العقود المستثناة من التفاضل الربوي في الشريعة الإسلامية
من المعاملات التجارية والعقود المالية قديما وحديثا الخاضعة للتفاضل الربوي التي ان بُدأ للعمل بها فستؤدي إلى تسلط الإنسان القوي او الغني على اخيه الضعيف او الفقير، والتي ستؤدي الى دوافع فردية انانية لدى المرابي يحاول بها ابتزاز جهد المعوزين.وعليه نرى أن الإسلام وبناءً على منع استغلال الإنسان لأخيه الإنسان حرم التعامل بالربا بنصوص قرآنية صريحة وكذلك أحاديث السنة النبوية الواضحة حفظا للتوازن الاقتصادي والاجتماعي في دولة الإسلام وعمل على تواصل الناس وتعاطفهم بروح الاخوة الإنسانية والعمل بما شرعه الاسلام في وجوب رفع مستوى الفقراء ومحاربة الفقر سواء بالإعانات أو القروض في صندوق, أو معطيات الزكاة والصدقات وما يشابهها.
المقدمة
يعد الربا من اكثر الموضوعات الاقتصادية والدينية أهمية فهناك مسائل كثيرة تتعلق بموضوع الربا في الإسلام تحتاج إلى دراسة معمقة.
ومن المعاملات التجارية والعقود المالية قديما وحديثا الخاضعة للتفاضل الربوي التي ان بُدأ للعمل بها فستؤدي إلى تسلط الإنسان القوي او الغني على اخيه الضعيف او الفقير، والتي ستؤدي الى دوافع فردية انانية لدى المرابي يحاول بها ابتزاز جهد المعوزين.
وعليه نرى أن الإسلام وبناءً على منع استغلال الإنسان لأخيه الإنسان حرم التعامل بالربا بنصوص قرآنية صريحة وكذلك أحاديث السنة النبوية الواضحة حفظا للتوازن الاقتصادي والاجتماعي في دولة الإسلام وعمل على تواصل الناس وتعاطفهم بروح الاخوة الإنسانية والعمل بما شرعه الاسلام في وجوب رفع مستوى الفقراء ومحاربة الفقر سواء بالإعانات أو القروض في صندوق, أو معطيات الزكاة والصدقات وما يشابهها.
إن ا لأصل في الشريعة الإسلامية ان تكون العقود والتصرفات غير المتعارضة معها مباحة لتيسير حاجات الإنسان ومصالحهم بعيدة عن استغلال المنتجين. وهي ايضا قد سمحت بانو أع من العقود التي لها وجه في الشبه بالتفاضل الربوي وذلك لوجود الحاجة اليها لدى العاقدين ولكنها حددتها بشروط وضوابط تحافظ على مصلحة الطرفين ومن هذه العقود:
*عقد بيع الوفاء وعقد الاستصناع وعقد التسلم (السلف).
إن البحث في الموضوع تطلب من الباحث تناول مفهوم التعامل الربوي بأنواعه من حيث حكمة تحريمه وكذلك البحث في العقود المشتبه بها ثم خاتمة للبحث.
و ذلك لان فريقا من الناس يرى ان انتشار الربا قد يكون مسوغا للتسامح به ولانه صار من عادة النظم الاقتصادية المعاصرة ومنها نظم دول إسلامية وتعمل بنهج الشريعة الإسلامية تتعامل بالربا وذلك لاعتقادها في تحقيق المصالح الصحيحة للبشرية وتعجز عن ادراك مقاصد الشريعة الإسلامية في حفظ اقتصاد الدول أو أموال الأفراد قد أوقع هذه النظم أو هؤلاء الأفراد الذين استطاعوا جني أموال طائلة من النقود, إلا أنهم لم يستطيعوا تحقيق الاخوة الإنسانية وكان من نتيجته التهالك على المال عن طريق الربا وتسلطهم على الضعفاء وا لعمال.
وهو العداء والكراهية بين طبقات المجتمع، وان الشريعة السمحة حيث حرمت الربا فإنها كانت تهدف الى بناء رابطة الاخوة الإنسانية والعدالة بين الناس وتقسيم الأرباح بين العمل والإنتاج والضرب بشدة على أطماع المرابين المستغلين لحاجة الضعفاء.
المبحث الأول التفاضل الربوي
المطلب الاول: التعريف بعقد الربا[1]
هو عقد يتفق عليه طرفاه على تقديم المدين للدائن زيادة مالية على الدين او الثمن عند التسديد وبصرف النظر عن مقدار هذه الزيادة.
و يقسم الى قسمين:
الاول ربا النسيئة[2]:
هو زيادة مالية على مبلغ القرض من اجل تأجيل وفاء الدين لوقت معلوم.و كذلك يسمى (ربا القرض) أي اخذ الفائدة على القرض.
و هذا الربا المشهور قديما وحديثا وهو ان يقرض احد طرفي العقد الآخر مبلغا من المال لسد حاجته الضرورية او لاستخدامه في الاستثمار والعمل او لأي غرض آخر ويشترط عليه، رد المال مع زيادة يتفقان عليها أو يقرضها المقرض (الدائن) على الدين استغلالاً منه لحاجة المقترض.
وهذا التعامل قد يقع بين شخصين او بين مؤسسة وشخص او بين مؤسسة ومؤسسة اخرى كالمصارف والمؤسسات المالية.
و قد كان الناس قبل الإسلام يتبايعون بالربا إلى اجل فإذا حل الأجل قال الدائن للمدين (أتقضى أم تربي؟) ويعني بذلك أن تفي بالدين أم تزيدني على مالي بذمتك واصبر عليك اجلا آخر؟[3] وحرم الله تعالى هذا الربا حرمة صريحة بقوله تعالى:
)و احل الله البيع وحرم الربا( سورة البقرة/ص27.
كما حرمتها السنة النبوية بقول النبي 9: اجتنبوا السبع الموبقات)
قيل: يا رسول الله وما هي؟ قال9: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله الا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات. كما وروي عن النبي9 انه: لعن آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه[4].
الثاني: ربا الفضل
و هو الزيادة المشروطة بين الامول العينية المتجانسة سواء أكانت تقاس بمعيار الوزن أو الكيل وهذه الزيادة في احد العوضين مقابل الآخر الذي هو من نفس جنسه محرمة في الشرع، ولو كان العوضان مختلفين في الجودة أو الشكل أو الصناعة[5]. ويسمى أيضا ربا المعاملة (أو الربا المعاملي) وهو ما يقع في عقد من العقود التجارية كالبيع مثلا كبيع عشرة أطنان من الحنطة بأحد عشر طنا من الحنطة فالزيادة هنا محرمة[6].
و هذا النوع من الربا هو موضوع بحثنا هذا.
المطلب الثاني: دليل تحريم ربا التفاضل وعلته
جاءت احاديث الرسول 9 وافرة في تحريم ربا التفاضل ومنها:
1. حديث أبي سعيد الخدري ـ قال رسول الله 9:لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشقوا[7] بعضها على بعض ولا تبيعوا الورق بالورق(الفضة) ا منها غائبا بناجز متفق عليه[8].
2. قال رسول الله 9: (الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبُر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذا الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد.) رواه مسلم[9].
3. قال رسول الله 9:(الذهب بالذهب وزن بوزن مثلا والفضة بالفضة وزن بوزن مثلا بمثل, فمن زاد واستزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء) رواه مسلم [10].
كما جاء في احاديث اخرى:
روى هشام بن الحكم انه سأل أبا عبد الله الصادق 7 عن علة تحريم الربا فقال: (لو كان الربا حلالا لترك الناس التجارات وما يحتاجون إليه فحرم الله الربا لتفر الناس من الحرام إلى الحلال والى التجارات من البيع والشراء..)[11].
علة تحريم ربا المفاضلة:
اتفق فقهاء الشريعة الإسلامية على أن التعامل الربوي وبشكل عام يتعارض مع القواعد الثابتة للدين الإسلامي، من حيث عقيدته وقيمه الخلقية ونظامه الاقتصادي الذي لا يهدر حق الفرد ولا حق المجتمع، وذلك لكونه نظاما عمليا سار في إطار ثابت من القانون والأخلاق ينظر إلى مصلحة المجتمع مفضلا إياها على المصلحة الشخصية في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة في الترغيب في ثواب الله عز وجل في الآخرة عن الأعمال الصالحة، والترهيب من عقوبة اليوم الآخر، وازدراء المجتمع لمن يخرج عن هذه القواعد.
اما علة تحريم ربا المفاضلة فان الشريعة الإسلامية السمحة قد حددت حقوق الإنسان وأمرت بالحفاظ عليها. بان حددت طرق اكتساب المال واشترطت ان لا يكون هذا الكسب والمنفعة على حساب خسارة الغير عندها تكون هذه المنفعة غير المشروعة في الاسلام حرام وممنوع بقوله تعالى:
)يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم، ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا( سورة النساء/29ـ30
و من هذه الآية الكريمة نرى أن الإسلام قد اشترط لمشروعية التجارة شرطين هما:
1ـ ان تكون هذه التجارة منفعة عن تراض بين المتعاقدين.
2ـ ان لا تكون منفعة طرف على خسارة الطرف الثاني.
كما ان الاسلام قد شبه التاجر الذي يستسيغ أكل أموال غيره بقاتل نفسه، كما يستدل من هذه الآية على ان التحريم قد تعلق بالتجارة من مبيعات المطعومات او الثمينات من الذهب والفضة. فالجنس إذا بيع بمثله سواء كان من الموزونات او من المكيلات فانه محرم ويعد ربا التفاضل.
و لقد جاء لابن قدامة في المغني بان الفقهاء اتفقوا على ان ربا الفضل لا يجري إلا في الجنس الواحد، وإن المطعومات المتقاربة في الانتفاع والغذاء إذا اختلفت في الجنس فانه يجوز بيع بعضها بالآخر بالتفاضل كالتمر بالزبيب، والذرة بالدخن، واستندوا في ذلك إلى قول الرسول9: بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدا بيد وبيعوا البر بالتمر كيف شئتم[12].
و من هذا فان المماثلة تجب في المعيار وهو الكيل والوزن عند اتحاد الجنس في العوضين وهذا يشمل كل مفهوم في مثله ولا يجوز التفاضل فيه، ولا فرق بين المتجانسات عندما تتباين في الصنعة أو الجودة ولا يجوز فيها التفاضل وتخصيص الصلة في المثليات بالجنس والمقدار (الكيل والوزن) يسهل وضع الضوابط المعتمدة وللحذر من الوقوع في ربا التفاضل بالزيادة المحرمة لمثل هذه البيوع التي يقدم عليها الطامعون لغرض الحصول على الزيادة الفاحشة، وبهذا أيضا اخذ الفقه الجعفري في منع التفاضل بين الجنس الواحد في المطعومات[13].والمقصود بوحدة الجنس وحدة الأصل، فالحنطة ودقيقها يعدان جنسا واحداً، والتمر ودبسه كذلك، واللبن والزبدة وكل المشتقات اللبنية يعد جنسا واحدا، وهكذا بالنسبة للعنب وخله والتفاح وعصيره وماشاكل ذلك [14].
وعند التطبيق في النماذج المتقدمة نرى أن الشارع قد حرم بيع الجيد بالرديء متفاضلا أو بيع الحنطة بالدقيق بالتفاضل لان المجانسة والمعيار أي الوزن بين الدقيق والحنطة أو الكيل بين الجيد والرديء بالوزن باقيان فيها[15].
كما حرم الشارع استبدال الحنطة بجنسها ومن نوع غير نوعها، لأجل تحسين الزراعة بالتفاضل أو عند رغبة المستفيد منها للأكل باستبدالها بغير الدقيق كمشتقات غذائية متنوعة تختص بها الحنطة الخشنة عن الناعمة، ففي هذه الحالة حرم الشارع التفاضل بينهما ويجب مساواتهما لاتحادهما في الجنس.
كما ان هذه الأمتعة حين تباع بجنسها فإنما يفسر هذا يقصد حصول البائع من هذه الأشياء على النوع الأفضل والأجود من جنسها وكأنه يريد استبدالها بخير منها. ولهذا فان الشريعة السمحاء تمنع هذا التصرف لما فيه من تغرير وتضليل لذا فان تطلب من الراغبين بيع هذا الجنس من المطعومات ان يبيعها بثمن ثم يشتري به النوع الذي يرغب به من المطعوم الذي باعه وبهذا يتجنب الربا ولا يقع في تغرير الغير او تضليله.
فالصلة في هذا التحريم (ربا المفاضلة) هو وجود الجنس والمعيار بين البدلين لذلك أوجب الشرع التماثل بين البدلين وأوجب التقايض بينهما في مجلس العقد كما حرم التأجيل في البدل فكانت هذه الشروط الثلاثة قيودا على مقاصد هذا التعامل ومانعا في الضرر الربوي.
و كذلك لرفع الغبن الكبير الذي فيه وان من العدل في المعاملات هو مقاربة التساوي لذا يفترض وضع نسبة لها تقارب او تشابه قيمة احد الشيئين الى جنسه في مقابلة نسبة قيمة الشيء الآخر إلى جنسه ومثال ذلك:
إذا باع احدهم كبشا بحنطة في هذه الحالة بجب ان تعكس نسبة ثمن الكبش الى بقية الخراف هي نفس نسبة قيمة كمية هذه الحنطة الى سعر الحنطة في السوق ومن هذا فإذا كان سعر الكبش مثلا عشرون فيجب ان يكون ثمن كمية الحنطة المستبدلة أيضا عشرون وهذا هو التعامل العادل الصحيح لذا فان منع التفاضل في هذه الأشياء يرجع إلى علتين:
1ـ وجود العدل منها والحرص على منع التفاضل بين الجنس الواحد.
2ـ منع المعاملة في بعضها بقدر الامكان لانها تشبه المعاملة المصرفية.
و مما تقدم فان علة الربا في هذه الأصناف الكيل او الوزن لكونها من المطعومات والأقوات والتي تشبه أن تكون حفظ العين فيما هو قوتا وطعاما ولكونهما من ضروريات حياة الناس, ولهذا كان من حكمة الشرع ان يحفظها من الاستغلال الربوي بالقيود المانعة في التفاضل فيما بينهما عند تماثلهما في الجنس والمعيار[16].
المطلب الثالث: شروط تحقق ربا المفاضلة
ربا المفاضلة او المعارضة: هو بيع شيء بشيء مثله لكن بزيادة.
مثل بيع الشخص الف لتر من اللبن بالف ومائة لتر من اللبن فلأن العوضين من جنس واحد فيكون الالف ازاء الالف اما المائة لتر الزائدة فليس إزاءها شيء فتكون ربا أي اكلا للمال بالباطل التي ينهي عنها القران الكريم صراحة. وفي السنة النبوية الشريفة وهذه الزيادة في البدل التي تحقق الفائدة تكون على أقسام:
1ـ أن تكون زيادة عينية كبيع طن من الحنطة بطن ونصف من الحنطة ايضا فنصف الطن من الحنطة هنا يقع دون شيء يقابله في المعاملة فتكون زيادة عينية.
2ـ وقد تتحقق الفائدة من خلال التفاوت الزمني كبيع طن من الرز حالا لقاء طن من الرز مؤجل الى بعد سنة من حين توقيع العقد فالتفاوت الزمني هنا يكون بمثابة الربا، اذ للزمن قسط من الثمن. فلا يجوز بيع شيء بآخر من جنسه بالنسيئة ولو كانت من دون زيادة. اذ ان وجود التأجيل الزمني في احد العوضين المتجانسين يجعل المعاملة ربوية[17].
3ـ وقد تكون الفائدة بتقديم خدمة اضافية معينة تضم الى عقد البيع. كبيع طن من التمر لقاء طن من التمر وحرث دونم من الارض. فبالرغم من ان التعاقد قد وقع على شيئين من جنس واحد من دون زيادة ولا أُجل. الا ان إضافة العمل (وهو حرث دونم من الارض) الى احد العوضين جعل العقد ربويا[18].
فبما تقدم نرى ان ربا المعارضة لا يتحقق الا بتوفير شرطين في الصفقة التجارية:
الشرط الاول: ان يكون العوضان من المكيل او الموزون فما يباع بالعدد كالبيض او بالمسح كالاقمشة او بالمشاهدة كالسمك فلا يقع فيه الربا بل يجوز بيع بعضهما ببعض بالتفاضل فيصح بيع عشرين بيضة بخمسة وعشرين بيضة. او بيع عشرة امتار من القماش باثني عشرا مترا منه.
الشرط الثاني: ان يكون العوضان من جنس واحد كبيع الحنطة بالحنطة والمقصود بوحدة الجنس وحدة الاصل فالحنطة ودقيقها يعدان جنس واحد والتمر ودبسه كذلك واللبن والزبدة، وكل المشتقات اللبنية تعد جنسا واحدا ايضا.
بما ان تفاوت أفراد الجنس الواحد في المواصفات الفرعية او في النوعية والجودة لا يخرجها عن وحدة الجنس. فالحنطة الممتازة والحنطة الرديئة يعدان جنسا واحدا وان اختلفت قيمتهما السوقية والرز العنبر والرز البسمتي يعدان من جنس واحد ايضا كذلك الأمر بالنسبة الى انواع التمور.
كما ان وحدة الجنس في اللحوم تعود الى وحدة الحيوان المتخذ منه اللحم فانواع لحوم الغنم هي جنس واحد بينما لحم الغنم ولحم البقر جنسان فلا يجوز الزيادة في الاول وتجوز الزيادة في الثاني.
كما ان العنوان العام لا يحقق وحدة الجنس، فالرز والحنطة لا يعدان جنسا احدا وان أطلق عليهما عنوان الحبوب. والتفاح والبرتقال. لا يعدان جنسا واحدا وان كانا يدخلان تحت صنف الفواكه وهكذا ولكن الحنطة والشعير يعدان جنس واحدا في الحكم الفقهي وذلك لورود النص به فلا يجوز بيع الشعير بالحنطة او العكس تفاضلا[19].
المبحث الثاني العقود المستثناة من التفاضل الربوي
المطلب الاول: عقد السلم أو السلف[20]
السَلَم أو السَلَف: عقد بيع آجل بعاجل. والعاجل هو: رأس المال أي الثمن على ان تسلم البضاعة فيما بعد(كبيع السيارة بثمن معين يدفعه المشتري حالا على ان يتسلم السيارة بعد فترة زمنية محددة).
و قد شرع هذا النوع من العقود استثناءً للحاجة إليه من المزارعين في إنتاجهم من حنطة وشعير وقطن وغيرها، واصحاب الأنعام في حياتهم الاقتصادية من إنتاج الصوف والشعر والدهن واللبن وغيرها من البضائع الخاضعة للكيل والوزن.
مشروعيته:
يتفق الفقهاء على مشروعية هذا العقد في الشريعة الإسلامية نظرا لحاجة الإنسان إلى التعامل به، لذلك استثنى الفقهاء هذه العقود من التحريم بربا المفاضلة ليشمل التعامل بمثل هذا العقد، فمثلا كان اهل المدينة حين قدم النبي 9 إليهم يسلفون من ثمار النخيل بأعيانهم فنهاهم عن ذلك لما فيه من الضرر لو اصاب هذه الأشجار عاهة فلا تثمر شيئا ولكنه 9 أباح لهم التسليف بالثمار دون تخصيص الشجر بعينه واشترط في التمر النوع والوزن والوصف ثم. جاءت إحكام القران في اباحة عقد السلم للتعويض عما كان يتعامل الناس به من الربا. وأوضحت للمرابين سوء العاقبة عليهم وعلى من سايرهم. فأنذرتهم الايات بما يترتب على التعامل الربوي من القطيعة بين الناس وتحجر قلب المتعاملين به كما أوضحت الايات لهم حقهم برؤوس اموالهم النقية من الربا وحصتهم على التعامل بلا استثمار النافع لهم ومردود ذلك التعامل في تنشيط الحالة الاقتصادية في الزراعة وتربية الحيوان لخير المجتمع بقوله تعالى: (يا أيها الذين امنوا اتقوالله وذروا ما بقي من الربا ان كنتم مؤمنين فأن لم تفعلوا فاذنوا بحرب من الله ورسوله وان تبتم فلكم رؤوس اموالكم لاتظلمون ولاتظلمون). سورة البقرة 278_00279
ثم بعد ذلك وجه القران الكريم المؤمنين إلى التعاون والتعاطف وخطاب الدائنين للتيسير والتسهيل مع المدينين المعسرين ورغبتهم بعطاء الله لهم بقوله تعالى:(وان كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة،وأن تصدقوا خيرا لكم ان كنتم تعلمون. واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم،توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون)[21].
وهذه الآيات المحرمة للربا هي خير تمهيد لتشريع عقد السلم الذي أوضحها الله تعالى في آية قرآنية بقوله تعالى:(يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى اجل مسمى فاكتبوه)[22].
ومن المفسرين من جعل المراد بالمداينة في عقد السلم، فالله تعالى عندما منع الربا في الآيات المتقدمة أذن في عقد السلم طريقاً حلالا وسبيلا ًمشروعاً لتحصيل المنافع المطلوبة منه، فالمقصود هو بيع العين بالنقد (الدين) وهو ما بيع بثمن مؤجل أو العكس من ذلك هو بيع الدين بالعين، وهو ما سمي بالسلم وكلاهما دخلا تحت مفهوم هذه الاية[23].
كما قال صاحب تفسير المنار: (إنَّ المداينة تشمل الدين والقرض)أما جمهور الفقهاء فقالو (إن الدين عام يشمل القرض والسلم وبيع الأعيان إلى اجل وهو الصواب)[24].
مشروعيته في السنة النبوية:
فقد جاءت أحاديث عدة في مشروعية عقد السلف وكذلك بعضها يبين شروطه الضابطة لما علمه:
قال رسول الله 9: (من اسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى اجل معلوم)[25].
واجمع الفقهاء على أن الاجتماع قد انعقد على مشروعية عقد السلف، حيث نقل ابن المنذر في دليله الأصول فقال: اجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن السلم جائز لان الثمن في البيع احد عوضي العقد، فجاز أن يثبت في الذمة كالثمن، ولأن بالناس حاجة إليه، لأن أربابا للزروع والثمار والتجارات يحتاجون إلى النفقة على انفسهم وعليها لتكتمل وقد تعوزهم النفقة فجوز لهم ليرتفقوا ويرتفق المسلم بالاسترخاص) [26].
ناقش الفقهاء مشروعية عقد السلم من حيث توفر اركان العقد بشكل عام، وخصوصاً محل العقد، إلا أنهم جوزوه في الشريعة بناء على نصوص السنة النبوية، أو ما جاء في آية المداينة بقولهم (إن الترخيص في السلم مخالف للقياس الظاهر أي عدم توفرة ركن المحل ولما كان السلم معدوم المحل وقت العقد، فأن ظاهره لا يقاس على سائر العقود).وأجاب على ذلك صاحب الهداية (بأن الحديث الشريف الذي نهي فيه الرسول 9عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم وقال (والقياس وان كان يأباه) ويعني بقوله هذا القياس يرفض هذا العقد لتخلف ركن مهم من أركان العقد وهو محل العقد ولكنه يقول بعد ذلك (ولكنا تركناه بما رويناه)[27].
شروطه:
يشترط في بيع السلف عدة شروط وهي:
1ـ ضبط البضاعة بالأوصاف والمميزات التي تختلف القيمة والرغبة بسببهما ولا تجب المبالغة في ذلك بل يكفي الضبط بالمقدار الذي يعتبره العرف كافيا لجعل البضاعة معلومة ولرفع الجهالة.
و يختلف المقدار اللازم للتوصيف باختلاف الأشياء والأسواق والأعراف فقد يكون ضروريا في بضاعة ما ذكر سنة الصنع كالسيارة مثلا إذ يؤثر ذلك في القيمة والرغبة أو المواد الغذائية حيث من المهم معرفة تاريخ إنتاجها وتاريخ انتهاء استخدامها. وقد لا يكون ذلك ضروريا في بضاعة أخرى كالأدوات والآلات وفي كثير من الأجهزة التي لا يؤثر تاريخ صنعها في زيادة أو نقصان الرغبة أو في القيمة.
أما البضاعة التي لايمكن ضبط أوصافها ومميزاتها بالتوصيف كبضع أنواع من الجلود واللحوم والسجاد اليدوي وبعض الصناعات اليدوية الأخرى فان البيع السلفي باطل فيها.
أما إذا كانت بأوصاف دون المتفق عليها فيحق للمشتري الرفض أو عدم القبول. أما إذا كانت المواصفات بأجود من المتفق عليه فعلى المشتري القبول بالبضاعة إلا إذا كانت لديه حاجة خاصة بالبضاعة ذات المواصفات الأقل جودة.
2ـ دفع الثمن كله للبضائع في مجلس البيع وقبل الافتراق، أما إذا تفرق المتعاقدان قبل استلام راس المال من قبل المسلم إليه. انفسخ العقد وكان باطلا عند أبي حنيفة والشافعي والحنابلة. أما مالك فقد أجاز تأخيرة إلى ثلاثة أيام. أما السيد محمد تقي المدرسي فأضاف: إذا كان دفع المشتري بعض الثمن في مجلس البيع صح البيع بمقدار الثمن المدفوع وبطل البيع بالنسبة إلى الباقي ولكن لا يجبر البائع على القبول به. إذ يبقى له الخيار في فسخ عقد البيع[28].
3ـ ضبط مقدار البضاعة بما يعد فيها من الكيل أو الوزن أو العدد أو المسح أو الزمن كعمر الحيوان والأشجار ومقدار القوة الكهربائية.
4ـ ضبط المدة المقررة لتسليم البضاعة بالأيام والشهور والسنين بل وبالساعات في بعض الحالات. فلو كانت المدة مجهولة بحيث تنتهي إلى الجهالة في السلعة أو تدخل في إطار البيع الضروري المنهي عنه كان العقد باطلا[29].
5ـ إمكانية وجود البضاعة عند حلول الأجل، وان لم يكن موجودا بالفعل حيث العقد, أي أن يكون البائع قادرا على تسليم البضاعة من حيث توفرها في تلك الفترة فلو باع مادة زراعية على أن يسلمها في الشتاء بينما هذه المادة لا يمكن وجودها في ذلك الفصل لم يصح البيع أي ان يكون جنس المسلم فيه موجودا عند حلول اجل التسليم[30].
6ـ يعين مكان تسليم البضاعة إن كانت الأعراف التجارية تختلف باختلاف الأمكنة وكان عدم التيقن سببا للضرر المنهي عنه شرعا. إلا إذا كان مكان التسليم محددا لدى الصرف بحيث لا يحتاج إلى ذكره في العقود كمل لو كان عرف السوق يقضي بسليم البضاعة في ميناء بلد المشتري مثلا.
7ـ لا يجوز السلم بالعقار لعدم انضباطه بالوصف[31].
8ـ يجب ان يكون العقد ناجزا ولا يدخله خيار الشرط[32].
الحكمة من استثناء السلم
من الواضح لدينا ان تعاطي الربا من المعاصي الكبيرة وعلى الإنسان أن يتوب إلى الله تعالى من ذلك، ولكي تقبل توبته عليه رد كل الزيادات الربوية التي أخذها ولهذا شرع عقد السلم استثناء من العقود وضمان تحقيق شرعية التعامل به ولضمان حقوق العاقدين وهي:
1ـ تشجيع القادرين على الإنتاج الزراعي والحيواني وحتى الصناعي من استثمار طاقاتهم ومواردهم المنتظر إنتاجها قبل موسم نضجها ليوفروا حاجاتهم الضرورية سواء لعوائلهم أم لإنتاجهم في فترة انتظار توفر الإنتاج.
2ـ تحقيق الشرعية الإسلامية لهذا العقد الذي جاء بنقصه ركن من أركانه ألا وهو محل العقد وذلك لرفع الحرج والتيسير على المعسر من توفير النقد لئلا يضطر إلى الربا المحرم لا بل سوف لا يفكر بقرض الربا المحرم بعد أن وجد الطريق الحلال الذي يستبد به المرابي فيستغل حاجته في فترة انتظار محصوله. كما أن تعاقده على السلم سيشعر بأنه صاحب صفقة تجارية تدر عليه النقد العاجل فتيسر عسره وتقضى حاجته وعندها لا يشعر بمنة احد أو تفضل منه وإنما هو قد ضمن بيع محصوله مقدما مما سيساعده على بذل الهمة والنشاط في العمل لتوفير المبيع في موعده.
3ـ يحقق عقد السلف المصلحة لطرفي العقد فهو بالإضافة إلى توفير النقد إلى بائع المنتوج كما انه من جهة اخرى يضمن لأصحاب الحرف ما يحتاجون إليه في صنعتهم سواء من غلال أم انتاج الحيوان أو في تجارته التي سبق أن تعاقد عليها. فهو قد ضمن إيفاءه بالتزامه بعد أن تم عقد السلم.
كما ان الشريعة في تحليلها لهذا العقد فقد فتحت منفذا معقولا أمام المصالح الحقيقية للعاقدين وللمنفعة العامة في عقد السلم. ولو ان فيه تنازلا من صاحب البيع ببعض الفرق من ثمنه لو كان بيعه في موسمه إلا أن عدم لجوئه إلى الربا وتخلصه من الاستغلال يكون بديلا لهذه الخسارة.
المطلب الثاني عقد الاستصناع
هو عقد يتضمن بيع يستحق في الذمة فيطلب المشتري عمله من الصانع الذي يصنعه أي ان المبيع ينحصر في شراء منفعة صناعية يختص بها صاحب الحرفة فيبيع خبرته في تصنيع الشيء الذي يطلبه المشتري حسب حاجته ومثالها خياطة القماش وصناعة الحديد والنحاس وصناعة الخشب والسراجة وغيرها من الصناعات.
و يعد عقد الاستصناع عقد سلم من حيث عدم وجود ركن المحل في عقد البيع هذا. ولهذا فان الاستدلال عليه يكون بنفس النص القرآني في آية المداينة وإلى نفس الحديث الشريف بقوله9: من اسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى اجل معلوم[33]. كما أن فيه مصلحة لحاجة الناس إليه كذلك ادخلوه ضمن صور الاستحسان المعتمد على النص وتم استثنائه من القاعدة الربوية[34].
شروط عقد الاستصناع
1ـ من مقتضيات عقد الاستصناع ان يكون مؤجلا ولكن ليس الأجل الملزم وذلك لان التأجيل المتعارف عليه في عقد الاستصناع موضوع الإمهال وتأجيل المطالبة وليس للإلزام كالأجل المشروط في عقد السلم الذي يكون الأجل شرطا فيه.
2ـ توضيح المصنوع توضيحا تاما نافيا للجهالة التي تدعو إلى النزاع بين العاقدين أو إلى الضرر، كذكر جنسه ونوعه ومقداره وأوصافه المميزة وتختلف هذه الصفات باختلاف المصنوع.
أن يكون بما جرى العرف بالتعامل به استصناعا كالملابس والأواني والأخشاب والمعادن. أما إذا حصل بما لم يتعارف ويتعامل به الناس فيكون سلما ويجب أن توفر فيه شروط عقد السلم.
ومما تقدم يتضح بأن الأصل في عقد الاستصناع أن الأجل فيه غير لازم وانه مطلوب لغرض إنجاز الصناعة، فمثلا إذا قال طالب الصنعة للصانع أريد أن تفرغ من هذا التصنيع غدا أو بعد أسبوع أو بعد شهر على الأكثر، فان هذا القول مشروع وموافق للعقد اتفاقا وأن هذا الوقت لا يمنع حث الصانع على إنجاز العمل الصناعي المطلوب كما لا يمنع الصانع أن ينهي العمل المطلوب منه قبل هذه الفترة لان ذكر المدة هو للتعجيل وليس للزوم فان الأجل مقبول ولا يصير العقد سلما[35].
كما انه لما كان محل العقد لم يتعين إلا إذا رضيه المستصنع له بعد رؤيته فله إذن أخذه جبرا عن الصانع إذا رضيه ولا يحق للصانع بيعه لغير المستصنع له كما لا يحق له فسخ العقد.
وبهذا التوجيه يتضح لنا أن الفقهاء أرادوا إبعاد عقد الاستصناع عن فرض الوقت على الصانع أو إلزامه بشكل واجب وذلك حذرا من مداخلة التأجيل المحدد بالزمن بدل الاستصناع الذي يعد شبة داخلة في ربا النسيئة. أما عند وضع الوقت موضع اللزوم الحتمي فانهم فيه انتقالا إلى عقد السلم الذي يجب فيه التزامه بشروطه الخاصة به.
المطلب الثالث عقد بيع الوفاء
إن عقد البيع يكون باتا إلا أن الشريعة والقانون قد يمنحان المتعاقدين أو أحدهما حق الاختيار. والمعتاد أن يكون خيار الشرط للمشتري اكثر منه للبائع فقد يشترط لنفسه ثلاثة أيام يمكنه منها رد المبيع. إذا شاء ويسترد الثمن وفقا للحديث الشريف (إذا بايعت فقل لأخلا به ولي الخيار ثلاثة أيام).
و يكون خيار الشرط في عقد بيع الوفاء يكون للبائع وليس للمشتري وهو أيضا لا يحدد بزمن، وبهذا يشترط فيه البائع انه متى رد ثمن المبيع إلى المشتري فله الحق في استرداد المبيع.
و من الواضح إن العاقدين في هذا النوع من العقود يحتمل انهما قصدا تحقيق هدف معين الا وهو الاحتيال والتهرب من الربا المحرم، وذلك لان البائع المحتاج الى الاستدانة عند عدم وجود من يقرضه المال بغير الزيادة الربوية فيلجأ الى بيع الوفاء حيث يتقدم إلى بيع ماله إلى المشتري مقابل الثمن المتفق عليه بينهما ويشترط البائع استعادة المبيع منه إذا عاد إليه الثمن ويكون بذلك البائع قد قضى حاجته بثمن المبيع، كما ان المشتري قد انتفع بالسلعة المباعة وهو مطمئن بان البائع سيسترد المبيع بخيار الشرط الذي اشترطه لصالحه كما انه سيسترد ماله الذي دفعه ثمنا للسلعة هذا وقد اختلف الفقهاء في صحة عقد بيع الوفاء الذي لم يتقيد بوقت محدد للشرط.
ذهب جمهور الفقهاء
ان العقد غير صحيح وان المنعقد عليه إذا ما أعقبه تسليم المبيع فهو عقد رهن. وله جميع أحكام الرهن. ومنها عدم تصرف المشتري بالمبيع إلا بإذن مالكه لأنه لا يملك المبيع.
الفقه الحنفي:
إن الخيار للبائع ولم يحدده بوقت وكأنه يريد أن يثبت حق البائع في خيار الشرط مثل حق المشتري، ثم علق هذا الحق بالخيار بعدم تمام السبب وهو العقد عند وجود الشرط وجعل هذا التخويل قياسا على الحق الذي دعا أليه الشرع[36].
الفقه الشافعي:
اعطى الخيار للعاقدين أو احدهما ولكنه يوجب في الحالتين تعيين مدة خيار الشرط بثلاثة أيام، كما يوجب شرط القبض في المجلس[37].
ثم نقل عن الشافعي قوله((بجواز تصرف البائع في المبيع إذا كان قد جعل لنفسه الخيار ببيعه أو هبته واستدل لقوله هذا بان البائع يتصرف في ملكه فهو يملك العقد لان العقد كان معلقا بخياره، وما يكون للمشتري وهو لا يملك إلا غير انتظار فسخ العقد)).
الفقه الحنبلي:
أجاز خيار الشرط للبائع وقالوا((ولا فرق بين كون الخيار لهما أو لاحدهما ولكنهم رأوا تصرف المشتري بالمبيع يسقط حق البائع في الخيار أو استرجاع المبيع ثم انهم يرجحون الرأي القائل بان بيع الوفاء غير صحيح لان فيه شرط رد المبيع إلى البائع فيقولون (والصحيح انه لا يصح شيء من هذه التصرفات لان المبيع يتعلق به حق البائع تعلقا يمنع جواز التصرف فمنع صحته كالرهن))[38].
الفقه المالكي:
ذهب مالك إلى جواز خيار الشرط من البائع أيضا، وإن المبيع لا يعد باتا إلا بمحض الخيار ولكنه لم يحدد مدة الخيار[39].
الفقه الجعفري:
خيار الشرط: وهو يثبت باشتراط المتعاقدين أو احدهما أي حق الفسخ لهما معا أو لاحدهما خلال مدة معينة يتفقان عليها وخلال مدة الشرط يحق لصاحب الخيار فسخ المعاملة والرد حتى من غير سبب، والرواية النقية توضح لنا هذا الخيار:
سئل الإمام الصادق 7 عن رجل مسلم احتاج إلى بيع داره فجاء إلى أخيه فقال: أبيعك داري هذه تكون لك احب إلي من أن تكون لغيرك، على أن تشترط لي إن أنا جئتك بثمنها إلى سنة أن تعيدها علي. فقال الإمام 7: لا بأس بهذا أو جاء بثمنها إلى سنة ردها عليه). ويجري خيار الشرط في كل العقود باستثناء عقد النكاح[40].
ومما تقدم نرى أن المحور الذي يدور عليه هو الفرق بين عقد الوفاء وعقد الرهن وهو ما يتعلق بحق تصرف المشتري بالمبيع ومن هذا نرى أن جمهور الفقهاء قد مالوا إلى اعتباره عقد رهن وليس بيعا، بل أن فريقا من الفقهاء اعتبروه تحايلا ومراوغة للتهرب من الربا. ولو انه قد جاء بصيغة البيع في إيجاب وقبول وهما ركنا عقد البيع الموجب للملكية. وذلك لان انتفاع البائع بالثمن وانتفاع المشتري بالسلعة يعد صورة قريبة من القرض الذي يجر منفعة وانه قريب من الزيادة الربوية المحرمة، حيث ان المتعارف عليه هو ان خيار الشرط الممنوح للبائع للمشورة والاستفسار وليس لاستعادة المبيع الحتمية لهذا لا يفسر هذا التصرف من البائع الا بالتحايل إلى الربا[41].
ومن هذا كان هذا البيع من البيوع التي تحمل شبهة الربا ولكنها في كلياتها يمكن اعتبارها استثناء من الربا وذلك بجعل البائع فيه خيار الشرط الاعتيادي بيده واحتبس البذل عند المشتري دون تصرف فيه.ولما كانت القاعدة الفقهية الشرعية تقول: (العبرة في العقود للمقاصد والمعاني وليس للالفاظ والمباني) وحيث ان مقصد المتعاقدين هو عقد بيع الوفاء لذلك عدَّه الفقهاء عقد بيع الوفاء واستثنوه من ربا المفاضلة.
الخاتمة
إن الشريعة الإسلامية نظام يعتمد على الوحي الإلهي من خالق الإنسان وهو العليم بما يصلح ويسعد البشرية لهذا منعت التعامل بالتفاضل الربوي بين الهيئات والأفراد، وذلك لمنع الاستغلال الذي دائما يكون ضحيته الفئات الضعيفة في المجتمع.
وهذا الاتجاه أكده القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة وأوضحها الأئمة الأطهار وفقهاء المسلمين حيث انهم أكدوا أن الثروات والأموال أن تكون في خدمة جميع الناس وان ملكيتها لله تعالى وما هي إلا ودائع بيد البشر لتنفق في اوجه الخير والنفع العام، ولهذا حرم الله تعالى الربا لمنع تسلط القوي الغني على الضعيف الفقير. وبخاصة في مجاملات المعاملات المالية التي لا يستغني عنها الناس تطبيقا للمبدأ الاقتصادي لأنه لا يجوز للأموال أن تربح بنفسها وبخاصة الذهب والفضة لأنها أثمان وأقيام وموازين ويجب أن تربح مع العمل والجهد والانتفاع، كما أكدت على مبدأ ثان وهو ان الشريعة السمحة لا تسمح بان تكون منفعة فريق من الناس على حساب خسارة فريق آخر. وإنما الأموال يجب أن تنفق في مجالات المصالح والمنافع الحقيقية ويكون مردودها للمجتمع وليس للفرد فقط. ولكن مع هذا رأينا الشريعة السمحة ومع نصوص التحريم قد اقرَّت استثناء بعض العقود من التفاضل الربوي عندما وجدت الحاجة إليها في المعاملات التي يعتمد عليها الضعفاء لتعود عليهم بالمنافع وتيسير حاجاتهم ومصالحهم بما يحقق المصلحة للفرد والمجتمع.
ولهذا أرى أن ننظر إلى بعض حالات الربا الضرورية نظرة واقعية تلائم معطيات العصر الذي نعيشه الآن آخذين بنظر الاعتبار العرف والعادات والقوانين المعمول بها في أراضي الشريعة الإسلامية وأراضي المعمورة الباقية. لأن الربا يعد الآن من اكثر الموضوعات. الاقتصادية والدينية أهمية، لوجود مسائل كثيرة تتعلق به يحتاج بحثها إلى تعمق دراسة الأبحاث العملية التي أجراها علماء الاجتماع والقانون ومقارنتها بالنصوص التي وردت بشأن مسألة تحريم الربا لكي تنجلي على ضوء ذلك جميع الابهامات المتعلقة بالربا أو أكثرها.
ان هناك من المسائل الواقعية الكثيرة التي تتطلب الحل.
الموقف من امرأة أو قاصر يقتصد في مصاريفة ويفكر بعاقبة أمره فيوفر مبلغا ليكون له عونا في المستقبل أمام مشكلة المحافظة على هذا المبلغ فهو يخشى أن تمتد عليه يد آثمة فتسرقه منه أو أن جعله تحت تصرف شخص آخر فقد يتبدد ولا يستطيع الحصول عليه وقت حاجته وان تركه في إحدى المؤسسات الحكموية أو الأهلية (المصارف) ستشوبه شبهة الربا المحرمة.
كما ان الأعمال الصناعية والزراعية والأعمال المتعلقة بالنقل والتجارة في عصرنا هذا لايمكنها أن تنتعش بدون رؤوس الأموال الكبيرة التي تتطلب تأمين القسم الأعظم منها عن طريق القروض المصرفية.
إضافة إلى أن كثير ما يقع العامل أو الصانع أو الزارع في ضائقة مالية لا يحلها إلا قرض يسير من المصرف يكون نعمة كبيرة له مع كونه ذا فائدة (ربا)ولكن تحريم الفائدة يغلق الطريق أمام مثل هذه الحلول مما يؤدي إلى حرمان عائلة كاملة في اكثر الأحيان. أليس قرض بناء المساكن والقروض المعطاة لفتح مجالات العمل تعتبر (مع كونها مصحوبة بالفائدة) وسيلة لرفاه الطبقات المحرومة؟ وهذا معناه حرمان هذه الطبقات من هذه الوسيلة وستظل تحت وطأة الفقر والحرمان إذن علينا أن نأخذ برأي آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي في أحكام المعاملات، ص 145 الذي جاء اجتهادا وقياسا لما نصت عليه الشريعة الإسلامية السمحة التي جاءت رحمة للعالمين:
((اخذ الربا حرام وكذلك دفعه والشهادة عليه وكتابته والحرمة ثابتة، بلى إلا الاضطرار قد يجوز المحظور كحالة استثناية ضرورية ولكنه لا يتحول حكم الحرمة إلى حكم الحلية بصورة كلية لذلك فان الضرورة تقدر بقدرها)) وتعني هذه الحرمة القاعدة إن الضرورة إذا أباحت القيام بعمل محظور شرعا يجب أن يكون الخرق في حدود ارتفاع تلك الضرورة فقط وليس بشكل مطلق. فان كان الجوع مثلا يهدد حياة الإنسانولم يكن ما ينقذه غير أكل الميتة، فان أجازت الشريعة له ذلك فلا يعني تناولة الميتة إلى حد الشبع والامتلاء بل يجوز له الأكل منها بقدر ارتفاع خطر الموت فقط، وليس اكثر من ذلك قيل (في مثل آخر) بجواز الاقتراض من المصارف الربوية في حالة الاضطرار في هذه الخطوة يجب أن تقتصر على حدود الضرورة فعلا. فإذا كانت الضرورة هي الاقتراض لمعالجة مرض عضال (مثلا) فان الاقتراض ينبغي أن يتحدد في المبلغ الذي يحتاجه لواجب المعالجة وملابساتها الضرورية فقط، أما اقتراض مبلغ اكبر للقيام بأمور أخرى غير ضرورية في البين فلاوهكذا.
آمل أن يكون بحثي هذا (إن شاء الله) بادرة خير للمشرعين في تشريعاتهم المستقبلية في معالجة موضوع الربا لتحقيق الأمن والمنافع للعباد والبلاد.
المصادر
1ـ المنهاج، يحيى بن شرف النووي في مغني المحتاج، مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر، 1958.
2ـ منهج الجليل على مختصر العلامة خليل، طبعت الاوفسيت.
3ـ الموطأ، الامام مالك في الشرح المسمى بتنوير الحوالك، للسيوطي، مطبعة مصطفى محمد.
4ـ نيل الاوطار، محمد بن علي الشوكاني، المطبعة العثمانية المصرية، 1357.
6ـ الوجيز في أصول الفقه، عبد علي زيدان،ط1،دار النذير، بغداد، 1962.
7ـ الهداية في شرح بداية المبتدئ، علي المرشداني المرعنتاني، مطبعة محمد علي صبيح، مصر.
الهوامش
[1] الربا من الفعل (ربا) بمعنى زاد و منه قوله تعالى (و ترى الارض هامدة فاذا انزلنا عليها الماء اهتزت و ربت. سورة الحج /5).
[2] النسيئة من الفعل (نسأ) بمعنى أخر وأجل (المعجم الوسيط،ج2، ص923).
[3] محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي ـ احكام القرآن ـ القسم الأول ص241.
[4] عبد الله بن احمد بن محمد بن قداحة(630). المغني، ج4،ص3، مطبعة الامام بالقلعة بمصر / تحقيق الدكتور محمد خليل هراس.
[5] نفس المصدر السابق.
[6] السيد محمد تقي المدرسي، احكام المعاملات، ص146.
[7] تشقوا: تزيدوا عليها أي ترجوا.
[8] ابن حجر العسقلاني، بلوغ المرام من ادلة الاحكام، ص170، رقم الحديث 825، مطبعة مصطفى محمد بالقاهرة.
[9] ابن حجر العسقلاني: بلوغ المرام من ادله الاحكام _ص 170رقم 852 مطبعة مصطفى محمد بالقاهرة.
[10] المرجع السابق نفس الصفحة _ رقم الحديث (852) وينضر صحيح الامام مسلم ,ج 5 ,ص 42_45.
[11] مختلف الشيعة في احكام الشريعة –للفقيه حسن يوسف مطر- العلامه الحلي ج 212 ابواب احكام العقود , الباب الثامن ص 424.
[12] ابن قدامة، المغعني،ج4،و صحيح مسلم، ج5،ص43.
[13] جعفر بن الحسن المعروف بالمحقق الحلي، شرائع الاسلام، المجلد الأول، القسم الثاني، ص179،دار مكتبة الحياة في بيروت عام 1978.
[14] السيد محمد تقي المدرسي، احكام المعاملات، ص 185.
[15] علي المرغيناني، الهداية، ج3،ص46ـ47.
[16] ابن رشد بداية المجتهد،ج2،ص131ـ132.
[17] السيد محمد تقي المدرسي، احكام المعاملات، ص 185.
[18] نقس المصدر السابق، ص185.
[19] نفس المصدر السابق، ص 186.
[20] السَلَم بفتح السين و اللام و سل فيما نقل عن المازردي، ان السلف لغة اهل العراق و ان السلم لغة اهل الحجاز و هو السلف القديم راس المال و تسليمه في المجلس، فالسلف اعم (نيل الاوطار للشوكاني، ج5،ص226)المطبعة العثمانية المصرية، ط1، 1357هـ.
و في اللغة:السلف ماقدم من الثمن على المبيع وفي المعاملات: القرض الذي لامنفعة للقرض فيه. ويفيد ايضاً بيع السلم.
السلم: فهو بيع شي ء موصوف في الذمة بثمن عاجل (المعجل الوسيط، ج 1، ص 446-448، مجمع اللغة العربية. (1380-1960)
[21] سورة البقرة، الآية 280ـ281.
[22] سورة البقرة، الآية 283.
[23] الفرخ الرازي، التفسير الكبير، ج7، ص115ـ 116.
[24] السيد محمد رشيد رضا، تفسير المنار، ج3،ص120.
[25] نبيل الاوطار، ج5،ص226.
[26] علي المرغيناني، الهداية ـ ج3، ص52ـ53.
[27]نفس المصدر السابق،ص53.
[28] السيد محمد تقي المدرسي، احكام المعاملات، ص179.
[29] نفس المصدر السابق.
[30] الشوكاني، نيل الاوطار، ص 225ـ226.
[31] محمد عايش، فتح الجليل، على مختصر العلامة خليل، ج3، ص38.
[32] تقي الدين الدمشقي، كفاية الاخيار، ج1،ص142.
[33] محمد بن علي الشوكاني، نيل الاوطار، ج5،ص226،ط1، 1357، المطبعة العثمانية المصرية.
[34] د. عبد الكريم زيدان، الوجيز في أصول الفقه، ص221، ط1، 1382هـ ـ 1962م مطبعة دار النذير بغداد.
[35] الفتاوى الهندية المسماة بالفتاوى العالمكيرية، ج3، ص208ـ 207. دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1980.
[36] علي المرغياني، الهداية، ج3، ص22.
[37] النووي في المنهاج فيى مغني المحتاج للشربيني الخطيب، ج2،ص46ـ47.
[38] ابن قيامة، المغني، ج5، ص 514.
[39] الإمام مالك، الموطأ في شرحه تنوير الحوالك للسيوطي، ج2،ص 9، مطبعة المصطفى محمد.
[40] يختلف الشيعة في احكام الشريعة، ج12، كتاب التجارة ابواب الخيار، ص 355، الباب 8، ج1،للعلامة الحلي.
[41] علي قراتمة، دروس المعاملات الشرعية، ص196، مطبعة الفتوح، مصر.