المادة: فقه الدولة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon fekeh_dawla 47.doc

قلنا في البحث السابق أن الاستقراء الخارجي يدلنا على عدّة آليات لممارسة السلطة قامت عليها أنظمة الحكم في مختلف دول العالم وهي قد تتفق مع موازين الإسلام في الأصل وإن كان للشرع في تفاصيلها وجزئياتها رأي توسعةً أو تضييقاً كما أن هناك آليات أخرى انفرد بها النظام الإسلامي على ما يستفاد من مجمل أدلته اللفظية واللبية يمكن جعلها فيما نحن فيه قواعد أساسية لممارسة السلطة، ومن أهمها ثلاثة:

1- الأحزاب.

2- القوى الاجتماعية المختلفة.

3- الأمور الحسبية.

ولا يخفى أن ممارسة السلطة بواسطة هذه الآليات يمكن أن ينظر إليها من جهة القمة أي الحكومة وتارة من جهة القاعدة أي الشعب بشرائحة وأصنافه لكونه مسلّطاً على نفسه واختياراته فيحق له اتخاذ الآيات التي بها يمارس تلك السلطات.

وكيف كان فإن تفصيل الكلام فيها يستدعي البحث في فصول:

- الفصل الأول:

- الأحزاب

ويمكن البحث فيه تارة من جهة الكبرى أي وجوب النظم والتنظيم ولو في الجملة، وتارة من جهة الصغرى أي في الصيغة الخاصة للتنظيم التي قامت عليها أنظمة الحكم في عدة من دول العالم، كونه الأسلوب الأفضل لممارسة السلطة المتقابلة أي سلطة الشعب وسلطة الدولة.

أما البحث الكبروي فالظاهر أن وجوب التنظيم من القضايا التي قياساتها معها ولذا ربما نكون في غنى عن إثبات الأدلة على وجوبه، وذلك لكونه سنّة من سنن الكون كما يشهد به الوجدان بداهة أنّ الكون بما له من أجزاء وعناصر قائم على النظم والنظام قال تبارك وتعالى: (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت)، وقال عز وجل: (من كل شيء موزون)، وقال تبارك وتعالى: (كل شيء بقدر).

فما من شيء في الوجود إلا ويخضع إلى اصل متقن في اصله ووجوده وفي وصف هذا الوجود بل وفي فعله وآثاره، ولابد للإنسان من التماشي مع هذا النظام لكي يحقق أغراضه ويعيش آمناً مطمئناً وسعيداً في الحياة، وإلا ارتطم بالسنن الكونية ودمرته قوانينها.

هذا مضافاً إلى أن التنظيم ضرورة من ضرورات الحياة الإنسانية التي تحكم بها الفطرة وهو ما قامت عليه سيرة العقلاء أيضاً المتصلة بزمان المعصوم (عليه السلام) في مختلف شؤونه الهامة وغيرها كما يظهر من دوائرهم ومؤسساتهم ومصانعهم ومزارعهم ومتاجرهم ومدارسهم وجيوشهم ومعاهدهم وغيرها من الشؤون الخاصة والعامة فضلا عن قيام الأدلة الأربعة على وجوبه في الجملة خصوصا فيما يتعلق في الأعمال التي يتوقف عليها حفظ النفوس والأعراض والأموال العظيمة والعقائد، بل لا يبعد القول بأنه من ضرورات العقيدة كما قد يستظهر ذلك من أدلة وجوب نصب الإمام والخليفة كما فصل في علم الكلام فضلاً عما عرفته مما تقدم من مباحث ضرورة وجود الحكومة والدولة والحاكم وغيرها من الأدلة العقلية والنقلية ولعلّ من هنا جاء الأمر بالتنظيم أو التوصية به في وصايا الأنبياء والأولياء (عليهم السلام) كما عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصيته لأولاده (عليهم السلام) الراحل من الدنيا حيث أوصاهم (عليهم السلام) بقوله: (ونظم أمركم) وهو في مقام الإنشاء كما يعضده السياق، وكونه في مقام الوصية أولاده (عليه السلام) لا يخصص الوارد كما واضح ويعضده أن التنظيم قوة وقد أمر                                                            الله سبحانه وتعالى بإعدادها بقوله تبارك وتعالى: (واعدوا لهم ما استطعتم من قوة) بداهة انه إذا لم ينتظم المجتمع في تنظيم واسع وقوي فيسيعتريهم الضعف ويتغلب عليهم الأعداء.

وهي من الملاكات التي يستقل العقل بقبحها والشرع بحرمتها وهذا ما قامت عليه سيرة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ومولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) كما تضافر نقله في التواريخ فمثلاً في حرب بدر كان المسلمون زهاء ثلاث مائة والكفار زهاء ألف وكان الكفار مدججين بالسلاح أما المسلمون فكانوا شبه عزل وفي قبال ذلك لم يكتف الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) بالإيمان القلبي في الحرب وإنما أضاف إلى ذلك التنظيم الخارجي وقد ذكر بعض المؤرخين أن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) جعل كل مئة من أصحابه في دائرة ظهور بعضهم إلى بعض ووجوههم إلى الخارج، وعندما بدأ المشركون بهجومهم على المسلمين لم يستطيعوا من الإحاطة بهم وتبعثروا حول هذه الحلقات الكبيرة.

وبمثل هذا التنظيم استطاع المسلمين أن ينتصروا على الكفار الذين لم يمتلكوا هذه القدرة التنظيمية العالية كما أن ذلك يظهر صريحاً وجلياً في إرسال رسول الله (صلى الله عليه وآله) للرسل وتنصيب القضاة والولاة والمبلغين والمعلمين وأئمة الجماعة والجمعة وما أشبه ذلك مما يكشف على أنه اتبع التنظيم في إدارة الدولة والحكم كما أن ذلك يظهر جلياً في وصية مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الاشتر حيث قسم الناس إلى أصناف ووضع لكل صنف أميراً وحاكماً وما أشبه ذلك كما لا يخفى على من راجع التفاصيل.

هذا ولا يخفى عليك أن العالم المعاصر يعتمد على التنظيم في تدبير أموره المختلفة وقد جاء في بعض التقارير أن للصهاينة خمسة ملايين منظم وفي تقرير آخر أن للاتحاد السوفييتي قبل التفكك منظمين بين 12 مليون إلى 25 مليون، كما أن للصين الشيوعية ما لا يقل عن20 منظم وللبلاد الأوروبية مع أمريكا 50 مليون منظم سواء في التنظيمات الحزبية أو الثقافية أو غيرها بداهة انه لا يمكن تدبير الأمور بمختلف شؤون الحياة إلا بواسطة المنظمات والأفراد الذين ينتمون إلى هذه المنظمات.

كما لا يمكن العيش في هذا الجو المشحون بالتنظيمات بلا تنظيم فضلاً عمن أراد مواجهة هذه الجيوش من التنظيمات المختلفة بواسطة التفرق والتبعثر والتمزق أو بالأعمال الفردية، وفي هذا الشأن قال السيد الشيرازي (رضوان الله عليه) في كتابه السبيل إلى إنهاض المسلمين ص46 لقد قلت لبعض مسلمي لبنان أنكم ستواجهون مصيراً سيئاً إن لم تنظموا أنفسكم قالوا: ومن أين تقول ذلك قلت: من منطق التاريخ ومنطق الأحداث، قالوا وكيف قلت إنكم محاطون بتنظيم صليبي داخل لبنان وبتنظيم صهيوني في إسرائيل فأنتم بين تنظيمين معاديين ومع ذلك فإنكم مبعثرون ومن الطبيعي أن ينتصر من له تنظيم على من لا تنظيم له ولا يكفي أن يقول أحد أنني مع الحق ولا يعمل شيئاً لأن الحق يأمرك بالتنظيم ويأمرك بأن تعلو ولا يعلى عليك يأمرك أن تأخذ بالأسباب الطبيعية لا أن تجلس وتقول إنني على صراط الله والآخرون على صراط الشيطان وماذا كانت النتيجة إنها المشاكل والكوارث التي شاهدها الكل بأم أعينهم.

وسواء كان السبب هو القصور أو التقصير فإن النتيجة حصلت كسائر الأسباب الطبيعية فإن من لم يشرب الماء ولو لعدم وجود الماء لابد أن يصيبه الضرر إن النتيجة ليست متوقفة على العلم والجهل أو الإمكان وعدمه فالدنيا دار أسباب ومسببات والمسببات تتولد بشكل قهري من الأسباب سواء وجدت الأسباب بعمد أو بغير عمد. ولنا عبرة كبير في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) حيث أنه كان يخضع كل شؤونه للتنظيم الدقيق.

وكيف كان فإن هذه السيرة بضميمة وجوب القدوة والأسوة تدل على الوجوب أيضاً كما لا يخفى ويعضد ذلك أيضاً حكم العقل وذلك من وجهين:

- أحدهما: من باب المقدمية بداهة أن التنظيم مقدمة لإقامة حكومة الإسلام وتطبيق قوانينه قال تبارك وتعالى: (أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) فإن الأمر متعلق بإقامة الدين والمتلقى العرفي من قيام الدين هو العمل لتثبيته نشره وإيجاد كيان حر مستقل له بحيث يشعر كل من يدخل المجتمع الإسلامي بأن كيان الدين قائم فارض هيمنته وسلطته على المجتمع من القمة إلى القاعدة وناشر ظله وإرداته على كل منطلقات المجتمع الفكرية ومؤسساته النظامية وخالع طابعه على جميع الأفراد والأعمال.

ومن الواضح أن من مقدمات إقامة الدين هو تكوين التنظيمات العاملة لأجل هذا الشأن وفي معنى الآية مضامين عديدة لا يسعنا المجال لبيانها هنا.

- ثانيها: في الدفاع والمقابلة بالمثل فإن الأعداء يقابلون المسلمين بالتنظيمات المفسدة والمضللة فيجب مقابلتهم بالمثل من باب الدفاع" قال تبارك وتعالى: (ومن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) ويمكن ذلك بتنظيم المسلمين أولاً لجمع القوة والقدرة وغيرهم دفاعاً وهذا ما اختاره جمع من الفقهاء منهم السيد الشيرازي (قدس سره) في كتابه السبيل إلى إنهاض المسلمين قال في ص49: والواقع أن تنظيم غير المسلمين هو واجب شرعي أولاً ووسيلة لمواجهة التحديات الحضارية التي تعيشها أمتنا ثانياً، لقد مارس الغربيون والشرقيون مثل هذا العمل بالنسبة إلى المسلمين بالأمس وهم يمارسون مثل هذا العمل اليوم فمن الشاهد أنهم ينظمون قسماً من شبابنا لكي يكونوا عملاء لهم إنهم يجندون شبابنا في سبيل الكبت فلماذا لا نجد شبابهم في سبيل التحرر والإصلاح ولا نقصد تحرير بلادنا فحسب بل بلادهم أيضاً فإن الحرية الحقيقية إنما هي في الإسلام قال الله سبحانه (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم).

هذا وقد أيد (قدس سره) ذلك بنموذجين:

- الأول: ما جرى في إيران قال (قدس سره الشريف): قبل أن يحتل البريطانيون إيران أرسلوا مجموعة من عملائهم إلى داخل إيران وخصوصاً إلى العشائر المحيطة بالحدود وقد أظهر هؤلاء العملاء الإسلام كذباً ونفاقاً كستار لأعمالهم الشيطانية واخذوا يضللون قسماً من الشباب السذج حتى انخرطوا في التنظيم الغربي البريطاني وأصبح هؤلاء الشباب فيما بعد ركائز الاستعمار البريطاني في إيران وقد تزوج أحد هؤلاء العملاء إحدى فتيات العشائر بعد أن أظهر الإسلام وبعد أن استطاع أن يضلل مجموعة من الشباب ويخرطهم في التنظيم البريطاني وجد أن مهمته قد انتهت فباع زوجته لقروي مقابل شراء حمار وركب الحمار واتجه نحو بوشهر حيث باع حماره هناك وركب السفينة وأبحر إلى لندن..

هكذا عمل المستعمرون في إيران.

- والثاني: ما جرى في تركيا فإنه حينما أراد المستعمرون سحبها إلى الإلحاد الكامل وإزالة حتى المظهر الإسلامي عنها بعثوا بمجموعة من عملائهم إلى تركيا من أجل إفساد الشباب وتخريب البلاد وفي هذا الإطار ينقل أحد اليهود وكان في مهمة استعمارية في أنقرة الحادثة التالية فيقول: بعد أن انتهت مهمتي ونظمت العدد المطلوب من الشباب صممت على أن لا أخرج من البلاد إلا بعد إفسادها فتعاونت مع شاب تركي كان في تنظيمنا حتى تمكنا من تفجير البنك العثماني الذي كان في أنقرة، مما أحدث في العالم أثراً طيباً حسب تعبيره.

هكذا ضلل المستعمرون شبابنا ولا زالوا يضللون فالواجب علينا أن نقابل بالمثل بفارق واحدهم انهم يعملون في سبيل الهدم ونحن نعمل في سبيل البناء هم يعملون في سبيل الاستعباد ونحن نعمل في سبيل التحرير، هم يعملون في سبيل الهوى والشيطان ونحن نعمل في سبيل الله والإنسان انتهى ما ذكره السيد الشيرازي (قدس سره).

هذا من ناحية الكبرى وضرورة التنظيم الذي قامت عليها الفطرة والسيرة العقلائية والأدلة الشرعية بل والواقع الخارجي لخصوم الإسلام، وأما الكلام من ناحية الصغرى فإن الاستقراء شبه الكامل في آليات ممارسة السلطة في مختلف دول العالم وخصوصاً المتقدم منه يوصلنا إلى أن الأحزاب السياسية هي الأسلوب الأفضل الذي اتفق عليه عقلاء العالم في أنه يجمع بين السلطتين ويحقق مصالح الشعب في سلطته والحكومة في أهدافها وطموحاتها وقد عرفت مما تقدم أن الأحزاب من الموضوعات المستنبطة التي يرجع في تحديدها إلى أهل الخبرة إذ لا دليل يدل على حرمتها أو وجوبها إلا ما عرفت من عموميات الأدلة وإطلاقاتها الدالة على أصل التنظيم والاجتماع.

وكيف كان فإن ضرورة البحث تستدعي التعرض إلى الأحزاب بعض الشيء وبعض أصناف الأنظمة الحاكمة القائمة على الأنظمة الحزبية كنماذج لدور الواقع الحزبي في الحكومات والأنظمة فنقول:

يطلق الحزب على مجموعة من المواطنين يؤمنون بأهداف سياسية وعقيدة مشتركة وينظمون أنفسهم بهدف الوصول إلى السلطة وتحقيق برامجهم التي يرونها السبيل الوحيد أو الأفضل في تحقيق الهدف، ويبدو أن الحزب السياسي من العوامل الطبيعية الملازمة لكل نظام سياسي معروف فالحزب السياسي موجود في الأنظمة السلطوية كما هو موجود في الأنظمة الحرة بل وفي البلدان التي هي على طرق النمو كما في البلدان المصنعة، ويندر أن يكون هناك دولة لا وجود لحزب سياسي واحد فيها على الأقل وحتى البلدان التي قد تخلو ساحتها السياسية من تشكل خاص باسم الحزب كبعض الأنظمة الملكية أو الأميرية أو السلطوية إلا أنها لا تخلو من واقع الحزب واتجاهاته الفكرية، إذ لا يخلو البلد من جماعات يجمعهم فكر وهدف واحد سواء كان في قمة السلطة أو في ظلّها أو في طريق العمل لأجلها.

والظاهر أن دخول الحزب في تركيبة الحكم والدولة في الأنظمة السياسية حديث نسبياً إذ لم يكن للأحزاب من وجود قبل الربع الثاني من القرن التاسع عشر كما لم يكن لكلمة حزب المدلولات والمعاني نفسها تماما المعروفة اليوم، وقد كانت الدراسات الحزبية القديمة تعتمد بشكل كلي على تحليل عقائد الأحزاب لأن النظرة السائدة في ذلك الوقت كانت تحصر مفهوم الحزب في جماعة عقيدية.

وقد عرّفها بعضهم كما في موسوعة السياسة بأنه اجتماع خاص يعتنقون العقيدة السياسية نفسها، وأما موسوعة لاروس فتدخل عنصر المصالح في تعريفها للحزب فتحدده بأنه مجموعة أشخاص تعارض مجموعة أخرى بالآراء والمصالح.

وتتميز الأحزاب المعاصرة قبل كل شيء بكياناتها وبنيتها وتنظيمها ويعتقد بعض مفكري الغرب بأن نشأة الأحزاب المعاصرة تعود إلى عام 1850 حيث لم يكن قبل ذلك أي بلد في العالم باستثناء الولايات المتحدة يعرف الأحزاب السياسية بالمعنى الحديث للكلمة، ويرى أن هناك أصلين للأحزاب الأصل الانتخابي والبرلماني على ما يعبرون والأصل غير الانتخابي وغير البرلماني أو ما يسمى بالأصل الخارجي، ويتبلور الأصل الأول في تكوين الأحزاب من خلال إنشاء الكتل البرلمانية أولاً ثم اللجان الانتخابية فيما بعد وأخيراً يقوم في المرحلة الثالثة تفاعل دائم بين هذين العنصرين وكانت وحدة العقائد السياسية المحرك السياسي في تكوين الكتل البرلمانية.

وإلى جانب العوامل المحلية الإقليمية والعوامل العقيدية يجب أن يحسب أيضاً حساب للمصالح كما عرفت من موسوعة لاروس كقيام بعض الكتل بصورة صريحة أو ضمنية بالدفاع عن مصالحها البرلمانية شأنها في ذلك شأن أي نقابة والاهتمام برعاية الانتخاب يلعب هنا بالطبع دورا كبيرا.

هذا وفي كثير من الأحيان يتم إنشاء الحزب بصورة أساسية بفضل مؤسسة قائمة من قبل وذات نشاط مستقل وخارج عن البرلمان وحينئذ يمكن الكلام بحق النشأة الخارجية للأحزاب فالكتل والمنظمات تعمل على إنشاء أحزاب سياسية كثيرة ومتنوعة ومثال النقابات في ما نحن فيه هو الأثر.

هذا ولا يخفى عليك أن هناك أحزاباً سياسية تنشأ حول ندوة فكرية أو مؤتمر ولكن قلما يستطيع حزب أن ينشأ على هذا الأساس من إيجاد قاعدة شعبية تمكنه من النجاح في ظل نظام يعتمد الانتخابات طريقاً للوصول إلى السلطة.

ولا يخفى عليك أن التطور الذي رافق مفهوم الدولة والحياة السياسية والانتقال إلى مرحلة الدولة الإقليمية والدولة الأمة أصبح فيه الشعب يعتبر محور السلطة، فبدلاً من أن الدولة أصبح الشعب يعتبر مصدر السلطة ومالكها في الأنظمة الحديثة ومن الواضح أنه لا يمكن للشعب ممارسة السلطة والحرية السياسية ككل، فكانت الضرورة لإحداث أجهزة وأعضاء وممثلين تنوب عنهم في ممارسة السلطة السياسية، وحيث أن المؤسسات السياسية على رغم انبثاقها عن الشعب وانفصالها ظاهرياً عنه تظهر بمظهر القوى المتميزة عن قوة الشعب فتحدّ سلطتها في الواقع بالنظام القانوني الذي يطمح إليه الشعب.

ومن هنا كان لابد من تحديد سلطات السلطة الحاكمة وتعيين واجبات الأفراد وحقوقهم والدولة بحكم طبيعتها القانونية بوصفها تنظيم قانوني لا تملك إلا احترام هذه الحقوق وحينئذٍ يتفرّع على ذلك أمور:

1- كما أن للفرد حقوقاً على الدولة عليه واجبات أيضاً تجاهها وأقل ما فيها هو احترامها واحترام مؤسساتها القائمة والالتزام بمقرراتها ما دامت ضمن الموازين الشرعية والعقلائية.

2- الاعتراف للفرد بحقوق وحريات عامة وخاصة يتمتع بها ويدافع عنها في حال مخالفتها تخول الأفراد منفردين ومجتمعين حماية المكاسب التي انتزعوها بالسلم حينا وبالقوة في أحيان، ولكن لما كان السبيل الفردي غير كاف لحماية الحقوق وجد الأفراد من الواجب اتحادهم لما في الاتحاد من قوة، ومن أجل احترام حقوقهم وحرياتهم وبذلك انضوت مختلف فئات الشعب في تكتلات تجمعها وحدة العقيدة والأهداف.

3- أن هذه التكتلات الشعبية صارت المعيار الذي يميز الأنظمة الحرة عن الأخرى المستبدة لأن هناك صراع في الحقوق بين فئة حاكمة وأخرى محكومة تعمل كل منها بفعل عوامل النزعة التسلطية في الإنسان على التدخل في أعماله الأخرى والحد من سلطاتها، فإذا كانت الغلبة للسلطة الحاكمة اتصف النظام بالدكتاتوري أو المستبد الذي قد يكون استبداده فردياً أو جماعياً، ويقوم على تقليص الحريات العامة وإقامة مجتمع موحد يحكمه رئيس واحد وحزب واحد وأما إذا كان النصر حليف الفئة المحكومة اتصف النظام بالحرية وما يعبرون عنه بالنظام الديمقراطي، حيث يسمح فيه حرية التعبير وحرية التجمعات السياسية والنقابية والحرفية وما أشبه ذلك.

4- على رغم مظاهر الانفصال بين طبقات الشعب الحاكمة والمحكومة ورغم الفوارق الجوهرية بين الأنظمة المستبدة والأخرى الحرة فإنه لابدّ للطبقة الحاكمة في كل من النظامين أن تستند على حزب أو أحزاب لتدعم كيانها، وهنا نلاحظ أن الحزب أو الأحزاب التي هدفت في بدء تكوينها إلى محاربة الدولة واكتساب السلطة أصبحت هي الأخرى عاملاً في تكوين السلطة، ومن هنا قلنا أن الحزب هو القناة التي تجمع بين السلطتين سلطة الشعب وسلطة الحكومة، وعليه لابد لكل نظام من الاعتماد على الشعب أو على جزء منه ليستمر في البقاء والمحافظة على كيانه، وهذا الجزء منه هو الأحزاب كما لا يخفى فلو أخذنا الشعب من الوجهة السياسية لوجدنا فيه طبقات وعناصر متحدة تملك من القوة ذات الفعالية والتأثير أكثر من غيرها من الطبقات الأخرى المتفرقة وعندما تتحد الطبقات وتنتظم فيما بينها تشكل قوة لا يستهان بها وتكون النواة في تكوين الأحزاب وغيرها من النقابات والتجمعات والتكتلات.

هذه القوى السياسية والاجتماعية الفاعلة في الدولة والتي تعبّر عن تحركات الشعب تحد من سلطة الدولة المطلقة لصالح الفئات التي تقوم على أرضها كما أنها الآلة الطبيعية والقادرة الكفوءة على تطبيق برامج السلطة وخططها.

هذا وتصنّف الأحزاب إلى تصانيف عديدة مثل أحزاب الرأي أو أحزاب الطبقات أحزاب الحرفيين أو الفلاحين أو ما أشبه ذلك وربما تصنف بحسب التركيب الجغرافي أو العرقي أو الديني أو حسب الاتجاهات السياسية كما أنه يمكن تصنيف الأحزاب إلى أحزاب إقليمية، والسبب في تعدد التصنيفات يعود إلى الفوارق بين الأحزاب فيما يختص بعقيدتها وطبيعتها وطريقة نظامها وتركيبها وحجمها وما أشبه ذلك..

ومن الواضح أن هذا كله ينبغي أن يخضع في الحرمة والجواز إلى مطابقة الموازين ولسنا نحن بصدد بحثه لعدم دخوله في الغرض، وأما ما يدخل في غرضنا فهو معرفة إجمالية عن وظائف الأحزاب السياسية فقد عرفت أن الأحزاب أداة حكم ووسيلة معارضة بالقدر الذي تملك فيه الأكثرية النيابية أو الأقلية فتساهم بذلك بصنع إرادة الأمة كما تحد في الوقت نفسه من تلك الإرادة، ولكي تظهر على المسرح السياسي تقوم الأحزاب بخمسة وظائف عادة:

- الوظيفة الأولى: تنظيمية إذ تتطلب الحياة السياسية تمحور مختلف الآراء الفردية والميول الشخصية في ضمن الجماعة، وفي مجتمع تتشعب فيه الآراء والأهواء وتتضارب الميول السياسية يصعب فيه بروز تيار فكري واحد ومسيطر، لذلك كان على الأحزاب أن تقوم بدور الحافز والموحد للأفكار واختيار القرارات السياسية المهمة.

- الوظيفة الثانية: إعلامية إذ تتولى الأحزاب السياسية تثقيف أعضاءها وتثقيف النخبة من الأعضاء الذين يملكون قدرة فائقة في الدفاع عن آراء الحزب ومبادئه وبرامجه وتمدهم بالمعلومات التي يستطيعون من خلالها مواجهة التغيرات الطارئة الحالية أو المستقبلية سواء على صعيد المواطنين أو على صعيد الحكومة والسلطة وبعملها هذا تشكل نقطة اتصال بين السلطة والشعب والحاكم والمحكوم فتنقل إلى الفئة الأولى مطالب الفئة الثانية وتنذرها بوجوب تحقيق تلك المطالب والدور الإعلامي للحزب لا يقتصر على العضو والنائب بل يتعدّاه إلى الناخب إذ يقوم بمدّه بالمعلومات والإرشادات التي تنمي لدى المواطنين ملكة فهمه للظواهر السياسية والاجتماعية وتساعده على اختيار الأصلح والأنسب لمصالحه.

- الوظيفة الثالثة: هي الانتقائية إذ يتولى الحزب اختيار مرشحيه وانتقاء المرشح الأوفر حظاً بالنجاح فالمرشح الذي يقود الانتخابات على أساس شخصي قلما يضمن الفوز بمقعده النيابي بينما النائب الحزبي حال انتخابه يخضع لتعليمات الحزب وتوجيهاته وحتى يحظى بثقة الحزب والوقوف إلى جانبه عليه أن يضع المصالح العامة فوق مصالحه الشخصية وإن شذ عن الانضباطية التي يفرضه الحزب فإنه يخضع لعقوبة الفصل أو التجميد.

والدور الانتقائي للحزب يبرز أيضاً على صعيد الدائرة الانتخابية إذ يختار الحزب الدائرة التي يضمن فيها فوز المرشح ومن الواضح أن هذه الأمور لا تبرز بحدة في الدول ذات نظام الحزب الواحد حيث لا وجود للمعارضة أو البدائل المتعددة في الانتخابات فالحزب يقدم مرشحاً واحداً عن الدائرة الانتخابية حيث يتولى الشعب المصادقة على ترشيحه من دون أن يكون له حرية الخيار بين عدة مرشحين عادة وإن كان فإنه يخضع فيما يختار إلى ما تريده السلطة الحاكمة بسبب الخوف أو عدم وجود فرق حقيقي بين البدائل المرشحة من قبل السلطة.

- الوظيفة الرابعة: وظيفة أخلاقية إذ أن حياة المرشح السياسية لا تكفي للإحاطة الكاملة بمجريات السياسة عادة كما أنه من الصعب الحكم بعدل على كفايات الأفراد نظراً للتضارب والتناقض في مواقفهم السياسية التي تتحكم بها مصالحهم الخاصة ولتعدد شخصية الرجل السياسي فالأحزاب التي تتمتع بالديمومة والاستمرارية تستطيع الحل محل الأفراد لتضطلع بالمسؤولية السياسية التي ينجم عنها خسارة السلطة أو الاحتفاظ بها في حال عدم احترامها للمبادئ التي وجدت من أجلها.

- الوظيفة الخامسة: الدور التربوي إذ أن الأحزاب تعد الكفاءات وأصحاب الخبرات لممارسة العمل السياسي والحكومي دائماً وهذا من شأنه أن يحفظ الحرية ويجعل اختيارات الشعب مستقلة وحرة كما يسوقه إلى رقيه وتطوره بداهة تبادل الكفاءات مراكز السلطة والقدرة مما يسبب التنافس وتقديم الأفضل.

والظاهر أن هذه الوظائف مما تشترك فيها الأحزاب الإسلامية وغيرها إذ لا مانع شرعي وعقلي يفصل بين الصنفين من الأحزاب هذا في أصل التصنيف.

وأما في الشريعة فالظاهر أن اسم الحزب ورد في القرآن الحكيم على طبق معناه اللغوي ففي مفردات الراغب الحزب جماعة فيها غلظ قال تعالى: (أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا) وحزب الشيطان وقوله تعالى: (ولما رأى المؤمنون الأحزاب عبارة عن المجتمعين لمحاربة النبي صلى الله عليه وآله) هذا وهناك سورة في القرآن الحكيم باسم الأحزاب وقد وقع استعماله في مختلف الآيات الشريفة تارة في الخيرين كما في قوله سبحانه وتعالى: (ألا أن حزب الله هم الغالبون) وتارة في الشريرين والأعم كقوله عز وجل: (ولما رأى المؤمنون الأحزاب) وقوله سبحانه: (من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحين) والذي ربما يمكن أن يستنبط من الآيات والروايات والسيرة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) صنف المسلمين إلى جماعتين هما جماعة المهاجرين والأنصار مع أنه لم يكن معهما أي تفاوت في الحقوق والواجبات لكنهما تميزا بالاسم والتكتل والأدوار في بعض الموارد وكان الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وتارة يمدح هؤلاء وتارة أولئك كما كان يلتجأ أحياناً إلى هؤلاء وأحياناً إلى هؤلاء للضغط على كل طرف من الأطراف بحسب التوازن وحسن التدبير كما لا يخفى على من راجع سيرته الطاهرة (صلى الله عليه وآله) في هذا المجال.

وفي غزو حنين حينما أجزل قسمة الغنائم للمؤلفة قلوبهم وجعل للأنصار شيئا يسيرا قال (صلى الله عليه وآله): (لو سلك الناس واديا وسلك الأنصار شـأبا لسلك شأب الأنصار اللهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار ولأبناء أبناء الأنصار) وقد وصى (صلى الله عليه وآله) للأنصار قرب وفاته وقال (صلى الله عليه وآله): (إنكم سترون بعدي إثرة) فلما تولى معاوية منعهم العطاء.

والظاهر أن تكون الأحزاب عادة يرجع إلى سببين:

- أحدهما: المشاركة الوجدانية وهذا هو الأصل بداهة وجود الفوارق النفسية بين الناس فكل جماعة أو أمة أو شعب أو قبيلة لابد أن يوجد بينهم أناس لهم صفات نفسية متمايزة وكفاءات خاصة وتلك الصفات تدعو أولئك الأفراد إلى المشاركة الوجدانية تحقيقا للأهداف المشتركة والصالح العام فيقومون في الخدمة العامة لحسهم بالمشاركة مع الناس في أحزانهم وآلامهم وآمالهم.

- ثانيهما: الأنانية وعادة ما يقع في ذلك أهل الأهواء والمصالح الخاصة ممن يتمتعون بقوة أو ذكاء إذ يجمع القوي حول نفسه جماعة يوجههم في اتجاهه لإشباع رغبته في السيادة والأنانية وما أشبه ذلك.

ومن الواضح أن الصنف الأول من الأحزاب في بعض موارده واجب العمل وفي بعض موارده مستحب على اختلاف الموضوعات كما أن الثاني منه في بعض موارده حرام وفي بعض موارده مكروه، ثم إن هناك فرق بين الحزب السياسي وبين الجمعية السياسية بالمصطلح الحديث؛ فالأول عبارة عن جماعة ذات ضوابط خاصة تهدف الوصول إلى الحكم، بينما الثاني يكون في هامش الحكم غالبا ويؤثر به أو يتأثر منه فمثلاً ما يسمى بجمعية الصداقة أو جمعية حقوق الإنسان أو جمعية أهل الرأي أو الحرية وما أشبه حيث يكون في البلد جماعة يهوون حكومة خاصة أو يدافعون عن مصلحتها إما عمالة أو أصالة إذ رأوا أن مصالح البلاد الارتباط بتلك الحكومة مثلا فمثل هذه الجمعية لا تريد الوصول إلى الحكم وإنما تقف في هامش الحكم ولكنها تقويه وتسنده وتبصّره على عيوبه كما ترشده إلى مداليل الحق والعدالة.

وبذلك يظهر وجه الفرق الاصطلاحي بين الحزب وغيره من المؤسسات والجماعات وإن كان الجميع يقوم على التجمع والتكتل كما يتضح أيضاً أن تعريف الحزب بنحو عام هو الجماعة المترابطة من الناس الذي لهم تنظيم على سطح الدولة ولهم فلسفة خاصة هدفهم الوصول إلى الحكم على ما ذكره السيد الشيرازي (رضوان الله عليه) فيما ذكره في كتابه الفقه السياسة في الجزء الثاني ص106.

وعلى الرغم من وجود تعاريف متعددة له إلا أننا نكتفي هنا بهذا التعريف لاكتفائنا بالإشارة إلى معنى الحزب وإظهار أبرز خصوصياته فإن بالجماعة أخرجنا العمل الفردي وبالتنظيم أخرجنا الجماعات غير المنظمة كالمظاهرات أو التجمعات وبالفلسفة الخاصة أخرجنا مثل المؤسسات والنقابات ونحوها، وبهدف الوصول إلى السلطة أخرجنا سائر المؤسسات السياسية التي لا تهدف إلى ذلك.

وعليه فإن حزبية الحزب تتكون بأركان خمسة هي:

1- الجماعية 2- التنظيم 3- العقيدة المشتركة 4- الهدف الواحد 5- أن يكون الهدف هو الحكم والوصول إلى السلطة.

هذا وللأحزاب السياسية برامج في إصلاح الحكم وجهاز الدولة والرقابة على سياساتها سواء كان بالحكم أو المعارضة أم على الحياد وهذا ما ينعكس على الأمة وحفظ الحريات العامة وتوفير الرفاهية وعلاج مشكلات النقد والأجور والأسعار ومكافحة الأزمات الاقتصادية وحل مشكلة البطالة وتعميم الثقافة وتوفير وسائل العلم وتنمية الإنتاج وتصنيع البلاد أو التقديم بها في هذا المضمار وفي التقارب مهما أمكن مع الشعوب وبالأخص الجيران والابتعاد عن الحروب والمفاسد.

وإذا كان الحزب دينياً في فكرته أو في أفراده حاول توسيع المناهج الدينية وتضييق دائرة الإلحاد والرذيلة والفساد وما أشبه وهنا ملاحظتان:

- الأولى: أن الإصلاح الذي يبرمجه الحزب لا يكون قفزياً إذ القفز العالي يوجب السقوط والانكسار غالباً خصوصاً وأن الطفرة على مبنى الحكماء محالة في الوجود بل ينبغي أن ينظم الحزب برامج في جداول زمنية معقولة للتسيير بالأمة نحو الإمام لموازنة الطاقات مع الآمال والأهداف ولحل المشاكل بأسلوب عقلاني.

- الثاني: يشكل الحزب جيشاً من المثقفين والخبراء والفنيين من مختلف قطاعات الثقافة والاختصاص سواء قبل وصوله إلى حكم أو بعد وصوله إلى الحكم لغرض تحقيق أهدافه فإن ذلك من أهم عناصر تقوية نفوذ الحزب في الجمهور والتأثير على الرأي العام فيه، لكن تعبئة المثقفين وأهل الاختصاص وزجهم في الأمة وفي البلد من أهم عناصر التقدم والتطور وبناء حضارة ذلك البلد، وهذا ما يعكس ما للأحزاب من دور فاعل في البناء والتطور والرفاهية.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين..