محاضرات فقه الدولة - المحاضرة 49
ذكرنا فيما تقدم الفرق الجوهري بين الحرية الإسلامية والحرية الغربية في العمل الحزبي بقيت ملاحظة جديرة بالذكر وهي أن بلد الإسلام لم يجز الحزب الكافر لوجوه صحيحة عقلية وعقلائية بينما القانون الغربي لم يجز الأحزاب الإسلامية لوجوه باطلة إذ الإسلام يمنع من الأحزاب التي تتنافى مع عقيدة الأمة أو تضلل الأمة أو تحرفها عن مسارها الإنساني والإسلامي الصحيح وبالتالي فإن الإسلام إذا يمنع من الأحزاب الكافرة وما أشبه فإنه يمنع غير الأكفاء من التصدي لمسؤولية بحاجة إلى الكفاءة وعدم الكفاءة فيه ترجع إلى أمر اختياري لاختياره الكفر والانحراف أو الرذيلة وما أشبه بخلاف القانون الغربي فإنه لم يجز الحزب المسلم لفقد الوطنية فيه مع أن الوطنية ليست من الأمور الاختيارية مما يدلل على أنه يحرم الأكفاء عن التصدي لما ينبغي فيه الكفاءة وهذا المنع منع اعتباطي لأن عدم ولادة الإنسان في ذلك الوطن يرجع إلى أمر ليس باختياره وبهذا يظهر أن الإسلام له حرية مبنية على الوجوه العقلية والصحيحة بينما القانون الغربي يقوم على مباني باطلة والفرق كبير بين الأمرين.
- المسألة الخامسة: في أحزاب الأقليات يجوز للأقليات أن تشكل أحزاباً للدفاع عن مصالحها سواء كانت الأقلية دينية أو لغوية أو نحوهما لأصالة الحرية والسلطنة نعم لا يجوز لها التصدي لأمرين:
- أحدهما: تولي الرئاسة العليا أو الحصول على الأكثرية الوزارية أو المجلسية لما عرفت من أدلة الأكثرية ولزوم الأخذ بها في الحاكم والحكومة.
- ثانيهما: أن لا تمرر سياستها وخططها على أكثرية الأمة فلا يجوز أن يطبق الحزب المسيحي مثلاً سياسته على المسلمين ولا غير الشيعي على الشيعي مثلاً فمضافاً إلى أدلة الأكثرية تشمله أدلة العلو ونفي السبيل ونحوها في بعض الصور والموارد نعم يحق له أن يشترك في حكومة ائتلافية وفي مجلس الأمة بقدر حصته وما يمثله من أقليته فلا يظلم ولا يظلم كما لا يجوز لحكومة الأكثرية أو حزب الأكثرية أن يفرض إرادته أو عقيدته أو خططه على الأقلية إلا وفق الاتفاقات التقنينية وضوابط مصوبة من قبل أهل الشأن من أصناف الأمة وأهل الحل والعقد فيها.
وكيف كان فإنه كلما كان حزب الأقلية أكثر نضوجاً تمكن من الوصول إلى أهدافه أسرع كما أن نضج حزب الأكثرية يساعد على احترام الأقلية وحفظ حقوقهم لا يَظلمون ولا يُظلمون إذ لا يجوز أن تصادر حقوق الأقلية بحجة الأقلية لأنه ظلم من جهة ولأن حقوق المسلمين لا تبطل إن كانوا من المسلمين وإن كانوا من غيرهم فقد لعن من ضيع من يعول من جهة أخرى هذا مضافاً إلى ما يترتب عليه من مفاسد عظيمة يحكم العقل والشرع بلزوم دفعها وتدل شواهد الحياة السياسية المختلفة على أن حزب الأقلية قد يتبدل إلى حزب سياسي حاد وربما عنيف أو متحالف مع الخصوم إذا لم تستجب الدولة إلى مطالبه كما تبدل حزب الاتحاد الإسلامي الأحمر الذي تشكل في إندونيسيا إلى الحزب الشيوعي زعماً منه أنه بهذه الطريقة يتمكن من إنقاذ حقوق المسلمين كما قد يتبدل حزب الأقلية إلى حزب الأكثرية إذا سار في هذا الطريق وحقق الشرائط وربما سبب تفرق المجتمع وتجزئته تجزئة الدولة نفسها فيما إذا كان الحزب قوياً وخبيراً بمواقع الدولة.
وفي الفقه السياسة الجزء الثاني ص176 أن ذلك حدث بالنسبة إلى الجناح الإسلامي في حزب المؤتمر في الهند حيث سببت تجزئة الهند إلى الهند والباكستان وذلك إثر عدم قبول حزب المؤتمر إعطاءهم حق الأكثرية بالأقلية بأن يعملوا بالنسبة إلى المسلمين الذين كانوا يمثلونهم ما يشاءون فقال الجناح الإسلامي الآن وأنتم تحت الاستعمار البريطاني وضعفاء لا تقررون لنا ذلك الحق فإذا وصلتم إلى الحكم وكانت لكم الأكثرية ذاب المسلمون في أكثريتكم ولذا جنح الجناح الإسلامي بقيادة محمد علي جناح إلى الاستقلال وهناك خلاف بين المسلمين في الباكستان والمسلمين في الهند، فهل كان استقلال الباكستان في نفع البلاد حيث لولا الاستقلال لذاب المسلمون في الأكثرية غير الإسلامية كما يقوله الباكستانيون أو كان الأصلح العكس بأن لا تستقل الباكستان حيث تكون القوة الإسلامية في القارة الهندية ضمان لرجوع الهند كما كانت في أيديهم قبل استعمار بريطانيا للهند وقد ابتليت الباكستان بالتجزئة من جهة حزب الأقلية الذي تشكل في الباكستان الشرقية باسم حزب عوامي حيث قوى هذا الحزب وبمساعدة الهند وسائر الحكومات الاستعمارية وتمكن من تجزئة الباكستان وتولدت بذلك حكومة بنغلادش انتهى ما في الفقه السياسة.
ثم لا يخفى أنه قد تتشكل أحزاب الأقلية بالنسبة إلى الصنائع والمهن مثل حزب أصحاب الصنائع وحزب التجار والفلاحين والمحامين وما أشبه لكن في الغالب تفشل مثل هذه الأحزاب لكونها ضيقة الأفكار والهموم والآمال ومن المتعذر وصولها إلى الحكم عادة نعم يمكن أن تشكل حزباً كبيراً لو تضامنت واتحدت فحينئذٍ يمكنها أن تكون قدرة كبيرة وتعبر عن شرائح كبيرة من الأمة كما يمكنها أن تشكل قوة ضاغطة لدعم أنصارها أو المطالبة بحقوقها وما أشبه ذلك.
- المسألة السادسة: في تصنيف الأنظمة السياسية وعلاقتها بالأحزاب لا يخفى عليك أن تطور الأحزاب عدل كثيراً من هيكلية الأنظمة السياسية وأثر على طبيعتها القانونية والسياسية فضلاً عن ممارساتها الحكومية فالأنظمة السياسية التي تعرف تعدد الأحزاب تختلف بها الحياة السياسية عن تلك القائمة على نظام الحزب الواحد أو تلك الأخرى التي لا تعرف الأحزاب مطلقا والظاهر أن في وقتنا الحاضر من الصعب تصور وجود نظام سياسي لا مدخلية للأحزاب فيه أو لأي تنظيم داخلي والاستقراء الخارجي للأنظمة الحاكمة في الدول يدلنا على أن الأنظمة السياسية المبنية على الأحزاب والقائمة في العالم اليوم على ثلاثة أصناف:
الأول: نظام الحزب الواحد.
الثاني: نظام الحزبين أو ما يعبر عنه بالثنائية الحزبية.
الثالث: نظام تعدد الأحزاب.
أما نظام الحزب الواحد فالظاهر أنه ظهر في بداية القرن العشرين مع الثورة الشيوعية على ما يعبرون ومع الأنظمة الفاشية وقد انتشرت بعد الحرب العالمية الثانية في جملة من دول الديمقراطيات الشعبية على ما يعبرون وبالأخص في دول أوروبا الشرقية على أثر خضوعها للاتحاد السوفياتي. وأما في دول العالم الثالث فأكثر ظهور أنظمة الحزب الواحد كانت بعد نيل استقلالها من الدول الاستعمارية التقليدية للشكل الظاهر غير أن نظام الحزب الواحد لا يعني بالضرورة غياب الأحزاب الأخرى إذ في بعض الأحيان نجد أن أنظمة سياسية سمحت بوجود أحزاب أخرى إلى جانب الحزب الواحد الحاكم ومن هنا صنفت أنظمة الحزب الواحد إلى صنفين:
- الأول: نظام الحزب الواحد الجامد ويتمثل هذا النوع بإقامة استبداد قوي تستند على آلة الحزب المسيطرة على الجماهير الشعبية عن طريق العقيدة والتنظيم الجماهيري ويتوخى من ذلك الخداع عادة لأنه يتخذ من التنظيم آلة لقمع الناس وكشف أسرارهم ونحو ذلك وفي نفس الوقت الظهور بمظهر الحرية واحترام الرأي الآخر والحال أن الحقيقة على خلاف ذلك فالحكم لا يقوم بأي دور فاعل لأن الحزب الواحد يهيمن على آلة الدولة ولا يسمح بقيام أحزاب وتنظيمات أخرى إلى جانبه كما أنه لا يسمح بوجود تيارات تختلف في الرأي وفي الاجتهاد في داخل الحزب أيضاً ولعل من أكبر النماذج والشواهد لذلك في الأنظمة العالمية هو الحزب الشيوعي على ما يعبرون الذي حكم الاتحاد السوفياتي وكذلك الحزب النازي الألماني والحزب الفاشي الإيطالي وبعض الأحزاب الحاكمة في بعض البلاد الإسلامية.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن بعض دول أوروبا الشرقية سمحت بقيام أحزاب ثانوية إلى جانب حزبها الشيوعي الحاكم لكن هذا لا يخرجها عن التصنيف ضمن الدول المستبدة لأن قيام بعض الأحزاب الثانوية في البلد لا يجعل منها نظاماً للتعددية الحزبية لأن الأحزاب الصغرى لا تقوم بدور فاعل في الحياة السياسية بل تدور عادة في بلد الحزب الحاكم الذي يسيطر على السلطة كلها والهيئات العاملة في الدولة.
- الثاني: نظام الحزب الواحد المرن ويسمح هذا النوع من الأنظمة عادة بوجود أحزاب ثانوية إلى جانب الحزب الحاكم وشواهده في أنظمة العالم كثيرة لكنك عرفت أن هذه التعددية لا متوازنة إذ لا تجعل من البلد حراً ولا من الشعب مختاراً وتجدر الإشارة إلى أنه سواء كان الحزب الواحد مرناً أو كان جامداً فإنه يؤدي بالنتيجة إلى هيمنة الحزب الواحد على مؤسسات الدولة كلها وإلى تقييد الحريات السياسية كما وينحصر الاختيار في الحزب أو بالأحرى قادة الحزب الموجه والمالك للسلطات كافة وأما سائر الناس فلا حرية لهم ولا اختيار إلا ما يفرضه عليهم الحزب الحاكم ولذا فإن مثل هذا النوع من الأنظمة محرم لكونه استبداداً وتشتد حرمته لو استلزم الظلم حرمان الناس من حقوقهم على تفصيل لا يسعنا المجال بالدخول فيه هنا.
وأما نظام الثنائية الحزبية فيتراوح عادة بين المرونة والجمود أيضاً حسب ما إذا كان النظام رئاسي أو برلماني وتعني الثنائية الحزبية وجود حزبين رئيسين يتنافسان على كسب أصوات الناخبين وعلى التعاقب على السلطة بفعل وصول الحزب الفائز إلى الحكم لتقديمه للمشروع أو البرنامج الأفضل وتشكيل حكومة مستقرة ثابتة لاستنادها على أكثرية نيابية وفية ومتماسكة ويتصف النزاع بين الحزبين عادة بالاعتدال لأن الأقلية المعارضة تسعى خلال المعركة الانتخابية إلى كسب الأصوات العائمة أو المترددة لكل حزب وهذا ما يجري حاليا في جملة من دول العالم الحر على ما يعبرون والظاهر أنه لا موانع عقلية أو شرعية تلغي شرعية مثل هذه الأنظمة لو توفرت على الشرائط الشرعية من كونها بإذن الفقيه الجامع للشرائط أو تحت إشراف شورى الفقهاء وكانت باختيار الأمة مع مراعاة حقوق الآخرين في العمل السياسي والرأي الحر وما أشبه ذلك.
وأما نظام التعددية الحزبية فله صيغتان:
- الأولى: النظام ذو الأحزاب المسيطر أحدها وذلك يتصور فيما إذا كانت في أحد الأحزاب مؤهلات أكثر لإدارة الحكم وكان له أنصار كثيرون إما لسوابقه وإما لأنه قدم البرنامج الأفضل أو حوى على أسلوب إداري وسياسي أكمل وأقوى من غيره فتمكن من استقطاب الناس وحفظ نفسه عن الانزلاق وقد ورد في الحديث الشريف من أصلح فاسده أرغم حاسده وفي الفقه السياسية في الجزء الثاني ص208 أن الهند منذ استقلالها من يد بريطانيا عام 48 ميلادية إلى الآن حيث يسيطر على الحكم فيها حزب المؤتمر الذي تحمل أكثر الأتعاب في تحريرها ولذا فهذا الحزب له الأكثرية في المجلسين التشريعي والتنفيذي.
وأما سائر الأحزاب المجازة فليس لها شيء يذكر.
- الصيغة الثانية: نظام التعددية الحزبية المتنافسة وفي مثل هذا النظام يمكن أن لا يفوز أحد الأحزاب بأكثرية الآراء للتنافس الشديد بين الأحزاب أو لتوازي المؤهلات ولذا لا يتمكن أحد الأحزاب أن يمسك بأزمة القدرة وينفرد فيها مثلاً وإنما تتشكل منهم عادة حكومة ائتلافية وتوزع بينهم المناصب والمسؤوليات بحسب النسب وكذا توزع بينهم الوزارات في الحكومة فإذا فرض بأن أحد الأحزاب كان له خمسون بالمية من المجلس والثاني له ثلاثون والثالث له عشرون وزعوا الوزارات فيما بينهم بتلك النسبة فإذا كان عدد الوزراء عشرين كان للأول عشرة وللثاني 6 وللثالث 4 مثلاً وهكذا وإذا لم تأتلف بالدولة وتتشكل الحكومة من هذا التنوع الحزبي سقطت الدولة كما سقط اعتبارها والظاهر أنه لا مانع عقلية أو شرعية منه أيضاً ما دام متوفراً على الشرائط المتقدمة فهو بحكم الأصل الأولي مباح وجائز فإذا انطبقت عليه العناوين الوجوبية أو الندبية كان كذلك وكيف كان فقد عرفت مما تقدم أن الإسلام لم ينص على صيغة واحدة من صيغ الأنظمة حتى يحكم بتعيينها بل اكتفى بتحديد الكبرى وشرائطها وترك الاختيار الصيغة الأفضل لكل أمة بحسب ظروفها وقدراتها وتشخيص أهل الخبرة من أبناءها وعليه فلو اتفقوا على نظام التعددية مثلاً أو الثنائية وجب ذلك ولا يجوز مخالفته إلى غيره ولو اختلفوا وكانت أكثرية وأقلية فرأي الأكثرية هو الحجة عقلاً وشرعاً وإن تساوت الآراء فيمكنهم اختيار التنصيب في الحكم وجعل رئاسة الحكومة دورية لو اتفقوا على ذلك ويمكنهم معاودة التصويت كما يمكنهم الرجوع إلى القرعة لأنها حجة الموضوعات المشكلة بناء على عموم حجيتها حتى في غير مورد عمل الأصحاب كما يمكنهم جعل ضوابط وتقنينات في مجلس الأمة لإيجاد صيغة توجد الحل المنطقي المقبول من قبل الأمة تمسكاً باللابدية العقلية الحاكمة بأصالة التخيير فيما لم يمكن الجمع بين الحقين بعض فرض أن كل الصيغ المذكورة هي مصاديق للكل القاضي بلزوم الأخذ برأي أكثرية الأمة بعد توفر الشرائط الشرعية هذا بالنسبة لنظام الثنائية الحزبية أو التعددية.
وأما نظام الحزب الواحد فلا مجال للأمة لاختياره بعد تحريم الشارع له وقضاء العقل بقبحه فضلاً عن الآثار المترتبة عليه من المفاسد والظلامات وما أشبه إذ لا مجال للأمة في أن تحلل الحرام أو تحرم الحلال هذا بعض الكلام في الأحزاب السياسية وظل هناك كلام طويل ومفصل نوكله إلى محله وقد فصلنا جملة منه في كتابنا الحرية السياسية المعالم والضمانات فمن أراد يمكنه الرجوع إليه.
الفصل الثاني
في تحديد آليات ممارسة السلطة عبر القوى الاجتماعية ونعني بها كل ما له قوة التأثير على الشعب أو السلطة في الدولة وهو يشمل الخصوصيات الفردية والاجتماعية إذ لا يخلو أي مجتمع من وجود أشخاص لهم وجاهة ونفوذ مالي أو علمي أو اجتماعي ونحو ذلك يملكون التأثير على الناس وتحركهم باتجاه الأهداف العليا والوسطى للبلد والدولة وقد نهض الكثير من الحركات الاجتماعية في أبعادها الإيجابية غالباً أو السلبية نتيجة التأثير بمثل هذه الفعاليات كما أن الخصوصيات الجماعية التي تعد من أهم وسائل ممارسة السلطة وأقواها تأثيراً غالباً ما تنشأ من أنشطة فردية أو تقوم على جمع من الأفراد الذين لهم هذه القدرة وإن كانت الحالة الجماعية والنظام المؤسسي يضفي عليهم المزيد من القوة والتماسك والفاعلية والتأثير وفي الحديث الوارد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في كتب الفريقين يد الله مع الجماعة والمراد منه على ما ربما يبدو للنظر هو القوة كناية عن التأييد والنصرة بداهة عدم صحة حمل اليد على المعنى الظاهر أي اليد الجارحة لمنافاته لحكم العقل القاضي باستحالة ثبوت الجسم والجسمانية للباري عز وجل فيستفاد منه أن العمل الجماعي هو الأقوى في تحقيق الغرض من حيث الوضع بلزوم حمل اليد على القوة للضرورة العقلية الحاكمة بلزوم حمله على المجاز والكناية وربما يستفاد منه الوجوب تكليفاً أيضاً وذلك بناء على كفاية الملاك في وجوب الامتثال أو للملازمة بينما يحكم به العقل بلزوم تحقيق الغرض المولوي وما يحكم به الشرع على ما فصل في الأصول.
نعم بناء على عدم كفاية الملاك فإنه يحمل على الاستحباب والندب إلا إذا انضمت إليه ضرورة عقلية أو حجة شرعية ملزمة فحينئذ يحمل على الوجوب وكيف كان فإن القوى الاجتماعية تضم عدة أشكال وصور لعل من أهمها العمل المؤسسي القائم على نظام الفرق والهيئات والجماعات والتي ربما يجمعها عنوان مشترك واحد وهو ما يصطلح عليه بالمؤسسات على اختلاف أنحائها والمؤسسة في اللغة فعل أسس لغرض ما فهي تدل على التأسيس والإقامة لكنها في العرف العام تطلق على الجماعات المنظمة لأجل عمل ما وتحقيق غاية ما فيقال مؤسسات سياسية وإدارية ودينية وإعلامية وفكرية وهكذا ويتميز الناشط المؤسسي عن غيره مضافاً إلى قوة تأثيره وشدة تماسكه وفاعليته في أمور:
1- هي الاستقلالية عن العناصر المتشكلة منها وتميزها عن هذه العناصر بحيث أنها تضيف إليها شيئاً جديداً غير قوة أفرادها لم يكن موجوداً لديها من قبل هي قوة الجماعة والهيئة المنضوية تحت المؤسسة.
2- الاستمرارية إذ أن المؤسسة تتميز عن الأعمال الفردية باستمراريتها وديمومتها فلا يرتهن وجودها بحياة فرد أو عدة أفراد بل بالوظيفة التي تؤديها في النظام الاجتماعي السياسي بنحو عام.
3- توحيد الجهود والطاقات إذ تتشكل المؤسسة غالباً تلبية لفكرة أو حاجة اجتماعية فتخلق لدى أفرادها شعورا بالاختلاف والتمييز اتجاه الآخرين وتضطرهم إلى الدفاع عنها لأنها تصبح تعبيراً عن وجودهم ودورهم الاجتماعي.
ومن هنا يظهر أن مفهوم المؤسسة يتعارض من حيث المبدأ مع مفهوم العقد أو التعاقد إذ أن التعاقد لا يدوم إلا بدوام الشروط والالتزام في حين أن المؤسسة تستمد ديمومتها من الوظيفة الاجتماعية التي تؤديها ومن مصالح الجماعة المرتبطة بها كما أن التعاقد هو تعبير عن اتفاق بين إرادتين بينما تعبر المؤسسة عن إرادات عدة متجسدة في إرادة واحدة وسلطة وقرار واحد والظاهر انه لا توجد نظرية واحدة للمؤسسة بل هناك عدة نظريات تتصل بميادين متعددة فكل ميدان من ميادين التخصص في العلوم الاجتماعية يجعل منها مركز تأثير على الأفراد وعلى أفكار الناس واتجاهاتهم ومواقفهم كما لها تأثير مباشر أو غير مباشر على السلطة الحاكمة مما يجعل المؤسسة عنصراً هاماً في ممارسة السلطة من القاعدة إلى القمة ومن القمة إلى القاعدة.
وقد أثبت علماء النفس الاجتماعي أن التبادل بين الأفراد يخضع بشكل رئيسي إلى علاقات مؤسسية والمؤسسة هي الإطار الطبيعي لهذا التبادل والدولة بمعناها المنتظم هي الأخرى مؤسسة كبرى تدير شؤون البلد والناس هذا وربما تتخذ المؤسسات أشكالاً وأنظمة عدة ولكن اختلاف الصيغ والأشكال لا يضر بعد وحدة الهدف ومشروعية الدور الذي تمارسه ولا يخفى عليك وجوب قيام المجتمع والدولة على أساس المؤسسية لو توقف على ذلك حفظ الحقوق أو الدفاع عنها أو تطوير البلد وقيادة الناس إلى الرفاه أو توعيتهم وإرشادهم إلى ما يوجب علوهم ونفي هيمنة الكفار عنهم ويدل على ذلك طائفة من إطلاقات وعموميات الأدلة الأولية والثانوية.
فمن الأول قاعدتا العلو ونفي السبي وكذا الأمر بالمعروف والدعوة إلى الخير وإرشاد الجاهل وتنبيه الغافل وإعداد القوة والمعاونة على البر والتقوى وما أشبه.
ومن الثاني أدلة رفع الضرر والأهم والمهم ونحوهما بداهة أن العمل المؤسسي من مصاديق كل ذلك فيمكن أن يستدل بها على الوجوب من جهتين:
- إحداهما: العقد الإيجابي بمعنى أن القيام به يوجب قوة المسلمين وعلوهم وتوعيتهم ونشر المعروف والإصلاح بينهم وهذه في مجملها واجبة عقلاً وشرعاً.
- ثانيها: العقل السلبي بمعنى أن عدم القيام بذلك يوجب ضعفهم وهيمنة الكفار عليهم وتخلفهم وإضرارهم ونشر الفساد بينهم وهي بمجملها قبيح عقلاً وحرام شرعاً فيدل على الوجوب حينئذٍ إما من جهة الملازمة بين الأحكام على بعض المباني عند الأصوليين أو جهة اقتضاء النهي من الضد من الأمر بضده على جمع من الأصوليين أو من جهة أدلة النهي عن المنكر والفساد ونحوها هذا وعلى فرض المناقشة في بعض الأدلة المذكورة من حيث الصغرى فإن الظاهر أن مجموعها من حيث المجموع يفيد الفقيه اطمئناناً بشمولها إجمالاً لما نحن فيه وهو يكفي لإثبات المطلب نعم هو من قبيل الواجبات الكفائية التخييرية فإن قام به جماعة سقط عن الباقين كما أن الأصل عدم تحديده بصيغة أو نظام معين فيشمل كل ما تراه الأمة أو الحكومة العادلة مناسباً للقيام بالمهام والوظائف والأدوار نعم لو انحصر بأسلوب أو نظام خاص كما قد يراه البعض في مثل الأحزاب فحينئذٍ يتعين الأخذ به لكن الأمر راجع إلى تشخيص أهل الخبرة كما هو الشأن في الموضوعات المستنبطة أو الخفية هذا ولعل الاستقراء الخارجي يدلنا على أن من أهم المؤسسات الفاعلة في ممارسة السلطة اثنين:
إحداهما جماعات الضغط بأنحائها.
وثانيهما المؤسسات الإعلامية.
أما جماعات الضغط فهي منظمات تضم مجموعات من الناس ذات مصالح مشتركة وتمارس نشاطاً سياسياً أو نقابياً طبقياً أو اجتماعياً أو فكرياً ونحوها بقصد التأثير المباشر أو غير المباشر على سياسية الدولة ومواقفها أو على مواقف الهيئات التقنينية وعملها لصالح هدف معين أو جماعة معينة يحقق أغراض الجماعة الظاهرة ويستخدم هذا التعبير أكثر ما يستخدم في الدول ذات المجالس الحرة والسلطات المنفصلة واقعياً وجماعات الضغط على أنواع:
فمنها ما هو سياسي وهو ما يصطلح عليه باسم لوبي فيقال اللوبي الإسلامي مثلاً.
ومنها ما هو نقابي أو مهني أو اقتصادي بقصد المنفعة المادية الذاتية أو الفئوية ومنها ما هو إنساني للحث على رعاية الطفولة والعناية بالشيخوخة مثلاً.
ومنها ما هو اجتماعي كالمحافظة على البيئة أو المجتمع كإنقاذه من المخدرات أو حمايته من الأوبئة أو مكافحة الجهل والأمية.
ومنها ما هو محدد بغرض معين كجماعة سجناء الرأي أو المدافعون عن المظلومين ومنها ما هو غير ذلك.
وتمارس جماعات الضغط دورها عبر وسائل الاتصال المختلفة كالاتصال المباشر بأعضاء السلطة وبأعضاء المجالس التشريعية كما تستخدم في ذلك وسائل الإقناع والعلاقات والهدايا والحفلات والولائم الفاخرة والوعود بالتبرع أو الانضمام الصوتي في أثناء الحملات الانتخابية أو ما أشبه ذلك وهذه في مجملها جائزة لأصالة الحكم لو لم تكن الأدلة الخاصة على وجوب بعضها أو استحبابه ما لم يشتمل أو يستلزم محرماً نعم بعض جماعات الضغط تستخدم وسائل غير مشروعة للوصول إلى أهدافها وقد تطورت بعض أساليب هذه الجماعات للتأثير على الدول والحكومات عبر تأسيس مراكز دراسات فكرية وإعلامية مجهزة بالباحثين والكتاب والمعلومات والدراسات والنشريات لتقديم الحجج لصالح الجماعة المعنية وتزويد المسؤول التنفيذي أو المشترع بمعلومات وبحوث تخدم غرض الجماعة الضاغطة أو تعبأ الرأي العالم وبالتالي تأثر على الحكومة والمجالس بطريقة غير مباشرة ومستخدمة وسائل الاتصال المختلفة للتأثير على كل فكر الحاكم أو الحكومة.
هذا ولا يخفى أن الدول والحكومات تعاني من هذه الجماعات من جهتين:
- أحدهما: تمويل هذا النشاط.
- وثانيهما: لجوء جماعات الضغط إلى أساليب ملتوية ومفسدة أحياناً وفي بعض الأحيان تحقق أغراضها على حساب الصالح العام.
وهذه من المسائل التي دعت البعض إلى الشك في النظام الذي نشأت على جوانبه هذه الظواهر لذا ينبغي إيجاد حل وسطي يجمع بين الحرية وحق الدفاع عن النفس وشؤونها ما يرتبط بها من مصالح وبين دفع الأضرار والأخطار الناجمة عنها وهذه مهمة تعطيلية ترجع إلى السلطة التشريعية وكيف كان فالجماعات الضاغطة هي الوسيلة الطبيعية للتعبير عن إرادة الطبقة المحكومة هذه الطبقة تجد في الجماعات الضاغطة المنبر الذي تعبر من فوقه عن حاجاتها ومعتقداتها في وسط سياسي وثقافي واجتماعي متباين وبما أن الأحزاب السياسية وبرامجها لا تعبر بصدق وأمانة في بعض الأحيان عن كافة ميول الشعب ونزعاته واتجاهاته فكان من الضروري في المجتمعات الحرة السماح بنشأة التجمعات المتعددة التي تعكس مختلف التيارات والآراء ومن أهم هذه الجماعات هي النقابات والتجمعات الاعتقادية والأخلاقية كالمؤسسات الدينية وغيرها من التجمعات ذات النزعات المختلفة ووسائل التعبير والرأي العام كما أن من أهم وسائل ضغط هذه الجماعات هو السماح بنشاطها العلني الواقع تحت الرقابة العامة للشعب فإن السرية والخفاء ينطويان على الكثير من المحاذير المذكورة وهنا أمور ينبغي التنبيه عليها:
- الأول: ينبغي على هذه الجماعات استخدام الضغط السياسي أو الإعلامي أو الاجتماعي بلا لجوء إلى العنف ولا شق عصا الطاعة وإلا كان فوضى واضطراباً كما ولا تستعمل هذه الجماعات الضغط بتحطيم الممتلكات العامة أو الخاصة ولا عرقلة المواصلات وإرهاب الناس بالشوارع أو حرق المباني ونهب الحوانيت والقتل والجرح وما أشبه لأن كل هذا ظلم وفساد وعدوان نعم من أقوى مظاهر الضغط الجائز بل هو الذي ينبغي القيام به لاسترداد الحقوق هو التوعية والقيام بالإضرابات والمظاهرات ومراجعة القوى الحاكمة في الدولة.
- الثاني: أن يكون الضغط في خطط مدروسة ولفترة معينة تبدي فيها الجماعة احتجاجها على السلوك المتبع في رعاية مصالحها أو المصالح العامة جمعاً بين الحقوق.
- الثالث: أن تكون مطالب القوى الضاغطة في إطار العدل والإنصاف إذ قد تكون مطالبها غير عادلة مما يضر إعطائها للآخرين خصوصاً إذا كانت القوى الضاغطة قوة مرتبطة بخارج البلاد كما هو الحال بالنسبة إلى الصهيونية المتواجدة في أمريكا وفرنسا وبريطانيا حيث أنها تلاحق الشبكة العالمية للصهيونية من ناحية ومصلحة الكيان الصهيوني من ناحية ثانية ولا تهتم بمصالح البلاد التي تقطنها وإنما تضغط على تلك البلاد لأجل مصالحها الخاصة مما يخل بتوازن البلد وينتصر للظالم على المظلوم ويبيح له العدوان وما أشبه فاللازم أن تلاحظ السلطات الثلاثة في الدولة قدر العدل في القوة الضاغطة فتعطيها ولا تتعدى عن ذلك حيث يوجب التعدي الفوضى والاضطراب واختلال التوازن والظلم والعدوان فقد تزعج القوى الضاغطة السلطة التشريعية مثلاً فتشرع قانوناً ليس في مصلحة البلاد أو تطلب القوة الضاغطة تنحي السلطة التنفيذية عن الحكم بحجة عجزها عن حل المشاكل فإذا استجابت التشريعية لذلك كان معناه ضعف السياسية إلا إذا كان الحق مع القوى الضاغطة وهذا مما يتطلب تقنينات وتشخيص من أهل الخبرة وضوابط لضبط القضية.
- الرابع: اللازم على القوة التشريعية أن تعرف قدر وقيمة الجماعات الضاغطة حتى لا تخطأ في إعطاءها دون قدر العدالة أو فوق قدر العدالة إذ كلا الأمرين يمثل انحرافاً عن الحق بالإضافة إلى أنه إعطاءها فوق حقها يشكل خطراً على اقتصاد البلاد وميزانيتها ورؤوس أموال الشركات وأرباحها والنظام الاجتماعي فيها وعليه فإنه لا يجوز للقوى الضاغطة أن تكون معيقة للنظام ومخلة بالحرية أو محرفة للحقائق بل يجب عليها أن تكون عوناً على النظام والعدل ووضع الأمور في نصابها الصحيح واسترداد الحقوق الضائعة وما أشبه.
ومن هنا كان اللازم ضبط المتطرفين في القوى الضاغطة حتى لا يتعدوا عن حدودهم وتجنيد المسؤولين عن النظام عن دخولهم بالقوى الضاغطة وإلا كان ذلك تمهيداً للانحراف واختلال التوازن وقد عرفت مما تقدم أن الجماعات الضاغطة تكون صحيحة شرعاً فيما إذا قامت بواجب إحقاق الحق وإبطال الباطل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلم تتعدى الحق ولم تطلب الأمر للجائر فهي بالنتيجة جماعة وفي الحديث الشريف يد الله مع الجماعة بشرط الالتزام بالأطر الشرعية.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين..