محاضرات فقه الدولة - المحاضرة 41
ذكرنا فيما تقدم بعض الروايات الواردة في شأن عدم جواز تولّي المرأة لشؤون السلطة والحكم، وكان منها ما رواه الكليني (رضوان الله عليه) في فروع الكافي، ومثل هذه الرواية وردت في نهج البلاغة أيضاً في وصية لمولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) لعسكره إذ نهى العسكر عن تهييج النساء بأذى حتى وإن شتمن الأعراض وسببن الأمراء، وعلل ذلك بأنهن ضعيفات القوى والأنفس والعقول.. وقد أشار إلى سيرة الناس حتى في الجاهلية بأنهم يذمّون من يهيّج المرأة أو يضربها حيث قال (عليه السلام): إنا كنا لنؤمر بالكف عنهن وأنهن مشركات وإن كان الرجل ليتناول المرأة في الجاهلية بالفهر أو الهراوة فيعير بها وعقبه من بعده.
مما يكشف عن سيرة الناس في ذلك وأن هذا الذم لا يلاحق الإنسان المباشر لضرب المرأة وإنما يلاحقه حتى في عقبه وذريته، ولا يخفى عليك أن الفهر هو الحجر على مقدار ما يُكسر به الجوز والهراوة هي العصا أو ما يشبه الدبوس من الخشب، وتناول المرأة بالفهر أو الهراوة كناية عن ضربها بهما ومحلّ الشاهد في أن النساء ضعاف القوى والأنفس والعقول وهذا الضعف لا يؤهّل المرأة ذاتياً لتولّي مقام القضاء والحكومة والولاية كما هو واضح.
هذا وهناك روايات أخرى تعرّضت لجهات نقص المرأة عن الرجل لها توجيهات هامة تنسجم مع روح الإسلام وطبيعة المرأة وخصوصياتها الذاتية لا يسعنا المجال للتعرض إليها، فإن الأخبار الواردة في هذا الشأن متفرقة ومتوزعة في أبواب مختلفة ربما يقطع الفقيه بصدور بعضها إجمالاً فضلاً عن صحة سند بعضها ودلالتها من حيث المجموع بعد ضمّها إلى بعض على عدم تناسب الولاية بشعبها ومنها القضاء والحكومة مع طِباع المرأة وذاتياتها وخصوصياتها البدنبة والنفسية والعقلية وتكليفها بالتستر والتحجب مما لا يخفى، وعليه فإن الأدلة الإثباتية لا تنهى على جواز تولي المرأة لهذا المقام وعلى فرض المناقشة أو الشك في ذلك كله فإنه ينبغي التمسّك حينئذٍ بالأصل حيث لا دليل، وهو فيما نحن فيه عدم جواز توليها لأصالة عدم ثبوت ولاية لأحد على أحد ما لم يقم دليل عليه. ولم يقم عندنا دليل عام أو مطلق يمكن القول بشموله لجواز ولاية المرأة، وربما يستأنس لكل ذلك بالإجماع القائم على عدم جواز إمامة المرأة للرجال في الصلاة بل للنساء أيضاً على فتوى البعض لما في الإمامة من الاقتداء والتأسي اللذان يتوقفان على مزيد من التوازن والحكمة والثبات.
هذا ولا يخفى إمكان وجود بعض النساء ممن يتمتّعن بالعقل والثبات والروية وغلبة الجهة العقلانية على الجهة العاطفية، بل وقع ذلك في الخارج حيث تولّت بعض النساء الحكومات والسلطات في جملة من الدول لكن الظاهر أن هذا استثناء لا أصل ولا زال استثناءً حتى في الحياة العصرية التي سعت في بعض مناهجها الوضعية إلى مساواة النساء بالرجال، ومن الواضح أنا لا ننكر وجود هكذا نساء إلا أن وجود هذه النسوة المعدودة لا يدل على قدرة العنصر النسوي بعمومه على الإدارة والولاية والتحلي بهذه الخصيصة، فإن كلامنا في الأصل العام والقاعدة الغالبة الجارية في شؤون الحكم والدولة، وليس الكلام في المواد الشاذة أو النادرة ومن الواضح أن التقنين يوضع بحسب الأكثرية الساحقة لأنها هي الملاك بالخطابات القانونية، وهي أيضاً كذلك في الخطابات الشرعية فليست الأقلية النادرة أو الأفراد المعدودين حتى ربما ينقض على ما ذكرنا على عدم صحة تولي المرأة للولاية.
- الخامس من الشروط: طهارة المولد.
ونعني به حلّية الولادة الناشئة من النكاح في مقابل الزنا، ولم نعثر في كلمات العامة على هذا الشرط في كتبهم الفقهية لا في الوالي ولا في القاضي فضلاً عن الحاكم، لكن تعرض له أصحابنا في شروط القاضي وكذا في الفقيه والمرجع، وربما ادّعوا عليه الإجماع ففي قضاء الشرائع لا ينعقد القضاء لولد الزنا مع تحقق حاله كما لا تصح إمامته ولا شهادته في الأشياء الجليلة وفي الجواهر العمدة الإجماع المحكي وفحوى ما دلّ على المنع من إمامته وشهادته إن كان، وقلنا به مؤيداً بنفر طباع الناس منه. هذا مضافاً إلى الأولوية المستفادة من جملة من المسائل منها ما دلّ على إشتراطه في الشاهد ففي الخلاف كتاب الشهادات في المسألة 57 قال شهادة ولد الزنا لا تقبل وإن كان عدلاً، دليلنا إجماع الفرقة وأخبارها. ولعل من الأخبار ما في الكافي بسنده عن أبي البصير قال سألت أبا جعفر عن ولد الزنا أتجوز شهادته؟ فقال: لا. فقلت: إن الحكم ابن عتيبة يزعم أنها تجوز.. إلى آخر الحديث، وكذلك بسند صحيح عن محمد بن مسلم قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): لا تجوز شهادة ولد الزنا، إلى غير ذلك من الأخبار..
ومنها ما دلّ على اشتراط في إمام الجماعة كصحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: خمسة لا يؤمّون الناس على كل حال وعدّ منهم المجنون وولد الزنا. وكذلك صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لا يصلين أحدكم خلف المجنون وولد الزنا.. إلى غير ذلك من الروايات ويدل على ذلك أيضاً العقل، وذلك لما يترتب على ولاية ولد الزنا من نقض الغرض من جهة الحكومة والدين معاً؛ أما الأول فلأن الحكومة والولاية تستلزم الطاعة والاحترام وتولّي ولد الزنا يوجب استهانة الناس به وتنفرهم منه كما يشهد به العُرف والوجدان فيخلّ بالطاعة والحكم، وأما الثاني فإنه بعد أن حرّم الدين الزنا واستقبحه لا ينبغي أن يوليه المقام الأعلى للناس لأنه قدوة وأسوة لهم لأنه يوجب استهانة الناس بالأخلاق والأحكام الإلهية وكلاهما نقض للغرض.
هذا ولا يخفى أن منع الإسلام لتولي ولد الزنا ينشأ من حِكم ومصالح عدة منها ما عرفت ومنها أنه نوع من الوقاية والحيطة والحذر من الوقوع في المفاسد الأعظم ففي الأخبار عن مولانا الصادق (عليه السلام) أنه - أي ولد الزنا - يحنّ إلى الحرام والاستخفاف بالدين وسوء المحضر، وهذا أمر تثبته التحقيقات الاجتماعية والوقائع العلمية والرواية تشير إلى مرض روحي أو استعداد له يمكن أن يهدّد المجتمع، فمثله مثل المبتلى بالأمراض المستعصية العداوئية فيعزله المجتمع خوفاً من أضراره ومفاسده وبذلك يرتفع الإشكال الذي ربما يخطر في ذهن البعض من قولهم بأن ولد الزنا لم يرتكب ما يوجب ذلك لجناية أبويه عليه، فإنه ينقض بالمرض الجسدي الخطير أيضاً وحلاً بأنه نوع وقاية للمصالح الأهم كما هو الشأن في مختلف الشؤون العقلائية، وهذا ما التزمت به طائفة من الدول المتحررة نسبياً لما رأته من دقة الحكمة فيه وإن لم تنص عليه بعضها في دساتيرها كما أنه نوع من الردع من الوقوع في المنكر كما هو واضح.
وكيف كان فالظاهر أن الأدلة لا تنهض لجواز تولي ولد الزنا لمقام الحكم والدولة، ولا أقل من الشك في المسألة لو قيل بمناقشة الأدلة المذكورة أو غيرها فإنه أيضاً من جهة أخرى لم تقم عندنا أدلة تثبت جواز تولي ولد الزنا لهذه المقامات العالية فحينئذٍ نقع في الشك وفي صورة الشك ينبغي التمسك بالأصل العملي وهو هنا يقضي بعدم ولاية أحد على أحد.
هذا بعض ما يتعلق بالمؤهلات الحقيقية وأما المؤهلات الحقوقية فربما يمكن تصنيفها إلى صنفين:
- أحدهما: المؤهلات الذاتية؛ وهي التي ينبغي توفرها في شخص المرشّح للحكومة حتى يصح توليه لهذا المقام شرعاً وعقلاً، ولولاها يفقد شرعية الترشيح فضلاً عن الولاية، وهي:
1- العدالة.
2- العلم.
3- الكفاءة.
وهي مطلوبة على نحو العموم المجموعي الانضمامي بحيث أن عدم توفر واحدة منها يفقد الصلاحية عنه وان توفرت غيرها، والثالثة منها وإن كانت تعود إلى الثانية إلا أن تخصيصها بالذّكر لأهميتها من جهة ولتوقف الكثير من واجبات الحاكم ومهمات الحكومة عليها من جهة ثانية، وللتمييز بين جهتي العلم النظري والعلم العملي المقصود به الخبروية في الممارسة والتطبيق فإن النسبة بين العلم والخبروية هي العموم من وجه، هذا ويختلف شرط العلم بين الفقيه وغيره فإنه في الأول يشترط مضافاً إلى العلم بأمور الحكم والدولة الفقاهة بخلافه على الثاني فإنه لا يشترط فيه الفقاهة لتبعيته وخضوعه لإشراف الفقيه الجامع للشرائط أو شورى الفقهاء، لما عرفت من أن شرعية السلطة متوقفة على المعصوم أو نائبه بغض النظر عن كون الرئيس الحاكم فقيهاً أو مأذوناً من قبل الفقيه بناءً على ثبوت الولاية، أو مأذوناً من قبل الأمة بناءً على عدم ثبوتها.
- ثانيها: المؤهلات العرضية؛ وربما يعبَّر عنها بالمؤهلات القانونية أو التنصيبية وأهمها ثلاثة هي:
1- أن يكون التولي برضا الأمة.
2- أن يأخذ بالشورى بالحكم.
3- أن يلتزم بتطبيق الإسلام.
وهو ما ربما يعبر عنه بالعدالة العملية وهذا يتضمن أموراً عديدة سنتعرض عليها إن شاء الله تعالى فيما يأتي من مباحث.
وهذه الشروط الثلاثة هي أيضاً ملحوظة على نحو العموم المجموعي الانضمامي إذ أن فقدان واحدة منها على فرض وجوده يسقط الشرعية عن الحاكم شرعاً وعقلاً، والفرق بين الصنفين من الشروط من جهات:
- إحداها: أن الأول منها ذاتي وصفي بينما الثاني منحي اكتسابي، ولذا فإنه مقدّم عليه رتبة لأن الأول في رتبة المقتضي بينما الثاني في رتبة المانع.
- ثانيهما أن الأول منها ترشيحي بينما الثاني تنصيبي.
- ثالثها أن الأول منها ابتدائي حيني للزوم توفر هذه الشرائط في الحاكم قبل الحكم ومع الحكم بينما الثاني منها حيني لكفاية وجود هذه الشرائط في أثناء الحكم.
- رابعها: أن الصنف الأول من الشروط إحرازي إذ لا يكفي في جواز تولّي الحاكم لهذا المقام الخطير ما لم يحرز العدالة والعلم والكفاءة بخلافه على الصنف الثاني فإنه وهبيّ منحيّ لتوقفه على الثقة التي تمنح له، وبالتالي فإن الصنف الأول يتوقف على المؤهّل الذاتي الذي يتوقف على شخص الحاكم، ولا يتوقف على رأي الغير، بينما الثاني خلافه.
ومن هنا فإن فقدان الأول منها كلاً أو بعضاً يصعب بعده العود إليه ثانية وربما يسقطه عن الأهلية ذاتا بخلافه على الثاني فإنه قابل للمنح والسلب معا بحسب رأي الأمة وتفصيل الكلام في هذه المسائل يستدعي التعرّض إلى كل واحد من الشروط المذكورة مع ذكر ما استدلّ أو يمكن أن يستدلّ لها على ذلك:
- الأول: الشروط الترشيحية وهي:
أولاً: العدالة.
فإن المستفاد من الأدلة هو عدم جواز ولاية الفاسق على المسلمين سواءً كان فاسقاً بعصيانه للأحكام الإلهية فقط، أو كان فاسقاً أيضاً بالجور على الناس بمعنى أنه كان ظالماً، هذا وبغض النظر عن بيان حقيقة وماهية العدالة وأنها من سنخ الملكة أو الحال أو العمل أو غير ذلك، فإن ذلك محلّه باب الاجتهاد والتقليد والصلاة من الفقه ونكتفي هنا بالإشارة إلى التعريف من باب شرح الاسم فنقول هي العاصم النفسي الذي يحصن الإنسان من أن يقارف الإثم حين يعرض له سواءٌ كان من شهوات الحس أو النفس أو الوهم، ونعني بشهوة الوهم ما يصطلح عليه عند علماء الأخلاق بحب السلطة والسيطرة ونحوهما.
هذا ويختلف الرأي في شرط العدالة بين الخاصة والعامة، أما عند العامة فالظاهر أنهم لم يتفقوا على رأي واحد فيها فإن التتبع في كلماتهم يكشف عن أن بعضهم اشترطها مبدئياً بنحو شكلي بحيث لا يؤثر زوالها في سقوط شرعية الحاكم، وبعض آخر منهم لم يشترطها من حيث المبدأ إذا توفرت الشروط الأخرى كما يظهر من كلمات ابن حزم لكن الظاهر من كلمات أبي الحسن الأشعري اعتبار العدالة بناء على مذهبه في وجوب تقديم الأفضل وعدم صحة نصب المفضول وهي عنده شرط مطلق وليس بحسب القدرة لذهابه إلى أن الإمامة إذا عقدت للمفضول مع وجود الأفضل كان المعقود له من الملوك وليس من الأئمة، وأما الباقلاني الأشعري المالكي فلم ينص صراحة أيضاً على اعتبار العدالة ولكن مقتضى مذهبه في وجوب تقديم الأفضل هو اعتبارها إلا أن شرطيتها عنده تدور مدار القدرة كما يظهر من كتاب الفصل وهو مذهب الغزالي في هذه المسألة أيضاً، لكن نصّ على اعتبارها الإيجي وابن خلدون والقلقشندي الشافعي.
قال الأخير العاشر العدالة فلا تنعقد إمامة الفاسق وهو التابع لشهوته المؤثر لهواه من ارتكاب المحظورات والإقدام على المسكرات لأن المراد من الإمام مراعاة النظر للمسلمين والفاسق لم ينظر لنفسه في أمر دينه فكيف ينظر في مصلحة غيره كما في شرح المواقف.
وبالجملة فالظاهر من كلماتهم أن معظم مشترطي العدالة في الإمام يعتبرونها شرطاً في حال القدرة وأما في حال العجز فتسقط شرطية العدالة إذ يصح نصب الناس للإمامة ما رأوه مناسباً فيكون حينئذٍ إماماً للضرورة ويجب طاعته وأما الذين لم يشترطوا العدالة فهم على ما ذكره ابن حزم طائفة الصحابة كلهم وجميع فقهاء التابعين وجمهور أصحاب الحديث وأحمد والشافعي وأبو حنيفة، وصرّح الماوردي بأن الفاسق بسبب تأوّله على خلاف الحق حيث قال كثير من علماء البصرة أنه لا يمنع من انعقاد الإمامة ولا يخرج به منها كما لا يمنع من ولاية القضاء وجواز الشهادة على ما في الأحكام السلطانية.
وقال الشيخ قاسم بن مقلطوبغى في حاشيته على المسايرة لشيخه كمال بن الهمام: إن الشروط التي لا تنعقد الخلافة من دونها عند الحنفية هي الإسلام والذكورة والحرية والعقل، وأصل الشجاعة وأن يكون قرشياً ولم يذكر العدالة.
وقال الباجوري في طرق تعيين الإمام: ثالثها استيلاء شخص مسلم ذي شوكة متغلب على الإمامة ولو غير أهل لها كصبي وامرأة وفاسق وجاهل فتنعقد إمامتهم لينظم شمل المسلمين وتنفذ أحكامه للضرورة كما في حاشية الباجوري على شرح الغزي، كما أن ثمة خلافاً آخر في شرطية العدالة هو في أن العدالة بعد تسليم شرطيتها في حال الاختيار عند من يراه شرطاً هل هي شرط ابتداء وانعقاد فقط؟ بمعنى أنه لو فسق الإمام بعدما بويع ونصب إماماً فإنه لا ينعزل بالفسق أو أنها شرط ابتداء واستدامة فلو فسق الإمام العادل ينعزل بالفسق ومع أن هذا الخلاف يجري في شروط أخرى إلا أنه يذكر في العدالة لأهميتها ولاقتضاءها الذاتي والشرعي في الفقدان فهي من الأوصاف سريعة الزوال شرعاً.
وكيف كان فإن النتيجة التي قد يتوصل إليها المتتبع لمجموع كلماتهم هي أن الرأي لغلاب والمشهور عندهم أن العدالة شرط ابتداء لا شرط استدامة وأن الإمام لا ينعزل بالفسق لكونها شرطاً شكلياً وليس واقعياً وهذه نتيجة مهمة في الموقف من مسألة الحكم في الإسلام وأداء هذا الحكم لمهماته التي شرع من أجل إنجازها على مستوى الإسلام وعلى مستوى الأمة.
هذا ما ربما يقال عند العامة وأما عند الخاصة فالعدالة شرط لازم للحاكم في ابتداء صلاحيته للحكم وفي استمراره ويدلّ على ذلك الأدلة الأربعة: أما الكتاب فآيات منها قوله سبحانه وتعالى: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهنّ قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) بتقريب أن الظلم له معنيان:أحدهما التجاوز عن الحد والثاني وضع الشيء في غير موضعه، ومنه المثل المشهور (من استرعى الذئب فقد ظلم)، وكلاهما ينطبقان على ما نحن فيه فإن كل ما يخالف الحق يصح أن يطلق عليه الظلم فكل فاسق ظالم لكونه متجاوزاً عن حدّ العبودية في عصيانه للمولى وواضعاً نفسه في غير موضعها بتجريّه على مولاه وخروجه عن مقتضيات عقله وفطرته ومراسم العبودية.
وأما تقريب الاستدلال فنقول إن العهد في الآية ظاهر في الإمامة ويؤيده قرينة السياق والمنصرف من الإمامة إما الحكومة والسلطة أو الإمامة المعنوية وحينئذٍ تشمل الحكومة والسلطة من جهة أنها أحد المصاديق لانطباق العلة عليه وهي الاقتداء والتأسي، أو لجهة الأولوية فإن الإمامة المعنوية على القلوب والأرواح تستلزم الإمامة المادية على الأجساد أيضاً، ومن الواضح أن الآية صريحة في النفي لمكان لا النافية الدالة على أن الظالم لا ينال هذا المقام والمستفاد منها أحد أمرين:
- أحدهما: سقوط الأهلية من حيث المقتضي لكون الظلام غير مأمون على نفسه فكيف يؤتمن على الناس.
- ثانيهما: وجوب المانع لجهة النص الشرعي في الآية الدال على حرمة تولي الظالم.
والظاهر أن إطلاق النفي يشمل الاثنين معا فتدل حينئذٍ على الحكمين الوضعي و التكليفي معاً فلا يصح تولي الظالم للحكم ولو تصدى له لا يجوز له ذلك كما لا يجوز للأمة القبول.
هذا لكن ربما يناقش في الاستدلال المذكور من جهتين:
- أحدهما دلالي؛ لكونه استدلال في الخاص على العام بداهة أن الآية تنفي تولي الظالم للولاية والظالم أخسّ من الفاسق إذ لعل النفي بخصوصية في الظلم دون الفسق.
- ثانيهما موردي؛ وذلك لأن الآية الشريفة واردة بشأن إبراهيم (عليه السلام) وموضوع الإمامة المعصومة والنبوّة وهذا غير ما نحن فيه من إمامة الحكم والدولة، لكن هذا غير وارد لما عرفت من أن المورد لا يخصّص الوارد مضافاً إلى وجود الأولوية المتقدمة، وأما الأول فربما يقال فيه أولاً أن إطلاق الظالم يشمل الفاسق بداهة أن الظلم حقيقة مشكّكة ذاتاً فتشمل كل مراتبه أو لأن الظلم لغةً يشمل كل فاسق فالنسبة المنطقية بينهما على المعنى اللغوي هي التساوي وإن كانت حسب المفهوم العرفي العموم المطلق.
- ثانياً: فهم العرف عدم الخصوصية للظلم بل لعلّ المستفاد منه أن الظلم قيد تعليلي لا تقييدي، فيفيد أن كل من يشترك معه في العلّة يشمله الحكم والعلّة هي أن الظالم لا يؤتمن على العهود الإلهية وكذا الفاسق لأن ما لا يؤتمن على نفسه في شهواتها الحسية والنفسية والوهمية كيف يؤتمن على غيره؟ فيشتركان إذاً في النتيجة.
- ثالثها: قيام الإجماع المركب على عدم جواز تولي الفاسق أيضاً فإن التفريق بين الفاسق والظالم في ذلك قول بالفصل.
هذا مضافاً إلى الأدلة النقلية والعقلية التي تنفي الفرق بينهما.
ومن الآيات قوله سبحانه وتعالى: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار ومالكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون) ووجه الاستدلال أن النهي تعلّق بالركون وهو الاعتماد والاستناد لغة وعرفاً، يقال ركن البناء الجانب القوي منه، ومنه قول تعالى حكاية عن لوط (عليه السلام): (لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد) وفي الروايات الشريفة في وصف الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) أركان البلاد.
والسند بمعنى الركن وقد اشتق منه السند إلى الشيء كركن إليه واستند إليه، وما ورد في بعض مصادر اللغة بأنه التبع أو الميل إلى الشيء والسكون له كما عن الفيروزآبادي والجوهري وغيرهما فالظاهر أنه من مراتب ما ذكرناه أو مصاديقه.
وكيف كان فإن الآية ظاهرة بل صريحة في حرمة الركون إلى الظالمين ومن أجلى مصاديقه هو تسليط الحاكم الفاسق على شؤون الحكم والدولة لكون الفاسق ظالم لنفسه ولربه، قال سبحانه في مقام تعداد العصاة والمجرمين: (ومنهم ظالم لنفسه) أو لاشتراكه في العلة في عدم الائتمان عليه.
إن قلت الآية ظاهرة في عدم الوثاقة والاطمئنان لأن إلى فيها بمعنى على، وهذا لا ينفي الاستيثاق كإلزامه في أخذ الضمانات الكافية كالأخذ بالشورى وإيجاد الرقابة والمنافسة والانتخابات ونحو ذلك.. لأنه يقال ما ذكر خلاف الأصل بل والظهور أيضاً فإن الأصل في إلى هو الغاية ولا تحمل على ما يخالف الأصل إلا بقرينة وهي مفقودة فيما نحن فيه. وحينئذٍ فإن المستفاد من صدر الآية أمران:
- أحدهما: تكليفي وهو حرمة اتخاذ الظالمين ركناً ومعتمداً يلجأ إليهم في مختلف الشؤون الخاصة والعامة ومن أعظمها شؤون رئاسة الدولة ومناصبها المختلفة، فإن تسليط الحاكم الفاسق بأي مرتبة من مراتب الفسق والقبول بولايته والتسليم لحكومته هو ركونٌ إلى الظلم على ما يفيده الإطلاق.
- ثانيهما: وضعي يدل على عدم أهلية الفاسق للتصدّي لهذا المنصب فيحرم عليه أيضاً ذلك إما لجهة الملازمة بين التكليف والوضع أو للدلالة الالتزامية المستفادة من تحريم تولي الأمة للحاكم أو لسراية الحكم من الملزوم إلى اللازم أو الملازم دفعاً للغوية.
هذا ما ربما يستفاد من صدر الآية، وأما ذيلها فربما يستفاد منه مضافاً إلى عقوبة الآخرة أمور:
- أحدها: أن ولاية الحاكم الفاسق من الكبائر لما ذهب إليه المشهور من الفقهاء من أن الكبير ما وعد عليها أهلها النار وفي الآية الشريفة وُعد الناس بأن تمسّهم النار إذا ولوا الحاكم عليهم.
- ثانيها: أن ولاية الفاسقين تبتلى بالفرقة وتشتت شمل الأمة عنها لابتعاد الصالحين عنها وابتلائها بالطالحين.
- ثالثها: أن ولاية الفاسقين تنتهي بالأمة والدولة إلى الهزيمة والفشل وذلك لدلالة الذيل على الآثار الوضعية الخارجية المترتبة عليها، حيث قال سبحانه وتعالى بعد النهي عن الركون إلى الظالمين والتحذير من المساس بالنار قال عز وجل: (وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون).
وربما يمكن أن يقال بإطلاق قوله سبحانه (فتمسكم النار) الشامل للعقوبتين الأخروية والدنيوية فحينئذٍ سواء حملت الواو في قوله عز وجل (وما لكم) على الحالية أو الاستئنافية فإنه يدلّ على ما ذكرنا من آثار ومن الواضح أن هذه النتائج السلبية كافية لاستقلال العقل بالحكم بقبح تولي الفاسقين للحكومة كما يحكم العقلاء بذمّ من أقدم عليها واستحقاقه العقاب.
هذا وقد فسر الركون في بعض الأخبار الشريفة بالمودّة والنصيحة والطاعة كما في الخبر الذي رواه علي ابن إبراهيم كما في تفسير القمي فيدل بالأولوية القطعية على حرمة التعاون أو التعامل أو تولّي المناصب في حكومة الظالمين والفاسقين.
ومن الآيات طائفة تدل على حرمة إطاعة الفاسقين والمسرفين والآثمين فتدل على حرمة توليهم أو تنصيبهم لمقام من المقامات التي تستلزم الطاعة ومن أجلى مصاديقها مقام الحكومة والرئاسة، وهذه الدلالة على الحرمة إما تستفاد من باب الملازمة أو المقدمية أو الأولوية القطعية المستفادة من حرمة إطاعة الفاسق في الأمور الخاصة فحرمتها في الأمور العامة أولى.
من هذه الآيات قوله سبحانه وتعالى: (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا) والآية الشريفة صريحة في النهي عن طاعة العاصين الذين يطيعون شهواتهم لما فيها من تضييع وتشتيت واختلال نظام، ومن الواضح أن الفاسق من أجلى مصاديق متبع الهوى الذي أمره فرطا.
ومنها قوله سبحانه: (ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون) والمسرفون هم كبراء القوم وأعلامهم في الكفر والإضلال وكانوا تسعة رهط من قوم صالح (عليه السلام) كما هو في شأن نزول الآية، ونسبة الإطاعة إلى الأمر هنا مجازي لأن المقصود هو الآمر حقيقة وفي ذلك من المبالغة ما لا يخفى بداهة أن الآمر المشرف لا يكون أمره إلا من إسراف والإسراف مساو للفساد أو ملازم له، ومن الواضح أن المورد لا يخصص الوارد كما أن الإطلاق يشمل كل مسرف للملازمة العقلية أو العرفية بين المسرف وبين الخروج عن سبل التوازن والاعتدال ودلالة المسرفين على المعنى الظاهر على عدم جواز إطاعة الحاكم غير العادل وعدم جواز توليه لهذا المقام ظاهر وأما على الإطلاق الشامل لكل مسرف في كل مجال من مجالات الإسراف فإنه يدلّ على عدم جواز إطاعة الحاكم المسرف إما بالأولوية أو بعموم العلّة حيث علل الآية حرمة الطاعة بوقوع الفساد في الأرض وعدم الإصلاح وهما من أهم أهداف الحكومة الإسلامية كما لا يخفى.
ومن الآيات قوله سبحانه: (فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا) بتقريب أن الذي يدعو إلى الإثم والكفر إما أن تكون له سلطة وقدرة أو يدعو إلى اتباعه والأخذ بما يقول في إثمه وكفره لأن ما يقوله إثم وكفر فيستفاد منها أمور:
- أحدها: حكم تكليفي لأن ما يقوله الآثم ويدعو إليه هو إثم وكذا الكافر فيحرم الأخذ به شرعاً.
- ثانيها: حكم وضعي لأن الآثم لا يوصل إلى الهدف بل ينأى بنفسه وباتباعه إلى الضلال وهو ما تشير إليه الآية الثانية المتقدمة.
- ثالثها: حكم وضعي أيضاً من حيث أن الآثم لا يصدر منه إلا الإثم فتنتفي عنه أهلية التصدي للحكومة الإسلامية لأنه ينقض غرضها وما يقال في الآية من أنها خطاب لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يجاب عنه بما عرفته مما تقدم، وأما الآيات الدالة على ما ذكرنا قوله سبحانه وتعالى حكاية عن أهل النار: (وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا) حيث يستفاد منها أن إطاعة كبير القوم سواء كان حكاماً أو رئيساً أو والياً أو ما أشبه ذلك.. إذا كان من الضالين أو الفاسقين أو المسرفين حرام وتترتب عليه عقوبة النار.
إلى غير ذلك من الآيات التي يظهر منها أن الظالم والفاسق لا يجعل إماماً ووالياً مفترض الطاعة ودلالتها واضحة ظاهرة على ما ذكرنا..
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.