محاضرات البلاغة - المحاضرة 45 - الزيارة
الزيارة...
الزيارة: شكل فني يتمثل في صياغة العواطف البشرية حيال أهل البيت (عليهم السلام). وإذا كان (الدعاء) يتمثل في التوجه بالعواطف إلى الله تعالى، فإن (الزيارة) تتمثل في التوجه بالعواطف إلى أهل البيت (عليهم السلام) من خلال كونهم (شفعاء) أو (وسائل) بين الفرد والله.
وأهمية هذه العواطف لا تتجسد في مجرد (الشفاعة) بل في التعبير الموضوعي عن محبة الزائر لأهل البيت (عليهم السلام) بصفتهم النموذج الأرفع للوظيفة الخلافية حيث اصطفاهم الله - دون خلقه - لممارسة الوظيفة المذكورة في أرفع صعدها.
مضافاً إلى ذلك، فإن (الزيارة) تعد نمطاً من (الوفاء) لشخصيات أهل البيت (عليهم السلام)؛ فالميت العادي من البشر طالما يتجه ذووه وأصدقاؤه وجيرانه ومقدّروه بشكل عام، إلى تجديد ذكرياتهم مع الفقيد، في شتى المناسبات، بحيث تعد قراءة الفاتحة ونحوها تعبيراً عن (الوفاء) حيال الفقيد.
أما أهل البيت (عليهم السلام) بصفتهم النموذج العبادي الذي أشرنا إليه، فإن (الزيارة) لهم من خلال المشاهد المقدسة أو مطلق (الزيارة) تعد تعبيراً خاصاً له تميزه وتحدده عن سائر الناس بحيث تتناسب (الزيارة) - بما تنطوي عليه من دلالات سنشير إليها - مع الموقع الخلافي الذي يحتله أهل البيت (عليهم السلام).
وتتمثل (موضوعات) الزيارة في جملة من الدلالات: تبدأ - عادة - بالثناء على الله، ثم (السلام) على (المزور) ثم: التقويم لشخصيته العبادية، ثم: العرض لبعض الشدائد التي واجهها (المزور)؛ بخاصة أن كلاًّ من شخصياتهم (عليهم السلام) بين مقتول أو مسموم، ثم: اختتام ذلك بالدعاء لنفسه.
نموذج رقم (1):
من زيارة للنبي (صلى الله عليه وآله):
(أشهد أن لا إله إلاّّ الله... وأشهد أنك رسول الله... وأشهد أنك قد بلغت رسالات ربك، ونصحت لأمتك وجاهدت في سبيل الله... اللهم أعطه الدرجة الرفيعة والوسيلة من الجنة... اللهم إنك قلت: ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً، وإني أتيت نبيك تائباً من ذنوبي...).
فالملاحظ في هذا النص أنه - كما أشرنا - بدأ بالثناء على الله، ثم (المزور)، ثم: التقويم لشخصيته، ثم الدعاء له، ثم الدعاء لنفسه.
وأهمية هذا النمط من (الزيارة) أنها تدرب الشخصية على السلوك السوي، من حيث شدها إلى التفكير بوظيفتها العبادية حيال الله وأصفياء عباده، ومن حيث تذكيرها بالمبادئ التي ينبغي أن تلتزم الشخصية الإسلامية بها؛ خلال (تقويمها) لشخصية (المزور) المتمثل في جهاده في سبيل الله وتأدية وظيفته (عليه السلام)، فضلاً عن أنها تستثمر ذلك للتنبيه على سلوك (الزائر) واستحضاره لذنوبه مما يحمله على تعديل السلوك، وفضلاً عن أن (الوفاء) نفسه ـ من خلال ممارسة الزيارة - يُعدّ مواصلة للتدريب على السلوك السوي.
هذا كله من حيث الدلالات الفكرية والنفسية لممارسة (الزيارة) أما من حيث القيم الفنية لـ (الزيارة) بصفتها شكلاً أدبياً له خصائصه الجمالية: من صورة وإيقاع وبناء، فإن هذا الشكل لا يختلف عن سائر الأجناس الأدبية التي وقفنا عليها في نصوص الفن التشريعي من حيث كونه يرتكن إلى أدوات جمالية يخرجها من نطاق التعبير العادي إلى صعيد التعبير الفني، وهو ما سوّغ لنا إدراجه ضمن دراستنا للأدب التشريعي. ويمكننا ملاحظة البعد الفني لنصوص (الزيارة) في نماذج منها:
نموذج رقم (2):
من زيارة لعلي (عليه السلام):
(السلام عليك يا أمين الله... أشهد أنك جاهدت في الله حق جهاده... حتى دعاك الله إلى جواره، وقبضك إليه باختياره، اللهم فاجعل نفسي مطمئنة بقدرك، راضية يقضائك، مولعة بذكرك ودعائك، محبة لصفوة أوليائك.. إلخ).
فالملاحظ هنا، أن النص ارتكن إلى (الإيقاع) في قراري (الراء) و(الهمزة)، كما أن (توازن) الجمل ساهم في تجلية الإيقاع المذكور مما يجعل النص ليس مجرد تعبير عادي بل يجسد تعبيراً له جماليته التي ابتعثها (الإيقاع) على النحو المذكور.
وهذا فيما يتصل بعنصر (الإيقاع)، أما فيما يتصل بعنصر (الصورة) فيمكننا ملاحظته في:
نموذج رقم (3):
من زيارة للحسين (عليه السلام):
(أشهد أنك كنت نوراً في الأصلاب الشامخة، والأرحام المطهرة، لم تنجسك الجاهلية بأنجاسها، ولم تلبسك من مدلهمات ثيابها، وأشهد أنك من دعائم الدين وأركان المؤمنين...).
هذا المقطع من (الزيارة) يتضمن - كما هو بين - حشداً متتابعاً من (الصور) أي: التعبير غير المباشر بحيث لم يتخللها نثر غير صوري، ومنها: صورتا (لم تنجسك الجاهلية بأنجاسها) و(لم تلبسك من مدلهمات ثيابها) فهذه الأخيرة ـ على سبيل المثال - تعتمد أطرافها على (خبرة مألوفة) هي: المدلهمة من الثياب، أي: المكثفة أو شديدة السواد، حيث لم يكتف النص بخلع سمة (السواد) على الثياب؛ تعبير أرمزياً عن مجرد وساخة السلوك الجاهلي، بل تجاوزه إلى (السواد المكثف) أي: شديد السواد، معبراً بذلك عن أشد أشكال الوساخة الجاهلية. فالنص استطاع بهذا النمط من التركيب الصوري أن يستثير القارئ وينقله إلى تجارب الفكر الجاهلي في أشد أشكالها مفارقة، مبيّناً أن الإمام الحسين (عليه السلام) ولد نقياً لم تعلق به أية وراثة طارئة من بيئة الجاهلية التي تسللت أو احتفظت بعناصرها في أصلاب كثير من الأشخاص الذين تمردوا على قيم الإسلام وأطلقوا لشهواتهم العنان، في ممارسة السلوك العدواني.
مضافاً إلى ذلك، فإن البناء الهندسي لهذا المقطع من (الصور) المتلاحقة التي بدأت بالحديث عن (الأصلاب الشامخة)، و(الأرحام المطهرة)، ثم وصلها بما لم (ينجس) بما هو جاهلي، ولم (يلبس بما هو مدلهم) منها، ثم وصلها بعد ذلك ـ بصورتي (الدعائم) و(الأركان)...
أقول، إن هذا الحشد من (الصور الفنية) قد صيغ وفق بناء هندسي متلاحم متآزر متواشج ينتقل بنمو وتطوير فنيين، من الأرحام، إلى الثياب، مروراً بعدم التلوث بالمفارقات، بحيث تستكمل ـ من خلالها ـ (صورة) استمرارية متواصلة الأجزاء، بعضها بالآخر، تماماً كما هو الحال في بناء العمارة التي تتناسب طوابقها بعضاً مع الآخر.
المهم أن كلاًّ من عنصر (الصورة) و(البناء الهندسي) لها في هذا النص، فضلاً عما لحظناه من عنصر (الإيقاع) في النص الأسبق، يدلنا على أن (الزيارة) - بصفتها نمطاً واحداً من أشكال التعبير - تظل مثل سائر الأجناس الأدبية المأثورة عن (التشريع)، شكلاً تعبيرياً له خصائصه الفنية؛ على اختلاف عناصرها.
الحديث الفني...
نقصد بـ(الحديث الفني): الأحاديث التي تعتمد عنصر (الصورة) بخاصة، شكلاً لها (علماً بأن عنصر (الإيقاع) ينتظم بدوره كثيراً من الأحاديث)، بالقياس إلى غالبية الأحاديث التي تعتمد التعبير المباشر؛ شكلاً خارجياً لها.
و(الحديث) هو: مجرد تقرير أو توصية فقهية أو أخلاقية أو فكرية، يتناول من خلال كلمات محدودة. إلاّّ أن الكثير منه يتجه إلى التعبير غير المباشر عن المضامين التي يستهدف المشرع توصيلها إلى القارئ.
ويلاحظ أن (العنصر الصوري) الذي ينتظم قسماً من الأحاديث التي نتناولها بالدراسة، يجد مستوياته الثلاثة من التركيب الفني، ونعني بها: (الصورة البسيطة)، (الصورة المركبة)، (الصورة الاستمرارية).
ولنتقدم ببعض النماذج، ونبدأ بـ:
الصورة الاستمرارية:
قال (عليه السلام):
(إِنَّمَا الْمَرْءُ فِي الدُّنْيَا غَرَضٌ تَنْتَضِلُ فِيهِ الْمَنَايَا ونَهْبٌ تُبَادِرُهُ الْمَصَائِبُ ومَعَ كُلِّ جُرْعَةٍ شَرَقٌ وفِي كُلِّ أَكْلَةٍ غَصَصٌ ولا يَنَالُ الْعَبْدُ نِعْمَةً إِلا بِفِرَاقِ أُخْرَى ولا يَسْتَقْبِلُ يَوْماً مِنْ عُمُرِهِ إِلا بِفِرَاقِ آخَرَ مِنْ أَجَلِهِ فَنَحْنُ أَعْوَانُ الْمَنُونِ وأَنْفُسُنَا نَصْبُ الْحُتُوفِ فَمِنْ أَيْنَ نَرْجُو الْبَقَاءَ وهَذَا اللَّيْلُ والنَّهَارُ لَمْ يَرْفَعَا مِنْ شَيْءٍ شَرَفاً إِلا أَسْرَعَا الْكَرَّةَ فِي هَدْمِ مَا بَنَيَا وتَفْرِيقِ مَا جَمَعَا).
إن هذه (الصورة الاستمرارية) حافلة بأشد الأطراف إثارة؛ من حيث تفريعها وتشابكها. إنها تريد أن تقول لنا بأن كلاًّ من (الموت) و(شدائد الحياة) هما نصيب الدنيا، وإلى أننا ـ بذواتنا نحن ـ نساعد الموت على تحقيق هدفه حيالنا، لكن كيف ذلك؟
هذا ما تضطلع به (الصورة الاستمرارية) التي تثري تجاربنا وتدفع بنا إلى استجابة فاعلة في عملية (التعديل) للسلوك. ويعنينا منها معالجة أطراف الصورة، مما نبدأ بتفكيكها أولاً:
المرء في هذه الدنيا مثل (الهدف) الذي تتجه المنايا إلى إصابته. هذا من حيث الموت. وحتى من حيث (الحياة) ذاتها، فإن المرء فيها فريسة للشدائد، فما أن يتناول جرعة من الماء حتى يغص بها فمه، وما يتناول طعاماً إلاّّ غص به (الماء والطعام هنا (رمزان) للذائد الحياة، بصفة أن التغذية منحصرة بهما) مما يعني أن النص يريد أن يقول لنا: (إن اللذائذ مشفوعة بالشدائد).
والآن: إذا كانت الحياة مرشحة للانطفاء، واللذائذ مشفوعة بالشدائد!! حينئذٍ كيف يتحرك الإنسان حيالهما؟ انطفاء كل من الحياة واللذائذ، يسير جنباً إلى جنب مع استمراريتهما أيضاً، إذاً لا يتاح للإنسان أن يظفر بنعمة إلاّّ ويفارق أخرى، ولا يستقبل يوماً من عمره إلاّّ بفراق آخر من أجله.
ولنقف ملياً عند هذه (المعادلة) المدهشة التي يتغافلها الإنسان. إننا بقدر ما نفرح بمرور يوم جديد علينا، ينبغي أن نحزن على اليوم السابق عليه أيضاً، لأن مضي (السابق) مؤشر إلى (نقص) من العمر... إذن: نحن أعوان (الموت) عبر فرحنا باستقبال اليوم الجديد. وإذن - أيضاً - فيم التفكير باستمرارية الحياة!!
إن أدنى تأمل لهذه الصورة الاستمرارية، كاف بأن يغير استجابة الإنسان وينقله من ظاهرة تغافله عن (الحياة) إلى الوعي الحاد بها.
والمهم أن الصورة الفنية - على النحو الذي حللناه - ساهمت من خلال الاستعارات والرموز المختلفة - بتعميق الدلالة المتنوعة التي استهدفها الحديث في هذا الصدد، وهو أمر لم يتح للتعبير - إذا كان مباشراً أن يتوفر عليه بهذا النحو من الإثارة التي لحظناها في الصورة الفنية التي قدمها الإمام (عليه السلام).
الصورة المركبة:
قال (عليه السلام):
(مثل الدنيا مثل ماء البحر؛ كلما شرب منه العطشان ازداد عطشاً حتى يقتله).
إن هذه الصورة المركبة من عمليتين (الدنيا وماء البحر) و(الشرب والقتل) تجسد بوضوح هدف مثل هذه الأداة الفنية بدلاً من التعبير المباشر.
فبدلاً من أن تقول التوصية: إن الدنيا تجر صاحبها إلى (الإحباط) بدلاً من (الإشباع)،... أقول بدلاً من أن يتم تقرير هذه الحقيقة بلغة عادية لا تحمل القارئ على مزيد من الاستثارة والتأمل، تتجه إلى عنصر (الصورة) بغية حمل القارئ على التنبه لدقائق السلوك وتفصيلاته التي تفْضِ - من خلال الطموح الدنيوي - إلى حرمان الشخصية في نهاية المطاف من تحقيق إشباعه. فإذا كان (الهدف) من وراء اللهاث نحو الحياة هو (الإشباع)، حينئذ فإن (عدم الإشباع) هو الذي سيتوج سلوك الشخصية، أي: على العكس تماماً من هدفها. وهذه الحقيقة لا يتاح لها أن تتبلور بهذا النحو من الوضوح إلاّّ من خلال (صورة) أو تقديم (مثل) أو (تشبيه) بين الطموح الدنيوي وبين نتائجه، فكان (المثل) هو:
أولاً: تقديم ظاهرة حسية مألوفة في حقل التجربة اليومية، وهي: (ماء البحر).
ثم: تقديم ممارسة مألوفة أيضاً هي: الشرب.
ثم: استخلاص ظاهرة جديدة لم تذكرها الصورة وهي: ملوحة الماء.
ثم: استخلاص الظاهرة المطلوبة من الصورة بشكل عام وهي: ازدياد العطش.
ثم: استكمال الظاهرة المذكورة وهي: القتيل.
إذن: نحن أمام خمسة عناصر من (الأطراف) التي تنتظم الصورة المتقدمة؛ حيث اختزل البعض منها (الملوحة) واستخلص منها أكثر من نتيجة (ازدياد العطش، القتل)، فضلاً عن الاستخلاص العام الذي أدركه القارئ بوضوح، حينما عرف بأن اللهاث وراء الحياة الدنيا يؤدي إلى حرمان الشخصية من الإمتاع الذي تنشده.
***
ويمكننا ملاحظة الكثير من نصوص الحديث التي تتضمن (الصورة المركبة) فيما تتميز عن (الصورة الاستمرارية) و(الصورة المفردة) بأنها تتناول ظاهرة سريعة وليس (موقفاً) يتطلب بعض التفصيل الذي يلحظه في الصورة الاستمرارية كما أنها تتميز عن (الصورة المفردة) التي سنتحدث عنها بكون هذه الأخيرة مجرد: تركيب لظاهرة مفردة تتسم بالبساطة ولا تتطلب أدنى تفصيل. بينا نجد (الصورة المركبة) تقف وسطاً بين نمطي الصورتين (الاستمرارية والمفردة) بحيث تأخذ قسطاً من التفصيل لهلالتفصيل الكامل، كما لا تكتفي بمجرد التركيب العابر.
ولعل غالبية (الأمثال) التي نلحظها في (الحديث) أي: الصور التي تعتمد أداة الشبه (مثل)، تظل منتسبة إلى الصورة المركبة.
وإليك نماذج من (الأمثال) التي صاغها النبي (صلى الله عليه وآله) في هذا الصدد:
(مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح؛ من ركب فيها نجى، ومن تخلف عنها غرق).
(مثل القلب مثل ريشة بأرض تقلبها الرياح).
(مثل المؤمن كمثل العطار؛ إن جالسته نفعك، وإن ماشيته نفعك، وإن شاركته نفعك).
فالملاحظ في (الأمثال) صوراً استمرارية متداخلة؛ كما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله) أيضاً، إلاّّ أن ذلك نادر بالقياس إلى (المثل) الذي يتناول عادة صورة مركبة من طرفين متداخلين على النحو الذي لحظناه.
الصورة المفردة:
وهذا النمط من التركيب يشكل الصورة المعروفة التي طالما نواجهها في غالبية (الأحاديث) التي تتناول ظاهرة سريعة تتصل بسلوك مفرد أي بسمة أخلاقية أو عبادية بشكل عام، حيث لا يتطلب الموقف أكثر من (تقريب) السمة أو السلوك بصورة حية تعمق من دلالتها لدى القارئ.
وإليك بعض النماذج:
قال الإمام علي (عليه السلام): (القناعة مال لا ينفد).
وقال الإمام العسكري (عليه السلام): (الغضب مفتاح كل شر).
وقال الإمام الهادي (عليه السلام): (الدنيا سوق ربح فيها قوم وخسر آخرون).
فالملاحظ في هذه (الصور) أنها تتناول (تركيباً مفرداً) هو: المال الذي لا ينفد، والمفتاح للشر، والربح أو الخسارة في السوق... وقد ساهمت هذه الصور بتعميق الدلالة التي يستهدفها الأئمة (عليهم السلام)، فالقناعة وهي سمة نفسية يتطلب توضيحها شرحاً مفصلاً يضطلع به عالم النفس أو عالم الأخلاق ليدلل من خلال ذلك على أهمية القناعة وانعكاساتها على سلوك الشخصية من حيث تطلعاتها إلى إشباع الحاجات: بينا اكتفى الإمام علي (عليه السلام) بتركيب (صورة) هي: المال الذي لا ينفد، فترك القارئ يستخلص بنفسه أهمية القناعة بمجرد استحضاره لظاهرة المال الذي لا ينفد؛ حيث يتوفر لديه بأن المال الذي لا حدود له، يحقق أعلى مستويات الإشباع، وهذا يعني أن القناعة تحقق المستويات المذكورة من الإشباع.
وإذن: بهذا النمط من التركيب الصوري، أمكن للإمام (عليه السلام) أن يحدد مفهوم القناعة دون الركون إلى الملاحظات والتحليلات النفسية التي يتطلبها مثل هذا المفهوم.
والأمر ذاته حينما نتجه إلى الصورتين اللتين قدمهما الإمامان الهادي (عليه السلام) والعسكري (عليه السلام) في ملاحظتهما للدنيا وللغضب، فالدنيا وطريقة التعامل معها تتطلب شرحاً مفصلاً بدوره، إلاّّ أن الإمام الهادي (عليه السلام) اختزل كل ذلك من خلال صورة (السوق) التي تدر الربح أو الخسارة بقدر ما يستخدمه التاجر من ذكاء اجتماعي في تصرفاته. و(الغضب) وهو سمة نفسية ذات انعكاسات متنوعة على السلوك؛ طالما تصاحبه انفعالات جسمية، يعرض علماء النفس لآثارها تفصيلاً، كما يعرضون لانعكاساتها النفسية؛ من توتر وصراع وما إليهما، فيما اختزل الإمام العسكري (عليه السلام) كل ذلك، وأوضحه من خلال صورة (المفتاح) الذي يجعل أبواب الشر بكل مستوياتها مفتوحة حيال الغاضب، بحيث يستخلص القارئ كل الشرور الجسمية والنفسية التي يمكن أن تترتب على ظاهرة (الغضب).