محاضرات البلاغة - المحاضرة 24 - الفرضية
8- الفرضية:
الفرضية: وهي إحداث علاقة بين طرفين، من خلال جعل أحدهما (وهو الطرف الآخر) قائماً على أن يفترض ويقدّر حصول شيء لم يحدث،... وهذا من نحو قوله تعالى:
(لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً...) أي: إذا فُرض وقدّر أن ينزل القرآن على جبل: لخشع (وإن لم يحدث هذا بالفعل)..
مسوغات الفرضيّة:
المسوّغ الفنيّ لصياغة (الفرضية) هو: إكساب الشيء أهمية كبيرة، نظراً لعدم إدراك الشخص مدى الأهمية المذكورة، ففي النموذج المتقدم يستهدف النص توضيح أنّ القرآن له أهميّة كبيرة في تعديل سلوك الإنسان الذي يمتلك قمّة الإحساس والإدراك للأشياء.
مستويات الفرضيّة:
هناك مستويات من الفرضية، يمكن شطرها إلى قسمين رئيسيين:
1- الفرضية المباشرة: وهي صياغة الصورة بشكل مباشر، مثل النموذج المتقدم بحيث يصرّح النص بأنّه مجرّد (فرض) وذلك من خلال (الأداة) التي تقوم عليها القضية، وهي (لو)، مثل ما لحظناه في قوله تعالى: (لَوْ أَنْزَلْنا) ومثل قوله (عليه السلام): (لو أحبني جبل لتهافت) وقوله (عليه السلام): (لو كان حجراً: لكان صلداً) (لو كنت شخصاً مرئياً... لأقمت عليك حدود الله).
فالملاحظ في هذه النماذج، أنّ الأداة (لو) تقوم بمهمّة الافتراض، وهذا على العكس من:
2- الفرضية غير المباشرة: وهي صياغة الصورة خالية من الأداة (لو)، بل تصاغ بشكل غير مباشر، مثل قوله (عليه السلام):
(تزول الجبال: ولا تزل)، أي أنّ الصورة تفترض بأنّه لو قدِّر بأنْ تزول الجبال، فيجب ألاّ يزول الجندي عن ساحة القتال، فيكون تقدير ذلك (لو زالت الجبال: لا تزل)، كل ما في الأمر أن أداة (لو) قد حُذفت هنا، ولذلك أسمينا هذا النمط من الصور بأنّه (فرضية غير مباشرة) لخلوها من الأداة المذكورة...
ويمكن ـ في حالة صياغتها بنحو آخر كما لو قيل مثلاً: (تزول الجبال، ولا يزول الجندي) ـ أن تنتسب إلى ما نسميه بـ(المبالغة) وهي نوع من الصور التي تعتمد عنصر المبالغة؛ كما سنوضّح ذلك لاحقاً.
9- المبالغة
وهي: إحداث علاقة بين طرفين من خلال جعْلِ أحدهما أمراً مبالغاً فيه بالقياس إلى حقيقة الطرف الآخر، وهذا مثل قوله (عليه السلام) للنماذج الانتفاعية التي لا يقرن قولها بالعمل، حيث خاطبهم (عليه السلام): (كلامُكم: يُوهي الصمّ الصلاب)، حيث جاء طرف هذه الصورة (الكلام) أمراً مبالغاً فيه أو محالاً في الواقع من خلال طرفها الآخر وهو (يوهي الصم) فالكلام لا يوهي الصمّ أو الجماد بل يوهي ذوي الأرواح. لكن بما أنّه (عليه السلام) قد استهدف لفت نظر هؤلاء النفعيين الذين يتحمّسون في القول بالنسبة إلى استعدادهم للذهاب إلى سوح القتال، إلا أنّهم عملياً لا يفعلون ذلك. قد استهدف لفت نظرهم إلى واقع سلوكهم الزائف، فخاطبهم قائلاً بأنّ كلامكم في الاستعداد أكبر من الحماسة يوهي حتى الجماد أو الأجسام الصلبة، بينا هو في الواقع مجرد كلام زائف لا حقيقة له في ميدان العمل...
وبهذا تتضح المسوّغات الفنية لصياغة هذا النمط من الصور فيما يمتزج بشيء من السخرية أيضاً، ما دام الموقف يتطلب مثل هذه الصياغة التي تتناسب مع السلوك النفعي من حيث بعده عن الواقع العملي، فكما أنّه لا حقيقة لادّعاءات هؤلاء النفعيّة في الاستعداد، كذلك فإنّ الصورة المبالغة فيها ينبغي أنْ تناسب مبالغة هؤلاء النفعيّة في أقوالهم الزائفة.
المبالغة والإحالة:
ثمّة فارق بين (المبالغة) التي تحدّثنا فيها، وبين الصورة السابقة عليها (الإحالة). فهما يشتركان في عنصر هو: اعتمادهما على ما هو ممتنع من جانب والامتزاج بالسخرية من جانب آخر، إلاّ أنّهما يفترقان في: أنّ (الإحالة) مقترنة بالوعي لحقيقتها الممتنعة بينا تقترن (المبالغة) بالإيهام لحقيقتها، وذلك من خلال المبالغة في رسمها، بالنحو الذي لحظناه.
10- الإحالة
وهي: إحداث علاقة بين طرفين من خلال جعْلِ أحدهما أمراً مستحيل الحدوث، يُشير بذلك إلى استحالة حدوث الطرف الآخر. وهذا كقوله تعالى: (مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إلى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ...) فالصورة تريد أنْ تؤكد بأنّ الله تعالى ينصر محمداً (صلى الله عليه وآله)، واستحالة الوقوف أمام ذلك، فجاءت بطرف آخر يقرّر بأنه: إذا كان باستطاعة أحد أن يمنع نصرته تعالى لمحمد (صلى الله عليه وآله)، فليمدد بحبل إلى السماء، ثم ليقطع ـ إذا استطاع ـ هذه النصرة لمحمد (صلى الله عليه وآله).
المسوغات:
إنّ المسوّغ الفني للصورة التي تتوكأ على (الإحالة) أو التعجيز، تتمثل في أنّ هناك من الحقائق ما تتطلب أمثلة هذه الصورة، بخاصة عندما تقترن هذه الحقائق بالمفارقات حيث تتطلب نمطاً من الردّ يتوافق مع ضخامة المفارقات المذكورة. فأعداء النبي (صلى الله عليه وآله) مثلاً وهم ممتلئون غيظاً منه (صلى الله عليه وآله) فيما يشاهدونه من الموقع الاجتماعي الذي حظي به، عندئذٍ يكيدون له ما بوسعهم من الكيد؛ تعبيراً عن نزعتهم الحاقدة... لذلك، فإنّ الإجابة المناسبة للحاقد هي أن تُرسم له صورة ساخرة تزيد من غيظه، وهي أنْ يصعد إلى السماء ـ وهو أمرٌ ممتنع ـ وأنْ يصنع له حبلاً ويتسلّقه ليمنع نصرته تعالى عن محمد (صلى الله عليه وآله)...
أنماطها:
الصورة التي تتوكّأ على الإحالة، نمطان:
1- الصورة المباشرة: ويُقصد بها أن تتحدث مباشرة عن الشيء الممتنع، فترسم صورة مستحيلة، مثل قوله تعالى:
(إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً)... فعدم خرق الأرض، وعدم بلوغ الجبال طولاً، تجسيد لصورة جدّية (وإن كانت تمتزج بشيء من السخرية)، تتحدّث بصراحة عن عدم قدرة الإنسان أنْ يخرق الأرض وأن يبلغ الجبال طولاً...
2- الصورة غير المباشرة: يُقصد بها: أن يتم الحديث عن عدم القدرة على الشيء من خلال أسلوب غير مباشر (وذلك باصطناع أو إيهام المخاطب بأنْ يصنع ما يريد) وهذا كما لحظناه في النموذج الأسبق الذي طالب الكفار بأنْ يصعدوا إلى السماء بسبب ويقطعوا عن محمّد (صلى الله عليه وآله) وسلم نصرته تعالى...
العنصر اللفظي
العنصر اللفظي:
يُقصد بـ(العنصر اللّفظي) ما يرتبط بالألفاظ؛ من حيث كونها (مفردات) أو (مركبات) ذات صياغة خاصّة، ومن حيث كونها أدوات معبرة عن دلالة محددة، حيث ينبغي أن تخضع لقواعد بلاغية خاصة.
ونقف أولاً مع:
1- العبارة المفردة: ويُقصد بها اللّفظة الواحدة من الكلام، حيث تخضع العبارة المفردة أو اللّفظة الواحدة لمعايير بلاغية متنوعة، منها:
- العبارة الفصيحة: ويُقصد بها انتخاب اللفظة الفصيحة التي اكتسبت دلالة مُعْجميّة على مر العصور. وتقابلها: اللفظة العاميّة التي حرِّفت عنها أو التي استُحدثت على السنة العامة(1).
- العبارة المألوفة: ويُقصد بها انتخاب اللفظة التي يشيع استعمالها عند المعنيين بشؤون الأدب والعلم. وتقابلها: اللفظة المهجورة التي استخدمتها أجيال غابرة، واختفت تدريجاً على مرِّ العصور(2).
- العبارة المشرقة: ويقصد بها اللفظة التي تتسم بالرشاقة أو بالجمال من حيث تناسب حروفها. وتقابلها اللفظة المعتمة التي تتقعّر حروفها وتتعقّد وتلتوي. وبالرغم من أنّ تناسب الحروف أو تنافرها يرتبط بعنصر الإيقاع إلاّ أنّه في نطاق ما هو (مفرد) من الألفاظ لابدّ من توفّر هذه الخصِّيصة فيها.
- العبارة النسبية: ويُقصد بها انتخاب اللّفظة التي تتناسب مع السياق، وهي ثلاثة مستويات:
العبارة الفخمة: وهي التي تتناسب مع فخامة الموقف. كما لو كان الموقف يصف معركة مثلاً.
العبارة الرقيقة: وهي التي تتناسب مع رقة الموقف: كما لو كان الموقف عاطفياً.
العبارة العادية: وهي التي تتناسب مع طبيعة الموقف الذي لا يتطلب تصعيداً أو ترقيقاً...
أيضاً هذه المستويات من العبارة تظلّ على صلة بالعنصر الإيقاعي الذي سنتحدث عنه في فصل لاحق، إلاّ أنّها في نطاق ما هو (مفرد) من الألفاظ لابدّ من توفرها في العبارة.
هنا ينبغي لفت النظر إلى خصيصة بلاغية تأخذ أيضاً نسبية الأزمنة والأمكنة بنظر الاعتبار. فالملاحظ أنّ البيئة البدوية أو الصحراويّة يشيع فيها استعمالُ اللّغة المتّسمة بالبداوة: كالجفاف والصخب ونحوها. وأمّا البيئة الزراعية أو الحضرية بعامّة، فإنّ الرقة والنعومة اللغوية تشيع فيها كما هو واضح. والمهمّ هو أنْ يُصاغ التركيب وفق لغة العصر الذي ولد النص في نطاقه.
أخيراً ينبغي لفت النظر إلى أنّ العبارة النسبية تأخذ محدداتها من الموقف السياقي لها، أي أنّ علاقة المفردة بما تقدّمها وتأخّر عنها من الألفاظ، هي التي تُحدد جمالية العبارة المفردة، حيث نجد أنّ عبارة بعينها تبدو جميلة ومتناسقة في موقع، وتبدو قبيحة في موقع آخر. ولذلك فإنّ الألفاظ المفردة لا تحمل في ذاتها جمالاً أو قبحاً إلاّ من خلال صياغتها في سياق خاص عدا بعض الألفاظ التي أشرنا إليها (المعتمة والمهجورة والعامية) مما تتنافى مع المبادئ الصوتيّة المرتبطة بمخارج الحروف، أو المرتبطة بما هو شائع في بيئة خاصّة...
2- العبارة المركبة: ويُقصد بها التركب من كلمتين فصاعداً، سواء أكان التركيب يُشكل جملة مفيدة أو غير مفيدة.
والعبارة المركبة تخضع لمعايير بلاغية متنوعة، منها:
- الفصاحة والسلامة: ويُقصد بها أنْ يكون تركيب الجملة خاضعاً لمبادئ النحو وأساليبه؛ من حيث الموقع الإعرابي، ومن حيث مراعاة التقديم والتأخير للكلمات.
- الإحكام: ويُقصد به أن تكون الجملة ذات قوّة ومتانة وإحكام.
وتقابلها الجملة المفكّكة أو المهلهلة أو المبتذلة من الاستعمال.
- الأُلفة: ويُقصد بها ـ كالعبارة المفردة ـ أنْ تكون الجملة مألوفة الاستعمال لا تعقيد فيها ولا التواء، سواء أكان التعقيد والالتواء نابعاً من صياغتها نحويّاً أو من صياغتها دلاليّاً.
طبيعياً ثمّة فارق بين التركيب المبتذل والتركيب المألوف، فالمبتذل هو الذي كَثُرَ استعماله دون أن يبتذله الاستعمال.
- الجدّة: ويُقصد بها أنْ تكون الجملة المركبة ذات جدّة في التركيب أي مبتكرة في الصياغة؛ حسب ما يتطلبه الموقف وليس دائماً. هنا ينبغي لفت النظر إلى أنّ (الجدة) لا تتنافى مع (الألفة) فالتركيب الجديد يمكنه أنْ يستند إلى ما هو مألوف من حيث القواعد التركيبية كالإضافات والصفات إلى آخره، وحتى في حالات خاصة يمكن تجاوز ما هو مألوف (كالجملة الاعتراضية) التي تفصل بين الموصوف وصفته مثلاً إذا كان الموقف يتطلّب ذلك.
أشكالها:
العبارة المركبة على نمطين:
-العبارة الحقيقية: ويُقصد بها العبارة التي تتضمن دلالة حقيقية تتطابق معها.
- العبارة المجازية أو التجوّزية أو التسامحيّة: ويُقصد بها العبارة التي تكون اليهود معروتطابق معها، بل تُصاغ على نحو من التسامح في التعبير مثل (وضعوا أصابعهم في آذانهم) مثل (واسأل القرية...) فوضع الأصابع في الآذان هو: تسامح أو تجوّز في التعبير، لأنها لا تدخل في الآذان واقعاً بل الذي يدخل هو: رؤوس الأصابع... لذلك، حذف النص من العبارة ما يتطابق مع دلالة الرؤوس... وكذلك عبارة (واسأل القرية) حيث حُذِفت (الأهل) واكتفي بالعبارة المذكورة، لأنّ الأصل هو (واسأل أهلها) كما هو واضح.
والمسوّغ الفني للعبارة المجازية أو التسامحيّة هو الاختصار من جانب، وجعلها مقترنة بإسهام المتلقّي في استكشاف الدلالة الواضحة، حيث يتحقّق مثل هذا الاكتشاف دون أدنى شك.
والآن: إذا تجاوزنا الألفاظ المفردة والمركبة من حيث ابنتها العامة، واتّجهنا إلى الطريقة التي يتم التعبير من خلالها حينئذٍ يتعين درجها ضمن عنوان:
ــــــــــــ
الهامش
(1)- الملاحظ أن استخدام اللغة العامية قد أخذ طريقة على ألسنة مختلف الأجيال، ولكنه لم يكتسب قيمة يُعتدّ بها في العصور الموروثة. وفي العصر الحديث بدأت اللغة العامية تقتحم مجال الأدب في نطاقين:
1 - أحدهما الأدب العامي، حيث برزت اللغة العامية في إشكال متنوعة من الأدب الإبداعي، بخاصة: القصيدة والمسرحية.
2 - الآخر: الأدب التلفيقي، حيث طُعّمت بعض الأشكال الأدبية بلغة العامة بخاصة: عنصر الحوار في المسرحية والقصة القصيرة والرواية ونحوها من الاجناس الأدبية التي تعتمد عنصري (السرد والحوار)... والمسوّغ الفني الذي قدّمه المعنيّون بالأديب القصصي هو أن أبطال القصة (في حالة كونهم من الطبقة العامية) تفرض عليهم (واقعية الأدب) أن يتحدثوا بلغتهم العامية وإلا افتقرت القصة إلى عنصر (الإقناع) الفني، وفقدت واقعيتها وحيويتها ولذلك تقتصر الأعمال القصصية على (لغة العامة) في عنصر الحوار فحسب. أما (السرد) فيكتب باللغة الفصيحة بطبيعة الحال. (انظر: مصطلحي (السرد) و(الحوار) في الحقل اللاحق من هذا الكتاب).
(2) - من الواضح أن كثيراً من الألفاظ المهجورة حالياً، تُعدّ (بالنسبة إلى الأزمنة الموروثة) مألوفة لدى مجتمعاتها.