محاضرات علوم القرآن - المحاضرة 9
تحدثنا في محاضرتنا السابقة عن جملة من الموضوعات المرتبطة بعلوم القرآن وتاريخه حيث بدأنا موضوعنا بالوحي وقضاياه وكان الموضوع الأول الذي تحدثنا عنه هو طرائق الوحي وكان الموضوع الذي تلاه هو موضوع أساليب أو كيفية الوحي والموضوع الذي تلاه كان منصباً على جمع القرآن الكريم وكان الموضوع الأخير الذي حدثناكم عنه منصباً على موضوع القراءات وبهذا نكون قد انتهينا من جملة موضوعات ترتبط بالوحي وقضاياه بالنحو الذي قلناه.
أما الآن فنتابع الحديث عن الجوانب الأخرى المرتبطة بدورها عن القرآن الكريم من حيث علومه وتاريخه ونتحدث الآن عن موضوع جديد هو ما أطلقنا عليه فضاء النزول أو فضاء النص ولعل الطالب يستغرب من هذا العنوان الذي يراه جديداً بالنسبة لمدرسي القرآن الكريم وعلومه حيث اعتادوا أن يصطلحوا مصطلحاً خاصاً هو المصطلح القائل أو المندرج ضمن عنوان أسباب النزول.
ولعل الطالب قد وقف على جملة من المؤلفات الموروثة والمعاصرة التي تتحدث عن هذا الجانب بل هناك كتب مستقلة تحمل هذا العنوان أي عنوان أسباب النزول وتشدد في أهمية معرفة هذا الجانب إلا أننا انتخبنا عنوان آخر ألا وهو كما قلنا عنوان فضاء النزول وكان الاختيار لهذا العنوان يرجع إلى عدة أسباب من جملتها أو في مقدمتها أن الذين تحدثوا عن أسباب النزول نجدهم أنفسهم ينتقدون من جانب أو من آخر ينتقدون الموضوعات التي تطرح تحت هذا العنوان نظراً لعدم انسحابها أو لعدم اندراجها بدقة ضمن العنوان المشار إليه.
فالمعروف أن هذا العنوان وهو عنوان أسباب النزول المفروض مثل هذا العنوان أن يلتئم تماماً مع موضوعه بمعنى أن هناك نصاً قرآنياً كريماً نزل على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذه المناسبة أو تلك حيث يكمن خلف هذا النزول سبب من الأسباب فمثلاً عندما نقول أن الآية الكريمة ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً بأن سبب نزولها هو أن كلاً من الإمام علي (عليه السلام) وفاطمة الزهراء (عليه السلام) والحسنين (عليه السلام) قدموا طعامهم ثلاثة أيام وهم صائمون قدموه للفئات المشار إليها هذا يعني أن سبب نزول الآية المتقدمة هو هذه الحادثة حادثة تقديم الإفطار إفطار المشار إليهم إلى الفئات الثلاثة وهكذا عندما نقول مثلاً أن الآية الكريمة التي تتحدث عن إعطاء الزكاة وهم راكعون نقول أن سبب هذه الآية هو أن الإمام علي (عليه السلام) تصدق وهو راكع وهكذا بالنسبة إلى عشرات الحوادث التي ترتبط بسبب خاص من حيث نزول الآيات أو النص القرآني الكريم حيالها. بيد أن المعنيين بهذا الشأن كما قلنا أنفسهم يوجهون نقوداً لهذا النمط من الطرح حيث يتوسعون بالحديث عن أسباب النزول حتى أنهم يذكرون مناسبات متنوعة لا ينطبق عليها مصطلح أسباب النزول بقدر ما ينسحب عليها عنوان آخر وهو ما دفعنا إلى أن ننتخب عنواناً عاماً يندرج ضمنه كل الأشكال التي يمكن أن تكون النصوص القرآنية الكريمة نازلة في فضاءها الخاص إن مصطلح الفضاء مصطلح حديث يستخدمه علماء الأدب والبلاغة وهذا المصطلح بتصورنا يظل هو أوسع وأفضل المصطلحات تريد أن تتحدث عن الآية القرآنية الكريمة أو تتحدث عن النص القرآني الكريم أي يواكب نزول هذا النص من أسباب من جانب أو من سياق خاص من جانب ثان أو من مناسبة ما من جانب الثالث أو من خلال مطلق ما يمكن أن ينزل من الوحي للتبليغ أو لنشر مبادئ الله سبحانه وتعالى على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) نقول كل هذه الأنماط من المواكبات التي تقترن مع نزول الآية كل ذلك يظل مندرجاً ضمن عنوان فضاء النص لأن الفضاء يشمل كل شيء لأنه الجو أو المناخ أو البيئة إذا صح التعبير البيئة التي يتحرك النص من خلالها.
ومن المعلوم أن الدراسات الأدبية على سبيل المثال أو مطلق البحوث العلمية هذه الأنماط من البحوث العلمية أو الدراسات الأدبية تخضع لجملة مناهج وفي مقدمتها ما يطلق عليه المنهج التاريخي هذا من جانب ومن جانب آخر ثمة منهج آخر يطلق عليه مصطلح منهج السيرة فهذان المنهجان يظلان مرتبطين بالحديث عن مناخ النص سواءً أكان النص نصاً أدبيا أم نصاً علمياً حيث يتحدث المعنيون بهذا الضرب من المعرفة أو تلك يتحدث هؤلاء من خلال ذلك المنهجين عن الموضوع المطروح أمام الباحث فمثلاً عندما يتحدث باحث أدبي عن نشأة الشعر أو القصة أو المسرحية أو.. أو.. الخ. حينئذٍ يتحدثون عن نشأة هذه الفنون الأدبية في نطاق البيئة التي ولدت الفنون المشار إليها في تلكم البيئة فيتحدثون عن العوامل والأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية وكل ما يرتبط بسبب أو بآخر بهذا النص المدروس أي يضعون النص المدروس في إطار البيئة التاريخية التي ولد فيها النص وهكذا حينما يريدون أن يربطوا بين كاتب هذا النص وبين محتويات النص المدروس حيث تنسحب شخصية كاتب النص على النص المدروس كما هو واضح. بيد أن هذين النمطين من البحوث يظلان في الواقع نسبيين أي ثمة سياقات خاصة تفرض على الباحث أن يتدارس النص في ضوء البيئة التاريخية التي ولد فيها أو في ضوء الصيغة الشخصية التي يخضع لها النص وهناك سياقات أخرى لا ضرورة لها أبداً بالاستناد أو في الركون إلى ذلك البعدين التاريخي والشخصي وعندما ننقل هذا الجانب إلى النص القرآني الكريم نجد أن السيرة الشخصية بطبيعة الحال لا علاقة لها بالنص القرآني الكريم لأن النص القرآني الكريم نص نازل عن الله سبحانه وتعالى والله منزه عن الحدود ولذلك لا مجال للحديث عن الجانب الشخصي للنص القرآني الكريم بل يظل الجانب التاريخي هو الجانب الذي ينحصر فيه البحث.
وفي هذا النطاق نقول إن البحوث القرآنية التي تتحدث عن أسباب النزول تظل مرتبطة بشكل أو بآخر بهذا الجانب التاريخي أو البيئي يتحدد النص إما عن حادثة معينة أو عن شخص معين ويكون النص القرآني الكريم نازلاً بسبب هذه الحادثة أو بسبب ذلك السلوك.
ولكن هل أن القرآن الكريم بمجموعه يخضع لهذه البيئة التاريخية طبيعياً كلا فثمة بيئة تاريخية دون أدنى شك ولكن يقابلها أو تقابلها بيئات غير تاريخية وهي البيئة الثقافية المطلقة أي البيئة التي يستهدف القرآن الكريم أن يوصل مبادئ الله سبحانه وتعالى من خلالها إلى الآخرين بواسطة النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
وهذه الطوابع الثقافية تندرج بشكل واضح ضمن ما اصطلحنا عليه بمصطلح أو بعنوان فضاء النص أي أننا نتحدث عن النص القرآني الكريم بما يواكبه من سياق خاص وردت الآية القرآنية الكريمة أو وردت السورة القرآنية الكريمة أو وردت الآيات القرآنية الكريمة خلال ذلك وهذا ما نحاول الآن أن نسلط الإنارة عليه فنقول:
إن النص القرآني القديم يرد مرة مرتبطاً بسبب نزوله ويرد مرة ثانية مرتبطاً بسياق خاص ويرد مرة ثالثة بنحو مطلق أي إيصال مبادئ الله سبحانه وتعالى إلى الآخرين إذاً ثلاثة محاور يمكننا أن نرتكن إليها في حديثنا عن فضاء النص القرآني الكريم أو لنقل عن فضاء النزول بالنص القرآني الكريم ولعل المحور الأول وهو المحور الذي تتحدث عن أسباب النزول يظل مستأثراً باهتمام الباحثين قديماً وحديثاً نظراً لارتباطه المباشر بالحوادث والمواقف التي تقترن بنزول النص القرآني الكريم، ويمكننا في هذا السياق أن نقول أن النص القرآني الكريم أو أن سبب النزول أو بالأحرى كما اصطلحنا على ذلك أن فضاء النزول يتم وفق نمطين أحدهما يتم من خلال سؤال ما على سبيل المثال والنمط الآخر يتم من خلال حدوث واقعة أو موقف من المواقف.
فمن النمط الأول ما نلاحظه في موارد متعددة في النص القرآني الكريم كالعبارة القائلة (ويسألونك عن ذي القرنين ويسألونك عن الأهلة و..و..) هناك موارد متنوعة يسأل فيها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن موضوع ما فينتظر الوحي ويجيب عن الأسئلة المشار إليها ومرة يتم خلال وقوع حوادث أو مواقف معينة وحينئذٍ يتم النزول من خلال تلك الحادثة أو ذلك الموقف ومن أمثلته المتنوعة مثلاً حادثة الغدير المعروفة حيث نزلت فيها الآية الكريمة التي تشير إلى إكمال الدين ومثل حادثة المباهلة مع النصارى حيث نزلت الآيات المعروفة بالموضوع المشار إليه ومنها أيضاً حادثة إطعام الطعام على حب الله مسكيناً ويتيماً وأسيراً حيث نزلت حيال الإمام علي (عليه السلام)والزهراء والحسنين (عليه السلام). وهناك حوادث أخرى متنوعة نزلت الآيات القرآنية الكريمة أو النص القرآني الكريم بنحو عام نزل من خلال تلك المواقف أو الحوادث.
ومن البين أن الوقوف عند أسباب النزول في هذه السياقات يظل متسماً بأهمية كبيرة لأن كثيراً من الأحكام الشرعية والعقائد الشعرية والأخلاق الشرعية تظل منسحبة على مدى ما نقف عنده من أسباب النزول فمثلاً حادثة الغدير وصلة ذلك بالآية الكريمة التي تشير إلى إكمال الدين إن أمثلة هذه الحادثة ونزول النص القرآني حيالها يكتسب أهمية كبيرة لأنها ترتبط بأهم عقيدة عند الإنسان أو عند الشخصية المسلمة ألا وهي الإشارة إلى الخلافة بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وتلقي الأحكام من المعصومين (عليه السلام).
طبيعيا أيضاً أن المحور الثاني والثالث من فضاء النزول هذان المحوران بدورهما يكتسبان نفس الأهمية التي يكتسبها المحور الأول أي المحور الذي يعنى بالإجابة عن سؤال لسائل ما فيرد النص القرآني إجابة عن السؤال المتقدم والنمط الآخر الذي يرد النص القرآني خلاله تقريراً أو تصويراً لحقيقة من الحقائق كالأمثلة المتقدمة نقول أن النمطين أو المحورين الآخرين المرتبطين بفضاء النزول أيضاً يكتسبان نفس الأهمية التي اكتسبها النمط الأول أي ضرورة معرفة المتعامل مع النص القرآني الكريم معرفة ما تعنيه الآية من خلال الفضاء الذي نزلت الآية من خلال ذلك. فمثلاً الآية القرآنية الكريمة التي تشير أو تأمر بإطاعة الله والرسول وأولي الأمر حينئذٍ فإن الوقوف عند التي يعنيها أهل الأمر وهم المعصومين (عليه السلام) هذا الجانب من فضاء النزول يظل له أهميته الكبيرة كالأهمية التي لاحظناها بالنسبة إلى آية إكمال الدين وإتمام النعمة حيث أن الإشارة إلى أولي الأمر تعني بوضوح أن التلقي بالأحكام يبدأ من الله سبحانه وتعالى إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى خلفاءه المعصومين (عليه السلام).
وهكذا بالنسبة إلى الآية الكريمة التي تشير إلى أن الله سبحانه وتعالى أذهب الرجس عن أهل البيت وطهرهم تطهيراً حيث تشير هذه الآية الكريمة أو تصب في الرافد المشار إليه ذاته ألا وهو مشروعية أهل البيت (عليه السلام) من حيث التلقي للحكم الشرعي من خلالهم بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وتتضح أهمية ذلك كله بجلاء أكثر وضوحاً من خلال الواقع العملي الذي عاشته الأمة الإسلامية من خلال التعامل مع مصادر التشريع الإسلامي حيث تم التعامل بمنأى عن المصدر الذي أشار الله سبحانه وتعالى إليه وأشار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إليه تم التعامل من خلال الابتعاد عن المصدر الذي خلف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وترتب على ذلك في نطاق ما نتحدث عنه وهو أسباب النزول أو فضاء النزول حيث نجد أن الباحثين الذين لا يتعاملون مع المصدر الذي أمرنا الله سبحانه وتعالى باتباعه نقول ترتب على ذلك أن تصدر مفارقات جمة بالنسبة إلى تعاملهم العلمي مع فضاء النص أو أسباب النزول فمثلاً مثلما يتحدث هؤلاء العلماء علماء ومعاصرين عندما يتحدثون عن أسباب النزول يلجؤون إلى مصادر غير موثوق بها أو مصادر غير مصادر المعصومين (عليه السلام) وهذا ما يمكن ملاحظته بالنسبة إلى العشرات من الموارد التي يرد فيها التناقض بين الباحثين من حيث تفسيرهم أو من حيث تعاملهم مع أسباب النزول لهذا النص القرآني أو ذاك.
ومن البين أن المصادر التي ابتعدت عن آل الرسول (عليه السلام) هذه المصادر تظل مناوئة بحق العترة التي أمر الله سبحانه وتعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر باتباعها مقرونة مع القرآن الكريم وذلك في الحديث المعروف الذي يأمر بالتمسك بالثقلين وعترة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) ويمكننا أن نجد انعكاسات هذا التباعد عن العترة الطاهرة أو يمكننا ملاحظة العداء الذي نسب حيال هذه العترة الطاهرة لأسباب تاريخية معروفة يمكننا أن نعرف أصدائها في طبيعة ما يقدمه هؤلاء الباحثون قدماء ومعاصرين من تعامل خاص مع أسباب نزول الآية الكريمة أو كما قلنا مع فضاء النص القرآني الكريم.
فمثلاً يتم التعامل مع كل نص قرآني كريم يفسر في ضوئه علاقة ذلك بالإمام علي (عليه السلام) نجد أن هؤلاء الباحثين يتعاملون مع أمثلة هذه النصوص تعاملاً عدوانياً ومن ذلك على سبيل المثال التعامل الذي ينكر حادثة الغدير ونزول الآية الكريمة التي تتحدث عن إكمال الدين وإتمام النعمة وبالمقابل نجد أن قسماً من هؤلاء المعادين للخط الإسلامي الذي أمر الله سبحانه وتعالى نبيه باتباعه نجد أن هؤلاء يحاولون إلصاق الأذى بشخصية الإمام علي (عليه السلام) حينما يحاولون أن يربطوا بين الآية التي تشير إلى السكارى وبين شخصية الإمام علي (عليه السلام).
وليس هذا فحسب حتى بالنسبة إلى شخصية الإمام علي (عليه السلام) وهو أبو طالب مثلاً نجد أن هؤلاء الباحثين قدماء ومعاصرين يشيرون إلى الآية الكريمة التي تأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن لا يستغفر للمشركين يربطون بين هذه الآية وبين ذهابهم إلى شرك أبي طالب المذكور ولكن لحسن الحظ أن الباحثين من الخط نفسه ممن يمتلك شيئاً من الموضوعية يرد على أمثلة هؤلاء المنحرفين عن الخط الإسلامي يرد على هؤلاء من خلال وقوعهم في تناقضات حادة ومنها الظاهرة الأخيرة التي أشارت إلى أن الآية الناهية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يستغفر للمشركين ذكروا أن هذه الآية نزلت في المدينة المنورة بينما توفي أبو طالب في مكة قبل هجرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة المنورة وهذا التناقض وجدوا وثيقة دامغة تدمغ هؤلاء المنحرفين عن خط الإسلام فيما يحاولون تشويه الشخصيات التي أمر الله سبحانه وتعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) باتباعهم هو الذي أشارت النصوص القرآنية الكريمة إليه وبالنحو الذي فصلت الأحاديث وألقت الإنارة عليه بشكل واضح كما هو بين لدى من يمتلك موضوعية في التعامل مع الأحداث والمواقف التي واجهت مسيرة الإسلام بدءاً من حادثة الغدير وانتهاءً إلى الحوادث التي وقعت بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنحو المعروف مما لا حاجة إلى الحديث عنها الآن.
على أية حال إن معرفة فضاء النص أو معرفة أسباب النزول وما يواكب ذلك من تفصيلات يظل متسماً بأهمية كبيرة بالشكل الذي أوضحناه ولعل شخصية الإمام علي (عليه السلام) حينما تتحدث عن هذا الجانب وتسأل عن القرآن الكريم وما واكب نزوله من أحداث ومواقف حينئذ كانت إجابته المتمثلة بأنه (عليه السلام) يعرف كل التفصيلات المتصلة بنزول القرآن الكريم نقول هذه الإشارة من الإمام علي (عليه السلام) بأنه يعرف كل ما صدر من ظروف تتصل بالقرآن الكريم هذه الإشارة تكتسب أهمية كبيرة لأنها تتحدث كما لاحظنا تتحدث عن مواقف تصب في صميم الشريعة الإسلامية وبهذه المناسبة نود أن نلفت النظر إلى أن الحاقدين على الخط الإسلامي الصائب وهو خط أهل البيت (عليه السلام) يحاولون حتى في نطاق هذه الإشارة من الإمام علي (عليه السلام) بأنه على معرفة تامة لكل ملابسات نزول القرآن الكريم نقول إن بعض الباحثين المعاصرين الحاقدين بطبيعة الحال يحاولون حتى نفي هذا الجانب عن شخصية الإمام علي (عليه السلام) حيث أشار أحد الباحثين المعاصرين إلى أن قول الإمام (عليه السلام) بأنه يعرف كل صغيرة وكبيرة تتصل بملابسات القرآن الكريم ونزوله يقول إن هذا الكلام فيه مبالغة وفيه تعامل غير واقعي مع الظاهرة لاحظوا كيف أن الحقد يدفع أمثلة هذه الشخصيات المعادية للخط الإسلامي الأصيل ذهبوا لأن يحمل هذه الشخصيات على أن ينفوا حتى ما ورد في المصادر التي يؤمن بها هذا الخط المعادي كل ذلك لجهلهم بطبيعة المصدر الذي أمرنا الله سبحانه وتعالى ونبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) باتباعه حيث أن الابتعاد عن هذا المصدر جعل هذا الباحث وسواه لا يفقه شيئاً من شخصية الإمام علي (عليه السلام) وصلته بالنبي الكريم منذ طفولته وحتى وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث أن المعرفة الدقيقة لتفصيلات حياة الإمام علي (عليه السلام) من حيث صلتها بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لو كان هذا الباحث على معرفة بهذه التفصيلات لما تحدث بهذا الكلام غير المسؤول.
ومهما يكن من أمر فإن الحديث عن أسباب النزول أو بالأحرى عن فضاء النص وما يتصل به من ملابسات متنوعة يظل الحديث عن هذا الجانب مطروحاً من خلال زاويتين نود أن نشير إليهما الآن وهما:
أولاً الزاوية التي حدثناكم عنها ونعني نزول الآية الكريمة أو النص القرآني الكريم آية أو آيات أو سوراً نقول أن نزول هذا النص بمستوياته المتقدمة يتم حيناً من خلال ربطه بالسبب الذي نزل النص القرآني الكريم من خلاله وهو السبب المباشر للنزول بيد أن هناك نمط آخر ينتسب إلى ما يصطلح عليه بالتأويل الدلالي أو ما يصطلح عليه بحسب لغة المفسرين وهو التفسير بالجري أي أن النص الذي يتناول حادثة معينة أو موقفاً من المواقف هذه الحادثة أو ذلك الموقف من الممكن أن ينسحب تأويله على مصاديق أخرى خاصة وهو أمر في الواقع من الممكن أن يتناوله المفسر للقرآن الكريم ويتناوله المفسرون للنصوص الأدبية والفنية الخالدة وهو أمر نحدثكم عنه تفصيلاً إن شاء الله عندما نتحدث عن إعجاز القرآن الكريم إلى أننا هنا استهدفنا الإشارة العابرة فحسب إلا أن الحديث عن فضاء النزول يتم بهذين النمطين وهو النمط المباشر والنمط التأويلي ونقصد بالنمط التأويلي ما ينسحب أو ما يمكن أن يكون أحد مصاديق النص القرآني الذي نزل في حادثة أو موقف من المواقف.
فمثلاً الآية الكريمة التي تشير أو ادخلوا البيوت من أبوابها يقول المؤرخون للقرآن الكريم لأنها نزلت لإنكار الأسلوب الذي كان يتبعه أهل الجاهلية في حجهم ألا وهو الدخول من خلف البيوت حيث أمر الله سبحانه وتعالى أن يدخلوا البيوت من أبوابها الإشارة إلى الدخول بالنسبة إلى البيوت من أبوابها يظل حادثة واقعية تمس أولئك النفر الذين كانوا يمارسون السلوك المذكور بيد أن التأويل الذاهب إلى أن الدخول إلى البيوت من أبوابها وربط هذا التأويل بأهل البيت (عليه السلام) وأخذ المصادر أو تلقي الأحكام منهم يظل واحداً من انماط التأويل الذي أشرنا إليه أو يظل واحداً من أنماط أي أن الدخول للبيوت من أبوابها يظل واحداً من مصاديقها من حيث التعامل مع أهل البيت (عليه السلام) وليس التعامل خارجاً عن هذا الخط الأصيل الذي أمرنا الله ونبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) باتباعه.
إن أمثلة هذا النمط من التأويل تظل بالعشرات بالنسبة لما ورد في النصوص القرآنية الكريمة وهذا كله يقتادنا إلى أن نكرر الإشارة إلى الجانب المذكور ونعني به أن فضاء النص أو أسباب النزول يتم حينا بالإشارة إلى السبب المباشر ويتم حيناً من خلال الاشارة إلى التأويل بالنحو الذي أوضحناه على أية حال إن الحديث عن فضاء النص كما قلنا في بداية هذه المحاضرة له أهميته الكبيرة بالنسبة إلى المفسر بخاصة أو بالنسبة إلى كل من يتعامل مع النص القرآني الكريم سواء كان هذا التعامل تعاملاً فنياً أو كان تعاملاً علمياً صرفاً فإن البعد التاريخي للنص يفرض ضرورته كما أشرنا ولكن كما أشرنا أيضاً ينبغي أن لا نحمل النص أكثر من قابليته بالنسبة إلى مختلف السياقات التي يتجه الباحثون إلى معالجتها.
فمثلاً إذا قدر لأحدنا أن يتناول سلوك المنافقين حيث ورد في أحد النصوص القرآنية الكريمة ورد رسم مفصل لشخصيات المنافقين من خلال جملة سور فنية وزمنها مثلاً هذه السورة قائلة مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً كلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون أو قوله تعالى يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير نقول إن هذه الصورة الفنية قد يتعامل معها الباحث تعاملاً فنياً صرفاً فيبين السمات الجمالية لهذه الصورة ولكن الباحث التاريخي يستطيع أن يربط بين هذه الصور الدقيقة جداً وبين نمط سلوك المنافقين الذين رسمهم الإسلام في هذه السورة وفي سور أخرى نقول إذا قدر لأحد الباحثين أن يعنى بالبعد التاريخي لهذه الصورة فسيجد كم أنها تحتل أهمية كبيرة بل تعد في الواقع مظهر من مظاهر الإعجاز القرآني الكريم في رسمه للشخصية المنافقة بهذا النحو والشخصية المنافقة بهذا النحو المرسوم لا تفهم إلا بضوء رجوعنا إلى المصادر التاريخية التي تذكر لنا كيف أن المنافقين تبعاً لحرصهم على المكاسب الاقتصادية والاجتماعية نقول تبعاً لحرصهم على هذه المكاسب كانوا يتعاملون تعاملاً خاصاً ينطوي على صراع نفسي بليغ رسمه النص القرآني الكريم بهذا النحو كما رسمه في نصوص قرآنية أخرى لا مجال الآن للحديث عنها بقدر ما استهدفنا الإشارة إلى أن التلكؤ على البعد التاريخي وهو واحد من أبعاد فضاء النفس القرآني أو بعد واحد من أبعاد ما يصطلح عليه بأسباب النزول أو ما يرتبط بالنزول من ملابسات أو أهداف أو مواقف الخ. كل ذلك يشكل أهمية كبيرة بالنسبة لمن يحاول أن يفسر القرآن الكريم أو أن يتناول جانباً فنياً من جوانبه أو يتناول جانباً علمياً من جوانبه أيضاً.
على أية حال نكتفي الآن بهذا المقدار من الحديث عن أسباب النزول أو ما أسميناه بفضاء النص تاركين للباحث أو المعني بالشان القرآني الكريم أن يتوفر على تفصيلات هذا الجانب وذلك من خلال الوقوف على المصادر الصحيحة التي تشير إلى التنزيل وما واكبه من الأحداث ومن المواقف ونحذر الباحث من الوقوع في شرك هؤلاء المنحرفين عن الخط الإسلامي الأصيل حيث نجد كما أشرنا في كتب المعاصرين والقدماء انحرافات متنوعة بالنسبة إلى محاولة تفسيرهم لأسباب النزول حيث يصبون حقدهم على هذا الجانب من خلال اختلاف روايات مزعومة تحاول تشويه سمعة أهل البيت (عليه السلام).
لذلك ينبغي على الباحث الحذر كل الحذر من الانصياع في قراءة هذه المصادر المنحرفة بل عليه أن يعود إلى مصادر أهل البيت (عليه السلام) حيث يكون يوضحون كل جانب من الجوانب المتصلبة بالنص القرآني الكرم وفضاءاته المختلفة بالشكل الذي أشار الإمام علي (عليه السلام) عليه حيث أومأ إلى أنه (عليه السلام) ملم كل الإلمام بكل ملابسات النزول وأن الأخذ منه (عليه السلام) بما يتناسب مع الموقف الذي يتبناه الباحث يفرض ضرورته في هذا الميدان.
المهم قبل أن نغادر هذه المحاضرة نود أيضاً أن نكرر الإشارة إلى أن الحديث عن أسباب النزول أو ما أسميناه بفضاء النص ينبغي أن يتم بالشكل الذي أوضحناه ومن ثم نود أن نلفت نظركم إلى أننا سوف نتحدث عن هذه الجوانب أيضاً عندما نصل إلى الحديث عن المفسرين وعن التعامل العلمي والفني مع القرآن الكريم والى ذلك الحين نستودعكم الله ونسأله تعالى أن يوفقنا لخدمة القرآن العظيم.
وبهذا ينتهي حديثنا عن أسباب النزول لنتحدث في المحاضرة اللاحقة عن موضوع جديد والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.