محاضرات البلاغة - المحاضرة 17
4- أن يتم التقابل بنحو غير مباشر، أي لم تذكر المقابلة بين الشيئين نصّاً، بل يتم بنحو ضمني غير مباشر.
وهذا النمط من التقابل، على مستويين:
التقابل المقطعي: وهو التقابل بين مقاطع أو أجزاء من النص، مثل التقابل بين المتمرّدين (من جيش طالوت - في سورة البقرة) حيث قالوا ـ وهم يحاولون التهرّب من المعركة ـ: (لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) وبين الفئة المؤمنة التي قالت: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ)... فالنّص هنا لم يقابل بين الفئتين من خلال ألفاظ التقابل، بل عرض لهما على هذا النحو: (... فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ: إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي، وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلأَمَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ، فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلأَقَلِيلاً مِنْهُمْ، فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالذينَ آمَنُوا مَعَهُ، قالُوا: لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ، قالَ: الذينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ...) فالملاحظ، أن القارئ هو الذي استخلص بأنّه أمام موقفين يضاد أحدهما الآخر، وذلك من خلال وقوفه عند (عبارات الحوار) لدى كل من الفئتين.
التقابل البنائي: وهو التقابل الذي يستخلصه القارئ من خلال وقوفه عند هيكل النص، أي أن هناك تقابلاً لا يتبيّنه القارئ بسهولة، بل يتطلّب تأمّلاً ذهنياً لعمارة النص، حتى يستخلص هذا التقابل... وهذا من نحو ما نجده في الموضوعات التي طرحتها سورة (الكهف) مثلاً، حيث صيغت موضوعاتها وفق خطوط (متقابلة) مثل موقف أهل الكهف الذي يجسّد (نبذاً لزينة الحياة الدنيا)، مقابل موقف (صاحب الجنّتين) الذي يجسّد (تشبّثاً) بزينة الحياة الدنيا... ومثل التقابل بين هذا الأخير (الكافر) بنعم الله تعالى، وبين زميله المؤمن الذي كان يحاوره: (أَكَفَرْتَ بِالذي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ؟...) ومثل التقابل بين نفس الشخص الذي (كفر) بنعم الله تعالى؛ من خلال امتلاكه لمزرعتين وبين (ذي القرنين) الذي ملك مشرق الأرض ومغربها، دون أن يحجزه ذلك من الإيمان بنعم الله تعالى، حتى أنّه قال: (هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي)... قال ذو القرنين هذا الكلام المقرّ بنعم الله تعالى وهو يمتلك (مشرق) الأرض و(مغربها) بينا قال صاحب المزرعتين المحدودتين: (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً) (وَأَعَزُّ نَفَراً) (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) إلخ... فالتقابل بين (المزرعتين) وبين (جانبي الأرض)، والتقابل بين (الشخصيّتين: الكافرة بنعم الله تعالى، والشاكرة لها) وإنّما يستخلصها القارئ من خلال انطباعاته التي أملته عليه مطالعته للنص... وهي انطباعات ترتكن إلى البناء الهندسي الذي تقوم عليه السورة الكريمة؛ حيث إن بناءها - أساساً - يخضع لعنصر (التقابل الهندسي) للموضوعات بالنحو الذي لحظناه، دون أن ينص على ذلك مباشرة.
والمسوّغ الفنّي لهذا النمط من التقابل هو: أن النص الفنّي يتميّز عن غيره بكونه يترك للقارئ - بعد أن ينتهي من مطالعته - انطباعاً عاماً عن أفكاره الرئيسة، بحيث يتحسّسها بصورة ملحوظة... فالذي ينتهي من قراءة سورة الكهف مثلاً، تتوارد على ذهنه أشخاص ومواقف (تتقابل وتتضاد) فيما بينها، إنّه ما أن يتذكّر شخصيّة موسى (عليه السلام) حتى يتداعى ذهنه إلى شخصيّة الخضر (عليه السلام) العالم بصفة أن أولاهما معروفة، والأخرى (مجهولة)... وما أن يتذكّر شخصية صاحب الجنّتين، حتى يتداعى إلى ذهنه زميله... وما أن يتذكّر ذا القرنين حتى يتداعى إلى ذهنه صاحب الجنّتين... وما أن يتذكر ذا القرنين من جديد حتى يتداعى إلى ذهنه أهل الكهف، بصفة أن الشخصية الأولى طافت حول الأرض وتحرّكت على جميع الصعد، مقابل أهل الكهف الذين اختلفوا من الحياة نهائياً...
طبيعياً، أن (التقابل) أو (التضاد) لا يعني حصره في ما هو سلبي مقابل ما هو إيجابي، بقدر ما يعني وجود ظاهرتين (تتقابلان) إيجاباً أو سلباً، وهذا ما يقتادنا إلى الحديث عن:
نسبيّة التقابل:
يظل التقابل - كما قلنا - معنيّاً بإبراز الشيء (من خلال مقابلته لشيء آخر) سواء أكان طرفا التقابل متضاربين (بحيث يكون أحدهما إيجاباً والآخر سلباً) مثل قوله تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَررض الجمل أو او كان طرفاه محايدين مثل، مقابلة الليل مع النهار، أو كان طرفاه إيجابيّين مثل التقابل بين الجنّتين العاليتين والجنّتين الأدنى منهما في قوله تعالى: (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ... ذَواتا أَفْنانٍ...) وقوله تعالى: (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ... مُدْهامَّتانِ...) حيث جاء التقابل بين درجتي الجنّة، وهما إيجابيّتان... أو كان طرفا التقابل سلبيّين مثل قوله تعالى: (إِذْ تَبَرَّأَالذينَ اتُّبِعُوا مِنَ الذينَ اتَّبَعُوا...) حيث جاء التقابل بين أتباع الكفّار ومتبوعيهم ـ وهما سلبيّان... وهذا يعني أن التقابل يخضع للنسبية من حيث تحديد هدفه، تبعاً لمتطلّبات السياق أو الموقف بالنحو الذي أوضحناه.
ويترتّب على ذلك، أن ندرج هذا الموضوع ضمن العنوان الآتي:
أشكال التقابل
يتم التقابل بين الأشياء تبعاً للمواقف الآتية:
1- (الجمع) بين المتقابلين، مثل قوله تعالى: (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) (يُحْيِي وَيُمِيتُ) (هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ)... إلخ.
2- (التفريع) عن أحدهما، مثل قوله تعالى: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ)...
3- (التحول) من أحدهما، مثل قوله تعالى: (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ)..
4- (الدمج) بينهما، مثل قوله تعالى: (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ)...
5- (التباين) بينهما، مثل قوله تعالى: (وَما يَسْتَوِي الأَعْمى وَالْبَصِيرُ)...
والمسوّغ الفنّي لكل من هذه الإشكال، يتمثل في: أن (الجمع) بين المتقابلين مؤشّر إلى إبداعه تعالى، فيكون عرض الظواهر (وهي مجتمعة) مؤشّراً إلى قدراته الإبداعيّة، كما أن (التفريع) ينطوي على إبراز واحدة من سمات الإبداع المشار إليه، وإن (التحوّل) مؤشّر إلى معطياته تعالى، وإنّ (التباين) مؤشّر إلى الفارقيّة بين الأشياء... إلخ، وهذا كلّه فيما يتّصل بالأشكال التي يفرضها هذا الموقف أو ذاك... لكن، نجد أن المواقف أو السياقات، تفرض أساليب أخرى من الصياغة، مما يمكن درجهاطيّة الحقل الآتي:
صيغ التقابل:
تتم صياغة التقابل وفق مستويات متنوّعة، منها:
1- التقرير: أي عرض الأشياء على نحو إخباري، مثل (الذي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ).
2- التساؤل: مثل (هَلْ يَسْتَوِي الذينَ يَعْلَمُونَ وَالذينَ لا يَعْلَمُونَ)...
3- التحاور: وهذا مثل (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ).
4- القصص: وهذا مثل قصص ابني آدم، وإبراهيم مع نمرود، وسواهما من القصص التي صيغت من أجل الموازنة بين شخصيّتين أو بين موقفين، حيث يتمّ (التقابل) مثلاً بين ابني آدم (عليه السلام) من خلال موقفهما من (القربان) و(القتل) فيما تُقبّل قربان أحدهما ولم يُتقبَّل من الآخر، وفيما قتل أحدهما أخاه ولم يقدم الآخر على القتل..
والمسوّغ الفنّي لكل من هذه الصيغ هو: أن (التقرير أو الإخبار) يكشف عن الحقائق المجرّدة، وإن (التساؤل) يستهدف نفي المماثلة بين الظاهرتين، وإن (المحاورة) تستهدف الكشف عن طبيعة الأفكار التي تصدر عن الطرفين المتقابلين، وإن (القصص) تكشف عن الطابع العام للشخصيّة أو الحدث أو الموقف أو البيئة... إلخ.
أساليب التقابل:
يتم التقابل بين الأشياء وفق أساليب متنوّعة، منها:
التقابل المتكرّر:
وهو أن يتكرّر التقابل بين الظواهر، وهو على أقسام، منها:
1- أن يتكرّر التقابل بين أكثر من ظاهرة على نحو امتدادي، مثل قوله تعالى: (وَما يَسْتَوِي الأَعْمى وَالْبَصِيرُ * وَلأَالظُّلُماتُ وَلأَالنُّورُ * وَلأَالظِّلُّ وَلأَالْحَرُورُ) فالملاحظ أن النص لم يكتف بمقابلة المؤمن والكافر بكل من الأعمى والبصير بل أضاف إلى ذلك كلاًّ من النور والظلمات، والظل والحرور... والمسوّغ الفنّي لمثل هذا التكرار هو تعميق القناعة لدى القارئ بمدى الفارقيّة بين الإيمان وبين الكفر من خلال تكراره للظواهر المتقابل فيما بينهما...
ومنها، (أي من أقسام التقابل المتكرّر).
2- أن يتكرر التقابل على نحو تفصيلي، مثل قوله تعالى: (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ * وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) فالتكرار هنا جاء تفصيلاً لظاهرة واحدة هي: التقابل بين عبادة المؤمن وبين عبادة الكافر، حيث تكرّرت في عبارات ثلاث، كما هو واضح...
ومنها، (أي أقسام التقابل المتكرّر).
3- أن يتكرّر التقابل على نحو التزاوج بين الظواهر، مثل قوله تعلى: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ) فقد تكرّرت عبارتا (الحي) و(الميت) ليس على نحو تعدّد الظواهر، ولا على نحو التفصيل لها ـ بل على التزاوج بينهما، بحيث يترتب أحدهما على الآخر، أو يتفرّع أحدهما عن الآخر من خلال تكرّر كل منهما، بالنحو الذي أوضحناه...
ومنها (أي من أقسام التقابل المتكرّر):
4- أن يتكرّر التقابل بين الظواهر على نحو الموازنة بينها، مثل قوله تعالى: (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ) فالتكرار هنا يماثل التكرار الذي لحظناه في القسم الأول، من حيث تتابع الأطراف المتقابل بينها، إلاّ أن الفارق بين هذا النوع من التكرار وسابقه هو: أن التكرار الذي نتحدّث عنه يتمثّل في كونه (يوازن) بين الأطراف المتقابل بينها، أي: يوازن بين الأعمى والبصير وبين الأصم والسميع، ليس من خلال عطف أحدهما على الآخر، بل من خلال دمجهما في طرف يجمع بين الأعمى والأصم مقابل البصير والسميع، فبدلاً من أن يقول مثلاً: (مثل الفريقين كالأعمى والبصير، والأصم والسميع) قال (كَالأَعْمى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ) محقّقاً بهذا النمط من التكرار هدفاً فنيّاً أوضحناه عند حديثنا عن (التشبيه المتكرّر) في الحقل الخاص بالعنصر الصوري: فليراجع هناك.
التقابل المتعدّد الأطراف:
يتم التقابل ـ عادة بين طرفين من الظواهر... إلاّ أن هناك حالات يتمّ التقابل فيها بين أكثر من طرفين... وهذا من نحو التقابل الذي أشرنا إليه، بين فئة (السابقين) وفئة (أصحاب اليمين) وفئة (أصحاب الشمال) في قوله تعالى في سورة الواقعة: (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) أي: أنماطاً ثلاثة من الناس.
1- (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ...).
2- (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ...).
3- (وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ...).
فالملاحظ أن النص قابل بين أطراف ثلاثة يحتلّ كل واحد منها موقعاً خاصّاً مقابل الآخر... كذلك يمكن ملاحظة هذا التعدّد في الأطراف، في قوله تعالى: (وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ... وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنادى أَصْحابُ الأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ...).
فهنا نلاحظ أن الأطراف التي ذكرها النص، تتمثّل في فئات ثلاث هي:
(أصحاب الجنّة، أصحاب النار، رجال الأعراف) وإنّ كلاًّ منها تحتل موقعاً (مقابل الآخر) فبالرغم من أن (رجال الأعراف) هم من أصحاب الجنة أيضاً، إلاّ أنهم متميّزون بـ(موقع) خاص قبال أهل الجنة، تماماً بمثل الموقع الذي يحتله (السابقون) بالنسبة لـ(أصحاب اليمين)...
والمسوّغ الفنّي لهذا التعدّد لبني الأطراف، يتمثّل في طبيعة التفاوت الذي يطبع الناس بالنسبة إلى تصنيفهم أخرويّاً، حيث يقف أصحاب الجنة مقابل أصحاب النار... ويقف نفر خاص (مقابل) كل من هذين الفريقين، يحتل ـ من جانب ـ درجة خاصّة من مواقع الجنة، ويمارس مهمة خاصة ـ من جانب آخر ـ هي: التزكية والشفاعة ونحو ذلك مما يكسبها سمُلاقُوا الطرفاً) خاصّاً (مقابل) سواها من الأطراف، بالنحو الذي أوضحناه.