محاضرات فقه الدولة - المحاضرة 18
ومن الروايات التي ربما تعضد ما تقدم ما ورد عنهم (عليهم السلام) السلطان ولي من لا ولي له وقد اشتهر في الألسن هذا الحديث وتداول في بعض الكتب كما أشار إليه شيخنا الأعظم الأنصاري (رضوان الله عليه) بل نسبت روايته عن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى كتب العامة والخاصة أن السلطان ولي من لا ولي له وقد استدل به صاحب الجواهر (رضوان الله عليه) وتمسك به على أنه يفيد خبرة كلية تدل على عموم الولاية قال في الجواهر في مبحث أولياء النكاح في نفي كلام المشهور أنه ليس للحاكم ولاية في النكاح بالأصل أن الأصل مقطوع بعموم ولاية الحاكم من نحو قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) السلطان ولي من لا ولي له.
ولا يخفى عليكم أن الاشتهار يجبر ضعف السند بل صاحب الجواهر نسبه قولاً لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مما يكشف عن اعتباره عنده فلا يرد بعد ذلك على أن الحديث مرسل أو ضعيف مروي من طرق العامة مثلاً وأما الكلام من ناحية الدلالة فتارة يكون من جهة لفظ السلطان الظاهر في الحاكم لكن في بعض كلمات المحقق الإيرواني استظهار كونه الإمام المعصوم (عليه السلام) من بعض كلمات شيخنا الأعظم في مكاسبه لكن الظاهر أنه خلاف الظهور بل هو عام يشمل كل سلطان عادل ولا وجه لتخصيصه بالمعصوم (عليه الصلاة السلام) وتارة يكون الكلام في الدلالة من جهة احتمال كون ورود الرواية في الميت الذي لا ولي له كما احتمله في منية الطالب والإنصاف أنه أيضاً لا دليل على هذا الاحتمال خصوصاً مع مخالفته للظهور في الإطلاق وتارة يكون الكلام في الدلالة من جهة انه ناظرة إلى ثبوت الولاية للسلطان في كل ما يحتاج إلى ولي والاستدلال به إلى ما نحن فيه من ثبوت الولاية للفقيه في ذلك موقوف على عموم النيابة خصوصاً مع اعتضاده بعدم فهم الخصوصية للنكاح والميت أو فهم عدم الخصوصية فالقول بأنه يثبت الولاية الخاصة في شؤون الغيب والقصر وما أشبه ذلك كما ربما يستظهر من منهاج الفقاهة وغيره من الأعلام الظاهر أنه مخالف للإطلاق.
هذا وهناك روايات أخرى تضمنت ذم العلماء الذين يختلفون إلى أبواب الحكام والسلاطين ولا يحترزون عن معاشرتهم ومخالطتهم منها ما عرفته من خبر السكوني المتقدم ومنها النبوي. العلماء أمناء الرسل على عباد الله عز وجل ما لم يخالطوا السلطان فإذا فعلوا ذلك فقد خانوا الرسل فاحذروهم واعتزلوهم ومنها عنه (عليه السلام) العلماء أحباء الله ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولم يميلوا في الدنيا ولم يختلفوا أبواب السلاطين فإذا رأيتهم مالوا إلى الدنيا واختلفوا أبواب السلاطين فلا تحملوا عنهم العلم ولا تصلوا خلفهم ولا تعولوا مرضاهم ولا تشيعوا جنائزهم فإنهم آفة الدين وفساد الإسلام يفسدون الدين كما يفسد الخل العسل وفي منهاج الفقاهة الظاهر أن منشأ هذه التشديدات العظيمة والسر فيها وجهان:
- أحدهما: أن العالم جعل متبوعاً وحاكماً ومخدوماً فإذا صار تابعاً وخادماً ومحوكماً كان ذلك انعكاساً على أم الرأس ومثله هو الذي يقوم على العرض الأكبر مع المجرمين ناكسي رؤوسهم عند ربهم.
- الثاني: أن السلطان والملك قد غصب حق المجتهد وتصدى للحكومة فاختلاف بابه تقرير لظلمه وتعديه فلا يجوز وبذلك يظهر الوجه لما في روايات كثيرة من ذم السلاطين والنهي عن اختلاف أبوابهم والأمر بالهرب منهم فالمتحصل مما ذكرناه أنه لا ينبغي التوقف في أن تشكيل الحكومة وظيفة المجتهد الجامع للشرائط إما في كون المجتهد وريث للأنبياء ولكونه أميناً على الدين ولكونه حاكماً وما أشبه ذلك.
فيثبت لنا إذاً بأن الفقيه هو صاحب السيادة بعد الإمام وبعد النبي عليهم الصلاة السلام وكل حكومة ودولة ينبغي أن تأخذ سيادتها وسلطنتها منه ودلالة هذه الروايات بكثرتها على فرض المناقشة على بعضها سنداً ودلالة على صلاحية الفقيه وأصلحيته من غيره مما لا إشكال فيه بل قامت عليه القرائن العقلية أيضاً وليس عدم اطلاع الفقهاء على رموز السياسة والتدبير كما عند بعضهم عذراً في انعزالهم عن ميدان السياسة بل يجب عليهم تعلمها وكسبها مقدمة لأداء الواجب.
ثم فالمتحصل مما تقدم أن مناصب المعصوم وحدود ولايته تشمل أموراً ستة:
الأول: منصب الفتوى، الثاني: القضاء ورفع الخصومات بين الناس، الثالث: الحكومة المطلقة، الرابع: أولويته بالتصرف في الأموال والأنفس، الخامس: لزوم إطاعته في أوامره الشخصية والعرفية، السادس: ولايته التكوينية.
وقد عرفت مما تقدم من الأدلة أن الإمام (عليه السلام) قد نزل الفقيه منزلته في الأمانة والحجية والوراثة ومقتضى التنزيل هو جعل الفقيه كالإمام فيما له من الشؤون والمناصب إلا ما خرج بالدليل وقد خرج بالدليل ثلاثة مناصب من مناصب الإمام لم تجعل إلى الفقيه هي:
- الأول: الولاية على الأموال والأنفس وجواز التصرف فيها ولو من دون رضا أصحابها فإن هذا المنصب مختص بالإمام المعصوم (عليه الصلاة السلام).
- الثاني: لزوم الطاعة في الأمور الشخصية والعرفية فإن هذا أيضاً مختص بالإمام المعصوم (عليه السلام).
- الثالث: الولاية التكوينية وهذا أيضاً من مختصات الإمام المعصوم (عليه السلام).
هذه المناصب الثلاثة خرجت بالأدلة الخاصة فتبقى المناصب الأخرى تحت عموم الحجية والتنزيل فتثبت للفقيه الجامع للشرائط هذا مقتضى الجمع للأدلة وأما اختلاف الأقوال بين الفقهاء في السعة والضيق حيث ذكرنا أنهم اختلفوا إلى ثلاثة أقوال فيدور بين المناصب الأربعة الأولى فمن قال بأن مال المعصوم للفقيه كالمحقق النراقي أراد منه دخول ولاية الفقيه وشمولها للأموال والأنفس وأما من أنكر الولاية فأنكرها في الأموال والأنفس والحكومة فقط وأثبت الفتوى والقضاء وأما المشهور فأنكروا الولاية على الأموال والنفس ولكن قالوا بشمولها للحكومة وإقامة الدولة وأما المورد الخامس والسادس فالظاهر قام الإجماع على عدم ثبوتها للفقيه وعليه فإنه على مبنى المشهور كل أمر يرجع فيه كل قوم إلى رئيسهم يرجع المسلمون إلى الفقيه سواء في شؤون الفتوى أو القضاء ورفع الخصومات أو إقامة الدولة والحكم بينهم هذا حاصل الأدلة المتقدمة.
لكن أوردوا على ما ذكرناه إشكالين ذكرهما بعض الأعلام الأول ما أشار إليهم الشيخ الأنصاري في كتاب المكاسب بقوله مع أنه لو فرض العموم فيما ذكر من الأخبار وجب حملها على إرادة الجهة المعهودة المتعارفة من وظيفته من حيث كونه رسولاً مبلغاً وإلا لزم تخصيص أفراد العام لعدم سلطنة الفقيه على أموال الناس وأنفسهم إلا في موارد قليلة ( انتهىكلام الشيخ ) ويمكن الإجابة عنه بأن الولاية كما تقدم لها مرتبتان من حيث السعة المرتبة التي تقول بشمول ولايته للأموال والأنفس والأخرى التي تنفيها لكن حيث قطع بعدم المرتبة العالية من أنه له ولاية حتى على الأموال والأنفس فلا وجه لرفع اليد عن العموم بالنسبة إلى المرتبة الأقل وهي القول بولايته في الحكومة إذ ليس الأمر دائراً بين الولاية المطلقة وبين الأمور الحسبية فقط بل بينهما واسطة وهو الولاية على الحكومة فلا بد من القول بها لدلالة الأدلة السابقة عليها وإن شئت قلت بعدم عموم الأدلة فلا بد من تخصيصها بالقدر الخارج بالضرورة والإجماع وهو الولاية العامة كولاية الإمام (عليه السلام) على الأموال والأنفس وأما غير ذلك وهو المرتبة الثانية من الولاية الشاملة لولايته على الحكومة فلا دليل على خروجها عن العام.
- الإشكال الثاني: ما أشار إليه الفقيه الهمذاني (رضوان الله عليه) في مصباح الفقيه عند التعرض لصلاة الجمعة وكلامه وإن كان خاصاً بالنسبة إلى صلاة الجمعة لكن الظاهر يفهم منه أنه إشكال عام يجري بالنسبة إلى الولاية أيضاً وتقريبه بتصرف في العبارة أنه يقبح إيجاب الشارع الحكم على كافة الناس تولي شخص غير معين ويوكل تعيينه إلى إرادتهم مع أنه لا يكاد يتفق آراء الجميع على واحد مع ما في نفوس جلهم من الإباء عن تولي من يراه مثله أو دونه في الأهلية للولاية العامة ما لم يكن له ملزم شرعي مع مجبولية كل نفس بحب الرئاسة لنفسه إذ المفروض تعدد المجتهدين الجامعين للشرائط فليس مثل هذا الحكم إلا تأسيس مادة الجدل والنزاع فيمتنع صدوره من الشارع إلا أن يجعل لتعيين من يجب توليه طريقاً لا يبقى معه موقع للخصومة وليس ذلك إلا بنصب وال خاص حتى يتعين فيه ويجب على غيره اتباعه وإن شئت قلت أنه لو كان لكل واحد من الفقهاء ولاية عامة صار منشأ للنزاع إذ هذا يحكم بالجهاد لأنه يراه صلاحاً مثلاً وذلك يحكم بعدمه لأنه يراه غير صالح لا يقال يحرم نقض الحكم الثاني بعد صدور الحكم من الأول لأنه يقال إما لا يرى الثاني اجتماع الأول للشرائط وإما يراه خاطئاً بما يوجب تزلزل بيضة الإسلام بحيث يجب نقض حكمه انتهى كلام الشيخ الهمداني في كتاب الصلاة.
والظاهر إمكان المناقشة في هذا الوجه العقلي نقداً وحلاً أما من جهة النقض فبجواز تصدي الفقيه للأمور الحسبية الذي هو محل الوفاق بينهم ظاهراً إذ إن التصدي للأمور الحسبية يرد عليه نفس الإشكال إذ يلزم التشاجر والنزاع والخصام أيضاً في مورد التصدي لأنه لو نصب الفقيه قيماً على الصغير جاز للفقيه الآخر نقض قيمومته بأحد الوجهين السابقين إما لأنه لا يراه أهلاً للتصدي إما لأنه لا يرى القيم للقيمومة بحيث يوجب بقاءه إتلاف مال الصغير بل فساد نفسه فيرى وجوب نقض حكم الأول ونصب قيماً آخر فما يقال في الأمور الحسبية هو الذي نقوله في الولاية العامة أيضاً.
وأما الجواب الجلي عن الكل فحاصل الإشكالين بأنه لا ينبغي للفقيه الجامع للشرائط التصدي لإقامة الحكومة ومن الواضح أن المفاسد التي تترتب على عدم تصديه كبيرة جداً وعليه فإن القول بعدم النصب أشد محذوراً من هذه المحاذير المستلزمة للنصب فجاز للشارع الحكيم النصب من باب الأهم والمهم وإن استلزم مثل هذه الأمور النادرة كما استدلوا بذلك لحجية الأمارات والطرق المخالفة للواقع كثيراً أو أحياناً لكون عدم الجعل أشد محذوراً من الجعل هذا مضافاً إلى إمكان التحرز عن وقوع النزاع والتخاصم بجعل تولي الأمور وإجراءها بواسطة الشورى تنصيباً وتنفيذاً على تفصيل سنمر عليه إن شاء الله تعالى.
كما هو الشأن في كل موارد الحكومات والدول التي تتعدد فيها الآراء وتختلف الأقوال لكن الرأي الحاسم يكون بالشورى وبالأخذ بقانون الأكثرية كما هو مقتضى سيرة العقلاء في كل شؤونهم فيما إذا تتعدد الأقوال والآراء على ما سنفصله إن شاء الله تبارك وتعالى.
هذا ولعل من المناسب أن نختم هذا الفصل بكلام السيد البروجردي (رضوان الله عليه) الذي أورده تلميذه في تقريرات بحثه البدر الزاهر في صلاة الجمعة والمسافر كما أورده في دراسات في ولاية الفقيه في الجزء الأول ص456 - ص460 لما فيه من مزيد التوضيح والبيان لما ذكرنا.
قال طاب ثراه: إن إثبات ولاية الفقيه وبيان الضابطة لما يكون من شؤون الفقيه ومن حدود ولايته يتوقف على تقديم أمور:
- الأول: إن في المجتمع أموراً لا تكون من وظائف الأشخاص ولا ترتبط بهم بل تكون من الأمور العامة الاجتماعية التي يتوقف عليها حفظ نظام المجتمع كالقضاء والولاية على الغيب والقصر ونحوها وحفظ النظام الداخلي وسد الثغور والأمر بالجهاد والدفاع عند هجوم الأعداء ونحو ذلك. فليست هذه الأمور مما يتصدى لها كل شخص بل تكون من وظائف قيم المجتمع ومن بيده أزمة الأمور الاجتماعية.
- الثاني: لا يبقى شك لمن تتبع قوانين الإسلام وضوابطه في أنه دين سياسي اجتماعي وليست أحكامه مقصورة على العباديات المحضة المشرعة لتكميل الأفراد وتأمين سعادة الآخرة فقط بل يكون أكثر أحكامه مرتبطة بسياسة المدن وتنظيم الاجتماع وتأمين سعادة هذه النشأة أو جامعة للحسنيين ومرتبطة بالنشأتين وذلك كأحكام المعاملات والسياسات والجزائيات من الحدود والقصاص والديات والأحكام القضائية والضرائب التي يتوقف عليها حفظ دولة الإسلام كالأخماس والزكوات ونحوهما.
ولأجل ذلك اتفق الخاصة والعامة على أنه يلزم في محيط الإسلام وجود سائس وزعيم يدبر أمور المسلمين بل هو من ضروريات الإسلام وإن اختلفوا في شرائطه وخصوصياته وأن تعيينه من قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنص كما بالانتخاب العمومي.
- الثالث: لا يخفى أن سياسة المدن وتأمين الجهات الاجتماعية في دين الإسلام لم تكن منحازة عن الجهات الروحانية والشؤون المربوطة بتبليغ الأحكام وإرشاد المسلمين بل كانت السياسة فيه من الصدر الأول مختلطة بالديانة ومن شؤونها فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بشخصه يدبر شؤون المسلمين ويسوسهم ويرجع إليه لفصل الخصومات بل كان ينصب الحكام والعمال للولايات ويطلب الأخماس والزكوات ونحوهما من الماليات وهكذا كانت سيرة من بعده من الحكام وكانوا في بادئ الأمر يعملون بالوظائف السياسة بمراكز الإرشاد والهداية كالمساجد فكان إمام المسجد بنفسه أميراً لهم وبعد ذلك أيضاً استمرت السيرة على بناء المسجد الجامع قرب دار الإمارة وكان الخلفاء والأمراء بأنفسهم يقيمون الجمعات والأعياد بل ويدبرون أمر الحج ومواقفه حيث أن العبادات الثلاث مع كونها عبادية قد احتوت على فوائد سياسية لا يوجد نظيرها في غيرها وهذا النحو من الخلط بين الجهات الروحية والجهات السياسية من خصائص الإسلام وميزاته.
- الرابع قد تلخص مما ذكرناه:
1- أن لنا حاجات اجتماعية تكون من وظائف سائس الاجتماع ووظائفه.
2- وأن الديانة المقدسة الإسلامية لم تهمل هذه الأمور بل اهتمت بها أشد الاهتمام وشرعت بلحاظها أحكاماً كثيرة وفوضت إجراءها إلى سائس المسلمين.
3- وأن سائس المسلمين في بادئ الأمر لم يكن إلا شخص النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم الخلفاء بعده وحينئذ نقول إنه لما كان من معتقداتنا معاشر الشيعة الإمامية أن خلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وزعامة المسلمين من بعده كانت للأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) وأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يهمل أمر الخلافة بل عين لها من بعده أمير المؤمنين (عليه السلام) ثم انتقلت منه إلى أولاده عترة الرسول فكانوا هم المراجع الأحقاء للأمور السياسية والاجتماعية وكان على المسلمين الرجوع إليهم وتقويتهم في ذلك فلا محالة كان هذا مركوزاً في أذهان أصحاب الأئمة (عليهم السلام) وكان أمثال زرارة ومحمد بن مسلم من فقهاء أصحاب الأئمة وملازميهم لا يرون المرجع لهذه الأمور إلا الأئمة أو من نصبوه لذلك فلذلك كانوا يراجعون إليهم فيما يتفق لهم مهما أمكن كما يعلم ذلك بمراجعة أحوالهم إذا عرفت هذه المقدمات فنقول لما كان هذه الأمور والحوائج الاجتماعية مما يبتلى به الجميع مدة أمرهم غالباً ولم يكن الشيعة في عصر الأئمة (عليهم السلام) متمكنين من الرجوع إليهم (عليهم السلام) في جميع الأحوال كما يشهد بذلك مضافاً إلى تفرقهم في البلدان عدم كون الأئمة (عليهم السلام) مبسوطي اليد بحيث يرجع إليهم في كل وقت لأي حاجة اتفقت فلا محالة يحصل لنا القطع بأن أمثال زرارة ومحمد بن مسلم وغيرهما من خواص الأئمة (عليهم السلام) سألوهم عمن يرجع إليه في مثل تلك الأمور إذا لم يتمكنوا منهم (عليهم السلام) ونقطع أيضاً بأن الأئمة (عليهم السلام) لم يهملوا هذه الأمور العامة البلوى التي لا يرضى الشارع بإهمالها بل نصبوا لها من يرجع إليه شيعتهم إذا لم يتمكنوا منهم (عليهم السلام) ولا سيما مع علمهم (عليهم السلام) بعدم تمكن أغلب الشيعة من الرجوع إليهم بل عدم تمكن الجميع في عصر الغيبة التي كانوا يخبرون عنها غالباً ويهيئون شيعتهم لها وهل لأحد أن يحتمل أنهم (عليهم السلام) نهوا شيعتهم عن الرجوع إلى الطواغيت وقضاة الجور ومع ذلك أهملوا لهم هذه الأمور ولم يعينوا من يرجع إليه الشيعة في فصل الخصومات والتصرف في أموال الغيب والقصر والدفاع عن حوزة الإسلام ونحو ذلك من الأمور المهمة التي لا يرضى الشارع بإهمالها وكيف كان فنحن نقطع بأن صحابة الأئمة (عليهم السلام) سألوهم عمن يرجع إليه الشيعة في تلك الأمور مع عدم التمكن منهم (عليهم السلام) وأن الأئمة (عليهم السلام) أيضاً أجابوهم ونصبوا للشيعة مع عدم التمكن منهم (عليهم السلام) أشخاصاً يتمكنون منهم إذا احتاجوا غاية الأمر سقوط تلك الأسئلة والأجوبة من الجوامع الحديثية التي بأيدينا ولم يصل إلينا إلا ما رواه عمر بن حنظلة وأبو خديجة وإذا ثبت بهذا البيان النصب من قبلهم (عليهم السلام) وأنهم لم يهملوا هذه الأمور المهمة التي لا يرضى الشارع بإهمالها ولا سيما مع إحاطتهم بحوائج شيعتهم في عصر الغيبة فلا محالة يتعين الفقيه لذلك إذ لم يقل أحد بنصب غيره فالأمر يدور بين عدم النصب وبين نصب الفقيه العادل وإذا ثبت بطلان الأول بما ذكرناه صار نصب الفقيه مقطوعاً به وتصير مقبولة ابن حنظلة أيضاً من شواهد ذلك.
وإن شئت ترتيب ذلك على النظم السياسي فصورته هكذا إما أنه لم ينصب الأئمة (عليهم السلام) أحداً لهذه الأمور العامة البلوى وأهملوها وإما أنهم نصبوا الفقيه لها لكن الأول باطل فثبت الثاني فهذا قياس استثنائي مؤلف من قضية منفصلة حقيقية وحملية دلت على رفع المقدم فينتج وضع التالي وهو المطلوب وبما ذكرناه يظهر أن مرادهم (عليهم السلام) بقوله في المقبولة حاكماً هو الذي يرجع إليه في جميع الأمور العامة الاجتماعية التي لا تكون من وظائف الأفراد ولا يرضى الشارع أيضاً بإهمالها ولو في عصر الغيبة وعدم التمكن من الأئمة (عليهم السلام) ومنها القضاء وفصل الخصومات ولم يرد به خصوص القاضي ولو سلم فنقول إن المترائى من بعض الأخبار أنه كان شغل القضاء ملازماً عرفاً للتصدي لسائر الأمور العامة البلوى كما يظهر عن خبر إسماعيل بن سعد عن الرضا (عليه السلام) وعن الرجل يصحب الرجل في سفر فيحدث به حدث الموت ولا يدرك الوصية كيف يصنع بمتاعه وله أولاد صغار وكبار أيجوز أن يدفع متاعه ودوابه إلى ولده الأكابر أو إلى القاضي وإن كان في بلدة ليس فيها قاض كيف يصنع إلى آخر الحديث وبالجملة كون الفقيه العادل منصوباً من قبل الأئمة (عليهم السلام) لمثل تلك الأمور العامة المهمة التي يبتلي بها العامة مما لا إشكال فيه إجمالاً بعد ما بيناه ولا نحتاج في إثباته إلى مقبولة عمر بن حنظلة غاية الأمر أيضاً كونها من الشواهد فتدبر انتهى كلام السيد البروجردي (رضوان الله عليه) على ما أورده في البدر الزاهر ص52 وفي دراسات في ولاية الفقيه.
والمتحصل من مجموع ما تقدم أن مصدر السيادة بعد الله ورسوله والإمام المعصوم هو الفقيه الجامع للشرائط لكونه الحجة المعين من قبلهم في إقامة الدولة وممارسة نظام الحكم سواء كانت بالمباشرة أو كانت بالوسائط وتعيين من ينوب عنه في ذلك.
وبذلك يظهر أنه يجب على الفقهاء التصدي لإقامة الدولة الإسلامية العادلة بالمباشرة أو بالواسطة وكل دولة تقام لا تستند في سلطتها على المسلمين إلى ولاية الفقهاء تعد فاقدة للشرعية من الوجهة الشرعية وعليه فإنه إذا نهض الفقهاء أو الفقيه بتشكيل الحكومة وقام بشروط الحكومة الشرعية من العدالة والكفاءة والأخذ بالشورى ونحوها من شروط شرعية الدولة وجب على الناس أن يسمعوا له ويطيعوه وإلا سقط الوجوب بداهة أن سلطته نابعة من ولايته وهي مشروطة بالفقاهة والعدالة النفسية والعملية المتقومة بمراعاة موازين الإسلام في التقوى وتطبيق أحكامه في العمل في جوانب الحرية والعدالة والشورى ونحوها وإلا سقطت ولايته فتسقط شرعية حكمه أيضاً كما يظهر أيضاً أنه إذا نهض الناس بتشكيل الحكومة تحت الضوابط الإسلامية كما في النهضات الاجتماعية العامة والثورات وما أشبه ذلك فإن الناس إذا نهضوا بتشكيل الحكومة فللفقيه العادل حينئذ أن يتصدى ويراقب سلوك الحكومة و تصرفاتها فيصحح مسيرتها إذا انحرفت ويعدل سلوكها إذا شذت لكونه الولي والنائب عن الإمام المعصوم والحجة عنه بل وهو المعلم والمهذب والقدوة في ذلك فيجب عليه أن يقاوم الانحراف ويسدد المسيرة نحو تصحيح العمل وتقويم الدولة لتطبيق العدالة لكن قد عرفت مما تقدم من الأدلة على ولاية الفقهاء أن الولاية جعلت للفقهاء عامة ولاية فعلية وحيث أنها لا تنص على فقيه واحد بل كل فقيه توفرت فيه الشرائط كان له أهلية ذلك.
وعليه فإنه يمكن أن يتعدد الفقهاء في الوقت الواحد فحينئذ أما أن يكون لكل واحد منهم مستقلاً بالفعل هذه الولاية وكل يعمل مستقلاً عن الآخرين وهذا يوجب الهرج والمرج الشديد والاختلاف الكثير لتعدد الولاة بتعدد الفقهاء وهو أمر لا مجال للالتزام به لوقوع التشاجر واختلال النظام ونقض الغرض وإما أن يقال بولاية بعضهم مشروطة بولاية بعض وهذا أيضاً خلاف ظاهر الأدلة مضافاً إلى أنه ترجيح بلا مرجح أو نقول الولاية للمجموع من حيث المجموع وهذا مما لا محصلة له بداهة أن المجموع من حيث المجموع يستلزم أن تكون ولاية واحدة للمجموع وهو أيضاً خلاف ظاهر الأدلة فلا بد أن يقال إذاً بطريق رابع وهو أن الفقهاء منصوبون لمقام الولاية شأنياً وإنما تكون فعلية ولايتهم بالشورى الراجعة إلى انتخاب الناس واختيارهم لا غير ومن هنا نشأ البحث في وجه العلاقة بين سيادة الفقيه وولايته في شؤون السلطة وبين رأي الأمة وسيادتها وللفقهاء في وجه الجمع آراء ونظريات نتعرض إليها بنحو سريع ونوكل التفصيل إلى محله إن شاء الله تعالى.
- النظرية الأولى: تقول بأن الولاية تثبت للفقيه بالنص الخاص أو العام لشخص الولي إلا أن فعلية ولايته منوطة بالشورى ورأي الأمة وعند فقدان النص يكون الأمر شورى وميزة هذا الرأي أن رأي الأمة متأخر رتبة عن النص فإنه ينتهي إلى أن السلطة التنفيذية بيد الأمة غايتها يكونون مقيدين بالمنصوص عليه وفي حالة عدمه يختارون من تنطبق عليه المواصفات والشرائط.
- النظرية الثانية: في حالة وجود النص فهو المتبع ولا دور للشورى وفي حال عدمه أو غيبة المنصوص عليه فالأمر يعود للأمة لاختيار الحاكم لكن ذلك مشروط بنظارة أهل الخبرة الشرعية وهم الفقهاء وعليه فالأمر للأمة يكون بالشورى وتمارس السلطة التنفيذية والتشريعية ولكن تحت نظارة وإشراف الفقيه ولهذه النظرية صياغات ومذاهب اختار كل منها فقيه:
- المذهب الأول:ما اختاره المحقق النائيني (رضوان الله عليه) في تنبيه الأمة وتنزيه الملة وحاصله أن دور الفقيه يكون كدور المحكمة الدستورية في التعبير الحديث وهو فصل النزاعات والاختلافات الحاصلة بين السلطات وإمضاء التشريعات في الأمة.
- المذهب الثاني:ما اختاره الشهيد الصدر (رضوان الله عليه) وغيره وحاصله أن الفقيه يكون له دور المشاهد والرقيب على سير عمل السلطات الثلاثة فإذا ما انحرفت عن مسارها الصحيح تدخل لتقويم اعوجاجها.
- المذهب الثالث: ما ربما يظهر من كلمات السيد الشيرازي (قدس سره الشريف) في غير موضع من الفقه وحاصله أن الفقيه هو المحور في الحكم غايته قد تعوزه الخبرة العملية في تحصين الموضوعات المستنبطة فيستعينوا بأهل الخبرة في كافة المجالات التي يحتاجها في تسيير شؤون الدولة من سياسة واقتصاد وقانون وثقافة وجيش وأمن وما أشبه ذلك وهذا ربما يظهر أيضاً من كلمات السيد الخوئي أيضاً (قدس سره) في الجهاد من كونه بيد الفقيه غايته بأنه يجب أن يستعين بأهل الخبرة من السياسيين والعسكريين في إعلان الجهاد.
- النظرية الثالثة: أن ولاية الأمر هي بيد المنصوص عليه أو من ينصبه ومن ينيبه المنصوص عليه ولا يعود الاختيار للأمة غايتها أن كليهما ملزمان في تسيير أمور الأمة بالشورى ويكون رأي الشورى ملزم لهما ولا يجوز لهما مخالفته وعليه فالسلطة التنفيذية تكون بيد الفقيه أو من أنابه والسلطة التشريعية تقع بيد الأمة.
- النظرية الرابعة:حاصلها أن ولاية الأمر تكون بالنص الخاص أو العام ولا مناص منه حيث أن الولاية لله عز وجل يجعلها لمن يشاء من خلقه فهي تابعة للمنصوص عليه أو من ينيبه غايته يكون ملزماً في طريقة تسيير شؤون دولته وأمته بالاستشارة لكنه غير ملزم بندية المشورة فيستطيع مخالفتها وتكون فائدة الاستشارة هنا بأنها نوع من الاستعانة الفكرية والخبروية بآراء الناس وهذه النظرية هي التي يتبناها بعض الفقهاء وهي مؤدى نظرية النص غايته فيها نوع من الاستعانة بالشورى في إدارة شؤون الدولة.
- النظرية الخامسة: وحاصلها أن الولاية تكون بالنص دائماً لكون المعصوم (عليه الصلاة السلام) في عصر الغيبة جعل الفقيه نائباً عنه واشترط فيه توفر الشرائط ويعود للأمة تعيين ذلك المصداق فيمن تتوفر فيهم الشرائط وشرعية سلطة ذلك الفقيه المختار من قبل الأمة تكون بالولاية له من المعصوم لا من الأمة غاية الأمر أن الإستنابة من المعصوم لم تكن لكل أحد بل لمن تتوفر فيه شرائط أحدها رجوع الأمة إليه وهذا ما ربما يستفاد من قولهم (عليهم السلام) فارجعوا بها إلى رواة حديثنا وقولهم (عليهم السلام): اجعلوا بينكم ممن قد عرف حلالنا وحرامنا فإني قد جعلته قاضيا، وقولهم (عليهم السلام): فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً، وهذا ما يستظهر من كلمات السيد الشيرازي (قدس سره) في غير موضع من الفقه وفائدة رجوع الأمة هنا هو إعطاء الفقيه فعلية الحكم وممارسة السلطة جمعاً بين أدلة الحكم والولاية وسلطة الناس على أنفسهم وهذا يكاد يتطابق مع النظرية الرابعة والثانية مع إناطة دور للامة في الاختيار والرجوع إلى الفقيه هذا وقد بحث الفقهاء جانباً من هذا الموضوع في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود وكتاب القضاء وكتاب الجهاد ومسألة التولي عن السلطان الجائر في المكاسب المحرمة وغير ذلك.
وهنا من اللازم التنبيه على أمرين:
- الأمر الأول:أن النظريات الخمسة المذكورة عندما أسندت دوراً للشورى في تشريع القوانين والولاية فإن ذلك يكون في الموضوعات الخارجية المستنبطة لا الأحكام كالحرب والسلام وإنشاء الأحزاب والصحافة وإقامة العلاقات مع الدول وكيفيتها وكذلك في التجارة والاقتصاد و نحوها ويتفرع حينئذ على تشخيص الموضوعات بواسطة الشورى يتفرع عليها حكمها لتبيعة الحكم للموضوع بداهة عدم خلو واقعة من الوقائع إلا والله عز وجل فيها حكم واقعي ثبوتاً وحكم تنجيزي أو إعذاري إثباتاً كما ثبت في الأصول فما اشتهر على ألسنة بعض المعاصرين من وجود منطقة فراغ في التشريع إن أريد منه ما ذكرنا كان تاماً لكن التعبير عنه بالفراغ التشريعي حينئذ غير تام وذلك لتجدد الموضوعات والحوادث بحسب الحاجات والضرورات ولعله المعبر عنه في توقيع مولانا صاحب الأمر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) في الحوادث الواقعة وأين هذا من التعبير بالفراغ المستظهر منه وجود واقعة خالية من الحكم وإن أريد منه خلو الواقعة من الحكم والدولة أو الفقيه يؤسس حكماً جديداً فهو واضح البطلان.
وأما الأمر الثاني فنتعرض إليه في البحث القادم إن شاء الله.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين.