محاضرات البلاغة - المحاضرة 38
بسم الله الرحمن الرحيم
في لقاءات متقدمة حدثناكم عن العنصر القصصي في سياق السورة القرآنية الكريمة، أما الآن فندع هذا العنصر حيث لاحظنا كيفية توظيف النص القرآني لهذا العنصر لخدمة الأهداف التي يستهدفها النص القرآني الكريم على شتى المستويات حيث نكتفي بهذا القدر من الحديث عن العنصر القصصي مع أنه يتطلب تفصيلات كثيرة ولكننا نحيلكم إلى كتابنا الموسوم (دراسات فنية في قصص القرآن) حيث تناولنا في هذا الكتاب المستويات المتنوعة للقصة القرآنية الكريمة وهذا ما يدعونا إلى أن نحيلكم إلى هذا الكتاب للتعرف على مزيد من التفصيلات ومن ثم لمعرفة المزيد من الإعجاز القرآني الكريم على أية حال ندع العنصر القصصي وتوظيفه في السورة القرآنية الكريمة لنحدثكم عن العنصر الصوري وتوظيفه في السورة القرآنية الكريمة فنقول: سبقت الإشارة إلى أن الصورة تعد أبرز العناصر التي تنتظم مفهوم الفن وتفصله عن لغة العلم وما ينبغي تأكيده هنا أن الصورة يتضمن نجاحها بالنسبة إلى التجربة الأرضية أو يتوقف نجاحها على توفر عنصرين هما: الألفة والطرافة والقصد بالألفة أن تكون الصورة في أطرافها أو أحدها من الظواهر التي نجدها في الحياة اليومية وهذا على سبيل المثل كصورة الجراد المنتشر التي وردت في سورة القمر وهي تتحدث عن انبعاث البشر في اليوم الآخر عبر قوله تعالى: (يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر) فانتشار الجراد من الظواهر التي نجدها حسياً ولا نحتاج إلى إعمال الفكر في تشخيصها وهذا ما نقصده من الألفة.
وأما ما نقصده من الطرافة فنعني بذلك أن تجيء الصورة في تركيبتها العامة ذات نكهة جديدة لا أن تكون مبتذلة في الاستخدام، فالجراد المنتشر في النموذج الذي حدثناكم عنه مع أنه مألوف في خبراتنا اليومية وهو أحد طرفي الصورة إلا أن المركب النهائي لهذا الطرف وهو انتشار الجراد وللطرف الآخر من الصورة وهو انبعاث الأجساد من القبور يتميز بكونه طريقاً لا ابتذال فيه من حيث الاستخدام الفني له والأمر نفسه في صور من نحو: كأنهم أعجاز نخل منقعر أو إنهم كالأنعام أو كأنهم خشب مسندة أو كأمثال اللؤلؤ المكنون أو صورة أيحب أحدكم أن يأكل يحم أخيه ميتاً أو على قلوبٍ أقفالها... فالنخل والخشب واللؤلؤ واللحم والأقفال والأنعام تظل من الظواهر التي نألفها جميعها كما تكتسب في الآية ذاته طابع الطرافة في المركب النهائي لها، المهم أن النص القرآني الكريم يتميز بهاتين السمتين في تركيب الصورة بالنحو الذي أشرنا إليه والآن إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الصورة الفنية تقوم على عنصرين أو طرفين ينتج من تفاعلهما المركب الجديد وكون ذلك يحكمه طابعا الألفة والطرافة حينئذ تثار أمامنا الأداة التي تقوم بعملية الربط بين طرف الصورة حيث سبق أن حدثناكم عنها في حديثنا عن العنصر الصوري متمثلاً في الشكل التشبيهي وفي حينه أشرنا أن الأداة المذكورة تحذف في صور بلاغية كالاستعارة والرمز ونحو ذلك بيد أن المهم هو أن نسطر الصورة إلى نمطين في الاستخدام القرآني لها، أحد هذين النمطين ما يعتمد أداة المقارنة أو التفاعل بين طرفي الصورة والآخر لا يعتمدها والمهم أن نقرر بأن السياق أو الموقف هو الذي يحدد مشروعية أحد نمطي الاستخدام، أو في تصورنا أن التعبير عن العمليات النفسية يتطلب حذف الأداة في حين يتطلب التعبير عما هو حسي أو حركي وجود الأداة ومع ذلك يضل السياق العام هو المتحكم بالموضوع قبل أن نواصل حديثنا عن هذا الجانب ينبغي أن نلفت نظركم إلى ما سبق أن حدثناكم عنه بالنسبة إلى العنصر القصصي وتوظيفه لأهداف السورة أو أن القصة ذاتها تستثمر فتقدم دلالة لتصبح السورة هي الموظفة للتعبير أو للتوضيح عن الدلالة المذكورة بالنحو الذي استشهدنا به في سورة البقرة بقصة البقرة التي جاءت في سياق الحديث عن سلوك الإسرائيليين المتمرد وأن القصة جاءت لتوظف في التعبير عن السلوك المذكور ولكن في الآن ذاته إن القصة التي وظفت للكشف عن السلوك االإسرائيليين قد استخدمت لتكون هي الموظفة للدلالة القرآنية حيث أن التعقيب الذي عقبه النص القرآني الكريم على هذه القصة كان يتمثل في قدرته سبحانه وتعالى على إحياء الموتى حيث أحيا القتيل في القصة المذكورة وأخبر عن القاتل وظاهرة إحياء الميت قد استثمرها القرآن الكريم ووظفها لكي يحدثنا في قصص متنوعة قضية الإحياء والإماتة كالقصص التي أشرنا إليها في حينه كقصة الطيور الأربعة التي قطعت وأحييت وقصة المار على القرية الذي مات وأحيي بعد مائة سنة وسائر القصص التي استشهدنا بها في حينه، هنا ونحن نتحدث عن الصورة ينبغي أن نشير أيضاً إلى أن استخدام الصورة في النص القرآني الكريم يوظف للسبب ذاته، على سبيل المثال لو عدنا إلى سورة البقرة وكررنا الإشارة إلى أن هذه السورة الكريمة يظل ثلث منها متحدثاً عن سلوك الإسرائيليين في شتى المجالات مع أن هذه السورة الكريمة هي أطول السور القرآنية حيث تكاد تقترب من الثلاثمائة آية، نقول: إن هذا الحجم الذي تحتله مساحة السورة بالنسبة إلى الإسرائيليين يتطلب في الواقع تكثيفاً لجميع العناصر الفنية التي توظف لإنارة الموقف المذكور فكما أن القصص التي وظفت للإنارة أي إنارة هذا الجانب ومنها على سبيل المثال قصة طالوت حيث نجد أن هذه القصة موظفة أساساً لكي تكشف لنا عن سلوك الإسرائيليين في تردده وجبنه وتمرده، فبالرغم من أن الإسرائيليين طلبوا إلى نبي منهم أن يسأل الله تعالى أن يبعث لهم ملكاً أو قائداً عسكرياً يقاتلوا تحت لواءه لأنهم استذلوا من قبل الأعداء مع أنهم هم الذين طلبوا هذا القائد واستجيب لطلبهم حيث بعث طالوت لهم إلا أنهم اعترضوا على ذلك بأن هذه الشخصية لم تكن ذات مال ولم تنتسب إلى أسرهم، ثم بعد أن تم إقناعهم من خلال آية التابوت التي اقتنعوا بها لأنها ذات صلة بتجاربهم التاريخية، إلا أنهم ما إن واجهوا المعركة حتى جبنوا عن الدخول فيها وقبل ذلك تعرضوا بتجربة الشرب من الماء حيث أجري لهم امتحان بالشرب وعدمه إلا أنهم تمردوا على هذا الجانب كما أنهم تمردوا على طالوت وجبنوا وقالوا: (لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده...) فهذه القصة إنما صيغت كما نعرف ذلك بوضوح إنما صيغت لتعبر أو لتوظف في التعبير عن سلوك الإسرائيليين الذي يتميز بكل من الجبن والتردد والتمرد فقد جبنوا عن الدخول في المعركة وترددوا في الانصياع لأوامر نبيهم أو لأوامر طالوت ذاته ثم ترددوا أيضاً في تجربة الشرب من النهر وهكذا...
نقول: كما أن النص القرآني الكريم وظف القصة للتعبير عن سلوك الإسرائيليين الملتوي طوال التاريخ كذلك نجد أن نفس هذا المستوى من التوظيف قديم في نطاق العنصر الصوري أيضاً فعلى سبيل المثال نواجه واحداً من التشبيهات المذهلة والمدهشة في النص القرآني الكريم ألا وهو التشبيه الذاهب إلى أن اليهود يحملون قلوباً كالحجارة أو أشد قسوة، لنستمع إلى الآية القرآنية التي تنتظم هذه الصورة وبعد ذلك سوف نحللها ونبين لكم كيف تم توظيف هذه الصورة فنياً لإنارة الدلالة التي يستهدفها النص القرآني الكريم.
بسم الله الرحمن الرحيم يقول النص بعد أن يعقب على قصة البقرة التي حدثناكم عنها أي بعد ينتهي من هذه الآية الكريمة: (فقل فاضربوه ببضعها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون) بعد ذلك يقول وهو يواجهنا بهذه الصورة: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو اشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون)، إن هذه الصورة قد تمر على القارئ دون أن يمعن النظر في مادتها وفي تركيبتها أيضاً ولكنه لو دقق بنظره فيها لوجد كيف أن هذه الصورة قد وظفت لإنارة الدلالة التي يستهدفها النص القرآني الكريم إن ثلث سورة البقرة حينما تتحدث عن الإسرائيليين فهذا يعني أن السلوك الاسرائيلي يضل من الالتواء والانحراف إلى درجة يصعب تحديدها، من هنا يتعين أن نجد أن أي عنصر موظف للتعبير وللإفصاح عن مدى السلوك المتقدم حينئذٍ سوف يفرض ضرورته فهنا في هذا التشبيه نجد أولاً أن النص يقول أن قلوب هؤلاء قاسية كالحجارة نود قبل أن نواصل تعقيبنا على هذه الصورة نقول: إن ما يميز النص القرآني الكريم عن النص البشري هو أن النص القرآني الكريم يتعامل مع الواقع ولا يتعامل مع الأوهام كالنصوص البشرية التي تصوغ الصور بالنحو الذي حدثناكم عنه في لقاءات سابقة فيما استشهدنا بنماذج تفصح عن كيفية الركون إلى التخيل الذي لا يستند إلى واقع حسي أو نفسي أو غيبي وذلك بعكس النص القرآني الكريم الذي يعتمد الواقع في كل صورة وفي كل صياغاته التعبيرية، فعندما شبه النص القرآني الكريم قلوب اليهود كالحجارة حينئذٍ فلا مبالغة في الأمر ولا ثمة وهم في الأمر بل هو الحقيقة بذاتها، ليس هذا فحسب يقول النص: عن قلوب اليهود هي أشد قسوة من الحجارة وهذا ما يدعنا نتساءل بشكل مندهش فنقول إذا كان التشبيه لقلوب اليهود بالحجارة من الممكن أن ينطوي على شيء من المبالغة فإن الذهاب إلى أنه أشد قسوة من الحجارة يضل أمراً قد لا نتوقع أن القارئ العادي يستطيع أن يقتنع به ولكن لنتأمل قليلاً لنجد كيف أن النص القرآني الكريم قد أصاب الحقيقة في أدق مظاهرها حينما قدم لنا هذه الصورة المذهلة والجميلة في الآن ذاته، لاحظوا بعد أن قدم النص هذه الصورة قدم لنا أسلوباً فنياً استدلالياً ليوضح لنا كيف أن هذه القلوب هي كالحجارة وكيف أنها هي أشد قسوة من ذلك، يقول النص: إن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار ويقول أيضاً وأن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وهذا أمر ثاني وإن منها لما يهبط من خشية الله إذا كان قسم من الحجارة تنفجر منه الأنهار وإذا كان قسم منها يشقق فيخرج منه الماء وإذا كان قسم منها يهبط من خشية الله حينئذٍ ألا نقتنع تماماً بأن قلب اليهودي الذي لا يخاف الله والذي قدمت لنا سورة البقرة نماذج متنوعة من سلوكهم بدءاً من قتلهم الأنبياء وانتهاءً إلى تمردهم على كل مبادئ السماء حينئذٍ ألا يكون التشبيه القائل بأن قلوبهم هي كالحجارة أو أن قلوبهم هي أشد قسوة من الحجارة ألم يكن مثل هذا التشبيه يعد في صميم الواقع ما دامت الحجارة يمكن أن تنفجر منها الأنهار وما دامت الحجارة تهبط من خشية الله سبحانه وتعالى، إذاً لاحظنا كيف أن هذه الصورة التشبيهية قد وظفها النص القرآني الكريم لإنارة دلالة قد انتظمت سورة البقرة في ثلث مساحتها وحينئذ يكون هذا التوظيف متجانساً تماماً مع الدلالة التي قد استخدمتها السورة الكريمة بالنحو الذي أوضحناه والآن بعد أن حدثناكم عن الصورة من حيث توظيفها في السورة القرآنية الكريمة، نعود فنحدث عن هذه الصورة من زاوية أخرى ألا وهي من زاوية تركيبها ومستويات ذلك التركيب، ومع أننا قد حدثناكم عن العنصر الصوري في محاضرات سابقة وقسمناه إلى تقسيمات متنوعة ولكننا هنا نود أن نركز النظر أو نشدد النظر في قسم من هذه الأقسام أو في ظاهرة منها ونحيلكم إلى الباقي من الحديث عن الصورة إلى نفس المحاضرة وإلى مصادر أخرى في مقدمتها كتاب (الإسلام والفن) وكتاب (تاريخ الأدب العربي في ضوء المنهج الإسلامي) وكتاب (القواعد البلاغية)، على أية حال نعود الآن فنتحدث عن الصورة من حيث مستويات تركيبها فنقول: إن تركيب الصورة ينشطر أساساً إلى نمطين رئيسين هما: الصورة المفردة والصورة المكثفة أو الاستمرارية، أما الصورة المفردة فنعني بها أن تكون مستقلة بذاتها على نحو منفرد كالصورة التشبيهية القائلة عن الكفار بأنهم يأكلون كما تأكل الأنعام أو كالصورة القائلة فشاربون شرب الهيم أو كالصورة القائلة أم على قلوب أقفالها... حيث تصاغ بنحو إفرادي دون أن تنظم إليها صورة أخرى، وهو ما يطبع الصورة المكثفة، إننا نتحدث عن الصورة المكثفة هنا لأننا لم نحدثكم عنها إلا عابراً في المحاضرات السابقة ولذلك نأمل منكم أن تدققوا النظر في هذا الجانب ونكرر الإشارة إلى ضرورة أن تجمعوا بين ما قلناه الآن ونركز عليه ونشدد فيه وبين ما قلناه في محاضراتنا السابقة، المهم أن نقول أن الصورة المكثفة هي ما تتألف من صور متعددة تشكل بمجموعها صورة كلية كالصورة القائلة كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب دري، فهنا نواجه مجموعة من الصور المفردة ولكنها تتساند فيما بينها لتؤلف صورة موحدة كبيرة تنتظمها جميعاً، المهم أيضاً أن الاستخدام القرآني لهذين النمطين يفرضهما السياق الفني في الصورة فالنص القرآني حينما يستهدف لفت النظر إلى ظاهرةسريعة في سياق ظواهر أخرى يقتضي حينئذ صورة مفردة مثل قوله تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) إن صورة الأقفال وهي مفردة فرضها سياق سريع هو تدبر القرآن ولكن النص القرآني حينما يعتزم لفت النظر إلى الظاهرة الكونية بعامة مثلاً وما ينبغي أن يواكبها من إمعان الفكر وما يترتب على ذلك من الإيمان مثلاً عندئذٍ فإن عتم التدبر للظاهرة الكونية في مستوياتها المشار إليها تتطلب صياغة صورة متعددة تتناسب مع تعدد المستويات المذكورة، لذلك نجد على سبيل المثال أن النص القرآني يتقدم بحشد من الصور المتتابعة ذات الطابع المركب في حديثه عن سلوك الكافرين وهذا كالصورة القائلة: ظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يرها...الخ فالصور هنا تتتابع لتؤلف صورة موحدة ذات طابع كلي يتناسب مع سلوك الكافر وهو يحيا التيه والخبط والإنغلاق الفكري حيث عقب النص على السلوك المشار إليه بقوله تعالى: (ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور)، طبيعياً إن سحب النور عن الشخص لا بد وأن يقتاده إلى أن يحيا الظلام بكل مستوياته بحيث لا يصدر عن عمل إلا ويكتنفه الضلال والخبط وهو أمر يتطلب صياغة صورة شاملة تضم تحت أجنحتها صوراً جزئية متنوعة تتناسب مع تنوع الظلمات التي يحياها الكافر، وأياً كان الأمر فإن النمط الأخير الذي لاحظتموه من الصورة أي الصورة المركبة يأخذ في الواقع أشكالاً متنوعة من التركيب تتحدد وفق السياق الذي يتطلب ذلك، ولنقف الآن عند كل نمط منها: أولاً: الصورة المفردة المفصلة: وهي صياغة صورة مفردة ولكنها تتضمن سمتين فصاعداً وهذا مثل قوله تعالى: (يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر...) لاحظوا أن هذه الصورة المفردة تضمنت سمتين هنا: الجراد أولاً وكون ذلك منتشراً ثانياً وأهمية هذا النمط كما تلاحظون هو أنه يتمثل في رصد أكبر عدد من عناصر الاشتراك بين طرف الصورة أي الطرف القائل بالخروج من الأجداث والطرف القائل بانتشار الجراد فهذه الصورة تتضمن جملة من العناصر المشتركة بين الانبعاث والجراد، لاحظوا جيداً هناك أولاً: عنصر الانبعاث حيث يخرج كل طرف منهما من موقع أي الخارج من القبور والجراد، وهناك ثانياً: عنصر الانتشار حيث يخرج كل طرف بالتحرك من الموقع المذكور، يتحرك الميت من موقعه القبر ويتحرك الجراد من مكانه وهناك ثالثاً: عنصر العشوائية حيث تطبع حركتهما مرحلة غير محدودة الاتجاه فالجراد كما تلاحظون في تجاربكم أنه يتجه إلى مكان غير محدد وكذلك بالنسبة إلى حركة الموتى وهناك رابعاً: عنصر التراكم حيث أن سقوط الجراد لا يأخذ موقعه المنتظم في الحركة والأمر نفسه بالنسبة إلى حركة الموتى وهم ينبعثون كالجراد من قبورهم وهناك خامساً: عنصر الفزع الذي يواكب العملية وهناك سادساً: مجهولية المصير الذي ينتظر المرحلة...الخ لاحظوا هنا كيف أن ثمة عناصر من الاشتراك بين طرفي الصورة يفسر لنا ضرورة تعدد سماتها ضمن صورة مفردة لأن عملية الخروج من الأجداث تتم بنحو فجائي وسريع لا يتطلب إلا صياغة صورة مفردة ولكن بما أن الانبعاث السريع يقترن بجملة من المظاهر حينئذ فإن تعدد السمات تبعاً لتعدد المظاهر يفسر لنا كون هذه الصورة المفردة تقترن بأكثر من سمة، وهذا كله فيما يتصل بالصورة المفردة وأما ما يتصل بالصورة المكثفة فيمكننا أن نقول أن الصورة المكثفة هي الصورة المركبة من صور جزئية تتكثف في عرض واحد من الرصد للظاهرة مثل الصورة القائلة بالنسبة للمنافقين: أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم...الخ، فالصيب والظلمات والرعد والبرق، صور جزئية تتلاقى في نطاق واحد ولكنها تشكل صورة شاملة للتيه الذي يحياه المنحرفون المنافقون حيث جاءت الصورة في سياق الحديث عنهم وكونهم صما بكما عمياً، وهي سمات تتلاق فيما بينها لدى سلوك المنحرفون فيما تفسر لنا سر التكثيف الذي يطبع هذا النمط من التركيب الصوري، إلى هنا نكون قد حدثناكم عن بعض الصور المفردة والمكثفة والسياق الواردة فيها هاتان الصورتان أو النمطان من الصورة وهناك صور أخرى لا مانع من الإشارة إليها ومنها ما يطلق عليه مصطلح الصورة البيانية ويتميز هذا النمط من التركيب الصوري بكشف الدلالات التي صيغت الصورة من أجلها بحيث تتكفل الصورة بتوضيح منحنيات الظاهرة المشار إليها من خلال قيام الصور الجزئية بعملية الكشف كالصورة التي لاحظناها في بداية محاضرتنا أي نعني بها الصورة التي تزاوج بين قساوة اليهود وبين قساوة الحجارة حيث أن الصور الجزئية من تفجير الأنهار وتشقق الماء والخوف من الله سبحانه وتعالى تقوم بمهمة فنية هي تبيين وتوضيح حجم القساوة التي تفوق حتى الحجر طالما نجد أن الحجر ما يتفجر منه النهر وما يشقق منه الماء وما يخاف من الله سبحانه وتعالى، وأما المسوغ الفني لمثل هذا النمط من التركيب فبالإضافة إلى ما حدثناكم عنه من أن سياق الحديث عن سلوك اليهود يسوغ مثل هذا النمط من التركيب، نشير إلى أن هذا النمط من التركيب يتمثل في كون الظاهرة نفسها ذات بعد نفسي من المتعذر على القارئ أن يتمثل ويعيا ويخبر مستوياتها إلا من خلال الصور التوضيحية أو البيانية فالقساوة قد تكون ذات حجم عادي وقد تكون ذات حجم كبير إلا أن الشخصية اليهودية ما دامت متميزة طوال التاريخ بسمة عدوانية لا تضارعها عدوانية الأفراد أو المجتمعات الأخرى، حينئذ فإن مثل هذا السلوك المتسم بحجم ضخم يناسبه أن تكون الصورة بدورها متجانسة مع الضخامة المشار إليها ومن الصور التي نود أن نعرفكم عنها ما أسميناه بالصورة التفريعية وهي الصورة التي تتميز بنمط من التركيب الصوري بحيث تكون الصور الجزئية منتسبة إلى صورة رئيسية تتفرع عنها صورة جزئية تأخذ بدورها طابع التفريع أي كل صورة تتفرع عن سابقتها وهذا من نحو قوله تعالى: كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه ونحو كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ونحو كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري فالصورة الأولى تتضمن صوراً جزئية رئيسة هي الزرع ثم تتفرع عنها صوراً جزئية هي الشطأ ثم شده ثم تقويته ثم استوائه كما أن الصورة الثانية تتضمن صوراً جزئية رئيسة هي الحبة ثم تتفرع عنها صورة السنابل بل السبع ثم تتفرع عنها صورة مائة حبة في كل سنبلة...
والأمرنفسه بالنسبة إلى الصورة الثالثة أي تتضمن صورة رئيسة هي المشكاة وتتفرع عنها صورة المصباح في داخلها ثم تتفرع عن المصباح صورة الزجاجة التي تكتنفها، طبيعياً ثمة أيضاً مسوغ فني لهذه الصور التفريعية، هذا المسوغ يتمثل في طبيعة الظاهرة المبحوث عنها حيث تتميز الظاهرة وهي الإنفاق مثلاً تتميز بكونها تقوم أساساً على النماء الذي يترتب على الإنفاق فالمنفق أمواله تتنامى أمواله على نحو تنامي الزرع، وحينئذ فإن عملية تفريع الصور بعضها عن الآخر تتجانس مع تفريع الزرع كما هو واضح، والأمر نفسه بالنسبة إلى المؤمنين أو أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) حيث كانوا في بداية أمرهم ضعفاء قليلين ثم من خلال تضامنهم وتشددهم على الكفار أصبحوا أقوياء، محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم، تماماً كما هو طابع الزرع الذي يبدأ ضعيفاً ثم يأخذ في النحو والاستواء والقوة في نهاية المطاف وأما صورة المشكاة فتكتسب نفس الطابع التفريعي ولكن من خلال تصور آخر هو أن الصورة تتحدث عن النور، الله نور السماوات والأرض...الخ، حيث يترتب على التعامل مع النور معطيات مختلفة يتفرع أحدها عن الآخر فالإيمان يقود إلى الطاعة والطاعة تقود إلى المعطيات دنيوياً وهذه تقود إلى المعطيات أخروياً، إن المشكاة والمصباح والزجاجة وسائل لتحرير النور وإشاعته حيث يتدفق النور من المصباح ثم ينفذ من الزجاجة ثم ينتشر من خلال المشكاة إلى الخارج، فإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن النور هو مطلق الخير ومنها معطيات الله تعالى حينئذ فإن كل معطىً يقود إلى معطى آخر أو ينفذ إلى معطى آخر وهكذا، إذاً الصورة التفريعية تأخذ مسوغاتها فنياً وفق الطبيعة التي تنطوي الظاهرة المبحوث عنها بالنحو الذي لاحظناه، نكتفي بهذا النظم من الحديث عن الصورة الفنية في السورة القرآنية الكريمة على أن نواصل الحديث عن ذلك في محاضرة لاحقة بإذن الله تعالى والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.