محاضرات فقه الدولة - المحاضرة 21
في تتمة المسألة الخامسة من البحث المتقدم قلنا بأن الأدلة على الانتخاب متضافرة في الروايات ومتضمنة لها الآيات وقامت عليها سيرة العقلاء فضلاً عن الحكم العقلي وعليه فإن الاحتمالات الثلاثة المذكورة في مسألة تعدد الفقهاء لا تخلو من حلول ثلاثة أيضاً إذ يدور الأمر بين احتمالات:
- الأول: أن نقول بحكومة الشورى جمعاً بين أدلتها وأدلة الولاية والحكم يرجع حينئذ إلى الشورى كما هو الشأن في الحكم في مقابل الفتوى إذا أصدرها الفقيه.
- الاحتمال الثاني: أن نقول يتولى الولاية أحد الفقهاء ويمنع الآخرين من توليها أو يسقط حقهم فيها أو يسقط وجوه تصديهم إليها.
والفرق بين هذه الاحتمالات الأول الفقيه المتصدي يمنع الآخرين من التصدي اليهم وليس لعدم المقتضي فيهم بل لوجود المانع بخلاف الثاني فإن الحق يسقط بعنوان المقتضي.
والثالث يسقط الوجوب لا الاقتضاء.
فالأول بلحاظ الفقيه المتصدي، والثاني بلحاظ المقتضي في نفس الفقيه، والثالث بلحاظ الشارع.
وهذه الاحتمالات كلها باطلة أما الأول فلأن منع الفقيه لغيره من التصدي أو ما أشبه ذلك باطل عقلاً وحرام شرعاً لكونها استبداداً.
والثاني والثالث باطلان لكونهما لا دليل عليهما بل الدليل على خلافهما أما الاحتمال الثالث فالقول بأننا نأخذ بالمرجحات بينهم فنرجح أحد الفقهاء على الآخر لكونهم متساوين من هذه الناحية فنعمل بحسب معادلات لابدية العقلية واستئناساً بباب التعادل والتراجيح حيث رجحت بعض الأطراف على غيرها في صورة التكافؤ وربما يعضده ما ورد في باب قاضي التحكيم في مقبولة عمر بن حنظلة بناء على كونها ناظرة إلى مرجحات قاضي التحكيم بل ويمكن الاستدلال له بأنه من قبيل دوران الأمر بين التعيين والتخيير فلا بد له من الأخذ بالتعيين وهو صاحب المرجح وعلى كل حال نختار من توفرت فيه المزايا المرجحة إن قلت ما هو المعيار في تشخيص المرجحات ومن هو المرجع في ذلك يقال المرجع فيه هم أهل الخبرة كما في غيره من أمثاله في أبواب الفقه سواء كانت المرجحات الأعلمية أو الإدارة وحسن التدبير أو الشجاعة أو كثرة المقلدين والأتباع أو غيرها من ملاكات عقلائية وشرعية فأهل الخبرة هم المرجع الوحيد في تعيين من هو الأصلح بين الفقهاء الصالحين ولو فرض فرضاً نادراً أو محالاً عادياً تساويهما من جميع الجهات أو بالتعادل بالكسر والانكسار بتوفر بعض المزايا في فقيه وبعض المزايا في الفقيه الآخر بما يوجب تردد أهل الخبرة في التعيين وعدم تفضيل أحدهما على الآخر فيمكن الرجوع حينئذ إلى القرعة لكن الإنصاف أن هذا فرض نادر ولا يوجد له مصداق عادة فضلاً عن أن القرعة بناء عن الطريقية فيها وحسب مادة النزاع هي الأخرى كالانتخاب بل أضعف حالاً منها لإبتناء الانتخاب على رضا الناس وانتخابهم دون القرعة وكيف كان فالمسألة ترجع إلى احتمالات ثلاثة ولا يبعد قوة ثبوت الولاية للجميع بنحو التساوي لشمول الأدلة لكل فقيه جامع للشرائط ومقتضى الحل في مقام التطبيق والعمل هو الشورى جمعاً بين أدلة الولاية وأدلة التقليد وأدلة الشورى على تفصيل سنتعرض إليه إن شاء الله في بحث مستقل.
- المسألة السادسة
في وجه الجمع بين ولاية الفقيه والأصل العقلي المسلم بين الفقهاء القاضي بعدم ولاية أحد على أحد قالوا إن الأصل عدم ولاية أحد على أحد وعدم نفوذ حكمه فيه فإن أفراد الناس بحسب الطبع خلقوا أحراراً مستقلين وهم بحسب الخلقة والفطرة مسلطون على أنفسهم وعلى ما اكتسبوه من أموالهم بإعمال الفكر وصرف القوى فالتصرف في شؤونهم وأموالهم والتحميل عليهم من دون رضاهم ظلم وتعد عليهم وكون أفراد الناس بحسب الاستعداد والفعلية مختلفين في العقل والعلم والفضائل والأموال والطاقات ونحوها لا يوجب ذلك ولاية بعضهم على بعض وتسلطه عليه ولزوم تسليم هذا البعض له وقد أيد ذلك ما ورد في الروايات الشريفة منها كتاب مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) لابنه الحسن (عليه السلام): لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً الدال على أن الإنسان في مقتضى جعله الأولي الأصيل هو حر ولا سيادة لأحد عليه.
ومنه ما ورد عنه (عليه السلام): أيها الناس إن آدم لم يلد عبداً ولا أمة وإن الناس كلهم أحرار ولكن الله خول بعضكم بعضاً. والتخويل غير السيادة كما هو واضح لتضمنه رضا المخول إلى المخول بخلاف السيادة وولاية الفقيه على ما عرفته مما تقدم هذا ما ذكروه في مقام تأسيس الأصل في مسألة الولاية ولكن يمكن المناقشة فيه من جهات ثلاثة عقلية وشرعية وعقلائية.
أما الجهة العقلية فيمكن تقريبها ببيانين:
- الأول: منه ما يتوقف على مقدمتين إحداهما أن العقل والوجدان يحكمان بمالكية الخالق المكون لكل شيء في الوجود وعالميته بكل ما يصلحه ويوصله إلى أغراضه المادية والمعنوية فأزمة أمور طراً بيده والكل مستمدة من مدده والإنسان لا يخرج عن هذه القاعدة فأمر تكوينه وتنميته وتربيته وهدايته كلها بيد الله عز وجل كما أن نظامه وقانونه وكيفية تكامله وتعامله مع الأشياء وتعيين وظائفه وأدواره كلها بيد الله عز وجل والإنسان في قباله مهما بلغ من العلم والمعرفة عاجز قاصر عن أن يحيط بطبائع الأشياء ولطائف وجودها ومصالح نفسه في النشأتين فلله الخلق والأمر وله أن يأمر بما يراه صلاحاً وينهى بما يراه ضرراً وفساداً وعلى الإنسان أن يخضع لله وللشريعة الإلهية بقوانينها العادلة الحكيمة في شتى مراحل حياته يحكم بذلك العقل ويذمه على المخالفة ولا يشارك الله في ذلك أحد من خلقه قال عز وجل: (إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين) وقال عز وجل: (ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أحسب الحاسبين) وقال تبارك وتعالى: (أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي وهو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب) وقال عز وجل: (فالحكم لله العلي الكبير) إلى غير ذلك من الآيات والروايات أيضاً ولا يخفى أن أحكامه عز وجل إنما تصل إلينا بالوحي إلى رسله وأنبيائه فيجب علينا إطاعتهم بما أنهم وسائط أمره ومبلغو رسالاته ولكن إطاعتهم من هذه الجهة ليست أمراً وراء إطاعة الله عز وجل أو في عرضه وإنما في طوله والأوامر الصادرة عنهم في هذا المجال ليست مولوية بل أوامر إرشادية إلى حكم العقل بلزوم إطاعة المولى الخالق والعالم بكل شيء وبكل مصالح البشر فيحكم العقل أيضاً بلزوم إطاعة الرسول وإطاعة الإمام وإطاعة الفقيه أيضاً فيما بين وبلغ عن أحكام الله عز وجل.
- ثانيهما: أن الإنسان مدني بالطبع ولا يتيسر له إدامة حياته إلا في ظل التعاون والاجتماع ولازم الاجتماع غالباً التضاد في الأهواء والتضارب والصراع فلا محالة يحتاج إلى نظم وقوانين تحدد الحريات وتراعي مصالح الجميع وإلى حاكم ينفذ هذه القوانين ويدبر الأمور ويرفع المظالم وواضح أن الحكومة لا تتم ولا تستقر إلا بإطاعة المجتمع للحاكم فتجب الإطاعة بحكم العقل ولا سيما إذا باشروا تعيينه وعاهدوه على ذلك إذ الفطرة حاكمة بلزوم الوفاء بالعهد فيتنازل الإنسان عن قدر من سلطنته وسيادته لأجل ضمان هذه السيادة في مجالات أخرى بنسبة أعلى وأشمل وأقوى وأهم وأكبر كما قالوه في ضرورة السلطة وحاجة المجتمع إلى الدولة في قبال الحرية الشخصية وهذا ما يستقل بحكمه العقل.
البيان الثاني وحاصله أن الأصل وإن كان عدم ولاية أحد على أحد لكن يمكن أن يقال في قبال ذلك أن حكم العقل بوجوب إطاعة الله وإطاعة المرشد الصادق وتعظيم المنعم المحسن وإطاعة الحاكم العادل الحافظ لمصالح المجتمع كلها أصول حاكمة على ذلك الأصل فتتقدم الولاية على السلطنة بحكم العقل بداهة أن المخلوقات طرّاً وخصوصاً الإنسان أشرفها وأكرمها وأعقلها بكل تفاصيل وجودها أصلاً ووصفاً مخلوقات لله سبحانه وخاضعاً له في كل هوياتها وتفاصيل وجودها وهو عز وجل المالك لها وولي عليها تكويناً وذاتاً إذ لا نفسية لها في قباله ولا يصح اعتبارها كذلك فإنه على خلاف الواقع ومقتضى الولاية الذاتية والملكية التكوينية وجوب التسليم له ولأوامره وحرمة مخالفته بحكم العقل ويتفرع على ذلك وجوب التسليم والانقياد في قبال جميع الولايات المجعولة من قبله في مراتبها وحدودها من ولاية الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) ثم الحكام الفقهاء ثم الوالدين والمنعم والمرشد فإن الجميع يرجع إلى ولاية الله وإطاعته عقلاً.
وأما الجهة الشرعية فهي المستفادة من متضافر الآيات والروايات قال سبحانه: (ما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) ومن الواضح أن بحسب تسلسل الرتب والتنصيب الإمامة مما أتانا بها النبي (صلّى الله عليه وآله): كما أن ولاية الفقيه مما جاءنا بها النبي بالواسطة وقال سبحانه: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدون في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً) وقال عز وجل: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) ومن الواضح أن مقتضى الإيمان والتسليم هو الرضا بكل ما أراده الله أمر به.
ومما أراده الله سبحانه وهو تنصيب الرسل والأنبياء ثم الأئمة ثم الفقهاء بحسب الموازين والشرائط والأدلة الخاصة في مضانها وهذا الأصل الشرعي حاكم ومقدم على الأصل العقلي بحكومة ونظام الدولة والحكم وإلا كان التشريع هنا لغوياً وهذا ما لا مجال الالتزام به.
وأما الجهة العقلائية فحاصلها أنه لا شك أن قانون السلطنة يثبت لكل إنسان سيادة في نفسه وشؤونه الخاصة والعامة ومن شؤون هذه السيادة حق الإنسان في أن يتنازل عن حقه في السيادة أو حريته إذا رأى المصلحة في ذلك لمصالحه الأهم أو يرضى بسيادة غيره عليه لوثاقته بحكمة أن يسلم له أمره وإيمانه بصدقه وعلمه وتحقيقه لأهدافه وأغراضه وهذا ما قامت عليه سيرة العقلاء في مختلف مجالاتهم الحيوية وهو المشهود في مثل تسليم الناس لزعماء الدول وقادتها وقادة الجيوش وأساتذة الجامعات والأطباء والمهندسين وقرارات المجالس الوطنية وغيرها وبهذا نجمع بين دليل السلطنة والولاية إذ بعد التفات الناس إلى الفقيه الجامع للشرائط وصفاته النفسية العالية من العلم والعدالة والتقوى والصدق والإخلاص والنزاهة يسلمهم طواعية رغبة منهم أو حفاظاً على مصالحهم فيثبت أن طاعة الفقيه والالتزام بولايته هو التزام بالسلطنة الذاتية بلا تعارض أو تناف بينهما وعليه فما ذكروه من أصالة عدم ولاية أحد على أحد إما ناظر إلى مقتضى الأصل الأولي بغض النظر عن الأصل الشرعي أو ناظر إلى الشؤون الشخصية الخاصة بين الناس أنفسهم وليس بين السلطنة الذاتية وبين سلطنة الباري عز وجل وولايته وما يتفرع منها من ولايات ومراتب كولايات الأنبياء والأئمة والفقهاء أو هو ناظر إلى سلطنة الإنسان على نفسه بمقتضى حياته الأولية وشؤونه الشخصية.
وأما الولاية فناظرة إلى الشؤون العامة والاجتماعية في الدولة فبناء على هذا الأصل المذكور يجري في الشؤون الشخصية وليس بالنسبة إلى الشؤون العامة وشؤون الدولة وتنصيب الحكام وما أشبه ذلك.
- الفصل الرابع: السيادة وشرعية السلطة عند العامة:
الذي يظهر من تتبع كلمات أعلام العامة الإبهام في أمر السيادة وتحديد مصدرها ومنشأها وترددها بين أمور:
1- ولاية الأمة.
2- ولاية أهل الحل والعقد.
3- ولاية الحاكم السابق.
4- ولاية القوة والقهر.
5- ولاية الله سبحانه وتعالى.
ووجه هذا الأخير ناشئة من أنهم يتفقون على أن الحاكم هو ولي الأمر الذي نص عليه الكتاب والسنة من حيث الكبرى مما قد يستفاد منه الرجوع إلى النص الشرعي إلا أنهم من حيث الصغرى جعلوا تعيين الحاكم يتم تارة بالشورى بين المسلمين وتارة باختيار أهل الحل والعقد وتارة بواسطة اختياره ممن سبق من الحكام وتارة بواسطة تصديه للسلطة وغلبته وقهره لغيره وفي توليه لها وفي الجميع يتوقف الأمر على البيعة ومضافاً إلى المناقشات المفصلة والإشكالات التي ترد على هذه الاختيارات التي ذكروها فإنها توجب الاختلاف الشديد وتتضمن في طواياها التناقض من وجوه عديدة ولتفصيل الأمر في هذا نتعرف إلى كلمات بعض أعلامهم فيها فنقول:
قال الماوردي في الأحكام السلطانية والإمامة تنعقد من وجهين أحدهما اختيار أهل العقد والحل والثاني بعهد الإمام من قبل.
فأما انعقادها باختيار أهل الحل والعقد فقد اختلف العلماء في عدد من تنعقد الإمامة منهم على مذاهب شتى فقالت طائفة لا تنعقد إلا بجمهور أهل الحل والعقد من كل بلد ليكون الرضا به عاماً والتسليم لإمامته إجماعاً وهذا مذهب مدفوع ببيعة أبي بكر على الخلافة باختيار من حضرها ولم ينتظر ببيعته قدم غائب عنها، وقالت طائفة أخرى أقل من تنعقد بهم الإمامة خمسة يجتمعون على عقدها أو يعقدها أحدهم برضا الأربعة استدلالاً بأمرين:
- أحدهما: أن بيعة أبي بكر انعقدت بخمسة اجتمعوا عليها ثم تابعهم الناس فيها وهم: عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح وأسيد بن حظير وبشير بن سعد وسالم مولى أبي حذيفة.
- والثاني: أن عمر جعل الشورى في ستة ليعقد لأحدهم برضا الخمسة وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلمين من أهل البصرة وقال آخرون من علماء الكوفة تنعقد بثلاثة يتولاها أحدهم برضا الاثنين ليكونوا حاكماً وشاهدين كما يصح عقد النكاح بولي وشاهدين. وقالت طائفة أخرى تنعقد بواحد لأن العباس قال لعلي (عليه السلام) أمدد يدك أبايعك فيقول الناس عم رسول الله بايع ابن عمه فلا يختلف عليك اثنان ولأنه حكم وحكم أحد نافذ.
وقال القاضي أبو يعلى وروي عن أحمد ما دل على أنها تثبت بالقهر والغلبة ولا تفتقر إلى العقد فقال في رواية عبدوس بن مالك العطار ومن غلب عليهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماماً براً كان أو فاجراً وقال أيضاً في رواية أبي الحرف في الإمام يخرج إليه من يطلب الملك فيكون مع هذا قوم ومع هذا قوم تكون الجمعة مع من غلب واحتج بأن ابن عمر صلى بأهل المدينة في زمن الحرة وقال نحن مع من غلب.
وفي الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور وهبة الزحيلي قال: رأي فقهاء المذاهب الأربعة وغيرهم أن الإمامة تنعقد بالتغلب والقهر إذ يصير المتغلب إماماً دون مبايعة أو استخلاف من الإمام السابق وإنما بالاستيلاء وقد يكون مع التغلب المبايعة أيضاً فيما بعد ولا يخفى أن مقتضى ما ذكروه من إمامة المتغلب مطلقاً يتضمن تناقضاً صريحاً بداهة أن الخارج عن الإمام الموجود في أول الأمر يعد باغياً ويجب قتاله ودفعه كما هو بنص الكتاب عندهم ثم إذا فرض غلبته انقلب إماماً واجب الإطاعة وإن كان من أفسق الفسقة والظلمة وهذا أمر صريح التناقض والملاحظ أن هذه النظريات تقف على خلاف نظرية النص التي يقول بها الشيعة الإمامية في زمن حضور المعصوم (عليه السلام) لكونها تعمم مبدأ السيادة والسلطة من بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى يوم الناس هذا حيث تنتهي طرّاً إلى أن تعيين الإمام راجع إلى الأمة المسلمة وهؤلاء في رأيهم هذا يسيرون وفقاً لما ذهبوا إليه من وجوب الإمامة على الأمة المسلمة ومن كونها من فروع الدين فإذاً الإمامة من شؤون الأمة المسلمة وليست من شؤون النص الإلهي أو النبوي ولذلك تكون الأمة مبدئياً هي المرجع في التعيين وهي منشأ السلطة ومصدرها وربما يثير هذا القول جملة من الأسئلة بسبب الغموض الذي يكتنف هذا الرأي إذ لسائل أن يسأل كيف تكون الأمة هي المرجع في تعيين الإمام وهل يجب أن تجمع الأمة المسلمة بأسرها على شخص واحد ليكون هو الإمام أم أن هناك شكلاً آخر من أشكال التعيين تكون الأمة المسلمة هي المرجع فيه ثم من هي الأمة التي لها هذه الصلاحية والسيادة فقد اختلفت كلمتهم في تحديد معنى الأمة وقد وردت هذه الكلمة في أحاديث رواها أهل السنة عن النبي الأعظم (صلّى الله عليه وآله) وبغض النظر عن المناقشة السندية فيها فإنها من حيث الدلالة جعلت مصدراً تشريعياً لما ذهبوا إليه من سيادة الأمة ومن هذه الأحاديث لا تجتمع أمتي على ضلالة ومنها لا تجتمع أمتي على خطأ الدالة على أن الأمة لو اتفقت على رأي كانت معصومة وهناك أحاديث أخرى ورد فيها لفظ الجماعة كالحديث الذي رووه يد الله مع الجماعة إلى غير ذلك من الروايات فهذه الأحاديث في مضمونها تمنح الأمة شرعية وعصمة عن الخطأ إذا أجمعت على أمر من الأمور وقد فهم البعض من لفظ الأمة ما يدل عليه ظاهره فذهب إلى أنه يعتبر في الإمام أن تجمع عليه الأمة بأسرها وهذا مذهب الهشامية من المعتزلة وأبي بكر الأصم فقد ذهبوا إلى أنه يعتبر إجماع الأمة عن بكرة أبيها كما يظهر من الملل والنحل للشهرستاني وآخرون ذهبوا إلى أن المراد من لفظ الأمة شيء آخر غير ما يبدو من ظاهره لأنهم رأوا أن اشتراط إجماع الأمة عن بكرة أبيها شرط لا يمكن تحقيقه فيستلزم التكليف بما لا يطاق ولذا لم يصححوا هذا وإنما قالوا المراد بالأمة هو جماعة خاصة يناط بها هذا الأمر وقد سموهم بأهل الحل والعقد وفسروا لفظي الأمة والجماعة الواردين في الأحاديث المروي عن النبي بهذه الطائفة من الناس فمن اتفقوا على إمامته كان إماماً.
قال التفتازاني قال الرازي: الإمامة رئاسة عامة في أمر الدين والدنيا لشخص من الأشخاص وقال هو احتراز عن كل الأمة إذا عزلوا الإمام لفسقه وتابع التفتازاني تفسير قول الرازي قائلاً: وكأنه أراد بكل الأمة أهل الحل والعقد واعتبر رئاستهم على من عداهم أو على كل من آحاد الأمة وهنا يحدد التفتازاني أهل الحل والعقد بالعلماء والرؤساء ووجوه الناس كما يظهر من شرح المقاصد وأضاف النووي إلى هذا التعريف قوله: الذين يتيسر اجتماعهم الكاشف على أن تيسر الاجتماع قيد احترازي لا توضيحي بمعنى اجتماع أهل الحل والعقد الذين يمكن أن يجتمعوا فيخرجوا ما لا يمكن اجتماعه ولو كان كثيراً ويسمي أبو الحسن الماوردي أهل الحل والعقد بأهل الاختيار فمن ذهب إلى أن الإمامة تثبت بالاتفاق والاختيار وأنها شورى بين المسلمين يريد بذلك شورى واتفاق أهل الحل والعقد واختيارهم ولكن هل يعتبر في الإمام أن يبايعه أهل الحل والعقد في الأمة بأسرها أم يكفي أهل الحل والعقد في بلد الإمام فقط وإذا اكتفينا بمن في بلد الإمام فهل يشترط اجتماعهم كلهم أو يكفي اتفاق عدد محدود منهم أم لا يشترط العدد أصلاً فتكفي بيعة الواحد هذا غموض وإبهام آخر يضاف إلى الإبهام في معنى الأمة ولذا قد اختلفت الأقوال فيه منذ قديم الأيام فقد لخص أبو الحسن الأشعري في كتابه مقالات الإسلاميين الذي يبدو أنه ألفه قبل نهاية القرن الثالث قال واختلفوا في كم تنعقد الإمامة من رجل فقال قائلون تنعقد برجل واحد من أهل العلم المعرفة والستر وقال قائلون لا تنعقد الإمامة بأقل من رجلين وقال قائلون لا تنعقد بأقل من أربعة يعقدونها وقال قائلون لا تنعقد إلا بخمسة رجال يعقدونها وقال قائلون لا تنعقد إلا بجماعة لا يجوز عليهم أن يتواطئوا على الكذب ولا تلحقهم الغنة وقال الأصم لا تنعقد إلا بإجماع المسلمين.
وذهب أكثر الفقهاء والمتكلمين من أهل البصرة ومنهم الجبائية من المعتزلة أتباع أبي علي الجبائي إلى أن أقل عدد تنعقد به الإمامة هو بيعة خمسة من أهل الحل والعقد كما ذكره الماوردي في الأحكام السلطانية ومن العلماء من ذهب إلى كفاية الاثنين لأنهم أقل الجماعة وقيل ثلاثة لأنهم أقل الجمع و قيل أربعة لأنهم أكثر نصاب الشهادة وقيل خمسة غير المبايع كأهل الشورى وقيل أربعين لأنه أشد خطراً من الجمعة وقد تقلص أهل الحل والعقد عند الأشاعرة وهم أكثر العامة في هذه الأيام إلى عدم اشتراط العدد إطلاقاً فيكفي بيعة الواحد إذا شهد عليه الشهود كما في أصول الدين ويمكن القول أن الرأي المذهبي عند أهل السنة جميعاً قد استقر على ذلك.
قال عبد القاهر البغدادي المتوفى في 429هـ إن الإمامة تنعقد لمن يصلح لها بعقد رجل واحد من أهل الاجتهاد والورع إذا عقدها لمن يصلح لها فإذا فعل ذلك وجب على الباقين طاعته.
وقال الإيجي المتوفى في 756هـ وإذا ثبت حصول الإمامة بالاختيار والبيعة فاعلم أن ذلك لا يفتقر إلى الإجماع إذ لم يقم عليه دليل من العقل أو السمع بل الواحد والاثنان من أهل الحل والعقد كافٍ كما في المواقف وقريب منه ما قاله القاضي أبو بكر الباقلاني والملحوظ في هذه الآراء ووجوه الاستدلال التي ذكروها لها أن المصدر التشريعي الذي ترجع إليه هذه الأقوال طرّاً لا يخلو من أمرين:
- أحدهما: الاستحسانات والظنون العقلية.
- والثاني: عمل الصحابة.
فلا يرجع المصدر إلى الكتاب أو السنة كما عرفت من أقوالهم ولذا ردوا قول من ذهب إلى اشتراط إجماع أهل الحل والعقد في الأمة بأسرها ببيعة أبي بكر باختيارها من حضرها ولم ينتظر لبيعته قدم غائب واستند من ذهب إلى انعقاد الإمامة بمبايعة خمسة إلى أمرين:
- أحدهما: بيعة أبي بكر إذ انعقدت بخمسة اجتمعوا عليها وهم عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح وأسيد بن خضير وبشير ابن سعد وسالم مولى أبي حذيفة.
- والثاني: ما عمله عمر إذ جعل الشورى في ستة ليعقد لأحدهم برضى الخمسة كما أن من ذهب إلى كفاية الواحد استند إلى تصرف عبد الرحمن بن عوف حيث انعقدت خلافة عثمان بمبايعته له ثم تلاه بالبيعة سائر الناس.
وقال الإيجي لعلمنا أن الصحابة مع صلابتهم في الدين اكتفوا بذلك كعقد عمر لأبي بكر وعقد عبد الرحمن بن عوف لعثمان ولم يشترطوا إجماع من في المدينة فضلاً عن إجماع الأمة هذا ولم ينكر عليه أحد وعليه انطوت الأعصار إلى وقتنا هذا كما ذكره في المواقف. واستند الذين اعتبروا اجتماع من في بلد الإمام من أهل الحل والعقد إلى مقولة عمر عن بيعة أبي بكر أنها كانت فلتة وقى الله شرها لعدم اجتماع أهل الحل والعقد كلهم إذ تخلف بنو هاشم وغيرهم عن هذه البيعة هذا ولا يخفى أن اجتماع أهل الحل والعقد ليس هو الطريق الوحيد لتعيين الإمام عند العامة ومن تابعهم بالرأي حول الإمامة وإنما هو طريق من طرق عدة فقد اختار بعضهم العهد والنص من الإمام السابق طريقاً أيضاً.
واعتبر الماوردي المتوفى في 450 هـ أن العهد من الإمام السابق أحد الوجهين اللذين تنعقد بهما الإمامة والوجه الآخر هو اختيار أهل الحل والعقد كما عرفت نص عبارته فيما تقدم وهو ظاهر كلام أبي الحسن الأشعري أيضاً المتوفى في 330هـ حيث قال في الاستدلال على صحة خلافة أبي بكر وإذا وجبت إمامة عمر وجبت إمامة أبي بكر كما وجبت إمامة عمر لأنه العقد له الإمامة كما ذكره في كتابه الإبانة عن أصول الديانة وهذا هو الظاهر أيضاً من أبي بكر الباقلاني حيث قال ويوضح ذلك أيضاً أن أبا بكر عقدها لعمر فتمت إمامته وسلم عهده بعقده له كما في التمهيد في الرد وهو الظاهر عبد القاهر البغدادي أيضاً حيث قال: وإذا صحت بذلك إمامة عمر صحت إمامة من استخلف عمر وهو أبو بكر كما في أصول الدين وقال واختلفوا أيضاً في الوصية في الإمامة إلى واحد بعينه يصلح لها فقال أصحابنا مع قوم من المعتزلة والمرجئة والخوارج أن الوصية بها صحيحة جائزة غير واجبة وإذا أوصى بها الإمام إلى من يصلح لها وجب على الأمة إنفاذ وصيته كما أوصى بها أبو بكر إلى عمر وأجمعت الصحابة على متابعته فيها.
وقال التفتازاني الثاني استخلاف الإمام وعهده وجعله الأمر شورى بمنزلة الاستخلاف إلا أن المستخلف غير متعين فيتشاورون ويتفقون على أحدهم كما في شرح المقاصد هذا ومضافاً إلى ما ستعرفه من الإشكال على هذه النظرية فإن الإشكال الآخر الذي ربما يرد هنا هو الجهة الصغرى إذ الإجماع والاتفاق من قبل جميع الصحابة لم يتحقق في شخص أو إمام حتى يمكن أن يقال باتفاق جميع الصحابة عليه هذا وهناك طريق ثالث للشرعية وهو الدعوة إلى النفس والاستيلاء والغلبة ويبدو أن هذا الرأي قد تبلور منذ عهد مبكر جداً فقد روى تلاميذ الشافعي المتوفى في 204هـ أن هذا مذهبه وتثبت الإمامة من غير بيعة وأن كل قرشي استولى على الخلافة بالسيف واجتمع عليه الناس فهو خليفة فالعبرة عنده في الخلافة أمران كون المتصدي قرشياً واجتماع الناس عليه سواء أكان الاجتماع سابقاً على إقامته خليفة كما في حال البيعة أم كان الاجتماع تالياً لاستيلائه على السلطة بقوة السيف وغلبة الشوكة كما في كتاب الشافعي حياته وعصره.
وقال احمد بن عبد الله القلقشندي المتوفى في 821هـ الطريق الثالث من الطرق التي تنعقد بها الإمامة القهر والاستيلاء فإذا مات الخليفة فتصدى للإمامة من جمع شرائطها من غير عهد إليه من الخليفة المتقدم ولا بيعة من أهل الحل والعقد انعقدت إمامته لينتظم شمل الأمة وتتفق كلمتهم وإن لم يكن جامعاً لشرائط الخلافة بأن كان فاسقاً أو جاهلاً فوجهان لأصحابنا الشافعية أصحهما انعقاد إمامته أيضاً لأنا لو قلنا لا تنعقد إمامته لم تنعقد أحكامه ويلزم من ذلك الإضرار بالناس من حيث أن من يلي بعده يحتاج أن يقيم الحدود ثانية ويستوفي الزكاة ثانياً ويأخذ الجزية ثانياً وقريب منه ما قاله أبو حامد الغزالي وغيره وقال الباجوري في طرق تعيين الإمام ثالثها استيلاء شخص مسلم ذي شوكة متغلب على الإمامة ولو غير أهل لها كصبي وامرأة وفاسق وجاهل فتنعقد إمامته لينظم شمل المسلمين وتنفذ أحكامه للضرورة والملحوظ على هذا الرأي أنه يرتضي إمامة القائم بالقوة والقهر من باب العنوان الثانوي لا الأولي وهذه هي الطرق المعتمدة في الفكر الكلامي والسياسي عند عامة المسلمين في مسألة مبدأ الشرعية وطريقة تعيين الحاكم ولا يشذ عن هذه الطرق التي ذكرناها أحد من الباحثين منهم من الذين تعرضوا في أبحاثهم لهذه المسألة والذي نستخلصه من مجموع هذه الكلمات والأقوال هو أن كل من خالف الشيعة الذين يقولون بأن تعيين الإمام يرجع إلى النص من الله ورسوله يجمعهم أمر واحد أيضاً من الناحية الجوهرية والمضمونية وهو أن المرجع في التعيين هو الأمة إلا أن لهم تفسيرات مختلفة للأمة فبعضهم يرى أن المراد من الأمة هو ظاهرها باللفظ كما عرفت من الهشامية والأصم وبعضهم يرى أن المراد من الأمة من سماهم بأهل الحل والعقد وهذا يتضمن المعنى بأن ما عدا أهل الحل والعقد من أفراد الأمة المسلمة لا حق لهم في اختيار الإمام وتعيينه فرأيهم ملغى ثم رأينا أيضاً أن الكثرة الغالبة من هؤلاء يجعلون الحق في تعيين الإمام لأهل الحل والعقد ويخرجون عن هذا المبدأ خروجاً واسعاً نحو الفردية وتركيز السلطة العليا في يد واحد أو أيدي قليلة فنرى مثلاً من لا يشترط اجتماع أهل الحل والعقد في جميع الأمة بل يكتفي بمن وجد فيهم في بلد الإمام ونرى بعضهم لا يشترط اجتماع أهل الحل والعقد في بلد الإمام كلهم بل يكتفي ببعضهم كما نرى هذا المبدأ عند الجبائي ومن ذهب مذهبه حيث جعل الحد الأدنى خمسة منهم ويزداد انكماشاً عند أبي الحسن الأشعري حيث اكتفى بالواحد واضمحل هذا المبدأ تماماً عند ابن حزم الأندلسي حيث قرر في الطريق الرابع من طرق تعيين الإمام أن عقد الإمامة يصح بواحد يبايع طالب الإمامة حتى ولو لم يكن من أهل الحل والعقد بعد هذا نلاحظ أن مبدأ الفردية تجسد تجسداً تاماً عند الزيدية حيث رأوا أن من نهض بالإمامة مطالب بها تعينت إمامته ووجبت طاعته ولا يحتاج إلى سلطة أعلى منه تكون أساساً لشرعية سلطته وهكذا عند العامة الذين جعلوا التسلط والتغلب بالقوة مبدأ معترف به لشرعية السلطة.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين..