محاضرات فقه الدولة - المحاضرة 54
ذكرنا فيما تقدم الجهات التي ينشأ فيها الاختلاف بين الناس عادةً، وقلنا أن هناك ستة جهات يختلف الناس بسببها:
- الأول: اختلاف الاجتهاد.
- والثاني: اختلاف المصالح فإننا نرى كثيراً اختلاف المصالح بين الناصحين والصالحين من الناس مما يترتب عليه اختلاف النتيجة فمثلاً الطبيب المتعب الذي أتى إلى داره في ساعة متأخرة من الليل فإن مصلحته ومصلحة عائلته تقتضي أن يستريح ويخلد إلى الراحة والنوم، بينما مصلحة المريض الذي يرزح تحت ألم المرض تقتضي أن يذهب إلى الطبيب ويوقظه من نومه لأجل المعالجة وكذلك مصلحة البائع تقتضي أن يبيع سلعته مثلاً بمائة بينما مصلحة المشتري تقتضي أن يشتريها بتسعين مثلاً، وهكذا مع أن هذا الاختلاف اختلاف في المصالح وليس ناشئاَ من الاجتهاد في الرأي.
كما نرى أيضاً أن الاختلاف قد ينشأ من الاحساسات الباطنية الشعورية أو الظاهرية فإن مشاعر الناس تختلف وتتعدد وكلٌّ ينطلق من إحساسه ومشاعره في مواقفه، وهذا أمر طبيعي لا يمكن إلغاؤه أو تجاهله أو المنع منه فمثلاً نفران من الضباط يختلفان في الشجاعة والخوف فليس الخائف باختياره الإقدام في مواقع الشجاعة وليس للشجاع الإحجام بسبب الخوف أو الجبن، ولذا في المواقع الحساسة نرى أن الأول يرى الإقدام بينما الثاني يرى الإحجام، وهكذا في الكريم والبخيل والهميم وفاتر الهمة.
وهكذا مع أن الواقع واحد وهو إما يطابق أحدهما أو يطابق كليهما مع أرجحية أحدهما أو المساواة بينهما، كما قد يخالف كليهما ولهذا بحث طويل لا يسعنا الدخول فيه.
وأما الاختلاف الناشئ من العلم والجهل فهو كثير جداً كما هو مقتضى محدودية الإنسان ونقصانه وعجزه عن الوصول إلى الواقع في الكثير من الأحيان، فإذا رأت الدولة حصول الاختلاف ولم يرجع إلى واحد من الأمور المتقدمة فحينئذٍ يمكن أن ترجع ذلك الاختلاف إلى الدوافع والأغراض السيئة بداهة أن صاحب الغرض السليم إذا أرشد إلى الحق قبله وإذا جهل الواقع تعلمه، والاختلاف الشعوري غالباً ما يكون غير اختياري وإن كانت مقدماته أحياناً اختيارية واختلاف المصالح أمر طبيعي ويجب على الإنسان أن يرعى مصالحه ويدافع عنها ما دامت في ضمن الموازين الصحيحة، وهذا ما يحكم بحسنه العقل والشرع واختلاف الاجتهاد أيضاً من الحقوق الأولية في البشر وأما الاختلاف غير الراجع إلى واحدة منها فيمكن التشكيك فيه أو الوقوف دونه لكن يجب معاملته بالحسنى والمداراة لأجل الارشاد والتعليم أولاً والإصلاح ثانياً واحترام الحقوق ثالثاً، فإذا لم ينفع يمنع منه لأنه من مصاديق ردع العدوان ورفع المنكر ومنع الفساد.
- المسألة الثالثة: يجب على الدولة الإسلامية السعي لأجل تطوير البلد وتنميته إنسانياً وحضارياً وهذه السياسة من أكبر مميزات الأنظمة الحرة من الأخرى المستبدة كما أنها من أهم عوامل تقدم الأولى ونجاحاتها في مختلف مجالات الحياة وتراجع الأخرى عنها، وقد أثبتت التجارب البشرية فضلاً عن أدلة الشرع والعقل بأن المستبد يتوجه إلى نفسه بأنانيته ويوجه كل شيء في البلد إلى شخصه ومن المعلوم أن التطور والتنمية يتوقفان على مشاركة الكفاءات والخبرات في ذلك، والكفاءات لها آراؤها واستقلالها وكرامتها، وهذا ما لا ينسجم مع سياسة المستبدين فينفصلون عنهم واحداً بعد الآخر، حتى يبقى مع المستبد جملة من الإمعات والذيليين يتحكمون بشؤون البلد الذين لا يهمهم إلا رضا المستبد خوفاً أو طمعاً بإشباع بطونهم وشهواتهم وتوفير أموالهم والتلذذ بالطيبات والثروات الوطنية، بينما الاستشارية فلأنها تقع تحت رقابة الشعب بسبب المؤسسات والأحزاب الحرة فإنها تحترم الناس وتصون حرية مجلس الأمة والقضاء والتنفيذ فتنهض بنفسها بالكفاءات وهذا ما هو ملحوظ في الفروغ في الأوضاع الاجتماعية والمعيشية لمواطني كلا النظامين، ولا نريد أن نخوض في تفاصيل ذلك لعدم سعة الوقت.
ولكن الذي ينبغي الإشارة إليه هو وجوب سعي الدولة لتطوير البلد وتنميته ورقيه في مجالات الحياة المختلفة ولعلّ من أبرز المجالات هو تطور الفكر والأخلاق لأنهما يهذبان النفوس والعقول والسلوك الاجتماعي العام كما قال الشاعر:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت***** فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
ثم يأتي بعدها التطور في أمور خمسة وهي:
1- الثقافة.
2- السياسة.
3- الاقتصاد.
4- الاجتماع.
5- النفس.
أما التطور في الثقافة فلوضوح أن الثقافة تهتم بصقل العقل ومضاعفة قدراته ومواهبه على مجابهة المشاكل العديدة التي يعانيها الإنسان في حياته الخاصة والعامة ويرى البعض أن التقدم الصناعي الحاصل في بعض الدول الغربية حاليا يرجع إلى تلك النهضة العلمية التي ظهرت فيها خلال القرن الثاني عشر الميلادي، والتي بسببها تغير وجه الغرب وتمكنوا من أن يغيروا جهات كثيرة من العالم فإن في تلك الفترة استطاع العقل الغربي أن يتعمّق في تحليل بعض الظواهر الطبيعية والاجتماعية ويصل إلى نتائج هامة، ويخلق كثيراً من الوسائل التي ساعدته على تحسين وضعيته العامة.
ومن أهم هذه الوسائل كانت العلوم التي توصل إليها المسلمون في نهضتهم الأولى، وقد تولدت من هذا التغير الرغبة الشديدة في البحث عن حقائق أوسع وأشمل من تلك الحقائق المتوفرة للإنسانية قبلها، وكلما جاء جيل جديد حاول هو أيضاً تغيير الأوضاع وتطوير ما تركه الآباء والأجداد، وهكذا أصبحت فكرة التغيير والتطور مقبولة لدى الشعوب ولم يبق هناك من يعترض على إعادة النظر في المشاكل المحيطة به والبحث عن وسائل أكثر فعالية للتغلب على الصعاب التي تعرقل مشاريع التنمية.
وأما التطور السياسي فنعني به تقوية أجهزة الدولة بتحسين وسائل الاتصالات التي تساعد الدوائر والمؤسسات على الإشراف على الأمور ومراقبة المفاسد والانحرافات الخاصة أو العامة، وخصوصاً الشركات الضخمة، كما تجند مختلف القوى والطاقات لاستثمار الموارد الأساسية التي تمكّن المجتمعات من تحقيق نهضة صناعية واجتماعية وثقافية وغيرها.
وبتعميم التعليم والصحة وغيرهما، ولذا تسعى الحكومة العصرية إلى تقوية الجهاز الإداري والإشراف على تسيير جهود المواصلات والصناعات الثقيلة وتربية الجيل الصالح وتزويده بالثقافة العصرية وسياسة التطوير لتقوية الجهاز الحكومي، فإن مسؤولية الدولة في العصر الحديث قد تعقّدت وعليها أن تكون في المستوى اللائق وتفي بالتزاماتها في ميادين متعددة في سياستها الداخلية والخارجية وتمارس سياسة محكمة ودقيقة ومدروسة وبذلك يتسنّى لها أن تنال ولاء المواطنين وتحصل على ثقتهم وتأييدهم وتضمن لنفسها البقاء وتقف أمام الهزات الاجتماعية وغيرها.
فإن الحكومة التي لا تحظى بثقة أبناء شعبها لا تستطيع أن تؤدي رسالتها على الوجه الأكمل، والدولة الواعية هي تلك التي تتبع وسائل الإقناع بجلب أبناءها إلى جانبها وتوظيف مختلف القوى والطاقات ولا تلتجئ إلى استعمال القوى لتحقيق أهدافها، وتطبيق سياستها الداخلية، كما أن السياسة المتطورة تعتمد على سن القوانين المعقولة والمتوازنة التي تنظر إلى القدرات بالقياس إلى المواهب والحاجات، والتي تسير بمقتضاها المؤسسات العامة والخاصة من دون هضم أو اهتضام، وبذلك تؤدي الحكومة وظيفتها الأساسية في حماية الشعب من أي تلاعب وجعل المواطن يشعر أن هناك قيادة تسهر على حقوقه وجادة لحمايته من تلاعب المتلاعبين سواء كانوا في الداخل أو في الخارج.
وأما التطوير الاقتصادي فهو غالباً ما يقوم على عاملين أساسيين وهما الاستثمار والإدخار، وقد اعتاد الفرد في الدول النامية صرف الشيء القليل الذي يحصل عليه من دخله المحدود فلا استثمار له ولا ادخار، ولهذا بقيت الناحية الاقتصادية في البلدان النامية في جمود، ولا تتعادل نسبة التنمية في هذه البلدان مع الزيادة المضطردة في عدد سكانها وهذا هو أحد الأسباب الرئيسية لقلة فرص العمل وحرمان عدد كبير من أبناء الدولة من كسب عيشهم بكيفية مرضية أو استثمار طاقاتهم في الإبداع والتنمية، ولذا نرى العالم الثالث يضج بالبطالة ويحتقن بالتذمر من سياسات حكوماته وهذا أحد أهم أسباب كثرة العنف والانقلابات والتحولات وعدم الاستقرار في هذه البلدان، مضافاً إلى استشراء المفاسد في بعضها.
وعليه فإن معالجة الأزمات الاقتصادية يضع أقدام الدولة ومواطنيها في اتجاه التطور والرقي، ومن أهم الخطوات التي يجب على الدولة مراعاتها في هذا السبيل أمور أربعة هي:
- الأول: توفير دخل العالم لدى الأفراد الأمر الذي يسمح للأفراد إمكانية ادخار نصيب وافر من الرواتب المحترمة والأموال المكتسبة بنموهم وتكاملهم.
- الثاني: حصول الفلاح وغيره من الطبقة الكادحة على قطعة من الأرض تكفيهم في أن يعيشوا منها ويستثمروا الفائض من العائدات في المشاريع الزراعية والتنموية التي تنفع قطاعاتهم وتعود عليهم بالأرباح الطائلة.
- الثالث: تعليم العامل وتخصيصه في مهنته وحرفته. وبذلك يستطيع أن يساهم في رفع الإنتاج كماً وكيفاً والحصول على مرتب يمكنه من تحسين مكانته الاجتماعية ومن المساهمة في المشاريع الاستثمارية التي تجلب له أرباحاً إضافية.
- الرابع: تحرير التجارة من قبضة الدولة والقوانين المكبلة والروتين القاتل ليتسع حجم المبادلات التجارية سواء في الداخل أو الخارج الذي يحرك من فاعلية المجتمع وينشط الحركة الاقتصادية ويقود الجميع في مسارات التنمية.
وأما التطوير الاجتماعي فالملاحظ أن المجتمع المعاصر قد تميز عن المجتمعات السابقة بعدم الاستقرار لأن أبناءه يبحثون عن العمل الذي يتماشى مع اختصاصاتهم ويقيمون حيثما تفرض عليهم ظروف عملهم ذلك، وقد صاحب هذا التحول الاجتماعي بروز عدد كبير من الأفراد الذين تحسنت وضعيتهم الاجتماعية وارتفع دخلهم المادي وتطور مستواهم الثقافي.
إلا أن هذه الحركة الاجتماعية لم يصحبها تقدم مناسب في الميدان السياسي فبقيت المناصب الهامة بيد نخبة محدودة من السكان وحرمت الكثير من الكفاءات من فرص العمل المبدع والتنمية العامة وهذا ما يدعو الدولة إلى توفير أجواء حرة وأكثر انفتاح لتحريك الطاقات وتفعيل الكفاءات بالتنمية الاجتماعية وإزالة المعوقات المانعة منها.
وأما التطوير النفسي فإن حرص الدول على الاحتفاظ بعاداتها وتقاليدها جعل كثيراً من شبابها يشعرون أن حياتهم تتصف بالركود وأن الأمل بالحصول على حياة أفضل ضعيف وفي بعضها كالمعدوم، وبما أن الآباء قد يحملون أفكاراً لا تتماشى مع عقلية الجيل الجديد فإن الشباب يلتجؤون إلى تبادل التعلم والأخذ من بعضهم بدلاً من الاعتماد على توجيهات الكبار في المجتمع الأكثر تجربة وبذلك ضعفت روابط المودة والاحترام التي تتوطد عادة بين الأبناء والآباء وبين الشيوخ والشباب، ويشعر كل فريق بالنفور وربما الاشمئزاز من الفريق الآخر لعدم التفاهم بينهما.
والمجتمع الذي لا يستطيع التوفيق بين أجياله ولا يقدر على إيجاد نوع من الانسجام والتفاهم بين أفراده ويلاحم بين الميول المختلفة لا يمكن أن يتقدم كثيراً في ميادين الحياة لأن الكراهية تدفع بالإنسان على أن لا يتعاون مع خصومه، ومن الواضح أنه بدون تعاون جميع الفئات الاجتماعية لا يتحقق تطور ولا نمو والدوافع النفسية للتطور والتقدم تأتي غالباً من الاختلاف بين جماعات لهم مستويات مختلفة من الثقافة والتكوين لأن الاختلاف يوجب التنافس الحر وهو أول نواة التقدم في المجتمع المنفتح الذي يعيش الحرية والانطلاق.
وبما أن أغلب سكان الدول النامية يعيشون في الريف فإن ذلك يعني قلة الاختلاط بأبناء المدن الذين أتيحت لهم فرص التعلم والحصول على ثقافة عالية، إذا نحن قارناهم بأبناء الريف وقلة الإمكانات والخدمات فيه، ونتيجة لقلة الاختلاط بالطبقات المتعلمة والمهنية نجد أن ابن الريف منطوٍ على نفسه في الغالب ولا تربطه أية علاقة قوية ببقية أفراد مجتمعه وبالنتيجة فهو لا يواكب التطور والتنمية البشرية، وكذلك العكس.
هذا والمستفاد من مجمل الآيات والروايات هو وجوب رعاية الدولة لهذه الأمور وأنها من أهم وظائفها ومهامها ولولاها كانت غير لائقة بالحكم ولا تستحق الطاعة والاحترام وبه تسقط عن الاعتبار، ولعل من المناسب الإشارة إلى بعض الوارد من الروايات في هذا المجال:
منها ما عن المفضل عن الصادق (عليه السلام) قال: (إذا أراد الله عز وجل برعية خيراً جعل لها سلطاناً رحيماً وقيض له وزيراً عادلاً) ولا يخفى عليك أن إرادة الله سبحانه وتعالى تابعة لعمل الناس فإن عملوا خيراً أراد الله بهم خيرا، كما أن شفاء الله للمريض تابع للعمل بحسب دستور الأطباء وكذلك رزق الله للفلاح وللعامل، وللطالب وغيرها.. فإن الله عز وجل جعل سنة الأسباب والمسببات هي الحاكمة في هذا الوجود فكل من سلك السبل وأخذ بالأسباب وصل إلى النتائج المرضية.
ومما ورد في هذا المجال عن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله): (من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح) وروى طلحة بن زيد عن الصادق (عليه السلام) انه قال: (العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق لا يزيده سرعة السير إلا بعداً) ومن الروايات أيضاً ما عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصيته إلى أحد ولاته: (لا تقبلن في استعمال عمالك وأمراءك شفاعة إلا شفاعة الكفاءة والأمانة) ومنها ما عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام): (لا يكون عمران حيث يجور السلطان) وعنه (عليه السلام) أيضاً: (ليكن أحب الناس إليك وأحظاهم لديك أكثرهم سعياً في منافع الناس) وعنه (عليه السلام) أيضاً: (حسن العدل نظام البرية) وعنه أيضاً: (حسن التدبير وتجنب التبذير من حسن السياسة).
وعن الصادق (عليه السلام): (وليس يحسن للملوك أن يفرطوا في ثلاث: في حفظ الثغور وتفقد المظالم واختيار الصالحين لأعمالهم) إلى غيرها من الروايات الكثيرة المروية في كتب الأخبار الدالة في مجملها وبنحو التواتر المعنوي على وجوب رعاية الدولة التطور والتنمية الإنسانية في البلد لتنعكس هذه التنمية على مختلف شؤون الحياة.
- المسألة الرابعة: يجب على الدولة السعي للتخلص من عوامل التأخر والانحطاط بل يحرم عليها السلوك في مطبات التأخر، فإن بعض الدول تبني سياستها على فلسفة التأخر سواء عن علم أو من دون علم فتقع في مهاوي السقوط وتعرّض نفسها ورعاياها إلى المزيد من الفوضى وتضييع الحقوق وربما إيقاع البلد في أيدي الخصوم وهذه كلها من المفاسد العظيمة التي يحكم العقل بقبحها والشرع بحرمتها، تقوم فلسفة التأخر والسقوط على منظومة من الرذائل والمساوئ الفكرية والنفسية لعل من المناسب الإشارة إلى بعضها:
- الأول: الجهل فإنه الطامة الكبرى الذي يجر وراءه سلسلة طويلة من الرذائل والمساوئ كالفقر والمرض والظلم والفوضى والتخلف ونحوها.. فيجب على الدولة وجوباً عقلياً وشرعياً السعي لتعليم المجتمع ورفع مستوى التعليم للقضاء على رذائل الجهل.
- الثاني: الغرور فإن المغرور لا يصلح للتقدم بنفسه فكيف يصلح لتقديم غيره، ومن الواضح أن المغرور قد لا يلتفت إلى غروره لجهله أو غفلته لكنه يمكن الرجوع إلى الناس في تشخيص صفاته وخصوصياته وخصوصاً في مثل سياسة الدولة فإن الغرور موضوع والعرف هو المرجع في تحديد الموضوعات والظاهر أن غالب الأخلاق الذميمة لا يعترف بها أصحابها لكن يمكن تمييز الرذيلة من غيرها أو ابتلاء الإنسان بها بالرجوع إلى العرف.
- الثالث: التكبر وهو رؤية النفس أرفع من الغير سواء كان الغير إنساناً أو عملاً، وهو من أقبح الرذائل وأسوأ الصفات، قال سبحانه: (إن الله لا يحب كل مختال فخور) فإن من الواضح أن العمل كالعلم يحتاج إلى تواضع خاص حتى يحصل فيه الإنسان على النجاح، وعلى أي حال فإن الإنسان الذي يتكبر ينطوي على فلسفة التأخر، فما بالك بالدولة إذا قامت سياستها على التكبر والغرور فإنها توقع الدولة في مطبات النعرات القومية والعنصرية والتعالي على الحقيقة وما أشبه ذلك ولذا ورد في ذم التكبر جملة كبيرة جداً من الروايات أوردها الأعلام في المصادر الروائية بما لا يسعنا المجال لبيانها.
- الرابع: عدم تفهم الحياة فإن للحياة موازين خاصة إذا سارت الدولة على طبقها وصلت إلى أهدافها وإلا تأخرت ومن الواضح أن فهم روابط الحياة وقوانينها بحاجة إلى التجارب وطول معاشرة الناس والتأمل والتفكير، فغير الدارس لعلوم الحياة لا يفهمها مهما كان ذكياً، والمنقطع عن الناس وتجاربهم لا يفهمها مهما كان ملتفتاً وهذا من أسباب سقوط المستبدين لأنهم ينعزلون عن الناس ولا يعاشرونهم ويأخذون الأمور بالكبرياء والغرور، وهذا ما يقودهم إلى الجهل وعدم تفهّم ملابسات الأمور.
ومن الواضح أن من لم يفهم الحياة لا تستجيب له أزمتها.
- الخامس: سوء الظن بالناس، فإنه من أكبر عوامل فشل الدول وجرها إلى الظلم والحيف والاستبداد فضلاً عن إيجاد القلق وعدم الاستقرار للحاكم وحكومته، بسبب مراودة الشكوك والخوف من الآخرين، فعن الحسين بن المختار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلام له: ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يغلبك منه ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً) وعن الباقر عن أمير المؤمنين (عليهما السلام) فيما كتبه لولده الحسن (عليه السلام): (ولا يغلبن سوء الظن فإنه لا يدع بينك وبين صديقك صفحة).
وعن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله): (شر الناس الظانون وشرّ الظانين المتجسسون وشرّ المتجسسين القوّالون وشرّ القوالين الهتّاكون).
- السادس: الفظاظة، فإنه من أكبر الأخطاء في الممارسات السياسية والسلوك الفردي والاجتماعي، قال سبحانه: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك) فإن من الواضح أن من أكبر عوامل النجاح والتقدم هو كسب قلوب الناس ولذا ورد في جملة من الروايات التحريض عليه، فعن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (رأس العقل بعد الدين التودد إلى الناس واصطناع الخير إلى كل برٍّ وفاجر)، إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة الواردة بهذا المضمون. والمستفاد منها وجوب عمل الإنسان إلى كسب قلوب الناس فضلاً عن الدولة.
وعليه فإن السياسة الصحيحة التي يجب على الدولة اتخاذها هو العمل لجمع الكلمة والتفاف الناس، وفي سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما يثير الدهشة في هذا الجانب فإنه كان يقول ويعمل ويرشد ويهدي ويألف ويؤلف ويجمع الناس حوله ففي بعض الأخبار أنه (صلى الله عليه وآله) حينما حبس ثمامة في محلٍّ قريب من المسجد لأنه وجماعته اعتدوا على المسلمين في قصة مفصلة فأسره النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) ثم دخل عليه وقال له: ما تقول يا ثمامة؟ قال ثمامة: إن قتلت فبعدلك وإن أخذت مالاً فدية فبلطفك وإن أطلقت فبفضلك. فلم يقل الرسول (صلى الله عليه وآله) شيئاً وخرج من عنده. وفي اليوم الثاني دخل عليه وأعاد عليه الكلام فأعاد ثمامة الجواب، وفي اليوم الثالث دخل عليه الرسول وأعاد عليه نفس كلامه في اليومين السابقين فأجاب ثمامة بمثل كلامه السابق لكن في اليوم الثالث أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بإطلاق سراح ثمامة ولما خرج من الأسر كتب إلى عشيرته أن أقبلوا فإنه رسول حقاً وجاءت العشيرة وأسلم الكل بفضل خلق رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحسن تدبيره وحسن حكمته الرفيعة.
- السابع: الإخضاع والاستحكام القهري على الناس، فإن من الواضح أن السياسات والدول الناجحة أول ما تقوم تقوم على القلوب وأقوى ما تقوم عليه هي قناعات الناس بها واعتقادهم بها ومحبتهم لها فعرش القلوب أكبر وأعظم وأبقى من عروش الأبدان، إذن يجب على الدولة التودد إلى الناس والتقرب إليهم ويحرم عليها تشديد القبضة عليهم وقهرهم، أما الأول فلأنه يتوقف عليه النظام والعدل وما يتوقف عليه الواجب واجب وأما الثاني فحرام لأنه ظلم وتصرّف في شؤون الآخرين دون رضا منه ومنه يعرف وجوب قيام سياسة الدولة على المحبة مع جميع الناس، وفي الروايات تأكيد أكيد على هذا النهج من السياسة، ومما ورد في هذا المجال قول عيسى (عليه السلام): (أحبوا أعداءكم) وقد شرحوا هذا الحديث بما مفاده أن حب الإنسان لعدوّه ليس فقط يخفف من عداوته بل إنه يوجب أن ينقلب العدو صديقاً كما كانت سياسة الأنبياء والأئمة (عليهم السلام)، ومن أهم شعب استجلاب الحب هو الرفق والمداراة والخدمة لتقريب الصديق وتحييد العدو.
ومن المعلوم أن الناس مختلفون في التحمّل فاللازم على الدولة أن لا تحمل الناس فوق طاقتهم حتى لا يتذمروا منها ومن سياستها والاستبداد من أكبر مشاكل الدول ومعوقاتها وهو مزيج من الرذائل الأخلاقية والنفسية والفكرية كالأنانية والكبر والتكبّر والغرور والجهل والاستعلاء وأشباهها من الصفات الذميمة والقبيحة، وعن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام): (من استبد برأيه هلك) والظاهر أن كلامه (عليه السلام) ناظر بالنسبة إلى نفس المستبد وإلا فإن للاستبداد جهة ثانية للتخريب والدمار هو ما يرتبط بالمستبد من الناس أو من سياسة ترتبط بالدولة، وفي قوله سبحانه ما يشير إلى ذلك حيث يقول عز وجل: (وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد).
ومساوئ الإسلام فظيعة جداً يكفينا عنها ما ذكره المؤرخون من أحوالهم ومساوئهم وما جروه على الإنسانية من ويلات وخراب ودمار.
- الثامن: عدم معرفة الموازنات، فإن للأشياء موازنات خاصة وارتباطات مخصوصة وضوابط إذا لم يعرفها الإنسان يقع في مشاكل كثيرة وأحياناً لا يصل إلى الأهداف كمن لا يعرف الطريق يسير سيراً طويلاً ثم لا يصل إلى نتيجة، وإن وصل فبمشكلات وأتعاب لم يكن لها داع إذا كان تحرى الطريق الأفضل من الأول.
وعليه فاللازم أن تراعي الدولة التحرّي التام لمعرفة الموازنات والمعادلات والأسباب والمسببات حتى لا تقع في الخلل وتهدر الحقوق.
ومن أفظع مظاهر اللاتوازن في الدولة هو استحقار الناس واستصغارهم، فإن الدولة إذا قامت سياستها على استصغار الناس واحتقارهم تعامل بمثل هذه السياسة من قبل الناس لأن لكل فعل رد فعل يخالفه في الاتجاه ويوازيه في الكم والكيف، إن لم يكن أكثر منه أحياناً في الشعور النفسي والعمل الاجتماعي.
وكيف كان فإن التحقير والإهانة والإذلال وما أشبه بالإضافة إلى أنها محرمات شرعاً وقبيحة أخلاقاً توجب رد الفعل من قبل المواطنين تجاه الدولة فكما تحتقرهم وتستصغرهم يستصغرونها وهذا ما يوجب الخروج عن الاستقرار والأمن العام ويسبب التمرد وما أشبه ذلك.
ومن مظاهر اللاتوازن عدم التفكير المتواصل في فهم الأسباب والمسببات للظواهر والأزمات ودراسة عللها ومعاليلها وفي ربط الأشياء بعضها ببعض، ولذا غالباً ما يسقط المستبدون حيث أنهم لا يفكرون في ارتباط الاستبداد بالسقوط، كما يسقط الكسالى لعدم تفهّمهم لارتباط الكسل بالتأخر مع أن الكون مليء بملايين القوانين التي أودعها الله سبحانه وتعالى فيه، وبعضها يرتبط ببعض لأن الكون وحدة واحدة، وبعض القوانين علّة لبعضها الآخر وبعضها طريق وبعضها معد وبعضها مانع وبعضها قاطع فما لم يعرف الإنسان روابط الأشياء مع بعضها وفهم التوازن في الكون يمشي على خلاف سننه، فيصاب بالتأخر والسقوط، والفكر هو القائد إلى جملة من ذلك فإذا لم تقم الدولة سياستها على التفكر والبحث والفحص وفهم الموازنات سقطت لأنها تمشي على خلاف السنن الكونية، كما أن مظاهر اللاتوازن في سياسة الدولة هو توزيع الاتهامات وسوء الظن بالناس وهذه من أهم العوامل التي تسقط الدولة من القلوب والنفوس وانعكاسات ذلك السلبية على المجتمع والدولة بنحو عام كبيرة وتؤدي إلى الفوضى والانشقاقات والانقسامات وذلك لأن الحط من كرامة المجتمع تؤدي إلى:
- أولاً: إهانة الأفراد والحط من كراماتهم وتعريضهم للإذلال وهذا محرم شرعاً وقبيح عقلاً ومن الواضح أنه لا يمكن للدولة التي تقوم سياستها على هذا النهج أن تكون مورد اعتماد وثقة من قبل الآخرين.
- الثاني: إضاعة الأهداف السامية والانشغال بتوافه الأمور التي تسبب تمزق المجتمع.
- الثالث: إيجاد جو من سوء الظن والفساد بين الناس، وبذلك تنصرف الألسنة والأقلام والأفكار في الهجوم والدفاع بدلاً من الانصراف إلى التقدم والتنمية.
- الرابع: إيقاع البلد وأبناء البلد في شبكة الاستعمار وما أشبه إذ يستثمر الأطراف الثالثة المخاصمة للبلد عادة أمثال هذه الأجواء لتوظيف التائهين والحيارى والمحتاجين وما أشبه ذلك لخدمة أغراضهم.
- الخامس: انعزال الصالحين والأكفاء عن الميدان العملي للدولة، لأن الصالحين ينزهون أنفسهم عن التلوّث بالمجتمع الموبوء سلبي الاتجاه، قال سبحانه: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء) ومن الواضح أن الكفاءات إذا انعزلت عن سياسة الدولة فقدت أهم عناصر تقدمها.
- السادس: إيجاد الجو المشحون بالتوتر والانفعالات مما يعطي المجال للمتزلفين والمتملقين من مختلف الشرائح لهدم الإسلام والمسلمين وتقويض الفضيلة والقضاء على عناصر التقدم.
- السابع: إمراض المجتمع بالسلبيات النفسية والأخلاقية التي تفنيه وتمزقه وهذا ينعكس على رؤيته للأمور ولمجالات الحياة المختلفة فإن المجتمع المتمزّق يتساقط في كل الميادين الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتربوية والفكرية وغيرها ويعيش في حياة مظلمة يحكمها التخلف والتأخر.
وتدلنا التجارب البشرية على أن من أكبر أسباب التأخر هو الاشتغال بالهوامش بدلاً عن الجذور، وكثيراً ما يرى الإنسان من يتحرّق لهذا الهدف أو ذاك بينما يرى أنه يصرف طاقاته المادية والمعنوية فيما يناقض الهدف كمن يريد وحدة المسلمين ثم يصرف وقته في القوميات أو العرقيات أو اللونيات أو ما أشبه ذلك.
وفي الروايات الشريفة ما يشير إلى ذلك، فعن الصادق (عليه السلام) أنه أوصى بعض أصحابه فقال: (لا تكن دواراً في الأسواق ولا تلي شراء دقائق الأشياء بنفسك فإنه لا ينبغي للمرء المسلم بالدين والحسب أن يشتري دقائق الأشياء بنفسه خلا ثلاثة أشياء الغنم والإبل والرقيق) وفي رواية الجعفريات بسند الأئمة إلى علي (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن الله عز وجل جواد يحب الجود ومعالي الأمور ويكره سفاسفها).
وعليه فإن الانشغال بالتوافه والهوامش من عناصر تأخر الدولة في سياستها ومن عناصر تأخر الشعب بنحوٍ عام في تقدمه وتنميته.
- التاسع: التزييف فإن من الواضح أن الحياة مبنية على الحقائق والزيف ضد الحقيقة فإن قسماً من الناس يعتادون القفز بدون واقعية وهذا من أسباب السقوط المهمة لأن الخديعة لا يمرّ عليها زمان إلا وتظهر كما أنها توجب وضع غير الكفوء في موقع الكفوء والجاهل في موضع العالم، والمدير في موضع المدار وفضلاً عن المساوئ الواقعية لهذه السياسة فإنه يسلب ثقة الناس بالدولة وإيمانهم بكفاءتها وهيمنتها مما قد يدفعهم إلى عدم التعاطي معها إلا بالخوف والقوة والإرهاب، وهذا من شأنه أن يعود على الجميع بالاستبداد والظلم كما يسبب الاختلاف والمعارضة الحادة وربما يقود إلى الحرب ومهما كانت الدولة ذكية في تحرير خداعها وتمريره على الناس فإنها لابد وأن تنكشف وفي المثل (يمكن للإنسان أن يخدع بعض الناس في بعض الوقت ولا يتمكن أن يخدع كل الناس في كل الوقت).
ومن الواضح أن الواقع هو الذي تظهر آثاره حقيقة في الوجود لا الزيف والخداع فإن واقع البيضة هو الذي ينتج الفرخ والحنطة هي التي تنبت الحنطة والإنسان هو الذي يولد الإنسان لأن الحقيقة هي النابتة لا الخداع، وقد شهدت التجارب البشرية الخادعين حينما سقطوا ولا زالت تشهد ذلك.
وكيف كان فإن الجهل والغرور من أهم أسباب جنوح الدول إلى الخداع والتزييف ولكن هذه السياسة تنطوي على نفسية متأخرة فيجب على الدولة أن تتجنب الخداع ولو القليل منه، لأنه سرعان ما ينكشف فيعود عليها بالأضرار والمساوئ قال الشاعر:
ومهما يكن عند امرئ من خليقة***** وإن خالها تخفى على الناس تعلن
وقد ورد عن مولانا الصادق (عليه السلام) أنه سئل ما الحيلة؟ قال: في ترك الحيلة.
- العاشر: الجنوح إلى العنف، فإنه من أسوأ ما يبتلى به الناس حكاماً ومحكومين فإن كثيراً من الناس يجنحون إلى العنف في كلامهم وتفكيرهم وأعمالهم حتى وإن لم يمارسوه بالفعل لأن اللاعنف منطوٍ على السكون والتواضع وهذا بحاجة إلى تربية نفسية طويلة ومراقبة وضبط حتى ينقلب الانطواء العنيف إلى الانطواء اللين الرفيق، ولا يخفى أن مصدر العنف والانطواء على الحدية إنما ينمو غالباً في النفوس غير المؤدبة وغير المرباة من ناحية، ومن ناحية ثانية في غير المجتمعات الاستشارية لأن الجو العام يوجب إنبات النبات المشابه لذلك الجو، فالماء يملح في الأراضي المالحة ويعذب في الأراضي الطيبة، والتربية والاستشارية جوان مناسبان للرفق واللاعنف.
وفي قوله سبحانه: (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا).
وكيف كان فإن من أهم أسباب تأخر الدول وفشل سياستها وسقوطها هو انطواء السياسة في أساليبها العامة أو الخاصة على العنف والقسوة والجفاء والفظاظة.
هذا وهناك عوامل أخرى لا يسعنا المجال لبيانها فنكتفي بها بهذا القدر.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين..