محاضرات علوم القرآن - المحاضرة 42
نواصل حديثنا عن المادة المعرفية المرتبطة بالبعد الأخلاقي للقرآن الكريم حيث قلنا في المحاضرة السابقة أن المحور الأخلاقي الذي يطرحه القرآن الكريم أو بإمكاننا أن نتمثله في نمطين أحد هذين النمطين هو البعد الأخلاقي الخاص، والبعد الأخلاقي العام اما البعد الأخلاقي الخاص، فنعنى به من زاوية السمات التي يتسم بها هذا الشخص أو ذاك وهي سمات تعرف من خلال التعامل مع الذات والتعامل مع الآخرين والتعامل مع الله سبحانه وتعالى والتعامل مع سائر الظواهر التي يواجهها الإنسان، وهذا التعامل هو في الواقع يجسد نمطا من التداخل الذاتي للشخصية ويجسد تقبلا أو مقبولية من الأطراف الأخرى وهذا على سبيل المثال كحسن التعامل مع الآخرين من خلال مبادرة إلى السلام عليهم ومن خلال رد السلام عليهم، ومن خلال الكلمة المادحة أو التي تثني على الآخرين ومن خلال عشرات الظواهر الأخرى سواء أكانت لفظية كالأمثلة المتقدمة أو كانت حركية أو عملية كالتواضع مثلا وقضاء حوائج الآخرين وما إلى ذلك من عشرات أو مئات من المفردات السلوكية التي تتصل بحسن الأخلاق.
وقد استشهدنا بجملة نماذج قرآنية كريمة كالإشارة القرآنية الكريمة إلى النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من انه يتميز بخلق عظيم، وكالإشارة إلى التعبيرات اللفظية التي رآها القرآن الكريم في ممارستها كما اشرنا قبل قليل بالإشارة إلى السلام والرد على السلام والكلمة المادحة وما إلى ذلك، وبالمقابل استشهدنا في المحاضرة السابقة أيضاً بما يضاد هذا النمط من التعبير اللفظي الأخلاقي واستشهدنا من خلال ذلك بالنصوص المشيرة إلى الغيبة على سبيل المثال باعتبارها واحدة من أشكال التعامل اللفظي المجرح للآخرين حيث يتنافى تماما مع ما تهدف إليه الموعظة القرآنية الكريمة بالكلمة المادحة حيال الآخرين وليس الكلمة الجارحة متمثلة في أشكال متنوعة ولكن الغيبة تجيء في مقدمتها بصفة أنها تجريح للآخر من خلال غيابه، ولا نريد الآن أن نطيل ما تحدثنا عنه سابقا بقدر ما استهدفنا الإشارة إلى أن القرآن الكريم يطرح مفردات معينة في سياق النص القرآني ويفرض عشرات ومئات السمات الأخلاقية الأخرى يفرضها جميعا للسنة الشريفة ولعل الطالب أتيح له أن يقف على عشرت بل أحيانا مئات المفردات التي حدثناه عنها عندما تناولنا مادة التربية الإسلامية أو علم النفس الإسلامي وتعرضنا خلال ذلك إلى ممارسة المشرع الإسلامي من الظواهر المتنوعة المتصلة بسمات الشخصية بالنحو الذي يستطيع الطالب أن يراجع تلكم المادة في الوقت المناسب، المهم لا نريد الآن أن نطيل الحديث عن هذا الجانب بل نود أن نلفت النظر إلى أن الجانب الأخلاق المتمثل بسمات الشخصية سواء أكانت هذه السمات تتصل في نطاق ما هو تعبيري للأمثلة المتقدمة أو في نطاق ما هو حركي كعشرات الممارسات التي يطالبنا الإسلام بها في العفو والصفح والتسامح والمحبة والشفقة والحنان والرفق وقضاء حوائج الآخرين و...و.. الخ.
كل ذلك يستطيع الطالب أن يقف عليه في مضانه الخاصة، ولكن بالنسبة إلى القرآن الكريم فإن القرآن الكريم كما قلنا يطرح جملة من هذه الموضوعات ترد في سياق خاص للأمثلة التي قدمناها وهناك أمثلة كثيرة لا نريد أن نتحدث عنها لأنها سوف تأخذ مجالا من المحاضرات التي لا يسمح الوقت أو لا تسمح طبيعة المحاضرة بتفصيل الكلام عن ذلك فالكلام كما قلنا عن مسائل علم النفس وما إلى ذلك.
والآن إذا تركنا هذا الجانب الأخلاقي الخاص من حيث كونه يمثل مادة معرفية للقرآن الكريم واتجهنا إلى الجانب الأخلاقي العام أو الشطر الثاني من العنصر الأخلاقي حيث قلنا قبل قليل أن العنصر الأخلاقي للقرآن الكريم من الممكن أن تنشطر إلى نمطين نمط خاص بالسمات الأخلاقية الفردية التي تحدثنا عنها، وأما النمط الآخر فأسميناه بالسمة الأخلاقية العامة التي تتمثل في نمط التعامل الذي نمارسه أفرادا أو مجتمعات أو جماعة أو.. الخ.
ونمارسه في مختلف ميادين الحياة المتصلة بميدان السياسة والاقتصاد والاجتماع ونحو ذلك، أي أن لكل محور من هذه المحاور الموضوعية أو الفكرية، أو لكل محور من هذه المحاور المتصلة بضرورة المعرفة الإنسانية كعلم التاريخ وعلم النفس وعلم الاقتصاد وعلم السياسي.. الخ.
هذه العلوم الإنسانية نقول أن المادة المعرفية التي تنتسب إلى هذه الضروب من المعرفة يمكننا أيضاً أن تناولها من خلال البعد الأخلاقي لها لأن الإسلام أساسا أو لأن التعليمات القرآنية هي في الواقع مؤشر إلى دال أخلاقية واضحة بالتعامل مع مطلق ما نواجه من منبهات الحياة التي نحياها ولعل أهم ما ينبغي لفت الانتباه عليه الآن هو أن نبدأ نشير إشارة عابرة أيضاً إلى هذا الجانب المتصل بالأخلاق العامة، ونستهل ذلك بالحديث عن المادة النفسية أو التربوية في القرآن الكريم، حيث تمثل هذه المادة من جانب أهم المواد المعرفية، ومن جانب ثان تمثل المادة الأكثر مساحة بالنسبة إلى سواها من المواد الأخرى، وسر ذلك كما نعرف هذا جميعا هو أن المسألة التربوية والمسألة النفسية تظل في الواقع هي المحور أو المادة التي نعنى بها ونتحرك من خلالها ونفسر من خلالها نمط سلوكنا ونعني به ظاهرة النفس وكيفية صدورنا عن هذه النفس من حيث السلوك الذي نمارسه، ولذلك سوف نبدأ حديثنا عن هذا الجانب وندرج هذا ضمن عنوانا جديدا هو القرآن والمادة النفسية والتربوية.
ضمن هذا العنوان يمكنكم أن تلاحظوا لا أقل في عصرنا الحديث أو في حياتنا المعاصرة وجود المؤلفات التي تتحدث عن هذا الجانب كالكتب الذي يحمل على سبيل المثال عنوان القرآن وعلم النفس وما إلى ذلك من عشرات العناوين التي ظهرت خلال الخمسين عاما الأخيرة، حيث استثمر الكتاب الإسلاميون هذا الجانب وذلك من خلال توفرهم على دراسة ظاهرة نفسسية للقرآن الكريم بعد أن توقفوا على المادة النفسية التي تلقفوها من الخارج، واخذوا يعنون بدراسة القرآن الكريم من حيث تناوله للمادة النفسية ومن حيث قيامه بالمقارنة بين تلك المواد التي اطلعوا عليها، وبين المادة القرآنية الكريمة وطرح القرآن الكريم حيث أن المادة القرآنية الكريمة تظل كما هو واضح أي المادة التي تحسن كل شيء بالنسبة إلى ما يمكن ملاحظته من الاتجاهات المتنوعة التي تطبع علماء النفس والتربية الأرضيين.
على أية حال إن وجود عشرات الكتب التي تتحدث عن المادة النفسية في القرآن الكريم تدلنا بوضوح على أن القرآن الكريم قد عني بهذا الجانب عناية كبيرة ولكن مع ذلك ينبغي لفت الانتباه إلى نقطة مهمة جدا، وهي نقطة كررناها ونكررها فنقول إن الطرح القرآني الكريم حتى لهذه المادة المهمة والمتشعبة والمتنوعة حتى في طرحه لهذه المادة يظل في الواقع كما كررنا يظل متناولاً لما هو مجمل من جانب ولما هو مهم من جانب ثان، ولما هو وارد في سياقات خاصة تتناول مختلف جوانب المعرفة وفي ضمنها هذا الجانب الذي يرجو في هذا السياق أو ذاك من ثم فإن الأمر يظل متروكاً في الحالات جميعاً إلى السنة الشريفة التي تضطلع بتوضيح هذه الجوانب، وكما أوردنا لكم الأمثلة بالنسبة للبعد المعرفي الفقهي والبعد المعرفي العقائدي نضرب لكم مثالا اكثر حتى يتبين لكم كيفية الطرح القرآن الكريم للمادة النفسية، ومن ثم كيفية تركه للسنة الشريفة بان تضطلع بتبيين الجوانب الشمولية التي تتناول هذه الظاهرة النفسية أو تلك، على سبيل المثال التركيبة البشرية إن التركيبة البشرية تظل من الموضوعات المتسمة بأهمية كبيرة دون أدنى شك لأن سلوكنا الذي نصدر عنه في الواقع يرتبط بنمط معرفتنا لهذه التركيبة البشرية التي أودعها الله سبحانه وتعالى فينا، إن هذه الطبيعة التي أودعها الله سبحانه وتعالى فينا وركبها بهذا النحو الخاص يتناولها المشرع الإسلامي متمثلا في السنة الشريفة وهذا من نحو ما ورد عن الإمام علي (عليه السلام) وهو أمر حدثناكم عنه في المحاضرات السابقة عن التربية وعلم النفس، يقول الإمام علي (عليه السلام): (أن الله سبحانه وتعالى ركب في الملائكة عقلا بلا شهوة وركب في البهائم شهوة بلا عقل وركب في بني آدم كلتيهما فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فهو شر من البهائم) إن هذا النص يوضح بجلاء تام طبيعة التركيبة البشرية القائمة على التجاذب بين نمطين هما النمط الشهواني والنمط العقلي حيث صور الإمام علي (عليه السلام) هذا التجاذب عبر نصوص أخرى فيقول مثلا بما مؤداه فنقول الجانب العقلي يقول التقوى مطايا ذلل حمل عليها أهلها وأعطوا أزمته.
ويقول عن الجانب الآخر أي الجانب التجاذبي الآخر ويصطلح عليه بمصطلح الخطايا أي الشهوة يقول (الخطايا هي خيل شمس حمل عليها أهلها وخلعت لجمها) لاحظوا كيف يصور الإمام علي (عليه السلام) طبيعة التجاذب البشري بين قوتي الخير والشر فيمثل قوة الخير بالمطايا الذلل، أي الدواب الذليلة في السير بحيث يستطيع الراكب عليها أن يوجه هذه المطايا حيث يشاء من خلال عقله، وأما الجانب التجاذبي الآخر وهو الشهوة، ويقدم له كشفيا آخر يقول كما سبقنا الآن أنها أي الخطايا والشهوة خيل شمس حمل عليها أهلها وخلعت لجمها أي أن الشهوة هي تماثل الدواب أو الخيول الجامحة التي لا يستطيع الراكب عليها أن يسيطر عليها بل هو يركبها إلا أن اللجام ليس بيده لا يستطيع أن يتحكم في سيرها بل هي التي تسيره إلى ما تشاء لأنها تمثل الجموح بعدم الانقياد إلى الراكب، بل تجنح إلى ذاتها هي وحينئذ لا يستطيع الراكب أن يسيطر عليها.
وهذا من الوضوح بمكان كبير من حيث كونه يجسد الصراع البشري بين ما هو خير وبين ما هو شر، فالشخصية التي تمتلك يقينا معرفيا تستطيع من خلال هذا اليقين أن تسيطر على شهواتها وبالعكس مقابل ذلك نجد الشخصية الشريرة التي تنصاع إلى شهواتها نجدها من خلال المثال المتقدم لا تحكم عقلها ولا تستطيع أن تسيطر على نفسها بل تترك لشهواتها في مختلف الميادين تترك لشهواتها التحرك وتنصاع إلى ذاك، المهم إن هذا التفصيل بطبيعة التجاذب البشري الذي لاحظناه من خلال سلوك ثلاثة نصوص ورادة عن الإمام علي (عليه السلام) ونستطيع أن نضيف إليها نصا رابعا ورادا عن النبي (صلى الله عليه وآله) حيث يقول بان تدريب النفس الإنسانية على الطاعة يستتبع في نهاية المطاف النفور من المعصية هذا الكلام الذي نقلنا مؤداه ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله) في نص حديثي مطول قسم فيه السلوك إلى عشرة مظاهر، وقسم كل ظاهرة إلى عشرة مفردات متفرعة منها، ومن ذلك ما قلناه الآن وهو الإشارة إلى النبي (صلى الله عليه وآله) إلى انه تتشعب من المداومة على عمل الخير كراهية الشر، أي أن الشخصية إذا دربت على ممارسة ما هو خير من الأعمال حينئذ فإن هذه الممارسة سوف تجعلها بالضرورة كارهة لما هو شر من الأعمال، فمثلا إذا دربت الشخصية على سبيل المثال على أن لا تمارس اغتياب الآخرين، حينئذ فمن خلال هذا التدريب خلال مدة نجد أن هذه الشخصية تنفر وتكره أي ممارسة للغيبة وهذا على العكس مما لو سمح للشخصية بأن تمارس شهوتها دون أن تدرب على مقاومتها، والمهم أن هذه التفصيلات التي ذكرناها الآن لم تطرح في القرآن الكريم ولكنها طرحت بنحو إجمالي على نحو ما سنحدثكم عنه الآن فنقول:
لقد وردت اكثر من آية قرآنية كريمة تشير إلى التركيبة البشرية بنحو عام فمثلا تطالعون الآيات القرآنية الكريمة الواردة في سورة الحجرات فتقول (ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان) لاحظوا هذا النص القرآني الكريم وهو يمثل أصلا عاما بالتركيبة البشرية وتستطيع السنة الشريفة أن تلقي إنارات المتنوعة على هذا الجانب بالشكل الذي حدثناكم عنه قبل قليل، طبيعيا أن التركيبة البشرية القائمة على التجاذب كما لاحظتم من خلال إشارة النبي (صلى الله عليه وآله) من خلال أن الشخصية إذا دربت ذاتها على الطاعة حينئذ فسوف تكره الشر، إلا أن هذا الجانب يمثل الجانب المتجاذب بين نمطين من السلوك الذي يجسد السرعة، لكن هذه الآية القرآنية الكريمة توضح لنا منحى آخر من التركيبة البشرية وهو منحى توفر عليه علماء نفس التربية والاجتماع حاولوا من خلال ذلك أن يتوفروا على دراسة طبيعة التركيبة البشرية من حيث كل التركيبة المحايدة بالأصل أم تركيبة شريرة، أم تركيبة خيرة، فهناك من يذهب من علماء النفس إلى أن التركيبة البشرية أساساً قائمة على عنصر شرير، وهناك من يذهب إلى عكس ذلك هو أن التركيبة البشرية قائمة على عنصر خير، وهناك من يذهب إلى أن التركيبة البشرية محايدة وأن التركيبة هي التي تستطيع أن تزور الشخصية شريرة أو خيرة، من خلال التدرب البيئي المعروف هنا نجد أن القرآن الكريم يحسم هذا الموقف الذي وجدتم كيف أن هناك ثلاثة اتجاهات تتجاذب هذه النظرية، ولكن القرآن الكريم يحسم الموقف ليقول أن الله سبحانه وتعالى حبب الإيمان إلى النفس البشرية من جانب، وزينه بطبيعة الحال مقابل الكفر والفسوق والعصيان وهو الجانب الشرير من الشخصية، يقول النص انه سبحانه وتعالى كره النفس البشرية هذا النمط من السلوك، وإذا تركنا الآن هذه الآية القرآنية الكريمة إلى آتين قرآنيتين كريمتين سبق أن استشهدنا ونعني بهما الملاحظ للآية الكريمة بالنسبة للتركيبة البشرية، ولكن من خلال وعيها لمبادئ الخير والشر حيث كانت الآيتان القائلتان (ونفس وما سواها فألهما فجورا وتقواها) قد أشارت هاتان الآيتان إلى البعد المعرفي الفطري للشخصية البشرية والشخصية البشرية تستطيع من خلال فطرتها أن تدرك ما هو خير وما هو شر، ولعلكم تتذكرون في محاضرات سابقة حدثناكم عن الفكرة التوحيدية حيث أشارت الآية القرآنية الكريمة أيضاً إلى أن الله سبحانه وتعالى فطر عباده على التوحيد.
إذا من خلال الجمع بين هذين الموقعين الكريمين من مواقع القرآن الكريم يمكننا أن نقول بان الله سبحانه وتعالى رتب بالبشرية طبيعة تتمثل على النحو الآتي، من حيث الجانب الفكري العام فقد فطر الله سبحانه وتعالى البشرية على التوحيد أي على أن يدركوه دونما حاجة إلى أن يتعلموا ذلك يدركوا بان لهذا الكون مبدعا هو الله سبحانه وتعالى، هذا من حيث الزاوية الفكرية، ومن حيث الزاوية النفسية العامة وهي زاوية تتناول البعد الفكري والوجداني نجد أن الآية التي قرأناها عليكم في سورة الحجرات وهي الآية المشيرة إلى أن الله حبب إلينا الإيمان وكره الفسوق والعصيان، هذه الآية تجسد الجانب الفكري النفسي في آن واحد بصفة أن الفسوق والعصيات تمثل سلوكا ملتويا دون أدنى شك، وهو سلوك نفسي كما حدثناكم عن هذا الجانب في محاضرات التربية وعلم النفس وكما حدثناكم عنه عابرا أيضاً في محاضرة سابقة حين قلنا أن الإسلام لا يفصل ين ما هو نفسي وبين ما هو فكري، أي لا يفصل بين ما هو سلوك إسلامي وبين ما هو سلوك نفسي صرف فالسلوك الإسلامي المتمثل في الإيمان بالله سبحانه وتعالى مثلا لا ينفصل عن السلوك النفسي الصرف المتمثل في أن الشخصية المستوية لا التواء فيها أي لا تعاني عصاباً أو أمراض نفسية، إذا عندما يكون النص القرآني الكريم بأن الله سبحانه وتعالى كره الفسوق والعصيان والكفر إنما جمع بين ما هو نفسي وبين ما هو فكري وأيديولوجي وجعلهما بمثابة مؤشر واحد إلى سمة إيجابية أو السلبية في تركيبة الشخصية إذا من حيث البعد الفكري والبعد النفسي لاحظنا كيف أن الآيات المتقدمة تحدثت عن الطبيعة البشرية من خلال الذهاب إلى أن الله سبحانه وتعالى جعل التركيبة البشرية خيرة فطريا وبهذا حسم الموقف من الاتجاهات المرددة هل الإنسان تركيبة خيرة وشريرة أو محايدة، ومن الجانب الآخر أي الجانب المعرفي الصرف أيضاً ركب الله الطبيعة البشرية تلكم التركيبة التي تميز بما هو خير وبينما هو شر، إلى هنا نعرف أن مسألة الفطرة هي المحور الذي أكد القرآن الكريم عليه ورسمه لنا حتى نركز في أذهاننا بان المسألة الإيمانية هي مسألة فطرية أي بمعنى أن الله سبحانه وتعالى فطرنا على أن نؤمن به وعلى أن نسلك السلوك الإيجابي من خلال الإشارة إلى أننا ألهمنا الفجور والتقوى، وأننا نستطيع أن نميز بينهما حتى لو لم نخضع إلى تربية خاصة، بمعنى أن الإنسان حتى لو كان متوحشا حتى لو كان بمعزل عن أية بيئة يدرك بفطرته أن العمل خير أن العمل الآخر سوي يدرك أن العدوان على الآخرين مثلا سرقة أموالهم هو عمل شرير سواء أكانت التربية التي تعرض لها قد اتجهت إلى توضيح هذا الجانب، وكذلك بالمقابل يعرف أن عمل الخير كالعدالة مثلا أو كمساعدة الآخرين يدرك في فطرته أن مساعدة الآخر هو عمل إيجابي ويدرك بفطرته أن التساوي بين شخصين هو عمل إيجابي وهكذا إذا في هذا النطاق كلنا مفطورون على التوحيد من جانب، وعلى معرفة الخير والشر من جانب آخر، وهذا النمط من الطرح القرآني الكريم له أهمية كبيرة جدا بحيث يشكل حجة على البشرية جميعا أي لا يستطيع أي واحد من البشر جميعاً أن يحتج قائلا بأنه عمل هذا العمل جهلا ما دام الله سبحانه وتعالى قد الفت نظره إلى معرفة هذا الجانب فطريا وليس بيئيا، نعم هناك نقطة مهمة جدا أيضاً وهي أن هناك وجود فوارق بين المعرفة البديهية الفطرية بنحو إجمالي كالأمثلة التي قدمناها وبين التفصيلات التي تفضي إلى مئات من المفردات السلوكية التي نحياها يوميا، هذه المفردات في الواقع تحتاج إلى جنبة تفصيلية وهذا ما يطلع به الرسل والأنبياء كما حدثناكم عن ذلك في المحاضرات السابقة عبر حديثنا عن المحور العقائدي، حيث قلنا أن وظيفة الأنبياء تضطلع بتفصيل ما هو مركب بالطبيعة البشرية أي توضح منها المبادئ التي طلب من الله سبحانه وتعالى أن نمارسها في هذه الحياة التي خلقنا من أجل ممارسة الخلافة أو العبادة فيها.
إذا الطرح القرآني الكريم لهذا الجانب دون الدخول إلى تفصيلات لاحظناها عند مقولات النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام علي (عليه السلام)، نقول أن هذا الطرح من جانب والتفصيل الذي قدمه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام (عليه السلام) يفرز لنا ما سبق أن كررناه من أن النص القرآني الكريم يطرح ما هو مجمل ويدع للسنة الشريفة أن تضطلع بتفصيل ذلك، ولكن من زاوية أخرى نود أن نؤكد وهذا ما نقره هو أن ما يطرحه القرآن الكريم من قضايا مجملة أو ما ينتخبه من طرح مفردات معينة دون سواها معنى ذلك أن طرح هذه الظاهرة المعينة تحمل خطورتها دون أدنى شك وهذا ما لاحظناه الآن بالنسبة إلى تركيبة الطبيعة البشرية وجدانياً، حيث عرفنا كيف أن البشر فطريا من الزاوية الوجداني ألهمهم الله خصلة التوحيد والإيمان ومن الناحية الفكرية معرفة ما هو خير وما هو شر، حتى يترتب على سلوكه أو بالأحرى حتى لا يحتج الإنسان ذات يوم على انه لم تصل إليه المعرفة التي تحسم له الموقف في الحياة.
والآن إذا تركنا هذا الجانب المتصل بطبيعة التركيبة البشرية بصفته يمثل مادة من المواد المعرفية للقرآن الكريم حيث تتناولها مادة علم النفس والتربية في هذا الميدان، ويتناولها القرآن الكريم بهذا النحو الذي قلناه الآن من جانب آخر، من هنا إذا أردنا الآن أن نتابع رصد المادة المعرفية القرآنية التي تتحدث عن الظاهرة النفسية سواء أكانت هذه الظاهرة تتحدث عن طبيعية التركيبة البشرية أو الدوافع وهو أحد محاور مادة علم النفس، أو تتحدث عن الشخصية وهو المحورالثاني لمادة علم النفس، أو تتعلم عن المادة الثالثة وهو المادة الثالث من ميادين علم النفس، أو تتحدث عن عملية الإدراك وهو المحور أو المادة الرابعة من مواد علم النفس التي تتناول من خلال المعرفة المشار إليها، نقول أن القرآن الكريم يطرح جانب من هذه المواد ولكنه بالنحو الذي لاحظتموه الآن يطرح ما هو مجمل ويترك التفصيلات للسنة الشريفة بما أننا تحدثنا عن هذا الجانب في مادة علم النفس والتربية الإسلامية حينئذ لا نتعرض إلى هذا الجانب وندع الطالب وهو يتناول هذه المادة وهي مادة علم النفس والتربية يستطيع أن يواجه هذه المادة في مضانها التي تحدثنا عنها.
المهم لو تابعنا الآن سائر الموارد أو سائر المواد المعرفية التي طرحها القرآن الكريم نقول لا نجد ضرورة لتناول هذه المادة بقدر ما نحد ضرورة تشير إلى أن المعنيين بشؤون الظاهرة النفسية وهم قد طرحوا عشرات الكتب التي تتحدث عن مادة علم النفس نقول في الواقع أن كثيرا من هذه الدراسات تظل مشيرة في الواقع إلى مجرد الإيماءات الواردة في القرآن الكريم ومن ثم فإنها معكم لا تحمل عنوان القرآن والمادة النفسية وتظل متكئة كما قلنا على السنة الشريفة في توضيح كثير من المفردات، ولكننا الآن نكتف أن نورد مثال واحد طرحه علماء النفس في دراساتهم حول المادة القرآن الكريم أي المادة النفسية نطرح مثالا واحدا لندل من خلاله على أن القرآن الكريم ينبغي أن نستوحي منه مادته الإجمالية من جانب وتركيزه على هذه المادة وتلك من جانب ثان وان نتوكأ على السنة الشريفة بتجلية هذين الجانبين بوضوح والمفروض على السنة الشريفة وهذا ما نود أن نؤكده، ينبغي أن يتم من خلال الوقوف على المصادر التي أمرنا الله سبحانه وتعالى بالرجوع إليها، إن الله أمرنا بالرجوع إلى الكتاب والى السنة حيث عنى إلى أن نتمسك بهما أي الكتاب والعترة وما يبدو فهما لذلك إن غالبية الدراسات التي تناولت هذه المادة وغيرها أيضاً تظل في الواقع متسمة بنقص كبير هي أنها تجيء إلى النص القرآني الكريم ولما لم تجد تفصيلات ما يطرحه إجمالا لا تجد في مصادرها المحدودة جدا أي المصادر التي لا تتجه إلى الطائرة نجد أنها تظل متسمة بالشحوب بحيث لا يستطيع الدارس أن يمتلك مادة معرفية يسلط عليها إنارة شرعية كاملة بقدر ما يحاول أن يتشبث بهذه الظاهرة أو تلك أو بمبادئ أرضية يتشبث بها حتى يستطيع أن يؤلف مادة قرآنية كريمة في هذا المجال بينما نجد أن الرجوع إلى أهل البيت (عليهم السلام) سوف يحل هذه المشكلة حيث سيعثر على عشرات النصوص التي تتحدث عن التركيبة البشرية بالشكل الذي لاحظتموه، وعشرات النصوص التي تتحدث عن سمات الشخصية وعن سائر المواد التي عرضنا لها الآن، هذا من جانب، ومن جانب آخر نجد أن الدراسات القرآنية تتعسف في الواقع في استخلاصها لهذه الظاهرة النفسية من القرآن الكريم حتى أنها لتحمل القرآن الكريم حتى أنه لا يمكن أن يتحمله في هذا الميدان نسوق لكم مثالا واضحا بسيطا، هو هؤلاء الكتاب يتناولون مثلا ثلاثة مصطلحات وردت في القرآن الكريم بالنسبة إلى التركيبة البشرية وهي المواد القائلة بالنفس اللوامة و النفس الأمارة و النفس المطمئنة، فالمعروف أن النفس المطمئنة يقصد بها أن النص التي مارست عمله العبادي بالنحو المطلوب فدخلت إلى الجنة وهي مطمئنة إلى سلوكها الصريح المشار إليها والمعروف أن علم النفس الأمارة بالسوء أيضاً السمة الواضحة من أن الإنسان ينصاع لشهواته فيأمر بالسوء وفقا للمثال الذي قدمناه لكم قبل لحظات، وأما النفس اللوامة فتعني أن النفس تلوم ذاتها حينما تمارس عملاً خاطئا فما دامت هي أساسا مفطورة على عمل الخير حينئذ لابد أن تلوم ذاتها، نجد أن هؤلاء الباحثين في الواقع حاولوا أن يطلقوا هذه الأنماط الثلاثة من النفس على نظرية في علم النفس التحليلي يقول صاحبها أن النفس تتركب من ثلاث قوى هي الأنا والأنا الأعلى والهو، الهو يقصد به مطلق الشهوات التي تركب في الإنسان، والانا يقصد به الجانب العقلي الذي يحاول أن يكبح غرائز الهو، وأما الأنا الأعلى فهو يحاول بدوره أيضاً أن يوفق بين مطالب الهو ومطالب الواقع لأنه يمثل جهازا خاصا يمكن تسميته بالضمير الذي نشأت الشخصية عليه من خلال ميراث فطري أسطوري يشير إليه الباحث، أو من خلال نمط التربية اللاشعوروية التي تعرض لها خلال حياته.
المهم يحاول هؤلاء الباحثون أن يربطوا بين هذه الأنماط الثلاثة من القوى التي أشار إليها الباحث المشار إليه وبين الأنماط الثلاثة أي النفس الأمارة اللوامة والأمارة بالسوء حالوا أن يماثلوا بينها وبين هذا التقسيم الذي لاحظتموه وهو خطأ محض دون أدنى شك، والمجال في الواقع لا يتسع إلى مناقشته الآن ولكننا طرحنا ذلك مفصلا في كتابنا الإسلام وعلم النفس ويستطيع الطالب أن يعود إليه لمعرفة هذه الجوانب جميعا، نكتفي الآن بهذا المقدار من الحديث عن المادة النفسية للقرآن الكريم وسنحاول في المحاضرة الأخيرة إن شاء الله أن نبين الصلة القرآنية الكريمة أو المادة القرآنية الكريمة بالظاهرة الاقتصادية وحولهما وذلك عابرا نختم به محاضرتنا اللاحقة إن شاء الله ونتمنى لكم مزيدا من التوفيق والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.