمثل مادّة بحثية لها قيمتها الدلالية. فكلّ صوت في هذا الكتاب الحكيم وُضِع موضعه الذي لا يَصلح غيره ليحلَّ محلّه، فإذا وُقِفَ على سرِّه انكشف بعضٌ مِمّا فيه، وخَفِي ما هو أعظم، فإنه ﴿لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي ﴾.
المصـادر والمراجع
- القرآن الكريم كلام رب العالمين
- ابن الأثير، ضياء الدين. (1995م)، المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد.، المكتبة العصرية، بيروت.
- ابن كثير.(1401هـ)، تفسير القران العظيم، دار الفكر، بيروت.
- الباقلاني، القاضي أبو بكر محمد بن الطيِّب. (2001م)، إعجاز القرآن، تحقيق: أبو عبد الرحمن صلاح بن محمد بن عويضة، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
- أنيس، إبراهيم. (1975م)، الأصوات اللغوية، ط5، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة.
- بنت الشاطئ، عائشة عبد الرحمن. (2004م)، الإعجاز البياني للقرآن ومسائل ابن الأزرق - دراسة قرآنية لغوية بيانية، ط3، دار المعارف، القاهرة.
- حسّان، تمّام. (1427هـ 2006م)، خواطر من تأمل لغة القرآن، ط1، عالم الكتب، القاهرة.
- الحسناوي، محمد. (1421هـ2000م)، الفاصلة في القرآن، ط2، دار عمّار، عمّان، الأردن.
- الخالدي، صلاح عبد الفتّاح. (1425هـ2004م)، إعجاز القرآن البياني ودلائل مصدره الربّاني، ط2، دار عمّار، عمّان.
- الخطابي، حمد بن محمد بن إبراهيم. (1387هـ1968م)، بيان إعجاز القرآن- ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، تحقيق: محمد خلف الله، ومحمد زغلول سلام، ط2، دار المعارف بمصر، القاهرة.
- الرافعي، مصطفى صادق. (1421هـ2000م)، إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، ط1، منشورات محمد علي بيضون، دار الكتب العلمية، بيروت.
- الرُّماني، عليّ بن عيسى. (1387هـ1968م)، النكت في إعجاز القرآن- ضمن ثلاث رسائل في إعجاز
- الزركشي، بدر الدين محمد بن عبد الله.(1391هـ1972م)، البرهان في علوم القرآن، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، ط2، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت.
- الزمخشري.(1413هـ)، الكشاف عن حقائق غوامض التـنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، ط1، نشر البلاغة، قم – إيران.
- السامرائي، مهدي صالح. (1397هـ1977م)، تأثير الفكر الديني في البلاغة العربية، ط1، المكتب الإسلامي، دمشق.
- السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن ابن أبي بكر. (1367هـش)، الإتقان في علوم القرآن، تحقيق: محمد ابو الفضل إبراهيم، ط2، منشورات الرضيّ، إيران.
- السيوطي + محمد بن أحمد. (د.ت)، تفسير الجلالين، ط1، دار الحديث، القاهرة، مصر.السيوطي. (1423هـ2003م)، معترك الأقران في إعجاز القرآن، تحقيق: محمد عبد الرحيم، ط1، دار الفكر، بيروت.
- السيوطي. (1423هـ2003م)، معترك الأقران في إعجاز القرآن، تحقيق: محمد عبد الرحيم، ط1، دار الفكر، بيروت.
- العاكوب، عيسى. (1412هـ1991م)، جَمالية المفردة القرآنية عند ضياء الدين بن الأثير، مجلة التراث العربي، العدد (44)، السنة (11)، تموز- يوليو –محرم، اتحاد الكتاب العرب، دمشق.
- قطب، سيد. (د.ت)، التصوير الفني في القرآن، دار الشروق، لبنان.
- قطب، سيد. (1977م)، في ظلال القرآن، دار الشروق، القاهرة.
- قطب، سيد. (د.ت)، النقد الأدبي أصوله ومناهجه، دار الشروق، القاهرة.
[1] - الرافعي، مصطفى صادق ، إعجاز القرآن والبلاغة النبوية ، ص134.
4- السيوطي، معترك الأقران في إعجاز القرآن:1/ 168.
[3]- كان الوليد بن المغيرة من أشدّ كفّار قريش عناداً وإصراراً على الكفر ؛ ويُروى أنّه عندما سَمع شيئاً من كتاب الله رَقّ له قلبه، فقالت قريش: صَبأ والله الوليد، ولتصبوّن قريش كلّهم. فأوفدوا إليه أبا جهل يثير حَمِيّته وكبرياءه واعتزازه بماله ونسبه، ويطلب إليه أن يقول في القرآن قولاً يُعلِم به قومَه أنه كارِهٌ له. فردّ عليه قائلاً: « وماذا أقول! فَوَ الله! ما منكم رجلٌ أعرَفُ بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه، ولا بقصيده مني، ولا باشعار الجن، والله ما يشبه = = الذي يقول شيئاً من هذا، و والله إنّ لقوله الذي يقوله حلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وانه لَمثمرٌ أعلاه، مغدِق أسفلُه، وإنه لَيعلو ولا يُعلَى، وإنه ليحطم ما تحته. قال [أبو جهل]: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه. قال [الوليد]: قف عني حتى أُفكِّرَ فيه، فلما فكّر قال: إنْ هذا إلاّ سِحرٌ يُؤثر يأثره عن غيره » (ابن كثير، البداية والنهاية:3/61). فنزَلَ فيه قوله تعالى من سورة المدثر: ﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا(11) ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ(26)﴾ وما بعدها.
[4] - سيد قطب، التصوير الفني في القرآن:17
[5] - الرُّماني، عليّ بن عيسى، النكت في إعجاز القرآن: 75.
[6] - قسّم الرماني حُسن البيان في الكلام على مراتب: « فأعلاها مرتبة ما جمع أسباب الحسن في العبارة من تعديل النظم
حتى يحسن في السمع، ويسهل على اللسان، وتتقبّله النفس تقبُّل البرد، وحتى يأتي على مقدار الحاجة فيما هو حقّه من المرتبة » (الرماني، 1968م/107).
[7] - الرُّماني، عليّ بن عيسى، النكت في إعجاز القرآن: 96.
[8] - م.ن: 97.
[9] - وذلك « لبعد ما دون طرف اللسان وأقصى الحلق » (السيوطي، الإتقان في علوم القرآن /3، 187).
[10] - الرُّماني، عليّ بن عيسى، النكت في إعجاز القرآن: 78.
[11] - السيوطي، جلال الدين، الإتقان في علوم القرآن: 3/187.
[12] - يتوالى في المثل سببان خفيفان، فوتد مجموع، فأربعة أسباب خفيفة، أما الآية فتبدأ بسبب خفيف، فوتد مجموع، فسبب
ثقيل، فسببان خفيفان. وبذلك يكون عدد الحركات في الآية أكثر من المثل، إضافةً إلى تنوّع المقاطع فيها.
[13] -السيوطي، جلال الدين، الإتقان في علوم القرآن: 3/187.
[14] - الخطابي، أحمد بن محمد بن إبراهيم، بيان إعجاز القرآن:26.
[15] - م. ن:27.
[16] - م. ن:44.
[17] -الباقلاني، القاضي أبو بكر محمد بن الطيِّب، إعجاز القرآن:30.
[18] - م. ن:32.
[19] - السامرائي، مهدي صالح، تأثير الفكر الديني في البلاغة العربية: 249.
[20] - الزركشي، بدر الدين محمد بن عبد الله، البرهان في علوم القرآن:1/164-180.
[21] - الباقلاني، القاضي أبو بكر محمد بن الطيِّب، إعجاز القرآن:36
[22] - م. ن:37.
[23] - الكشاف عن حقائق غوامض التـنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل:1/29-30.
[24] - معترك الأقران في إعجاز القرآن:1/70-71.
[25] - الزركشي، بدر الدين محمد بن عبد الله، البرهان في علوم القرآن:1/178.
[26] - سيد قطب،في ظلال القرآن:1/38.
[27] - على اعتبار أنّ الهمزة والألف الّلينة المعدودة مع اللام في (لا) حرفاً واحداً، وإلاّ فهي تسعة وعشرون حرفاً ينظر: (الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التـنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل:1/ 29) و(الزركشي، بدر الدين محمد بن عبد الله، البرهان في علوم القرآن: 1/ 176).
[28] -الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التـنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل:1/ 30.
[29] - بنت الشاطئ، عائشة عبد الرحمن، الإعجاز البياني للقرآن ومسائل ابن الأزرق:141.
[30] - ينظر: الباقلاني، القاضي أبو بكر محمد بن الطيِّب، إعجاز القرآن:36-37.والزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التـنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل:1/ 29-30.
[31] - الخالدي، صلاح عبد الفتّاح، إعجاز القرآن البياني ودلائل مصدره الربّاني:151-152.
[32] - الباقلاني، القاضي أبو بكر محمد بن الطيِّب، إعجاز القرآن:37.
[33] - الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التـنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل:1/31.
[34] - م. ن: 1/ 30.
[35] - السيوطي، جلال الدين، الإتقان في علوم القرآن:3/30.
[36] - م. ن:3/32.
[37] - جا ء بخلاف ذلك في العنكبوت والروم. (الزركشي، بدر الدين محمد بن عبد الله، البرهان في علوم القرآن:170).
[38] - ابن كثير، تفسير القران العظيم:1/ 39.
[39] - تشتمل اللغة العربية على خمسة أنواع من المقاطع، هي:
المقطع القصير المفتوح: ويتكون من (صامت + حركة قصيرة)
المقطع الطويل المفتوح: ويتكون من (صامت + حركة طويلة)
المقطع الطويل المغلـق: ويتكون من (صامت + حركة قصيرة + صامت)
المقطع الطويل المغلق بحركة طويلة: ويتكون من (صامت + حركة طويلة + صامت)
المقطع الزائـد الطـول: ويتكون من (صامت + حركة قصيرة + صامت + صامت)
والمقاطع الثلاثة الأولى هي الأكثر شيوعاً في الكلام العربي، أما الرابع والخامس، فقليلا الشيوع، ولا يكونان إلا في أواخر الكلمات حين الوقف ينظر: إبراهيم أنيس، الأصوات اللغوية، ط5، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة،1975،164. وبعضهم عدها ستة مقاطع، ينظر: حسّان، تمّام،خواطر من تأمل لغة القرآن، ط1، عالم الكتب، القاهرة، ص125.
[40] - الزركشي، بدر الدين محمد بن عبد الله، البرهان في علوم القرآن:168.
[41] - م. ن:ص169.
[42] - م. ن: ص170.
[43] - م. ن: ص170.
[44] - الحسناوي، محمد، الفاصلة في القرآن: ص201.
[45] - ابن الأثير، ضياء الدين، المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر: 1/25.
[46] - م. ن: 1/82.
[47] - م. ن: 1/156.
[48] - م. ن: 1/181.
[49] - م. ن: 1/162.
[50] العاكوب، عيسى، جَمالية المفردة القرآنية عند ضياء الدين بن الأثير:ص7.
[51] - ابن الأثير، ضياء الدين، المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر: 1/191.
[52] - الرافعي، مصطفى صادق، إعجاز القرآن والبلاغة النبوية:ص162.
[53] - ابن الأثير، ضياء الدين، المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر: 1/193.
[54] - م. ن: 1/194.
[55] - الرافعي، مصطفى صادق، إعجاز القرآن والبلاغة النبوية:ص161.
[56] - العاكوب، عيسى، جَمالية المفردة القرآنية عند ضياء الدين بن الأثير: ص8.
[57] - ابن الأثير، ضياء الدين، المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر: 1/ 186-187.
[58] - العاكوب، عيسى، جَمالية المفردة القرآنية عند ضياء الدين بن الأثير: ص9.
[59] - الرافعي، مصطفى صادق، إعجاز القرآن والبلاغة النبوية: 165-166
[60] - ابن الأثير، ضياء الدين، المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر: 1/150.
[61] - العاكوب، عيسى، جَمالية المفردة القرآنية عند ضياء الدين بن الأثير: ص10.
[62] - ابن الأثير، ضياء الدين، المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر: 1/ 277-278.
[63] - الرافعي، مصطفى صادق، إعجاز القرآن والبلاغة النبوية: ص164.
[64] - ابن الأثير، ضياء الدين، المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر: 1/278.
[65] - م. ن: 1/279.
[66] - الرافعي، مصطفى صادق، إعجاز القرآن والبلاغة النبوية: ص164.
[67] - ابن الأثير، ضياء الدين، المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر: 1/279.
[68] - ابن الأثير، ضياء الدين، المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر: 1/ 154-155.
[69] - الرافعي، مصطفى صادق، إعجاز القرآن والبلاغة النبوية: ص166.
[70] - ابن الأثير، ضياء الدين، المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر: 1/ 162.
[71] - الرافعي، مصطفى صادق، إعجاز القرآن والبلاغة النبوية: 162-163.
[72] - الرافعي، مصطفى صادق، إعجاز القرآن والبلاغة النبوية: ص150.
[73] - م.ن:ص151.
[74] - السامرائي، مهدي صالح، تأثير الفكر الديني في البلاغة العربية: ص266.
[75] - خذم في قراءته: إذا أسرع.
[76] - الرافعي، مصطفى صادق، إعجاز القرآن والبلاغة النبوية: ص152
[77] - (م. ن: ص155).
[78] - (م. ن: ص155).
[79] - (م. ن: ص156).
[80] - (م. ن: ص160).
[81] - الرافعي، مصطفى صادق، إعجاز القرآن والبلاغة النبوية: ص167-168
[82] - (م. ن: ص168).
[83] - سيد قطب، في ظلال القرآن: 6/3399.
[84] - سيد قطب، النقد الأدبي أصوله ومناهجه:41.
[85] - سيد قطب، التصوير الفني في القرآن: 72.
[86] - م.ن: ص76.
[87] - م.ن: ص76.
[88] - م.ن: ص79.
[89] - م.ن: ص79.
[90] - م.ن: ص72.
[91] - م.ن: ص84.
[92] - م.ن: ص82.
[93] - سيد قطب، التصوير الفني في القرآن:ص86.