محاضرات فقه الدولة - المحاضرة 57
كان الكلام في جواز تدخل الدولة للمنع من الاحتكار في الأسواق وهل يجوز لها التدخّل لوضع التسعيرة في الأسواق أم لا؟
الظاهر أن المستفاد من الأدلة أن التسعيرة بمقتضى حكمه الأولي هو الحرمة والمنع وقد ادعى في مفتاح الكرامة الإجماع على حرمته وقامت عليه الأخبار المتواترة أيضاً كما هو الملحوظ في السرائر والمبسوط والتذكرة، لكن إذا سبب التجار إجحافاً أو غبناً أو إضراراً بالناس فمقتضى الحكم الشرعي هنا هو التدخل لرفع الظلم والفساد، ومن الواضح أن رفع الظلم قد يتم بواسطة إجبارهم على البيع ليكثر العرض في السوق وكثرة العرض يوجب انخفاض الأسعار، ويمكن أن يكون بواسطة تشجيع التجار الآخرين لأجل التنافس الحر بما يخفض الأسعار أيضاً، ويمكن بوسائل أخرى فإذا لم تنفع حينئذٍ يمكنها وضع التسعيرة، على ما ستعرفه من وجوه الجمع بين الأدلة.
ولعلّ من هنا قال في المقنعة: وله أن يسعرها على ما يراه من المصلحة، ولا يسعرها بما يخسر أربابها فيها، وفي وسيلة ابن حمزة أجبر على البيع دون السعر إلا إذا تشدد، وإن خالف أحد في السوق بزيادة أو نقصان لم يعترض عليه، وفي الدروس أيضاً لا يسعر عليه إلا مع التشدد، والظاهر أن المراد من التشدد هنا هو المبالغة في زيادة السعر بما يوجب الإجحاف ومن هنا قال في مفتاح الكرامة ناسباً ذلك إلى الوسيلة والمختلف والإيضاح والدروس واللمعة والمقتصى والتنقيح أنه يسعّر عليه إن أجحف في الثمن، وبذلك يجمع بين الأدلة الواردة على اجتناب النبي (صلى الله عليه وآله) لوضع التسعير وبين الأدلة الأخرى الناهية عن الضرر وما أشبه فإن الذي يلحظ كلا الطائفتين من الأدلة أن العنوان الأولي في الأسواق هو حرية السوق وحرية التعاقد واحترام الملكية ومشروعية المنافسة في الظروف الطبيعية المعتادة بلا ظلم ولا إجحاف.
كما أن مقتضى الأصل الأولي هو عدم سلطة إنسان على إنسان وهذا يقتضي الاقتصار على الحد الأدنى من تدخل الإدارة في شؤون الفرد والجماعة وهو ما بيناه لك من الإشِراف والرقابة فقط.
وأما الأدلة الثانية ناظرة إلى دليل السلطنة وتقيد حدود هذه السلطنة وتمنع من تصرّف الإنسان في ماله أو نفسه بما يجحف أو يضر بالآخرين.
وعليه فإذا سبب البائع أو التاجر أو جماعة التجار الإجحاف والظلم والإضرار والغبن وجب الوقوف أمام ذلك لتقدم أدلتها على دليل السلطنة ومقتضى الجمع بينها هو جواز تدخل الدولة لوضع التسعيرة ولكن بقدر الضرورة لا أكثر.
وعليه فإنه لا يجوز وضع التسعيرة إلا من باب آخر الحلول، وليس أولها بداهة أن حرمة مال المؤمن كحرمة دمه والناس مسلطون على أموالهم بحكم الشرع والعقل، ولا يجوز التصرّف في أموالهم إلا بإذنهم أو بمقتضى التجارة عن تراضٍ فلا يجوز الإجبار بأكثر من الضرورة الاجتماعية التي يحكم برعايتها العقل والشرع وهذه الضرورة ربما ترتفع بالأمر بإخراج المتاع وعرضه على الناس فقط، وحينئذٍ لا يجوز الانتقال إلى المرحلة الثانية، وربما يواجه الحاكم إجحاف المالك بما يعسر على المجتمع تحمله فيمنعه عن الإجحاف والإضرار فقط، ولا يضع عليه التسعيرة وبعد ذلك لا يجوز الانتقال إلى المرحلة الأشد كما ربما يمكن تشجيع حالة التنافس وتكثير العرض في الأسواق بما بطبعه الأولي يقتضي إنزال الأسعار، ومعها أيضاً لا يجوز الانتقال إلى مرحلة أشد، فإذا لم يتمكّن الحاكم من وضع معالجة للإجحاف والظلم بالطرق غير الإجبار على التسعيرة حينئذٍ يتمكن من وضع التسعيرة فإذا واجه الحاكم تعنتاً من المالك واستبداداً وعصياناً لأوامره الناجمة من الأدلة الشرعية فحينئذٍ هل يتمكن من التدخل بنفسه في بيع الأمتعة المحتكرة التي يراد لها زيادة الأسعار أم لا؟
احتمالان في المسألة، والظاهر أن جملة الروايات الواردة في المنع من التسعير ناظرة إلى الموارد الغالبة المتعارفة ولا تصل فيها النوبة إلى تسعير الحاكم، بل تنحل المشكلة بمجرد عرض المتاع وكثرته في السوق، وأما لو استبد المحتكرون وأرادوا زيادة الأسعار ولم يستجيبوا لقرار الحاكم فحينئذٍ يجوز له التدخل للمنع من ذلك، ولعلّ هذا ما يظهر من المسالك والروضة والجواهر وغيرها من كتب الفقه، ولعلّ ما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في كتابه إلى مالك الأشتر المتقدم ذكره ما يؤكد ذلك.
- المسألة الخامسة: في بيان بيت المال ومصارفه، والمستفاد من الأخبار والتاريخ أن بيت المال كان مكاناً كبيراً تجمع فيه أموال الدولة من الخمس والزكاة والجزية والخراج وغيرها، سواء كانت بعنوان أموال نقدية أو عينية، كالأغنام والابل والأبقار والتمور وسائل الغلات، ويجب على الحاكم أن يقسم بيت المال إلى ثلاثة أقسام:
- الأول: رواتب موظفي الدولة، والمحتاجين من الناس كما جعل رسول الله (صلى الله عليه وآله) راتباً لأسيد حينما جعله حاكماً على مكة، وكان عمر يعطي الراتب لكل من سلمان حينما ولاه المدائن وعمار حينما أرسله إلى الكوفة، وقد ورد في الأخبار أن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) قال حينما رأى النصراني المكفوف يتصدق من الناس: (أجروا له من بيت المال راتباً) كما فصل الفقهاء مسألة رزق القاضي من بيت المال بما قد يكفي في إثبات المطلب هنا.
- الثاني: ضرورات الدولة، من مصارف الجهاد وغيرها كما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) يجعلان قسماً من بيت المال لذلك، وقد قسم رسول الله (صلى الله عليه وآله) غنائم حنين تقسيماً مختلفاً على ما ورد في التاريخ لأن ضرورة الدولة تقتضي ذلك الاختلاف حينها.
- الثالث: إذا بقي في بيت المال شيء وكان غالباً ما يبقى قسمه الحاكم بين المسلمين بالتساوي، كما كان يفعله الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ثم حرفه عمر باجتهاده وزاد فيه عثمان حيث وزعه بين أهل عشيرته وقبيلته دون المسلمين لكن في عهد مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) أرجع مصارفه الزائدة إلى ما كانت عليه في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) والسبب للزوم التقسيم بالسوية بين المسلمين أنهم جميعاً جنود الإسلام واللازم أن يعطوا بالتساوي ولذا ورد في زيارة مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه القاسم بالسوية.
هذا والظاهر أنه يمكن للدولة الحرة أن تستثمر هذا المال الزائد في التجارة والصناعة وتوزع الأرباح على الشعب، وهذا يمكن أن يكون نوعاً من المضاربة أو التوكيل أو الشركة كما يمكن أن يكون نوع عقد جديد على اختلاف الصيغ التي يمكن الرجوع إليها في كيفية التعاقد، حتى يحكم موضوعاً بدخولها في أي عقد من العقود، وبذلك تضمن الدولة أموراً:
أحدها: رفع مستوى الدخل الفردي في البلد.
ثانيها: اتباع خطوات كبيرة تجاه التنمية.
ثالثها: تحقيق مقدار كبير من الأموال تحفظه الدولة لمصارفها العادية أو الطارئة.
وبذلك تستغني عن الديون الخارجية والداخلية، كما تستغني عن فرض الضرائب الزائدة عن الحقوق الشرعية التي هي من المحرمات بالعنوان الأولي، لكنه من الواضح أنه لا تتمكن الدولة أن تتصرف هذا التصرف إلا برضا الناس فيمكنها أخذ موافقة الناس بالتصويت المباشر أو التصويت غير المباشر لصرف الزائد من بيت المال في شؤون الاستثمار وتوزيع الأرباح على الأمة بالكيفية التي ذكرناها.
هذا والمستفاد من التاريخ أن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) قسم الزائد من بيت مال المدينة بالسوية فأعطى لكل إنسان ثلاثة دنانير، كما قسم بيت مال البصرة لكل إنسان ثمانمائة دينار، كما قسم بالسوية في الكوفة فيما جاءه من المال حيث جعله سبعة أسباع لكل محلة سبعاً حتى جعل الخبز الذي كان مع المال سبعة أقسام أيضاً ثم أقرع بينها وكل اسم خرج على واحد من هذه الأسماء أعطاه إياه. كما ويستفاد أيضاً انه كان لكل بلد بيت مال وكان بيت المال يقسم بين أهالي البلد بالسوية بعد استخراج الوظائف والطوارئ.
ولا يلاحظ في التقسيم بالسوية الغني والفقير وغيرهما، وكان بيت المال يجمع فيه الزكاة والخراج والجزية والخمس وغيرها من أموال الدولة، وكان لكل بلد بيت مال والتقسيم أيضاً لبيت المال في كل بلد بحسبه، ويدلّ عليه بالإضافة إلى ما عرفته من سيرة أمير المؤمنين في المدينة والبصرة والكوفة الروايات المتضافرة التي منها ما رواه الهاشمي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث أنه قال لعمرو بن عبيد: ما تقول في الصد قة؟ فقرأ عليه الآية (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) قال نعم فكيف تقسمها؟ قال: أقسمها على ثمانية أجزاء فأعطي كل جزء من الثمانية جزءاً، قال (عليه السلام): وإن كان صنف منهم عشرة آلاف وصنف منهم رجلاً واحداً أو رجلين أو ثلاثة جعلت لهذا الواحد ما جعلت للعشرة آلاف. قال: نعم. قال (عليه السلام): وتجمع صدقات أهل الحضر وأهل البوادي فتجعلهم فيها سواء. قال: نعم. قال (عليه السلام): فقد خالفت رسول الله (صلى الله عليه وآله) في كل ما قلت في سيرته، كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقسم صدقة أهل البوادي في أهل البوادي وصدقة أهل الحضر في أهل الحضر ولا يقسمها بينهم بالسوية وإنما يقسمها على قدر ما يحضرها منهم وما يراه وليس في ذلك شيء موقت موظف وإنما يصنع ذلك على قدر من يحضرها منهم.
والمستفاد من الرواية أمور ثلاثة هي:
- الأول: أن صدقات كل منطقة تصرف لأهلها وقد يشير إلى ما ذكرنا من أن لكل بلد بيت مال.
- الثاني: أنه كان التقسيم بحسب الأفراد لا بحسب الأصناف، فمثلاً إذا كانت ثمانية دنانير وستة عشر شخصاً أحدهم ابن سبيل وخمسة عشر فقيراً كان يعطي لابن السبيل نصف دينار كأحدهم لا أنه يعطي ابن السبيل أربعة دنانير باعتبار أنه صنف ويعطي الآخرين كل واحد أقل من نصف دينار باعتبار أنهم صنف أيضاً.
- الثالث: أنه كان يقسم بما يرى الحاجة إليه بالفعل، من دون نظر إلى الحاجات المحتملة مستقبلاً. ولعل المستفاد من قوله (لمن حضر) هو ما ذكرناه جمعاً بين الأدلة ولذا مثّل له بعضهم بأنه لا يترك شيئاً لليتيم المحتمل أن يحضر بعد ذلك فإذا لم يحضره يتيم أعطى ما عنده للذين حضروا ولا يراد بمن حضر أن الرسول (صلى الله عليه وآله) كان يعطي فقط من حضر عنده ممن أتى إلى المسجد مثلاً، بل يعطي بحسب التقسيم للكل لكن من دون ملاحظة أنه سيكون مثلاً في الرقاب مستقبلاً من يحتاج إليه فيترك قسماً من الزكاة له.
وعليه فإن المراد بمن حضر والتقسيم بحسب الحاجات الفعلية الواقعة، لا بحسب الحاجات المتصورة أو المحتملة، ويدل على ذلك التقسيم طائفة من الروايات منها ما عن ابن غياث قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: وسئل عن قسمة بيت المال فقال: (أبناء الإسلام هم أبناء الإسلام أسوي بينهم في العطاء، وفضائلهم بينهم وبين الله، أجعلهم كبني رجل لا يفضل أحد منهم لفضله وصلاحه في الميراث على آخر ضعيف منقوص، قال: وهذا هو فعل رسول الله(صلى الله عليه وآله) في بدء أمره).
وعن أبي إسحاق الهمداني أن امرأتين أتتا علياً(عليه السلام) عند القسمة إحداهما من العرب والأخرى من الموالي فأعطى كل واحدة خمسة وعشرين درهماً وكراً من الطعام، فقالت العربية: يا أمير المؤمنين إني امرأة من العرب وهذه امرأة من العجم، فقال (عليه السلام): (والله إني لا أجد لبني إسماعيل في هذا الفيء فضلاً على بني إسحاق) والظاهر أن جهة التفاضل التي أرادتها المرأة العربية أن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) كان من بني إسماعيل وكان منه العرب، أما بنو إسحاق فكانوا العجم وقد ذكره الإمام (عليه السلام) على سبيل المثال وإلا فليس كل عربي من بني اسحاق ولا كل عربي من بني إسماعيل.
هذا وعن دعائم الإسلام عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه أمر عمار بن ياسر وعبد الله بن أبي رافع وأبي الهيثم بن التيهان، أن يقسموا مالاً من الفيء بين المسلمين وقال: اعدلوا بينهم ولا تفضلوا أحداً على أحد، فوجد الذي يصيب كل رجل من المسلمين ثلاثة دنانير فأتوا الناس فأقبل عليهم طلحة والزبير ومع كل واحد ابنه فدفعوا إلى كل واحد منهم ثلاثة دنانير فقال طلحة والزبير: ليس هكذا كان يعطينا عمر؟ فهذا منكم أو عن أمر صاحبكم؟ - أي علي بن أبي طالب (عليه السلام) - قالوا: هكذا أمرنا أمير المؤمنين (عليه السلام). فمضيا إليه فوجداه قائماً في الشمس على أجير له يعمل بين يديه،فقالا : نرى أن ترتفع معنا إلى الظل قال (عليه السلام): نعم. فقالا له: إنا أتينا إلى عمالك على قسمة هذا الفيء فأعطونا كما أعطي سائر الناس. فقال: فما تريدان؟ قالا: ليس كذلك كان يعطينا عمر. قال: فما كان يعطيكما رسول الله (صلى الله عليه وآله) فسكتا.
فقال (عليه السلام): أليس كان النبي (صلى الله عليه وآله) يقسّم بين المسلمين بالسوية قالا: نعم. قال: فسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) أولى بالاتباع عندكما أم سنة عمر؟ قالا: سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولكن يا أمير المؤمنين سابقة منا وقرابة فإن رأيت أن لا تسوينا بالناس فافعل.
قال (عليه السلام): سابقتكما أسبق أم سابقتي؟ قالا: سابقتك. قال: فقرابتكما أقرب أم قرابتي؟ قالا: قرابتك. قال: فعناؤكما أعظم أم عنائي؟ قالا: بل أنت يا أمير المؤمنين أعظم عناءً. فقال: فوالله ما أنا وأجيري هذا في المال إلا بمنزلة واحدة وأومأ بيده إلى الأجير الذي بين يديه.
وعن اختصاص المفيد أن علياً (عليه السلام) ترك التفضيل لنفسه وولده على أحدٍ من أهل الإسلام فقد دخلت عليه أم هانئ بنت أبي طالب (عليه السلام) فدفع إليها عشرين درهماً فسألت أم هاني مولاتها العجمية فقالت: كم دفع إليك أمير المؤمنين (عليه السلام)؟ فقالت: عشرين درهم. فانصرف متسخطة، فقال (عليه السلام): لها انصرفي رحمك الله ما وجدنا في كتاب الله فضلاً لإسماعيل على إسحاق.
وفي حديث آخر ولّى (عليه السلام) بيت مال المدينة عمار بن ياسر وأبي الهيثم بن التيهان فكتب العربي والقرشي والأنصاري والعجمي وكل من في الإسلام من قبائل العرب وأجناس العجم فأتاه سهل بن حنيف بمولى له أسود فقال: كم يؤتى هذا؟ فقال له مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام): كم أخذته؟ فقال: ثلاثة دنانير وكذلك أخذ الناس. فقال (عليه السلام): فأعطوا مولاه مثلما اخذ ثلاثة دنانير.
وقد شرح السيد الشيرازي (رضوان الله عليه) في كتابه الفقه الاقتصاد في الجزء الثاني في صفحة 59 ما ورد في الرواية بقوله: إن الإسلام لاحظ أن لا يكون تساوي العجم والعرب والشريف والوضيع شعاراً، بل حقيقة في الخارج أنه وإن كان يخسر الوالي بالتقسيم بالسوية جمعاً من الذين يريدون الفضل في العطاء لكنه يربح أكثرية الناس لأن كل الناس يعرفون عدل الإسلام وعدم محاباته، وأنه يلاحظ إعطاء الحق لأهله بدون ملاحظة قوم أو لغة أو ما أشبه.. وبذلك يلتف الناس حول الإسلام ويدخلون في دين الله أفواجاً.
هذا ومن الواضح أن الذي يوجب تفرقة الناس سواء بالامتيازات اللغوية والقبلية أو بالامتيازات الشرفية يوجب تفرق الناس عن الإسلام لأن الناس غير مستعدين لأن يروا أن غيرهم يفضل عليهم بدون مبرر، أو لأن لونه أبيض أو لغته عربية أو لأنه شريف عرفاً، فإذا رأوا أن الوالي يعمل بهذه الامتيازات ويفرق بين الناس ويفاضل على هذه الموازين الجاهلية من الواضح أنهم ينفضون من حوله، وبالعكس فيما إذا رأوا الحاكم يرى الميزان الكفاءة ولا يقيم وزناً لأمثال هذه الموازين الجاهلية فإنهم يلتفون حوله، وهذا ما جرت عليه سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) حيث كان ينظر إلى بلال الحبشي وسلمان الفارسي وصهيب الرومي نظرته إلى أبي ذر العربي وعمار مثلاً، وكان قد تزوّج من مارية المسيحية الأصل وصفية اليهودية الأصل، كما تزود من خديجة العربية الأصل، وكان ينظر إلى الأسود نظرته إلى الأبيض وهكذا..
وكانت هذه إحدى أهم أسباب انتصار الإسلام وقوة نفوذه إلى يومنا هذا.
هذا والظاهر أن بيت المال كان يجمع فيه الخمس والزكاة والخراج والجزية بعنوان أنها الحقوق المالية الأولى في الإسلام وقد فصل ذلك الفقهاء في باب الخمس والزكاة وكذلك في أحكام الأراضي، وأما الجزية فلأنها الضريبة التي وضعت على الكافر كما وضعت الحقوق من الخمس والزكاة على المسلم فمحلها محل الزكاة والخمس.
والمستفاد من مجموع الأدلة كما في كتابي الخمس والزكاة من الفقه اجتماع هذه الأموال في بيت المال وأن يكون كيس الإمام وكيس المسلمين واحدة يعطيهم بقدر حاجاتهم والزائد له والناقص عليه، فإن العرف يفهم من مجموع الأدلة وحدة المخرج وإن كان أحدهما خمساً والثاني زكاة والثالث جزية والرابع خراجاً.
كما أن المستفاد من إباحة المعصومين (عليهم السلام) مصرف الخمس لشيعتهم هو جواز دخول الخمس في كيس غير السادة كما استفاده السيد الشيرازي (رضوان الله عليه) منها. كما ذكره في كتابه الفقه الاقتصاد في الجزء الثاني صفحة 65، خلافاً لبعض الفقهاء الذين رأوا لزوم التفريق بين الحقوق وجعل الخمس في كيس والزكاة في كيس، وصرف كل حق في موارده الخاصة المقررة.
هذا ولا يخفى أن مصرف بيت المال في مثل هذه الأزمنة ليس كمصرف وزارة الاقتصاد والمالية المتعارفة في الدول والحكومات، لأن هذه الوزارات تقوم بشؤون الموظفين ونحوهم، أما بيت المال فيمكن أن يكون مؤسسة مستقلة وتابعة للحاكم الشرعي سواء كان بنحو شورى الفقهاء أو كان الفقيه الجامع للشرائط، ويمكن أن يكون له فروع في البلاد لجمع الأموال وتوزيعها بحسب المقررات الشرعية في الجمع والتوزيع فإذا زاد عن حاجات المنطقة أرسل إلى بيت المال المركزي وإذا نقص عن حاجات المنطقة أخذ من بيت المال المركزي وبهذا يجمع بين الأدلة ويتحقق التكافل الاجتماعي بين عموم المسلمين فلا يحدث تمايز أو تفاضل أو طبقية في التعامل.
ويقوم هذا البيت بالإضافة إلى ذلك بأمرين آخرين:
- الأول: قبول الودائع المادية بدون ربا بل بصورة القرض إلى البيت ليصرفه هو في إقراض المحتاجين بدون ربا أو بصورة المضاربة لمن يريد العمل ليصرفه هو في إعطاء الطالبين بصورة المضاربة أو ليقوم هو بالمضاربة، وإذا ربح من وراء المضاربتين كان الربح لبيت المال وإذا خسر من وراءهما كانت الخسارة على بيت المال.
- الثاني: قبول الودائع الوقتية بعنوان الوديعة والعارية ليعطي المال في وقت طلب صاحبه فيكون كالجاري في البنوك الحاضرة، ويقوم البيت بشأن آخر مهم جداً هو الاتصال المالي بكل البلاد الإسلامية ليكون كالسوق المشتركة بين المسلمين فمثلاً يكون من العراق التمر ومن مصر القطن ومن أندونيسيا البن وهكذا، ويكون بيت المال واسطة للتبادل التجاري فيغطي حاجات المجتمع الإسلامي بكافة شرائحه من دون وساطة الأجانب أو الشركات الغربية وما أشبه ذلك، وبذلك يكون هذه خطوة لاستقلال الاقتصاد الإسلامي عن الاقتصاد الغربي ويرفع من هيمنة الاستعمار على المسلمين كما يكون خطوة كبيرة جداً في اتجاه الاكتفاء الذاتي.
- المسألة السادسة: في الموارد المالية للدولة الإسلامية، إذ لا يخفى أن التكافل الاجتماعي من ثوابت الشريعة الإسلامية التي يجب على الدولة أن تسعى لتحقيقه، وهو من موارد الوجوب الكفائي في مجالات كثيرة من حاجات الفرد والمجتمع، إذ لا يجوز من الناحية النظرية التشريعية أن تكون في المجتمع المسلم أسرة أو شخص لا يجدان كفايتهما من الحاجات الحيوية بحسب المستوى المتعارف في المجتمع، وقد وضع الإسلام نظاماً مالياً حقوقياً يضمن هذا التكافل.
فأول تكليف في الحقوق المالية هو وجوب الخمس والزكاة وكلاهما أمر مالي يأخذه الإسلام ممن له مال خاص ليصرفه عادة في أمرين:
الأول: مصالح المسلمين.
الثاني: الفقراء والمعوزين.
والخمس يتعلق بأمور سبعة هي:
1- غنائم دار الحرب.
2- أرباح المكاسب.
3- الغوص.
4- الكنوز.
5- الحلال المختلط بالحرام.
6- في أرض الذمي التي اشتراها من مسلم.
7- المعدن.
والزكاة تتعلق بأشياء تسعة هي الغلات الأربع أي الحنطة والشعير والتمر والزبيب والأنعام الثلاثة أي الإبل والبقر والغنم. والنقدان أي الذهب والفضة، والخمس عشرون في المائة والزكاة أعلاه العشرة في المائة وهو فيما سقت السماء من الغلات وأدناه الواحد في المائة نصاب الشياه إذ في كل أربعمائة شاة شاة واحدة، وهذان الحقان يشكلان العمود الفقري للضرائب الإسلامية وعادة ما يشكلان ربع الموارد أي إذا جمعنا الخمس والزكاة معاً يصبح في الميزانية العامة حوالي خمس وعشرين في المائة تقريباً.
هذا ويقسم الخمس إلى قسمين: الأول للإمام المعصوم (عليه السلام) ونائبه في صورة الغيبة وهذا ما يسمى بسهم الإمام، الثاني لذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله) من اليتامى والمساكين وابن السبيل ويسمّى بسهم السادة.
وقد ورد ذكر ذلك في الآية الشريفة في قوله عز وجل: (واعلموا أن ما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) فما كان لله والرسول والإمام المعصوم هو سهم ذوي القربى أي قربى الرسول ويسمى بسهم الإمام، ويعطى له في حالة حضوره، وفي حالة غيبة الإمام يعطى إلى نائب الإمام وهو الفقيه العادل الجامع للشرائط ليصرفه في مصالح المسلمين، وما كان لليتامى المعوزين والفقراء المساكين وأبناء السبيل المنقطعين يسمى بسهم السادة ويصرف في مصرف هؤلاء ممن لا يقدر على العمل ولا وارد له.
وأما الزكاة فتقسم في ثمانية أقسام كما ذكرت الآية الشريفة مواردها في قوله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم والغارمين وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل) فإن الأول أي الفقير يراد به من له حاجة لا يتمكن من تسديدها، والثاني أي المسكين هو من أقعده الفقر وأسكنه عن فعل شيء فهو أسوأ حالاً من الفقير، والثالث وهو العامل عليها من يجبي الزكاة للإمام المعصوم أو الفقيه الجامع للشرائط، والرابع أي المؤلفة قلوبهم هم الكفار إذ يعطون المال لأجل تقريبهم إلى الإسلام، ويشمل أيضاً المسلم الضعيف الإيمان فيعطى المال لأجل تقوية إيمانه، والخامس أي الغارم فهم الذين لهم دين لم يصرفوه في عصيان الله ولا يقدرون على أداءه أحياءً كانوا أو أمواتاً كما ليس لهم من يصرفه الورثة في أداء ديونهم، السادس الرقاب وهم العبيد الذين هم تحت الشدة من جهة الأسياد فيشترون من الزكاة ويعتقون، السابع وهو في سبيل الله والمراد به كل ما كان فيه مصلحة للإسلام والمسلمين مما ينطبق عليه عنوان سبيل الله سبحانه، والثامن هو ابن السبيل والمراد به من انقطع في السفر فلا يجد ما يوصله إلى أهله.
وهنا أسئلة ومباحث عديدة جديرة بالمطالعة والمراجعة لكن لا مجال للتعرّض إليها فمن أراد التفاصيل يمكنه الرجوع إلى كتاب الخمس والزكاة من الفقه كما يمكنه الرجوع إلى الفقه الاقتصاد للسيد الشيرازي (قدس سره) في ج2 ص37.
وأما المال الثالث الذي يأخذه الإسلام ابتداء وبحسب الحكم الأولي هو الجزية وهي تؤخذ من الكفار في مقابل الخمس والزكاة اللذين يؤخذان من المسلمين وإنما سمي هذا المال جزية لأن معناها الاقتطاع، وفيه نوع إهانة أدبية لأن الزكاة معناها النمو والخمس معناه الجزء من المال، وأما الجزية فمعناها القطع من الكافر، وكأن ماله لا احترام له فيقطع له وهذا نوع من الضغط الأدبي كسائر الضغوط الأدبية لأجل أن يرجع عقلاؤهم إلى أنفسهم ويلتفتوا إلى بطلان عقائدهم بواسطة فتح الحوار مع المسلمين فبالحوار يتوصّلوا إلى أن عقيدتهم خرافة وان نظامهم ليس صحيحاً ولو كانوا من المنصفين يتوصلوا إلى احقية الإسلام وصحة عقيدته وعدالة نظامه ويكون لهم الداعي في الإيمان بالإسلام، في تفصيل لسنا بصدده الآن.
هذا والذي ربما نستظهره تبعاً للسيد الأستاذ (أعلى الله مقامه الشريف) في كتاب الجهاد من الفقه أن الجزية تؤخذ من سائر الكفار أيضاً حتى وإن لم يكونوا من أهل الكتاب إذ لا دليل يعتمد عليه في لزوم تغيير سائر الكفار بين القتل والإسلام، وعلى هذا فالإسلام يأخذ من المسلمين الزكاة والخمس ومن الكفار الجزية، وذلك في مقابل توفير الحماية لهم والقيام بمصالحهم وقدر الجزية كما يقرره الإسلام بدون أن تؤخذ من النساء والأطفال والرهبان والمقعدين والفقراء منهم، بحسب ما يراه الحاكم الشرعي من المصلحة في تفصيل لا يسعنا المجال لبيانه.
وفي صحيح زرارة قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما حد الجزية على أهل الكتاب وهل عليهم في ذلك شيء موظف لا ينبغي أن يجوز إلى غيره؟ فقال: ذلك إلى الإمام يأخذ من كل إنسان ما شاء على قدر ما يطيق.
هذا ولا يخفى أنه لا خمس ولا زكاة على الكافر كما يدل عليه ما رواه ابن مسلم عن الصادق (عليه السلام) في حديث قال: (وليس للإمام أكثر من الجزية).
وأما المال الرابع الذي تأخذه الدولة هو الخراج والمقاسمة وهما ليس شيئين وإنما شيء واحد باسمين باعتبارين وهو ما تأخذه الدولة في قبال إجارة الأراضي المفتوحة لمن استئجرها منها.
وعليه فإن قدرت الدولة مقداراً خاصاً من المال في مقابل الإجارة سمي ذلك خراجاً، لأنه خرج من كيس الزارع ونحوه إلى كيس الدولة، وإن قدرت الدولة نسبة خاصة ولم تعين مقدار كالثلث والربع والنصف من الأرباح سمي حينئذٍ مقاسمة لأن الدولة والعامل يتقاسمان الربح.
هذا أصل الحقوق المالية والموارد المنصوص عليها في الإسلام بمقتضى الحكم الأولي، وبعد هذه الحقوق المالية الأربعة فقد حرم الإسلام الضرائب الأخرى التي تضعها الدول على الناس بعناوين مختلفة، فلا يجوز للدولة وضع الضرائب من ناحية الحكم كما أن الدولة الإسلامية تقوم على نظام عادل ومتوازنٍ في سلطاتها ودوائرها بحيث ينتفي الموضوع للحاجة إلى الضرائب ولذا قلنا فيما سبق أن مصارف الدولة الإسلامية قليلة جداً فلا تحتاج معها إلى وضع الضرائب وذلك لأنها أولاً توفر للناس كل الحريات الممكنة فلا حاجة لها بمزيدٍ من الدوائر والموظفين لتطبيق القرارات والقوانين وإجراء الروتين الكثير في المجتمع الذي في مجموعها تشكل كبتاً وخنقاً للجميع.
- ثانياً: أن الدولة تشتغل بالتنظيم الاجتماعي وإقامة العدل وإعطاء الحوائج الضرورية والتقديم بالأمة إلى الأمام فتترك التجارات والصناعات والزراعات وغيرها للأمة فلا تحتاج إلى موظفين كثيرين يستهلكون المال ويقومون بهذه العمليات.
- ثالثاً: إن إيمان الناس بالله واليوم الآخر يوجب استقامتهم مما يجعل الدولة في غنىً عن تكثير أجهزة الشرطة والبوليس كما أن الدولة العادلة تتجرد عن الغموض والكبرياء الموجب لصرف الكثير من المبالغ لأجل تظاهرها بالقوة، كما أن الإسلام يحرم الجاسوسية والتجسس ومراقبة الناس ومعها تبطل الحاجة إلى الكثير من أجهزة المخابرات والأمن على ما يعبرون عنه، والذين عادة ما يثقلون خزائن الدول بما يضرها كثيراً.
- رابعاً: أن أفراد الدولة من مسؤولين وموظفين يعيشون عيشة بسيطة مساوية لعموم الأمة فلا تشريفات زائدة له تستنفذ المال ولا إسراف ولا تبذير في الصرف كما عرفته، وبعد هذا وذاك لا تبقى حاجة إلى وضع الضريبة وعلى فرض الحاجة في الطوارئ والاستثناءات فإنه يحق للدولة وضع الضريبة لكن مؤقتاً لأنه ضرورة وهي تقدر بقدرها، كما أخذ مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) الزكاة من الفرس، وجعل بعض الأئمة (عليهم السلام) في بعض السنين خمسين مكان خمس واحد.
هذا بالإضافة إلى أنه في الطوارئ وخصوصاً في مثل الحروب والكوارث يجب على عموم المسلمين الجهاد بالأنفس والأموال وهذا ما ربما يكفي عن وضع الضريبة، ومن الواضح أن القدر الذي تحتاج إليه الدولة في غير حالة الاضطرار احتياجاً لأجل موظفيها القليلين والمصالح العامة كالشوارع والجسور والمدارس ولأجل المصالح الخاصة كالفقراء والمحتاجين ليس أكثر من ربع وارد الناس على الأغلب وإنما قلنا على الأغلب لأن ربع الوارد ليس على كل الوارد، إذ ليس الزكاة على غير التسعة كما ليس الخمس على غير السبعة، ولذا ورد في الأحاديث الشريفة كفاية ضرائب الإسلام لحاجات الدولة والمجتمع، ففي صحيح محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: (إن الله عز وجل فرض للفقراء في أموال الأغنياء ما يسعهم ولو علم أن ذلك لا يسعهم لزادهم إنهم لم يؤتوا من قبل كلمة الله عز وجل ولكن أوتوا من منع من منعهم حقهم لا مما فرض الله لهم، ولو أن الناس أدوا حقوقهم لعاشوا بخير). وعن معتب مولى الصادق (عليه السلام) قال: سمعت الصادق (عليه السلام) يقول: (إنما وضعت الزكاة اختباراً للأغنياء ومعونة للفقراء ولو أن الناس أدوا زكاة أموالهم ما بقي مسلم فقيراً محتاجاً واستغنى بما فرض الله له، وإن الناس ما افتقروا ولا احتاجوا ولا عروا إلا بذنوب الأغنياء وحقيق على الله تعالى أن يمنع رحمته عن منع حق الله في ماله.
وبذلك يظهر حرمة أخذ الجمارك والمكوس التي تسمى في الإسلام بالعشر، لأنه كان يؤخذ العشر من الأموال في ذلك الزمان، ولذا يجب على الدولة الإسلامية رفع مثل هذه الضرائب. نعم إذا كان في رفع الحجر لدخول البضائع الأجنبية أو خروج البضائع خوف تحطم اقتصاد الإسلام بسبب الهيمنة الأجنبية أو بسبب الضعف والاختلاف الاقتصادي أو غير ذلك من الأضرار الكبيرة كان اللازم على الحاكم الإسلامي المنع من ذلك، لأنه المكلف بعدم تضرر المسلمين فإن أنكر ذلك الرفع بالتعسير كان مقدماً لأن المحرمات فيها التعذير، وإن لم يمكن بالتعذير فالظاهر أن للحاكم حق الحبس أو المصادرة وجعل الضريبة عليه من باب الأهم والمهم، لكن كل هذه العقوبات ينبغي أن تكون بقدرها ومؤقتة لأنها ضرورات، وإنما قلنا بجواز السجن لأن المستفاد من روايات السجن المختلفة التي ذكرها الفقهاء في باب القصاص بالمناسبة أن على الحاكم الحبس إذا رآه رادعاً أو موجباً لأداء الحق، ولذا ذكر الفقهاء حبس الحاكم للقاتل حتى يأتي الولي الغائب أو نحو ذلك مع أنه ليس فيه نص بالخصوص، إلى غير ذلك من الموارد التي ذكرت في الروايات والفتاوى.
وأما المصادرة وجعل الضريبة فلأن الأضرار يعطي للحاكم حق الإتلاف والمصادرة وجعل الضريبة أهون فيفهم منه بالفحوى كما أتلف رسول الله (صلى الله عليه وآله) مسجد ضرار وذلك لإضراره، ولذا سمي بمسجد الضرار، كما أمر الأنصاري بأن يقلع شجرة سمرة ويرمي بها وجهه مع أن قيمتها مقلوعة قليلة جداً بالنسبة إلى قيمتها مغروسة إلى غير ذلك.
لكن من الواضح أن الحكم بذلك ليس أولياً بل هو حكم اضطراري ثانوي والضرورات تقدر بقدرها، ومن مسائل المكوس يعرف البحث في سائر الضرائب التي تضطر الدولة أحياناً إلى وضعها فإنها أيضاً ينبغي أن تخضع إلى الضرورات التي تقدر بقدرها.
هذا وللسياسة الاقتصادية في الدولة الإسلامية موارد ومسائل كثيرة أعرضنا عن ذكرها لضيق المجال.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين..