محاضرات البلاغة - المحاضرة 40
بسم الله الرحمن الرحيم
لا نزال نحدثكم في محاضرتنا الحالية عن السورة القرآنية الكريمة من حيث كونها نصاً أدبياً ينتظمه بناء خاص تتآزر خلاله مجموعة من العناصر القصصية والصورية والإيقاعية...الخ، حيث قدمنا نموذجاً من ذلك متمثلاً في السورة القرآنية الكريمة (القمر) حيث قلنا أن هذه السورة بدأت بالحديث عن قيام الساعة (اقتربت الساعة) ثم عرضت لمجتمع منحرف عاصر رسالة الإسلام وأشارت إلى أن هؤلاء القوم أو المجتمع قد كذبوا واتبعوا هواهم، ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر ولكنهم لم تغن النذر عنهم ثم بعد ذلك توجهت بالخطاب إلى النبي (صلى الله عليه وآله) وقالت دعهم حيث ينتظرهم شيء نكر وهو قيام الساعة حيث تجدهم خشعاً أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر...الخ، لقد حدثناكم عن هذه السورة من حيث البداية المتحدثة عن قيام الساعة ومن حيث المجتمع المنحرف المكذب بها وبالدين بنحو عام ثم وظفت عنصراً قصصياً لهذا الجانب كما توكأت على العنصر الصوري الذي وظف بدوره لإنارة الدلالة التي يستهدفها النص القرآني الكريم وبعد ذلك واجهنا ختاماً لهذه السورة الكريمة حيث ربطت السورة بعد أن انتهت من عرض القصص عندها واجهنا في هذه السورة ختاماً لها يربط بين ذلك جميعاً وبين الساعة من جديد حيث قالت سيهزم الجمع ويولون الدبر بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر، لاحظوا جيداً أن السورة القرآنية الكريمة قد بدأت بالحديث عن قيام الساعة وبالحديث عن المجتمع المكذب لها وهو المجتمع المعاصر لرسالة النبي (صلى الله عليه وآله) ثم ربطت بين هذا المجتمع وبين الساعة التي ستواجهه وسوف يلاقي جزاءه حيث يقول الكافر عندئذ هذا يوم عسر بعد ذلك ربطت القصة بين هؤلاء المنحرفين وما يواجهونه من الجزاء وبين ما تواجهه مجتمعات بائدة من جزاء دنيوي يكون عضة لهم وهذا ما تكفلت به السورة الكريمة حينما عقبت على القصص المتقدمة قائلة أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءةٌ في الزبر أم يقولون نحن جميع منتصر سيهزم الجمع ويولون الدبر بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر بهذا يكون النص قد ربط من جانب بين الجزاء الدنيوي الذي انتهت إليه المجتمعات المنحرفة وبين المجتمع المنحرف المعاصر لرسالة الإسلام من جانب ثم ربطت بين أولئك جميعاً وبين قيام الساعة،حيث كان قيام الساعة هو العنصر الذي استهلت به السورة الكريمة وبذلك يكون بناء السورة الكريمة كما قلنا قائماً على البناء الأفقي الذي تبدأ السورة فيه من نقطة وتعود إلى النقطة ذاتها ولكن من خلال رحلة أفقية من جانب ومن خلال تقديم النتائج المترتبة على النهاية من جانب آخر وهذه النتائج المترتبة على النهاية قيام الساعة بعد أن أوضحنا الروابط الفنية بينها وبين ما تقدمها من الاستهلال والوسط بيد أن ما نعتزم الإشارة إليه الآن هو أن نتحدث في هذا المقطع الختامي عن عنصر جديد هو العنصر الإيقاعي وتوظيف هذا العنصر بدوره لإلقاء الإنارة على الدلالة التي يستهدفها النص حيث لاحظنا سابقاً كيفية استخدام كل من العنصر القصصي لتوظيف ذلك في توهيج الدلالة للسورة وكذلك في توظيف العنصر الصوري، وأما الآن فنتحدث عن توظيف العنصر الإيقاعي مع العلم أننا سبق وأن أشرنا إلى هذا الجانب ولكننا نكرر الإشارة إليه الآن لأننا قد تحدثنا الآن عن السورة جميعاً من حيث عناصرها ويتعين علينا أن نتحدث عن العنصر الإيقاعي في السورة أيضاً وان كنا قد تحدثنا عن هذا الجانب في السورة الكريمة في محاضرة سابقة، على أية حال لاحظوا بالنسبة إلى العنصر الإيقاعي كيف وظف بدوره لإلقاء الإنارة على الجانب الدلالي من السورة فقد قلنا أن السورة قد ختمت بمقطع يقول: بسم الله الرحمن الرحيم: بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر إن المجرمين في ضلال وسُعر يوم سيحيون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر...، لنلاحظ جيداً كيف أن النص القرآني الكريم في هذا المقطع الختامي الذي ربط فيه بين مقدمة السورة ووسطها وبين نهايتها المتمثلة في المقطع المشار إليه، كيف تجانست الدلالة التي تتحدث عن اليوم الآخر أو قيام الساعة وما يترتب عليها من المصائر التي تطال المنحرفين، كيف يتم التجانس بين هذه الدلالة وبين الإيقاع الذي وظف للتجانس المشار إليه، لاحظوا جيداً أن حرف السين الذي تتضمنه لفظة الساعة وهي اللفظة المعبرة عن قيام اليوم الآخر وما تكتنفه من الأهوال، إن هذا الحرف المنتزع من عبارة الساعة نجده يتجانس مع دلالة السورة بنحو عام، فالسين هو حرف استقبال والساعة هي حادث مستقبلي، فإذا أضفنا حرق الاستقبال إلى الساعة التي هي حادث في الاستقبال حينئذ إذا أضفنا أحدهما إلى الآخر ثم قلنا لقد جاء هذا الحرف ليتجانس ليس مع عبارة الساعة فحسب بل مع كونها حادثاً مستقبلياً أيضاً، ما دامت السين حرف مستقبل حينئذ نقول إذا أضفنا أن حرف السين من جهة أخرى قد تكرر في المقاطع التي تحدثت بوجه خاص عن أهوال الساعة ومنها جهنم أعاذنا الله منها، للاحظنا مدى التجانس المذهل والملفت للنظر بين أصوات الكلمة سين ودلالتها أهوال الساعة، يقول النص: إن المجرمين في ضلال وسعر يوم يسحبون في النار، ذوقوا مس سقر، لنلاحظ كيف أن النص استخدم كلمة سقر وهي أسماء أو أوصاف لجهنم حيث تتضمن نفس حرف السين التي اقترنت بكلمة الساعة التي استهلت بها السورة فجاء الحرف المذكور مع حادثة قيام اليوم الآخر وهو الساعة وجاء متجانساً مع المصير الذي ينتهي المجرمون إليه وهو سقر ثم جاءت العبارات الأخرى من جهة ثالثة متجانسة من خلال حرف السين أيضاً مثل ذوقوا مس سقر، فعبارة مس كان من الممكن أن تستبدل بغيرها ولكنها جاءت وهي تنطوي على حرف السين بل إن حرف السين نفسه قد جاء مضعفاً أي التشديد الذي يتضمن صوتاً لحرفين من مس ثم من جهة رابعة جاءت أوصاف جهنم الأخرى تتضمن حرف السين أيضاً مثل ضلال وسُعر فكلمة سُعر ذات صلة بالسعير الذي هو من أوصاف وأسماء جهنم أيضاً، إذاً لاحظتم كم تضمن هذا النص المدهش من سمات إيقاعية من حيث الإيقاع الداخلي مضافاً إلى مستويات الإيقاع الأخرى من حيث توحد القراءات أي القوافي ومن حيث تجانس الأصوات فيما بينها ثم تجانس الأصوات مع دلالتها ثم صلة أوائل السورة بأصواتها ثم صلة هذه الأصوات بمجموع السورة الكريمة فيما يوضح ذلك عن جانب من الإعجاز القرآني الكريم من حيث احتشاده بالعناصر المشار إليها ومن حيث انتظام ذلك في هيكل داخلي وخارجي بالنحو الذي حدثناكم عنه مفصلاً وما دمنا قد تحدثنا عن العنصر الإيقاعي وتوظيفه بالنسبة إلى السورة ككل، لا حرج من أن نحدثكم ولو عابراً عن الإيقاع الخارجي الذي يتجسد في السورة من حيث الجمالية التي يحققها هذا الإيقاع، ليس من خلال الفواصل التي تجسد إيقاعاً جميلاً ومتنوعاً للسورة بل من خلال الأصوات المتجانسة للسورة جميعاً وهذا يدفعنا إلى أن ننتقل بكم إلى سورة أخرى هي سورة الملك، حيث يمكننا أن نشير إلى أن في هذه السورة الكريمة تجانساً ملحوظاً بين أصوات عباراتها المتنوعة ومن ذلك مثلاً ما يطلق عليه حروف الصفير وهي حروف الصاد والسين والزاي، من حيث انتسابها إلى أصل صوتي واحد نجد أن هذه الحروف أو الأصوات تلاحق عبارات السورة حتى النهاية، بخاصة الحرف سين والحرف صاد مثل: أحسن، سبع، سماوات، البصر، السماء، بمصابيح، السعير، المصير، سمعوا، سألهم، زينا، نزل، نسمع، حاصبة، فستعملون، صافات، يمسكهم، ينصركم، يرزقكم، أمسك، رزقه، تميز، سوياً، صراط، مستقيم، السمع، الأبصار، زلفة، سِيئت، فستعلمون، أصبح...، إن هذه المفردات التي شكلت نسبة كبيرة من عدد كلمات السورة بأجمعها تمثل نموذجاً للتجانس الصوتي في العبارة القرآنية الكريمة وحتى لو فصلنا أحد حروفها وهو السين لوجدناه يمثل نسبة كبيرة أيضاً وهذا كله من حيث صلة الصوت بمجموع السورة، أما صلة ذلك فقرة أو آية أو ... إلخ فأمر من الوضوح بمكان ملحوظ فلو وقفنا عند نفس السورة لوجدنا مثلاً هذه الفقرة: ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح، تتضمن تجانسا صوتياً في حروف سين، صاد، زاي وهكذا في فقرة فسحقاً لأصحاب السعير ومثلها في فقرة البصر خاسئاً وهو حسير، ومثلها فقرة سوياً على صراط مستقيم، وأيضاً فقرة السماء، أن يرسل عليكم حاصباً فستعلمون وأيضاً فقرة يرزقكم إن أمسك رزقه، فحتى مع افتراض أن نسبة الصوت ينسحب على صور كثيرة أخرى حينئذٍ فإن تجانس حتى الفقرة الواحدة يعد إفصاحاً عن جمالية العبارة المذكورة ففي السورة ذاتها مجموعة من الفقرات المتجانسة صوتياً من حروف أخرى مثل اعتدنا لهم عذاب السعير، حيث يجيء الحرف عين هو العنصر المجانس بين الأصوات، على أية حال نترك هذا الموضوع ونكتفي بما قدمناه من حديث عن السورة القرآنية الكريمة حيث استشهدنا بالسورة القرآنية الكريمة سورة القمر وبينا كيف أن هذه السورة ذات الموضوع الواحد وهو موضوع قيام الساعة كيف تجانست أجزاء هذه السورة من حيث المقدمة والوسط والنهاية من جانب ثم من حيث توظيف العناصر القصصية والصورية والإيقاعية توظيف ذلك من أجل الدلالة التي استهدفتها السورة المباركة وهذا كله ما يتصل بالسورة التي تتناول موضوعاً واحداً والأمر نفسه من الممكن أن نلاحظه في السور ذات الموضوعات المتنوعة، وبما أن الحديث عن هذا الجانب قد سبقت الإشارة إليه في جملة نماذج منها، سورة (أرأيت) حيث قلنا أن هذه السورة تتضمن موضوعين وأن العنصر المشترك بين هذين الموضوعين هو عنصر اقتصادي، الموضوعان هما: قضية المكذب بالدين وقضية الساهي عن الصلاة إلا أن الجامع بينهما هو العمل الاقتصادي متمثلاً في أن كليهما لم يمارس إنفاقاً بالنحو المطلوب هذا نموذج بسيط جداً من السور القصار إلا أن أطول سورة قرآنية كريمة وهي سورة البقرة تضل في الواقع مثار الدهشة حينما نجد عشرات الموضوعات في هذه السورة قد انتظمت بشكل يلفت الانتباه بنحو لا يمكننا الآن أن نستشهد بنموذج في هذا الميدان بقدر ما نحيلكم إلى ما كتبناه عن هذه السورة في مجلد واحد ما يقارب الثلاثمائة صفحة أوضحنا فيها مدى الصلة بين الموضوعات التي يرتبط بعضها بالآخر ارتباطاً عضوياً بالإضافة إلى العناصر الأخرى الإيقاعية والصورية والقصصية كل ذلك أوضحناه بنحو مفصل فيما لا مجال بطبيعة الحال اللحديث عنه الآن.
إلا أنكم تستطيعون من خلال استشهادنا الذي لاحظتموه بسورة القمر أن تلاحظوا أيضاً نفس العمليات التي تنسحب على السورة الكبيرة ولكن بطبيعة الحال بنحو أشد كثافة وتعقيداً مما لا مجال كما قلنا للحديث عنه، على أية حال نكتفي بالحديث عن السورة القرآنية الكريمة بما قدمناه من نماذج متنوعة تتصل بالهيكل الداخلي والخارجي للسورة القرآنية الكريمة وندع تفصيلات ذلك إليكم وهذا ما ننصحكم به من خلال رجوعكم إلى الكتب التي تتحدث عن هذا الجانب متجسدة في الكتاب الذي يقع في خمسة أجزاء بعنوان (التفسير البنائي للقرآن الكريم) وكتاب (تاريخ الأدب العربي في ضوء المنهج الإسلامي) وكتاب (دراسات فنية في قصص القرآن) وكتاب (الإسلام والفن) وكتاب (الإسلام والأدب)، وكتاب (القواعد البلاغية في ضوء المنهج الإسلامي).
هنا ونحن نختم حديثنا عن السورة القرآنية الكريمة بصفتها أحد أشكال الأدب التشريعي نتجه بعد ذلك إلى الأشكال التشريعية الأخرى التي توفر عليها الأربعة عشر معصوماً (عليهم السلام) حيث أن كل واحد من المعصومين (عليهم السلام) قد توفر على صياغة كثيرة من النصوص الأدبية المتنوعة مع التفاوت الملحوظ بين معصوم وآخر من حيث الفرص التي أتيحت لهذا المعصوم أو ذاك وارتباط ذلك بالحياة الاجتماعية والسياسية التي واجهها المعصومين (عليهم السلام) وقبل أن نحدثكم عن أدب المعصومين (عليهم السلام) بصفتهم قدموا لنا مستويات متنوعة من النصوص الأدبية حينئذٍ فإنه المطلوب هو أن نحدثكم عن الأشكال الأدبية الشرعية في هذا الميدان وفي هذا السياق يتعين علينا أن نمهد أولاً بجملة من الملاحظات المرتبطة بالأشكال الأدبية التي توفر المعصومين عليها قبل أن نتحدث عنها تفصيلاً، إن ما ينبغي أن نلفت الانتباه إليه هو أن المعصومين (عليهم السلام) قدموا لنا أشكالاً أدبية مثل الخطبة، الكتاب، الرسالة، الوصية، المقال، الخاطرة، الدعاء، الزيارة، الحديث الفني ومما لا شك فيه أن بعض هذه الأشكال يضل من مختصات الأدب الشرعي بحيث لا يجوز للكتاب أن يمارسوا من خلالها صياغات شكلية كالدعاء على سبيل المثال أو الزيارة على سبيل المثال أيضاً صحيح أن كل واحد منا بمقدوره أن يصوغ دعاء يدعو به أو يصوغ زيارة يزور بها هذا المعصوم أو ذاك إلا أن هذه الصياغة لا قيمة لها ما دامت تتحدث عن طبيعة التعامل مع الله سبحانه وتعالى ومع المعصومين (عليهم السلام) من خلال نمطي الدعاء والزيارة حيث انهما يتمثلان في نصوص لا يستطيع أحد أن يلم بمضوناتها المطلوبة إلا المشرع الإسلامي كما هو واضح ولكن إذا تركنا هذين الشكلين بالإضافة إلى الشكل السابق وهو النص القرآني الكريم حينئذٍ فإن الأشكال الباقية من الأشكال التي توفر المعصومين عليها تجسد دون أدنى شك أشكالاً أدبية يشترك فيها المعصوم مع الشخص العادي ولكن ينبغي أن نلاحظ هنا أن المعصوم (عليه السلام) عندما يصوغ شكلاً أدبياً ما فإن صياغته تتسم بالكمال من جانب أي لا مجال لأن ينطوي الشكل الأدبي لدى المعصوم على أي خطأ فني ولكن من الجانب الآخر ينبغي لفت الانتباه إلى موضوع مهم له خطورته ألا وهو توصيل الأغراض التي يستهدفها إلى الآخرين، ولذلك نجد أن النصوص الشرعية تتأرجح بين ثلاثة أنماط من التعبير منها التعبير الفني الصرف ومنها التعبير العلمي الصرف ومنها التعبير الذي يجمع بين الجمال وبين العلم وهذا يعني أن المعصوم لا يعنى بالوسيلة إلا بمقدار ما تؤديه هذه الوسيلة من وظيفة توصيلية لذلك لا يحق لنا على سبيل المثال عندما نحلل نصاً شرعياً لا يحق لنا أن ننقد هذا النص من زاوية المبادئ الجمالية التي تتوفر أو تصاغ أو تقرر كقواعد عند الأرضيين البتة، وهذا للسبب الذي ذكرناه فإن المعصوم (عليه السلام) يتعمد فينثر لنا حديثاً يخيل إلينا وكأنه عادي ولكنه في الواقع يضل مثل هذا الحديث مشحوناً بكمال أدبي من الممكن أن لا ندركه بطبيعة الحال، ولكننا نجد حتى في حالات أخرى أن المعصوم (عليه السلام) بخاصة إذا كان يتحدث في مجالات لا مجال فيها لإحجام العنصر الجمالي كما لو كان يتحدث عن قضية فقهية مثلاً، ومهما يكن من أمر فإن ما نستهدف الإشارة إليه أن الأشكال الأدبية التي توفر المعصومون عليها تضل متسمة بالكمال وتضل من جانب تجسد واحداً من الأشكال الأدبية الثلاثة هي التعبير العلمي، التعبير المتأرجح بين العلمي والأدبي، التعبير الأدبي وبطبيعة الحال فإن ما نحاول أن نتناوله في هذه المحاضرات هو التعبير الأدبي أو التعبير الذي ينتظم المبادئ البلاغية، وفي هذا السياق نكرر الإشارة أيضاً إلى أن المعصومين (عليهم السلام) مروا بظروف متنوعة سمحت لأحدهم مثلاً أن يتوفر على نصوص غزيرة ومكثفة من حيث العدد وسمح لآخر أن يكون عدد النصوص الفنية التي توفر عليها محدوداً ويضل البعض الثالث متوسط الحجم والعدد من حيث الأشكال الأدبية التي يتوفر عليها ومما لا شك فيه أن النبي (صلى الله عليه وآله) وهو أفصح العرب كما وردت النصوص المؤكدة ذلك مما لا شك فيه أن فصاحته وبلاغته تسمح له بأن يقدم لنا نصوصاً متنوعة كما سنلاحظ ذلك في حينه.
إلا أن النبي (صلى الله عليه وآله) نفسه قد أوكل إلى الإمام علي (عليه السلام) أن يضطلع بالتوفر على أشكال أدبية متنوعة وهذا ما يمكن أن نستخلصه من المقولة المعروفة القائلة: أن النبي (صلى الله عليه وآله) هو مدينة العلم وأن الإمام علي (عليه السلام) هو باب المدينة المذكورة ومما لاشك فيه أن العلم الذي تشير إليه الرواية المذكورة لا يتمحض في واقعه في التعبير العرفي الصرف بقدر ما يتناول كل الأبعاد الثقافية ومن جملتها البعد الأدبي وحينئذ تجد أن الإمام علي (عليه السلام) بالنسبة إلى الأربعة عشر معصوماً قد تفرد في تقديم المادة الأدبية التي تتسم بالبلاغة التي تتسم بدورها بالكمال، نجد أن الإمام علي (عليه السلام) ليس من خلال ما قدمه من كتاب نهج البلاغة الذي جمع فيه الشريف الرضي بعضاً من النماذج التي أنتجها الإمام علي (عليه السلام)، كما ستلاحظون ذلك في إشارات لاحقة أن الأجيال المتنوعة التي مرت بعد حياة الإمام علي (عليه السلام) كيف ترك الإمام علي (عليه السلام) أثره الأدبي والبلاغي على تلكم الأجيال بحيث نجد شخصيات لها خطورتها في ميدان العمل الأدبي تتوكأ في ثقافتها الأدبية على نصوص الإمام علي (عليه السلام) بل لنجد أن المؤرخين لأسباب مذهبية ينسبون خطباً بلاغية ذات أهمية كبيرة من حيث المضمون والصياغة ينسبونها إلى أشخاص معروفين بالانحراف حتى يكسبوهم السمعة الإيجابية، على أية حال إن هذا يكشف عن أن الإمام علي (عليه السلام) يتسم بسمة مدهشة في ميدان التعبير البلاغي عن الحقائق التي يتناولها المهم أن سائر المعصومين (عليهم السلام) وفي مقدمتهم الإمام زين العابدين (عليه السلام) أيضاً يقدم لنا نصوصاً أدبية بخاصة في ميدان الدعاء حيث ينفرد بها بدوره وهكذا نجد أن كل إمام يقدم لنا مجموعة من النصوص الأدبية ومن الأشكال الأدبية التي توفروا عليها، فما دمنا نتحدث عن الأشكال الأدبية حينئذ فإن الحديث سوف ينصب على هذا الشكل الأدبي أو ذاك أما خصوصية المعصوم الذي يصوغ هذه النصوص فهذا ما نحيلكم إليه في كتابنا الموسوم (تاريخ الأدب العربي) حيث خصصنا منه صفحات كثيرة تتناول أدب الأربعة عشر معصوماً (عليهم السلام) حيث جعلنا له عنواناً مستقلاً بعنوان أدب الشريعة الإسلامية وتناولنا فيه النصوص المأثورة لكل معصوم (عليه السلام) وهذا بطبيعة الحال يختلف كما قلنا عما نعتزمه الآن من الحديث عن الأدب التشريعي حيث نصنف ذلك إلى الأشكال الأدبية ما دام الحديث منصباً الآن على العنصر الثامن من عناصر البلاغة أي العنصر الشكلي، حيث قلنا أن هذا العنصر الشكلي تنتظمه هياكل خارجية تنتظم داخلها تلكم العناصر البلاغية التي حدثناكم عنها، المهم أننا سنتحدث في محاضرات لاحقة إنشاء الله عن هذا الجانب على أن نتبعها بعد ذلك بالحديث عن الأشكال الأدبية التي أطلقنا عليها مصطلح الأشكال الأدبية العرفية مقابل الأشكال الأدبية الشرعية وكما قلنا أن ثمة أشكالاً من الأدب الشرعي يختص بها هذا الأدب كالدعاء أو الزيارة ومنها ما هو مشترك كالخطبة وما إلى ذلك وأما ما يتبع ذلك من الحديث عن الأشكال العرفية أي ما نطلق عليه مصطلح الأجناس أو الأنواع أو الفنون الأدبية حينما نتحدث عن ذلك فإن ما نستهدفه هو في الحقيقة أنكم بصفتكم من الممكن أن يضطلع كل واحد بممارسة عمله الثقافي ومنه العمل الأدبي حينئذ فإن الوقوف على الأشكال الأدبية المتنوعة وما تنتظمها من مبادئ بلاغية يفرض علينا أن نعرف هذه الأشكال والأهم من ذلك فإن هذه الأشكال منتشرة ومعروفة في الكتب الخاصة ولكن ما يعنينا بالضبط هو أنه ينبغي لنا أن نتعامل مع هذه الأشكال الأدبية ليس وفق المبادئ التي رسمها الأرضيون بل وفق المبادئ التي تتوافق مع التصور الإسلامي للظواهر وفي مقدمة ذلك الشكل الأدبي ولسوف تجدون على سبيل المثال أننا سوف نعرض إلى الحديث عن الأشكال الأدبية المتمثلة في القصة بأشكالها من حكاية وأقصوصة وقصة قصيرة إلى الرواية إلى المسرحية إلى المقالة الحديثة إلى الخاطرة...الخ.
كل هذه الأنماط من الأشكال الأدبية التي تتكفل عشرات أو لنقل مئات الكتب المؤلفة للتعريف بها سوف نتحدث عنها بشكل ينبغي أن نلفت نظركم إليه ألا وهو عدم تقيدنا بالمبادئ التي يرسمها المعنيون بشؤون البلاغة بقدر ما ينبغي أن نطرحها وفق تصورنا الإسلامي كما قلنا وكما كررنا ذلك ونكرره أبداً ودائماً ما دمنا نتحدث عن التصور الإسلامي للبلاغة وما دامت البلاغة ذاتها هي أحد أشكال الممارسة العبادية التي أوكلت إلينا، على أية حال سوف نبدأ في محاضراتنا اللاحقة بالحديث عن هذه الأشكال الأدبية ولكن بعد أن ننتهي من الحديث عن الأشكال الشرعية متمثلة في الخطبة أولاً وهو ما سنحدثكم عنها إنشاء الله في محاضرات لاحقة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.