محاضرات علوم القرآن - المحاضرة 38 - علوم القرآن
علوم القرآن
انتهينا في المحاضر السابقة من الموضوع الثاني من الموضوعات القرآن الكريم، ونعني به موضوع الإعجاز في القرآن الكريم، وكان الموضوع الأول الذي تحدثنا عنه هو الموضوع المرتبط بنزول القرآن الكريم وكيفية ترتيبه وجمعه ما إلى ذلك من قراءات ونحوها، وبهذا نكون قد تحدثنا عن قسمين من أقسام الموضوعات المرتبطة بالقرآن الكريم، ويبقى القسم الثالث وهو القسم الخاص بالمعرفة القرآنية، أو بالعلوم القرآنية، أو بالمادة القرآنية الكريمة.
وهذا الموضوع أي موضوع مادة القرآن، أو معرفة القرآن أو علوم القرآن يظل في الواقع من الاتساع بمكان كبير، ولكن في الآن ذاته يتعين علينا أن نتحدث باختصار عن هذا الجانب، وذلك لجملة أسباب منها أن القرآن الكريم في الواقع يظل كتابا إرشادياً يتضمن مجموعة من المبادئ وهذه المبادئ في الواقع رسمها القرآن الكريم من جانب، وطلع الحديث أو السنة الكريمة بتجليتها وتوضيحها من جانب آخر، وبكلمة أكثر وضوح، إن المبادئ التي رسمها الله سبحانه وتعالى، وطلب منا أن نلتزم بها هذه المبادئ هي في الواقع مبادئ مرسومة إما من خلال القرآن الكريم، وإما من خلال السنة الشريفة متمثلة كالسنة الواردة عن الأربعة عشر معصوما (عليهم السلام) وبما أن كلا من هذين المصدرين المشكلين لمعرفة مبادئ الله سبحانه وتعالى، يتآزران بنحو لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر مستقلاً حينئذ فإن الحديث عن أحدهما وهو القرآن الكريم ينبغي أن لا ينفصل إذا عن الحديث عن السنة الشريفة.
ولكن بما أن للسنة الشريفة ميادينها المعرفية الواسعة حينئذ فإن الحديث عن هذا الجانب يظل متنافيا أو منافي مع ما نستهدفه من الحديث عن القرآن الكريم من حيث معرفته ومن حيث تاريخه، لذلك سوف نمر بنحو عابر وسريع جدا في الحديث عن هذا الجانب لأن الموضوع هذا ينبغي أن يترك لمختلف أنماط المعرفة التي اطلع بها المعنيون بالشأن الإسلامي، حيث أن كلا من المبادئ المتصلة بالأحكام الشرعية، والمبادئ المتصلة بالأحكام العقائدية، والأحكام المتصلة بالأحكام الأخلاقية، يتطلع كل ضرب من المعرفة أو يتناول في الواقع المعنيون بشؤون هذه المعرفة أو تلك، يتناولون هذه الجوانب كلا بحسب اختصاصه عبر الحقول المتنوعة.
من هنا نكرر ثانية بأننا عندما نتحدث عن المادة القرآنية الكريمة سوف لن نتحدث عنها كمادة ينبغي التحدث عنها تفصيلاً بقدر ما هي التحدث عنها عبر الإشارات السريعة كما قلنا، وهنا لابد أن نكون ملمين بشيء عن الجانب المعرفي في القرآن الكريم من حيث مادته ومنهجه ولغته، ومما لا شك فيه أن القرآن الكريم بصفته ظاهرة إعجازية لها تميزها واستقلاليتها، كذلك فإن هذا التميز أو هذا الاستقلال وهذه اللغة تظل بدورها منفرزة تماما عما نألفه نحن البشر من لغات و مناهج ومادة معرفية، فبالنسبة إلى اللغة سبق أن لاحظتم كيف أن القرآن الكريم يتميز لغويا بجملة سمات.
السمة الأولى منها هي أن اللغة التي يتوكأ عليها ليست هي لغة علمية صرفة، ولا لغة فنية صرفة بقدر ما هي لغة تجمع بين اللغة العلمية بحسب مصطلحاتنا وبين اللغة الفنية، ولكن حتى هذا النمط من الجمع له استقلاليته، وله تميزه وتفرده بحيث أوضحنا في حينه ولا حاجة إلى الإعادة بقدر ما ينبغي علينا الإشارة العابرة والسريعة جدا، نقول أن اللغة القرآنية الكريمة كما لاحظتم تجسد نمطا لغويا لا يتوكأ على العلم فحسب، ولا على اللغة الأدبية فحسب، بل يتوكأ على كليهما ولكن وفق تميز وتفرد لا ينسحب على أي نمط من أنماط التعبير اللغوي الذي يألفه البشر، فهو من جانب ليس علما ولا فنا، ومن جانب آخر ليس نمطاً شكليا كالمسرحية أو القصة أو الخاطرة أو المقالة أو الخطبة، ومن جانب ثالث ليس الشكل المزيج من هذه الأشكال جميعا، وفق لغة خاصة تجمع بين العلم والأدب أو بين كل من الأدب والعلم، بقدر ما هو كما لنا لغة خاصة لا يمكن أن يناسبها إلى أي من الأشكال المألوفة البشرية.
إنما نستهدف الآن من ذلك كله أنا بما نشير أن هذه اللغة تتميز بكونها لغة إعجازية متفردة متميزة ومستقلة كذلك فإن كلا من المنهج القرآني الكريم، والمادة القرآنية الكريمة أيضاً يظل كل واحدة منهما متميزة متفردة وتحمل السمة الإعجازية، وإذا أرنا أن نستشهد بالأمثل ما علينا إلا أن نذكركم بالضرب المعرفي الموجود أو المألوف بشريا، حتى نستطيع من خلال المقارنة أن نتبين ما هي المعرفة القرآنية الكريمة، وكيفية طرح هذه المعرفة، ومن ثم كيفية الإفادة منها.
كلنا يعلم أن المعرفة البشرية يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أنماط المعرفة البحتة كالرياضيات مثلاً، والمعرفة الطبيعية كالكيمياء والفيزياء، والمعرفة الإنسانية والتاريخ وعلم النفس وعلم الاجتماع والاقتصاد وما إلى ذلك، ويمكننا أن نضيف إلى ذلك نمطا رابعا هو المعرفة الفنية متمثلة في جملة أشكال، ومنها الفن الأدبي مثلاً، وهذا بدوره ينشطر إلى نمطين، الأدب الموضوعي الذي يتم إلحاقه أيضاً بالعلوم الإنسانية كنظرية الأدب والنقد الأدبي والبلاغة وما إلى ذلك، وأما الشطر الثاني فهو الفنون الذاتية متمثلة في الشعر وما إلى ذلك.
المهم في ضوء هذه التقسيمات للعلوم البشرية يمكننا أن نقارن الآن بينها وبين المادة المعرفية المطروحة للقرآن الكريم، إن المادة المعرفية في القرآن الكريم تماثل ما لاحظتموه بالنسبة إلى اللغة التي يتوفر القرآن الكريم عليها حيث قلنا انه حينا يتوكأ على اللغة العلمية، وحيناً على اللغة الفنية، وحينا ثالثا على المزيج بين اللغتين، الأمر نفسه هنا إن المادة المعرفة حينما يطرحها القرآن الكريم حينئذ لا يطرحها كما نألف ذلك نحن البشر من خلال اللغة الخاصة بقدر ما يطرحها وفق نمط له استقلاليته وتميزه وتفرده تماما كاللغة الإعجازية التي تحدثنا عنها بشكل مفصل، إن اللغة العلمية حسب المنهج البشري كما نعرف ذلك جميعا تبدأ وفق لغة منطقية كالحديث أولاً من خلال التعريف بالظاهرة، ومن خلال البحث عن جذورها وتطورها والمقارنة بينها وبين الظواهر المماثلة لها.. الخ.
ومن خلال ذلك يتسم البحث العلمي بتبويب خاص وبترتيب خاص من خلال الأبواب والفصول والملاحق وما إلى ذلك، كل ذلك نعرفه جميعا، ولكن هل أن القرآن الكريم عندما يطرح مادة معرفية سوف يطرحها وفق هذا المنهج، كلا بطبيعة الحال، إذا القرآن الكريم استقلاليته تفرده وتميزه، وهذا ما نود أن نؤكده أكثر من مرة لأسباب كثيرة ومنها ما نريد أن نطرحه الآن وهو أننا كبشر وظفنا الله سبحانه وتعالى لممارسة الخلافة في الأرض تبعا لقوله تعالى (ما خلقت الجن الإنس إلا ليعبدون)، حينئذ فإن الممارسة العبادية أو الخلافية تقترن دون أدنى شك بعملية اختبار واضحة كقوله تعالى الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم الإبتلاء والاختبار يظل هو الظاهرة التي تمرر التجربة البشرية من خلالها وأمر من الوحي بمكان، حينئذ فإن أحد موارد هذا لاختبار هو الاختبار العلمي أو الثقافي حيث أن الله سبحانه وتعالى كان بمقدوره مثلا أن يرسم لنا مبادئه التي يطالب بأن يلتزم بها، كان بمقدوره تعالى أن يرسمه لنا وفق بنود واضحة كل الوضوح لا يحتاج إلى التأليف العلمي والى أية جهود ثقافية.
لقد كان بمقدور القرآن الكريم مثلا أن يطرح في نطاق ما هو عقائدي المسائل التي تردم كل خلاف وهكذا بالنسبة إلى المسائل الفقهية، وهكذا بالنسبة إلى المسائل الأخلاقية إلا انه سلك طرائق متنوعة تركها لنا نحن المعنيين بالشأن الثقافي أن نتوفر على دراستها من حيث اللغة والمنهج والمادة وما إلى ذلك، على سبيل المثال إن كل واحد منا يعرف أن الأحكام الفقهية التي رتبت حاليا كالباب المتصل مثلاً بالطهارة والصلاة والصوم والحج والزكاة والخمس وما إلى ذلك، هذه الأبواب التي رتبها ومنهجوها دون أدنى شك، إنما تلقفوا مادتها الأصلية من الكتاب والسنة ثم اضطلعوا بصياغتها بهذا النحو العلمي الذي تعرفونه، كما قلنا كان بإمكان أن يتوفر القرآن الكريم أو الحديث الشريف على صياغة هذه المبادئ علمياً ولكنه تركها لنا نحن المعنيين بهذا الشأن ليشكل هذا النمط من التكليف واحداً من أشكال الاختبار الإلهي، هنا لا نجد معنا البتة عندما نتحدث عن المادة المعرفية في القرآن الكريم لا نجد معنى أن نتحدث عن العلم أو المنهج وما إلى ذلك، بقدر ما ينبغي أن نتحدث عن المبادئ فحسب، وكما قلنا أن المبادئ المعرفية في القرآن الكريم تصب في أنحاء مختلفة إلا أن هناك ثلاثة محاور هي المحور الفقهي، والمحور العقائدي، والمحور الأخلاقي، وهذه المحاور كما هو واضح تجسد في الواقع أسلوب تعاملنا مع الظواهر المشار إليها، أي المبادئ التي رسمها الله سبحانه وتعالى لنا حتى نلتزم بتنفيذها، ولكن مقابل هذه المحاور الثلاثة مادة معرفية لها حيادها بيد أن هذا الحياد العلمي ينبغي أيضاً أن يوظف عبادياً بالنحو الذي يوظف أيضاً المحور الأخلاق أو المحور الفقهي أو المحور العقائدي.
وهذه المادة العلمية المحايدة تتمثل كما أشرنا سابقا تتمثل في ضروب من المعرفة التي اعتاد البشر أن يقسمها إلى علوم بحتة وعلوم طبيعية، إذ أن هذه الأنماط من العلوم تحمل طابعا حياديا كعلم الفلك مثلا أو علم الطب وحينئذ فإن التعامل مع هذه المادة المعرفية يظل حاملا طابعه الحيادي بيد أن الوظيفة العبادية للشخصية الإسلامية ينبغي دون أدنى شك أن توظف حتى هذا المبدأ الحيادي، توظفه من أجل المبدأ الإسلامي، أي توظف المعرفة الفلكية أو الطبية توظفها من أجل تمرير الأهداف الإسلامية المتمثلة في تقديم الخدمة البشرية من خلال استثمار أو الإفادة من هذه العلوم.
على أية حال في هذا النطاق وهو النطاق العلمي الصرف نجد أن القرآن الكريم طرح ظواهر متنوعة تتصل بهذا الجانب، وقد توفر كثير من المعنيين أو المختصين بشؤون هذه المعرفة توفروا على دراستها من خلال القرآن الكريم، وأثبتوا بما لا يتطرق الشك الظاهرة الإعجازية، أي الظاهرة المتصلة بالإعجاز العلمي الصرف، وفي هذا النطاق يمكننا أن نقول بان المعنيين بالبحث القرآني الكريم عندما تناولوا علوم القرآن وتاريخه أيضاً طرحوا هذه المسألة وجعلوها جزءا من المسائل المتصلة بعلوم القرآن، بيد أن الملاحظ بان المعنيين بهذا الشأن قد انشطروا إلى نمطين أحد هذين النمطين يذهب إلى تخطئة هذا النحو من البحث العلمي والضرب الآخر يقف على ضده تماما، حيث يرى هذا الفريق الأخير أن الإعجاز العلمي من القرآن الكريم ينبغي أن نتوفر عليه حتى نثبت المشروعية التامة لرسالة الإسلام، وذلك من خلال الإشارات العلمية التي تضمنها القرآن في مختلف الميادين، وهذا ما يحقق تعميقاً لإيمان الشخصية بالإسلام ولكن مقابل هذا النفر من الباحثين وقف نمط آخر منهم يقرر بان العلم ما زال خاضعا للتطور وان إثبات حقيقة علمية من الحقائق إذا تمت من جيل ما فسيأتي جيل آخر وسيثبت العلم خطأ تلك النظرية، وحينئذ إذا قدر لنا ان نطبق المبادئ العلمية الموجودة كونيا نطبقها في ضوء ما ورد في القرآن الكريم حينئذ فإن العلم إذا خطأ هذه النظرية أو تلك، حينئذ فإن الطعنة تقع في القرآن دون أدنى شك، ويستشهدون على سبيل المثال بالظاهرة الفلكية التي كانت بالنسبة إلى علم الهيئة أو الفلك قديما تختلف تماما عما اكتشفه الفلك أو العلم الحديث، وهكذا بالنسبة إلى مسائل تبقية تحقق خطأها في الجيل المعاصر بالنسبة إلى الجيل الماضي وهكذا.
المهم أن هذين المحورين أو هذين النفرين من الباحثين اللذين يقف كل واحد منها ضد الآخر يجعلنا نتحفظ في الإشارة إلى هذه الجوانب، ولكن مع ذلك يكفي من حيث التوكأ على الظاهرة العلمية أن يعتمد مثلا على الظواهر التي تحققت علميا في الأجيال جميعا بالرغم من التطور العلمي، حيث أن التطور العلمي لا يعني أن كل ظاهرة هي خاضعة للتطور بالضرورة أن هناك ظواهر أخذت طابع الثبات وهناك ظواهر تأخذ طابع التغير، وفي ضوء هذا من الممكن أن يتوفر المختص بهذا الضرب من المعرفة على الإشارة فحسب على ما هو يمثل ثابت ما مقابل ما يمثل المتغير، وإذا تركنا هذا الجانب العلمي واتجهنا إلى الجوانب الأخرى نجد أن من بين الظواهر التي يتوفر الباحثون على دراستها هو الجانب الإنساني، أي العلوم الإنسانية المتمثلة في علم التاريخ والاجتماع والنفس والاقتصاد والسياسة والإدارة وما إلى ذلك.
ونحن نعتقد أن الحديث عن هذه الجوانب سوف يكتسب أهمية خاصة على عكس ما لاحظناه بالنسبة للجوانب العلمية البحتة وذلك بسبب ارتباط هذه العلوم ارتباطا وثيقا بما يطرحه الإسلام من مبادئ تتصل بالمحاور الثلاثة التي أشرنا إليها، بصفة أن كلا من علم النفس مثلا يتناول التركيبة البشرية وطريقة استجابتها للظواهر وأن علم الاجتماع يتناول المجتمع الإنساني، وهكذا بالنسبة إلى علم السياسة والإدارة وما إلى ذلك كل هذه الضروب من المعرفة تظل متصلة اتصالا وثيقا بالمحاور الثلاثة التي وظفنا بالالتزام لها من هنا يكتسب هذا الحديث طابعا له أهميته، لذلك نجد أن المعنيين بهذا الشأن قد توفروا بدورهم على دراسة القرآن الكريم من خلال هذه الضروب من المعرفة الإنسانية، من هنا إذا أتيح لنا أن نتحدث عن المعرفة القرآنية الكريمة، أو المادة المعرفية في القرآن الكريم يحسن بنا أن نتناولها من خلال هذه المحاور الثلاثة أي المحور الفقهي والعقائدي والأخلاقي على أن نصل بينها وبين ضروب المعرفة الإنسانية، التي أشرنا إليها متمثلة في علوم النفس والاجتماع والتاريخ و..الخ، حيث أن الباحثين الذين تناولوا موضوعات القرآن الكريم إنما تناولوها من خلال هذه المحاور، أو ما أن يتم التباشر مباشرة من خلال المختص بالفقه أو العقائد أو الأخلاق أو يتناولها المعنيون بالمعرفة الإنسانية في العلوم المشار إليها بحيث يتعرضون للنصوص القرآنية الكريمة، التي تتناول جانب النفس أو الاجتماع أو السياسة أو الاقتصاد وما إلى ذلك، من هنا سوف نمر عابرا أيضاً ولا نفصل الحديث عن هذه الجوانب لأن الحديث عن كل جانب من هذه الضروب من المعرفة من الممكن أن يتناول من خلال عشرات المؤلفات كما هو واضح، على سبيل المثال في ميدان علم النفس، إن علم النفس عندما يتناوله باحث في القرآن الكريم يمكنه أن يتناول الخطوط العامة التي تعرض لها النص القرآني الكريم في التركيبة البشرية، ولكن الباحث في هذا المجال لا يكتفي بالإشارة العابرة التي ورد القرآن الكريم عبرها بقدر ما ينبغي عليه أن يفصل كل ما يرتبط بهذا الموضع من تفصيلات متنوعة يتناولها عشرات المؤلفات وليس مجرد سطور أو صفحات تتناول بهذا الشكل أو بذاك، والأمر نفسه بالنسبة إلى ما يرد في سياق علم الاجتماع وعلم الاجتماع وعلم السياسة وعلم الإدارة وعلم الاقتصاد.. الخ.
المهم يمكننا أن نتحدث عن هذه المحاور الثلاثة وان نربطها بما توفر عليها الباحثون من طرح خاص على أن يتم العرض سريعا لهذه الجوانب ونبدأ ذلك بالحديث عن الجانب الفقهي وهذا ما ندرجه ضمن عنوان القرآن والمحور الفقهي في هذا السياق ينبغي أن نذكر الطالب بأن القرآن الكريم يحتوي من حيث المادة الفقهية على ما قدره المعنيون بشؤون البحث الفقهي حوالي الخمسمائة آية تصل بمختلف الأحكام الفقهية، ومن البين أن النص القرآني الكريم حينما يطرح مادة فقهية فإن هذا الطرح يظل بالشكل الذي أوضحناه في هذه المحاضرة وفي محاضرات سابقة، من أن النص القرآني الكريم لا يطرح المادة وفق الترتيب الذي يطرحه المعنيون بالبحث الفقهي بقدر ما يطرح المادة ضمن سياق خاص ويترك لنا نحن المعنيين بالبحث الفقهي أن نمارس عملية خاصة لاستخلاص الحكم الفقهي سواء أكان ذلك من خلال النص القرآني الكريم و خلال النص الحديثي الشريف، والمهم في الحالات جميعا من الواضح أن نذكركم بان القرآن الكريم عندما يطرح المادة الفقهية لا يطرحها بجميع مستوياتها من جانب ولا يدخل في التفصيلات من جانب ثان، لذلك فإن المادة الموجودة في القرآن الكريم فقهيا ينبغي أن تعرض في ضوء السنة الشريفة متمثلة في ما يرد عن الأربعة عشر معصوماً (عليهم السلام) بالإضافة إلى أدلة أخرى رئيسة أو ثانوية لا نريد أن نتحدث عنها الآن.
إنما نستهدف الإشارة فحسب إلى أن ثمة صلة مهمة جدا بين المادة الفقهية في القرآن الكريم وبين المادة الحديثية الشريفة وأن هذه الصلة بينهما من الوثاقة بمكان حيث لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر وبما أن الدخول في تفصيلات هذا الجانب، يندرج ضمن البحث الأصولي مما لا نعنى به الآن، حينئذ ندع هذا الجانب لنكتفي بالإشارة فحسب لوجود هذه الصلة هذا من جانب، ومن جانب آخر ثمة صلة أيضاً بين النص القرآني الكريم وبين المادة الفقهية من حيث الناسخ والمنسوخ، وصلة هذين الموضوعين بالتكيف الحكم الشرعي حيث تعرضنا إلى ظاهرة الناسخ والمنسوخ في حينه أي عند القسم الأول من موضوعات القرآن الكريم ونحدثكم الآن عنه أيضاً ولكن بشكل عابر، ما دمنا قد خصصنا الحديث عن الصلة بين القرآن الكريم وبين المادة الفقهية.
ومن جانب ثالث هناك صلة بين القرآن الكريم وبين المادة الفقهية من حيث الأداة الأصولية التي تتوكأ عليها حيناً من حيث استخلاصها من مادة القرآن الكريم ذاته، وأخيرا هناك صلة بين القرآن الكريم وبين المادة الفقهية من خلال عرض الأخبار المتضاربة على القرآن الكريم والأخذ بما يوافق السلطة القرآنية الكريمة.
وبالنسبة إلى المحور الأول ونقصد به علاقة النص القرآني الكريم بالمادة الفقهية نقول أن هذا المحور يتمثل كما أشرنا إلى وجود مئات الآيات التي تتناول حكما فرعيا ما، بيد أن هذه الآيات الكريمة إما أن تتناول بشكل عابر ومجمل جدا فالآيات المتصلة بالصلاة وبالخمس وما إلى ذلك، أو التي تتناول ذلك بشيء من التفصيل كآية المواريث مثلا، وخلا ل ذلك يظل الحديث عن صلة المادة الفقهية للقرآن الكريم مرتبطا كما قلنا بالسنة الشريفة حيث تتكفل السنة الشريفة بتوضيح ما هو مجمل وبتخصيص ما هو عام أو مقيد أو ما هو مطلق.. الخ.
وأما بالنسبة إلى المحور الثاني من العلاقة بين القرآن الكريم وبين المادة الفقهية، وهي المادة المتصلة بما هو ناسخ ومنسوخ، فقد سبق أن أشرنا إلى أن المعنيين بشؤون التفسير وبشؤون الفقه عندما يعرضون لآيات النسخ حينئذ ثمة اختلاف نجده بين هؤلاء الباحثين أي من حيث ذهاب بعضهم إلى أن النسخ هو متمثل في الكثير من الآيات القرآنية الكريمة قبالة من يذهب إلى أن ثمة آيات معدودة جدا هي المنسوخة وبين من يذهب إلى بين البين.
المهم يمكننا بنحو سريع أن نتحدث عن هذا الجانب فنقول أن الحديث عن الناسخ والمنسوخ يظل مطبوعا بجملة سمات منها أن بعضا من الآيات التي يتحدث الباحثون عن كونها منسوخة أو غير منسوخة، لا تترتب عليها أحكام مهمة، ومنها أن بعضا منها يحمل على الندب أو التخير أو مطلق الجمع العرفي، ومنها أن الكثير بخاصة الآيات التي تحدث الأقدمون عنها ترتبط بعلمية التخصيص أو التدقيق الواضحة بحيث أن خلط أولئك بين مفهوم التخصيص وبين مفهوم النسخ ولذلك نجد أن الباحثين المعاصرين لم يدرجوا العنصر المتقدم ضمن بحوثهم.
لكن في سياق ما نحن في صدده يمكننا الذهاب كما قلنا إلى أن قسم من الآيات المنسوخة لا ثمرة عملية للبحث عنها كآية (اتقوا الله حق تقاته) المنسوخة كما يقال بقوله تعالى (اتقوا الله ما استطعتم) فسواء أقلنا بنسخها أو بعدم ذلك، فإن النص الشرعي والعقلي يحكمان بان الشخص إنا يمارس التقوى بقدر ما يطيق ذلك ولا يمكن أن يتجاوزه لما هو حق التقاة إلا من اصطفاهم الله، بل يمكننا أن نذهب إلى ما ورد عن الأئمة المعصومين أنفسهم حينما قالوا إن الله لا يعبد حق عبادته لأن الطاقة البشرية محدودة قبال لا محدودية النعم العظمة التي يتسم بها الله سبحانه وتعالى وما ينبغي أن تستجيب الشخصية حيال ذلك.
ويمكننا أن نستشهد أيضاً بآية التوجه ونعني بها قوله سبحانه وتعالى (ولله المشرق والمغرب فاينما تولوا وجوهكم فثمة وجه الله إن الله واسع عليم) كما نسخت كما يقال بقوله تعالى (فولي وجهك شطر المسجد الحرام)، المعنيون بشؤون التفسير لأن النبي (صلى الله عليه وآله) كان في أول مبعثه يصلي إلى بيت المقدس وعندما هاجر إلى المدينة عيرت اليهود حيث قالوا قبلتنا فاستاء النبي (صلى الله عليه وآله) فأنزل الله عليه تعالى (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنوينك قبلة ترضاها فولي وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم)..الخ.
فهنا نجد أن الباحثين يتفاوتون في ذهابهم إلى كون هذه الآية منسوخة حيث ذهب البعض كما قلنا إلى نسخها، وذهب البعض الآخر إلى أنها غير منسوخة ذاهبا إلى أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يوضح للمجتمع الرسالي آنئذ بأن الآفاق جيمعا لله سبحانه وتعالى، لا يفترق غربها عن شرقها وان لله سبحانه وتعالى ان أمر أولاً بالتوجه إلى البيت المقدس وله أن يأمر ثانياً بالتوجه إلى البيت الحرام وهكذا.
وذهب نمط ثالث إلى أن آية (لله المشرق والمغرب) تحمل على النافلة وليس على الفريق لاحظوا هنا أن البحث عن هذه المسألة يظل في الواقع يقترن بفنية كبيرة ما دمنا جميعا نعرف بأن الفريضة في الحالات جميعا ينبغي أن تكون متجهة إلى البيت الحرام، إلا في حالات خاصة وأما هذا فيكفي أن النصوص الواردة عن المعصومين (عليهم السلام) انهم سمحوا لنا بأن نصلي النافلة كيف شئنا، ومن ثم فإن السماح بالنافلة بهذا النحو ومقابل الفريضة التي ينبغي أن يكون التوجه فيها إلى البيت الحرام، نقول أن هذا المستوى من التوجه في سياق ما هو فريضة وما هو نافلة يظل محكما من خلال النصوص الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) وحينئذ فإن الحديث عن النسخ وعدمه لا يحمل أهمية كبيرة كما قلنا.
والآن إذا تجاوزنا هذا الجانب الذي قلنا عنه أنه لا يترتب عليه آثار الشرع ذو أهمية إذا تجاوزنا هذا الجانب أو هذا القسم من البحوث المتصلة بالناسخ والمنسوخ، واتجهنا إلى قسم آخر وهو ضئيل بدوره، ولكنه في الواقع غير خاضع لعملية النسخ دون أدنى شك، وهذا من نحو الآية التي تتحدث عن كفارة الصوم لمن يلاقي الشدة كالشيوخ وسواهم ممن يعاني من العطش الشديد، حيث تقول الآية الكريمة (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين)، حيث ذهب قسم من الباحثين إلى نسخها من خلال آية (فمن شهد منكم الشهر فليصمه)، معللين ذلك بظاهرة التخيير بين الفدية في حالة عدم الصيام وبين الصيام، وهذا بالإضافة إلى من يحاول أن يلجأ إلى اللغة ليفرق بين عبارة يكون بمعنى أن يسعهم أي يقدرون عليه وبين يطيقونه بمعنى يتحملون ذلك مع شدة ومن البين انه لا قيمة لهذا الرأي ولا قيمة للرأي السابق الذي لاحظتموه، ذلك لأن اللجوء إلى أهل البيت (عليهم السلام) يحل لنا المشكلة بوضوح حينما يرد عنهم (عليهم السلام) أن المقصود من عبارة تطيقونه هو المعنى الثاني وهذا ما ورد عن الإمام علي (عليه السلام) والإمام الصادق (عليه السلام) بينما فسر ذلك بالشيخ الكبير والذي يأخذه العطاش.. الخ.
وهذا فيما يتصل بعدم النسخ تماما وأما ما يتصل بالنقاط الأخرى أو المحاور الأخرى فسنحدثكم عنها في في محاضرة لاحقة إن شاء الله تعالى وإلى ذلك الحين نستودعكم الله سبحانه وتعالى ونتمنى لكم التوفيق والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.