محاضرات علوم القرآن - المحاضرة 34
لا نزال نحدثكم عن القرآن الكريم من حيث الإعجاز البلاغي، حيث حدثناكم في المحاضرة السابقة من موضوعات الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم، ألا وهو البناء الفني للسورة الكريمة من حيث انتظام الآيات في السور القرآنية الكريمة، ومن حيث خضوع هذه الآيات إلى نظام خاص ألا وهو التلاحم العضوي الكامن بين هذه الآيات، من حيث صلة كل آية بأختها من جانب وصلة كل موضوع يطرح بموضوع آخر من جانب ثان وصلة العناصر الفنية من قصص وإيقاع وسور من جانب ثالث، كل ذلك من خلال التلاحم والتواشج بين الآيات القرآنية الكريمة، متجسدة في سورة تختلف في صياغتها عن سورة أخرى، وهكذا بالنسبة إلى مجموع السور القرآنية الكريمة التي تخضع لبناء هندسي خاص، حيث حدثناكم في المحاضرة السابقة عن أحد أشكال البناء الفني أو العضوي للسورة الكريمة، وأوضحنا في حينه من خلال الاستشهاد بأكثر من سورة قرآنية كريمة أوضحنا في حينه كيف أن السورة القرآنية الكريمة عندما تتلى كاملا سوف تترك أثرها اللاواعي أو الواعي لدى الشخصية بنحو يختلف عن لو قرأت آية منها، واستشهدنا بمفهومات تتحدث عن الرحمة واستشهدنا بمفهوم يتحدث عن زينة الحياة الدنيا، وكيفية التعامل مع هذه الزينة، استشهدنا بنموذجين عبر تحليل مفصل لهاتين السورتين الكريميتن التي طرحت الأولى منهما مفهوم الرحمة، وطرحت الثانية مفهوم زينة الحياة الدنيا وكيفية النبذ لها كل ذلك حدثناكم عنه.
ونواصل الآن الحديث عن الجوانب الأخرى المتصلة بهذا الموضوع ونعني به بناء السورة القرآنية الكريمة مما تتضمنه من الظواهر الإعجازية حيث انتهينا من الحديث عن الظاهرة الإعجازية المتمثلة في أن السورة القرآنية الكريمة تترك أثرا شعوريا أو لاشعوريا عند المتلقي، إذا قرأت تماما على العكس مما لو قرأت منها آية أو جزئ من السورة الكريمة.
طبيعيا ثمة سؤال مهم جدا ألا وهو، أن ما تطرحه السورة أو ما تتركه السورة الكريمة من أثر شعوري أو لا شعوري عند المتلقي وهو ينتهي من قراءة هذه السورة أو تلك إن هذا الأثر الذي يتركه النص حينما يقرأ كاملا إنما يكون أو يجسد فكرة واحدة أو يجسد أكثر من فكرة، وقد يجسد فكرة رئيسة، وقد يجسد بالإضافة إلى الفكرة الرئيسة فكرة أو أفكاراً ثانوية، فمثلا عندما قرأنا عليكم سورة مريم في المحاضرة السابقة أو سورة الكهف في المحاضرة السابقة لاحظنا أن مفهوم نبذ زينة الحياة الدنيا كان هو المحور الفكري الذي تحوم السورة عليه بأكملها، ولاحظنا بالنسبة إلى سورة مريم أن الرحمة حيث استهلت السورة الكريمة بعد قوله تعالى (كهيعص) استهلت بذكر الرحمة عبر قوله تعالى (ذكر رحمة ربك عبده زكريا)، ولاحظتم كيف أن الرحمة من خلال هذا الاستهلال كان يتسرب في عصب السورة الكريمة عبر جملة من الأنبياء الذين وصفوا أيضاً، أو بالأحرى عبر جملة من الأنبياء الذين منحهم الله هذه الرحمة أيضاً، وذكرها بنصها أي لفظة الرحمة عندما عارض هؤلاء الأنبياء، واكثر من ذلك رأيتم كيف أن أحد أسماء الله سبحانه وتعالى حيث ركزت سورة مريم على اسم الرحمن عوضا عن الأسماء الأخرى كالله سبحانه وتعالى، أو الرب، أو الرحيم، أو ...أو.. الخ.
استخدم كلمة الرحمن مقابل الله سبحانه وتعالى في أكثر من موضع متكرر بشكل ملفت للنظر بالشكل الذي لاحظتموه في المحاضرة السابقة، أولئك جميعا تكشف لنا أن المتلقي عندما ينتهي من قراءة السورة الكريمة سوف تترك هذه السورة أثراً شعوريا أو لا شعورياً لديه ألا وهو مفهوم الرحمة هنا ومفهوم الزينة هناك.
لكن هل أن جميع السور القرآنية الكريمة تسلك هذا المنحى، طبيعيا لا، إن نفس سورة الكهف تطرح أفكار ثانوية كثيرة خلال السورة الكريمة وأما سورة مريم فهي تطرح أفكارا أخرى غير الرحمة وتتكرر أيضاً بنفس النسبة التي لاحظناها بالنسبة إلى سمة الرحمة، ولنقرأ عليكم الآن بعضها من هذه النصوص القرآنية الكريمة في سورة مريم لكي تلاحظوا الأسلوب الذي يستهدفه النص القرآني الكريم لتمرير هذه الفكرة أو تلك بشكل أو بآخر، لاحظوا مثلا الانجاب المعجز بالنسبة إلى زكريا حيث كانت امرأته عاقراً وقد اشتعل رأسه شيبا، ولكن الله سبحانه وتعالى منحه يحيى (عليه السلام) ولاحظوا أيضاً مريم (عليها السلام) وهي تنجب عيسى بذلك النحو معجز إذا هنا لاحظوا التجانس بين كل من الإعجازين لهاتين الشخصيتين، ولاحظوا أيضاً كيف أن عيسى (عليه السلام) قال (السلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا) وكذلك لاحظوا بالنسبة إلى يحيى حينما قال الله سبحانه وتعالى عنه سلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا، لاحظوا أيضاً أن زكريا قال ولم اكن بدعاء ربي شقيا، ولاحظوا أيضاً أن إبراهيم (عليه السلام) قال (عسى أن لا أكون بدعا ربي شقيا) ولاحظوا أيضاً كيف أن يحيى قال عنه سبحانه وتعالى (وبرا بوالديه) وكيف أن عيسى قال بلسانه (وبرا بوالدتي) إذا هذه النماذج ومثلها نماذج أخرى تحدثنا عنها مفصلا في كتابنا التفسير البنائي، لاحظوا هذه الأفكار التي طرحها النص القرآني الكريم متمثلة في سورة مريم كيف أن ظاهرة الإنجاب المعجز، وظاهرة البر بالوالدين أو الوالدة، وظاهرة عدم شقاء الإنسان بدعاء الله، وظاهرة السلام يوم يولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً، كلا من النبيين المشار إليهما لاحظوا ذلك جميعا كيف أن هذه الأفكار التي طرحتها سورة مريم بالإضافة إلى الفكرة التي تشربت في عصر السورة جميعا، ونعني بها الرحمة عبر قوله تعالى: (رحمة ربك عبده زكريا).. إلى آخر ما لاحظناه من تكرار هذا المصطلح، وهو الرحمة وانسحاب ذلك على أكثر من نبي ورد عرضه بالسورة المشار إليها، بالإضافة إلى استخدام عبارة الرحمن في مواضع كثيرة من هذه السورة.
كل ذلك يكشف لنا عن ظاهرتين إحداهما أن ثمة عصبا رئيسا في السورة الكريمة، كعصب الرحمة يظل متسرباً في أجزاء السورة بأجمعها ولكن ثمة أعصبة ثانوية وهذا ما لاحظتموه الآن في ظاهرة الإعجاز والسلام وما إلى ذلك، مما قرأناه عليكم، إذا عندما تطرح السورة القرآنية الكريمة من خلال بناها العام فكرة رئيسة من جانب فكرة الرحمة، تطرح إلى جانبها أفكارا ثانوية أيضاً تلتحم مع الفكرة الرئيسة بطبيعة الحال لأن الإنجاب المعجز وفي الواقع تجسيد لرحمة الله تعالى وكذلك الأوصاف التي خلعها النص على الأنبياء المشار إليهم كل ذلك تجسدي لمفهوم الرحمة.
إذا من خلال هذا البناء يمكن النص قد ركز في أذهاننا مفهوم الرحمة بشكل رئيس وجسد مصاديق لهذه الرحمة عبر أسلوب، أو بالأحرى مستوى ثانوي بالقياس إلى بروز ظاهرة الرحمة، لأن الرحمة تكررت عدة مرات بينما هذه الظواهر الأخرى تكررت مرتين، وبعضها يتكرر ثلاث مرات لا أكثر وهذا يدل على أنها تجسد أفكار ثانوية بالقياس إلى الفكرة الرئيسة.
والأمر نفسه حينما نتجه إلى سورة الكهف التي استشهدنا بها في المحاضرة السابقة أيضاً حيث أن الفكرة الرئيسة التي تحتفظ ذاكرة القارئ بها بعد أن ينتهي من قرائتها تظل فكرة طريقة النبذ لها ولكن خلال ذلك يطرح النص أفكارا ثانوية تناثر هنا هناك ولكن تظل كما قلنا اقل احتفاظاً في ذاكرة المتلقي، لأن الفكرة البارزة تظل هي فكرة زينة الحياة الدنيا، طبيعيا هناك أفكار قد تكون رئيسة في سورة ولكنها ثانوية في سورة أخرى وهذا لا يعني أن الفكرة التي يستهدف إبرازها النص القرآني الكريم أنها أكثر أهمية من غيرها بقدر ما يستهدف النص توزيع الأفكار وعبر هذه السور جميعا بحسب ما يتطلبه الموقف، فمثلا مسألة تخسير الميزان أو تطفيف الميزان، هذه المسألة طالما يطرحها النص القرآني الكريم عبر عرضه لسورة الأنبياء عندما يقف عند شعيب غالبا يربط بين شخصية شعيب وبين مجتمعه الذي امتاز بجملة سمات منحرفة، وفي مقدمتها سمة التطفيف في الميزان، وهذا يعني أن هذه الفكرة جاءت واحدة من أفكار متنوعة تطرحها السور القرآنية الكريمة الكثيرة التي تعرضت لحادثة الأنبياء وموقفهم من مجتمعاتهم، ولكن هذه الفكرة أي فكرة تطفيف الميزان يريدها النص القرآني الكريم في سورة أخرى هي سورة المطففين، حيث يبدأها أو يستهل هذه السورة أساس بظاهرة التطفيف الميزان.
بسم الله الرحمن الرحيم (ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك انهم مبعوثون إلى يوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين).. الخ.
فهنا نجد أن هذه السورة الكريمة قد استهلت بالحديث عن التطفيف، ولعلكم تتذكرون جيدا عندما تحدثنا عن العنصر القصصي وإعجازه في القرآن حيث لاحظتم كيف أن للاستهلال أهمية كبيرة جدا، حيث أن الاستهلال في أية سورة أو في أية قصة في الواقع يظل مفصحا عما سوف تطرحه القصة أو السورة من أفكار ذات صفة كبيرة بهذه المقدمة أو بهذا الاستهلال، أو أن الاستهلال في سياقات أخرى يأتي بمجرد كونه يعنى بشيء معين فيستهل هذا الشيء المهم من خلال بداية السورة أو القصة به ثم ينتقل من ذلك إلى موضوعات أخرى ولكن مجرد الاستهلال كاشف عن خطورتها ما يطرح سواء ما يعنى يطرحه سوف ينسحب على الأجزاء اللاحقة من السورة أو القصة أو كان مجرد تمهيد يحس بكونه ذا خطورة فحسب.
فمثلا عندما لاحظنا الآن أن سورة المطففين تستهل بظاهرة التطفيف، حينئذ سوف نستخلص أن النص يستهدف إبراز هذه الفكرة بحيث تتمثل خطوات هذه الفكرة من خلال ورودها في سياق آخر ينتقل به النص القرآني الكريم من ظاهرة التطفيف إلى ظاهرة المكذبين باليوم الآخر، ومما لا شك فيه أن التكذيب باليوم الآخر هو أشد خطوة وأشد مفارقة من مجرد التطفيف، لأن التطفيف يجسد عملا محرما فحسب، أما التكذيب باليوم الآخر فهو عمل أو هو موقف انحراف خطير ينتسب إلى الكفر دون أدنى شك، ولكن عندما قرن أو عندما طرح النص القرآني الكريم ظاهرة التطفيف ثم ربطها بظاهرة المكذبين لاحظوا كيف (يترابط يوم يقوم الناس لرب العالمين كلا إن كتاب الله من سجيل وما ادراك ما سجيل كتاب مرقوم ويل يومئذ للمكذبين الذين يكذبون بيوم الدين)، لاحظوا كيف ربط النص بين الذين يكذبون بيوم الدين وبين أولئك المطففين الذين قال عنهم أن لا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم، إذا يظن الانبعاث في اليوم العظيم يظل هو الطابع المشترك أي الطابع الذي يشترك فيه كل من المكذب بالدين والمطفف بالميزان، وهذه المقارنة بينهما مع تقديم ظاهرة التطفيف تفصح بجلاء واضح جدا أن قضية التطفيف في الميزان تكتسب خطورة مهمة قد استهدفها القرآن الكريم في هذه السورة دون أن يستهدفها بنفس الحجم من الأهمية المستهدفة في سورة أخرى بأنها ترد في سور أخرى في سياق مجتمعات منحرفة متنوعة أما الآن جاءت في سياق خاص وهو سياق التكذيب بيوم الدين مع تقديمها أي مع جعلها استهلالا وليس مجرد مجيئها وسط السورة كما هو الملاحظ في القصص من القرآن الكريم، كلا، بل أن استهداف هذه الفكرة المهمة جداً من خلال جعل هذا الموضوع استهلال بالسورة القرآنية الكريمة يكشف عن أهمية ما يريد طرح النص القرآني الكريم.
المهم أننا وددنا أن نلفت انتباهكم على هذه النقطة، وهي أن النص القرآني الكريم عندما يطرح فكرة من الأفكار ويجعلها محورا، كمحور زينة الحياة الدنيا في سورة الكهف أو محور مهم جدا كمحور الرحمة التي جعلت في سورة مريم (عليها السلام) محورا رئيسا بالإضافة إلى محاور فرعية نقول أن الأفكار التي نستهدفها حينا من خلال جعلها محورا رئيسا هذا لا يعني أن هذه الأفكار هي أكثر خطورة من الأفكار الأخرى التي جعلها ثانوية لأن ما يجعل ثانويا في سورة يجعل رئيسا في سورة أخرى وهكذا.
بعد ذلك هو ما نريد أن نكرره ونقصد بذلك أن النص القرآني الكريم عندما يستهل سورة المطففين بظاهرة التطفيف بخاصة انهم أيضاً يستهل ذلك بقوله تعالى (ويل) فمن الممكن أن تكون كلمة ويل متأخرة عن كلمة أو بالأحرى عن عرض قضية تخسير الميزان، أي كان من الممكن أن يكون التطفيف في الميزان ظاهرة محرمة فويل لمن يطفف.. الخ.
أي تأتي كلمة ويل تعقيبا على من يطفف أو يخسر في الميزان ولكنه قدمها لكي يحسسنا بنحو واضح أهمية هذه المفارقة، وما يترتب عليه من خطورة أي أن كلمة ويل تفصح عن العذاب الأليم الذي سوف ينتظر هؤلاء، كما ينتظر العذاب الأليم أولئك المكذبين بالدين، المهم بغض النظر عن ذلك كله فإن القارئ عندما يتلو سورة المطففين فسوف تحتفظ ذاكرته دن أدنى شك بظاهرة التطفيف، مع كونها جاءت في سياق آخر هو سياق التكذيب بالدين ومع ذلك ما دامت قد استهلت بهذا النمط الذي لاحظتموه وما دامت قد تقدمت موقعيا على ظاهرة المكذب بالدين حينئذ فذاكرة المتلقي سوف تحتفظ بها ومن ثم فإن القراءة الكلية للسورة سوف تجعل من المتلقي واعيا أو محتفظا لما طرحت السورة من ظاهرة التطفيف بالميزان بالإضافة إلى ظاهرة التكذيب يوم الدين، حيث تتلاحم الظاهرتان لتشكل محورا كما قلنا بهذه السورة الكريمة.
وإذا كانت هذه السورة توازن إلى حد ما مع ترجيح ظاهرة التطفيف إذا كانت هذه السورة توازن بين هذين المحورين مع ترجيح خاص مقابل ما لاحظناه من جعل بعض السور ظاهرة واحدة هي المحور الرئيس لظاهرة الزينة، حينئذ يمكننا أننا لاحظ أن بعض السورة بخاصة السورة الكبار تظل طارحة جملة محاور في آن واحد دون أن تجعل القارئ متحسسا برجحان هذه الفكرة المطروحة أو تلك، وأمامنا نموذج واضح جدا هو نموذج سورة البقرة التي تعد أكبر سور القرآن الكريم حجماً.
إن هذه السورة الكريمة كما سنلاحظ لاحقا تنتظمها عشرات الموضوعات المتنوعة، وليست كالسور التي استهدنا بها قبل قليل في محاضرتنا أو فالمحاضرة السابقة، بل تنتظمها عشرات الموضوعات المختلفة تماما ولكن كما سنوضح ذلك تظل هذه الموضوعات بالواقع مرتبطة ارتباطا عضويا فيما بينها على النحو الذي سنوضحه، بيد أننا سنشير على أولا أن هذه السورة بشكل عام تقسم إلى ستة أقسام القسم الأول يركز على سلوك المنافقين مع تمهيد يتناول سمات المتقين والقسم الثاني يركز على اللون البشري آدم (عليه السلام)، والقسم الثالث يركز على السلوك الإسرائيلي هو أكبر الأقسام حجماً، والقسم الرابع يركز على شخصية إبراهيم (عليه السلام)، والقسم الخامس على سمات المؤمنين، والقسم السادس يركز على الأحكام الشرعية المختلفة، ولكن ما نود أن نطرحه الآن هو أن هذه الأقسام في الواقع تتضمن موضوعات متنوعة تتلاقى فيما بينها من خلال التمهيد لها بمضوعات المجالسة أو التنامي لهذه الموضوعات بحيث تنتقل من مرحلة إلى أخرى، وتوزيع هذه بحيث يتناول كل مقطع أو قسم جانبا مهم يستثمر طرحه في الأجزاء الأخرى، المهم أن الشبكة العامة لهذه الخطوط تتواصل فيما بينها بنحو مدهش ولكن نجد أن ظاهرتين هما ظاهرة التقوى أو الاتقاء، وظاهرة الإماتة والإحياء هما نجد أن هاتين الظاهرتين تبرزان بنحو ملحوظ أكثر من الظواهر الأخرى المطروحة في هذه السورة الكريمة، فمع أن السلوك الإسرائيلي المنحرف يعرض خلال ثلث السورة تقريبا، إلا أن الهدف الذي أو الغرض الذي تستهدفه السورة الكريمة من خلال إبراز هذا الجانب المنحرف يظل هدفا مستقلا بذاته من جانب، ومرتبطا بظاهرة المحاور الرئيسية من جانب آخر، أي أن الأهداف الرئيسة هي التماس التواء السلوك في الإسرائيلي وهذا هو هدف مهم جدا تستهدفه السورة الكريمة، ولكن من جانب آخر هناك محوران مهمان جدا هما محور التقوى ومحور الإماتة والإحياء يظلان متخللين عصب السورة الكريمة جميعا بنحو ملفت على النحو الذي يمكنكم أن تلاحظوه في دراساتنا الخاصة بهذا الجانب، وفي مقدمتها الدراسة المستقلة التي كتبت في ما يقارب ثلاثمائة صفحة تتحدث عن سورة البقرة من حيث البناء العام لهذه السورة وما تتخلله من بناء مدهش ومعجز دون أدنى شك.
المهم ما نريد أن نلفت النظر إليه الآن هو ملاحظة هذين المحورين الذين يؤكدهما النص القرآني الكريم من سورة البقرة بنحو يلفت نظرنا دن أدنى شك، ومن ثم فإن القراءة الكلية لهذا النص أي عندما ينتهي المتلقي من تلاوته لهذا النص سوف يحتفظ من جانب بمحور مهم هو السلوك المتمرد لدى الإسرائيليين بصفته من أقدر الأنماط السلوكية التي تجسد الانحراف والكفران بالنعم، ولكن في سياق هذه الفكرة التي تبرز بنحو ملحوظ في السورة القرآنية الكريمة، نجد فكرتين مرتبطتين بدورهما بهذه الفكرة ولكن من خلال وجود خيوط أو شبكات متعددة تربط بين ذلك لا مجال للحديث عنها الآن لأننا في صدد أن نوضح الآن أن النص القرآني الكريم قد يتناول في سورة ما فكرة رئيسة والى جانبها أفكار ثانوية، وقد يتناول أفكارا رئيسة ولكنها تتآزر أو تتماثل في ما بينها من حيث كونها جميعا تجسد فكرة رئيسة، وليس فكرة واحدة رئيسة وأخرى ثانوية لذلك نجد في سورة البقرة من جملة ما نجده، وهذا ما أستشهد به نظراً لوضوحه في أذانكم وإلا فإن الاستشهاد بالنماذج الأخرى يظل لا يمكن الوقوف عندها إلا عند مطالعتكم لما كتبناه بالنسبة للتفسير البناءي للقرآن الكريم، المهم ما نريد لفت النظر إليه هو أن نقول أن في هذه السورة المتسمة بالطول بحيث تكون أطول سورة قرآنية كريمة نجد ثمة فكرتين رئيستين تتمحوران أو تتركزان في عصب هذه السورة جميعا الفكرتان هما، التقوى أو الاتقاء من جانب، والإماتة والإحياء من جانب آخر، حيث يمكن لكل واحد منكم ان يقرأ سورة البقرة بجميع آياتها ليلاحظ أن مصطلح أو عبارة التقوى ورد عشرات المرات في هذه السورة بدءا من الاستهلال في أول آية كريمة ترد في سورة البقرة بعد الحروف المقطعة ونعني بها قوله تعالى (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين)، هذه هي أول آية ترد في الحرف المقطع (ألم) وستجدون كيف أن هذا الاستهلال وهو هدى للمتقين كيف أن مفهوم التقوى يتكرر عبارة ودلالة عشرات المرات بنحو يلفت الانتباه، حيث لا مجال لنا لنقرأ لكم عشرات الآيات في هذا الصدد بل يمكنكم أن تلاحظوا ذلك أولاً بأول آية قرآنية كريمة تتحدث، إلى آخر آية قرآنية كريمة تتحدث عن الأحكام حيث يحكمها أربع آيات تقسم بها السورة، إلا أن الآية الأخيرة التي اختتمت بها الأحكام والتي اختتمت السورة بعدها بأربع آيات تقول (يا أيها الذين آمنوا إذا تدينتم بدين إلى اجل مسمى) إلى أن يقول (وليتق الله) بعد ذلك أيضاً يقول واتقوا الله في الآية نفسها ثم يختتم ذلك بقوله (وليتق الله) لاحظوا في آية الدين وما يليها ثلاث مرات تتكرر هذه العبارة وتتكرر أمثلتها في نماذج متقدمة تتحدث عن الأحكام بخاصة، وأيضاً وما قبل ذلك ولعل السر في هذا من الوضوح بمكان كبير، وهو أن التقوى هي الجوهر للسلوك المطلوب منا جميعا كما هو واضح.
بيد أن هدفنا الآن ليس هو إبراز هذه الفكرة حدها فحسب بل الهدف من ذلك هوان هناك أهداف متعددة ومتنوعة، من الممكن أن تشكل بأكملها محاور رئيسة أيضاً وليست ثمة محاور أو بالأحرى ليس ثمة محور واحد رئيس ومحاور أخرى ثانوية بل قد تتآزر خطوتان رئيستان تتوازنان فيما بينهما كما هو ملاحظ الآن في ظاهرة التقوى من جانب، وملاحظة الإحياء والإماتة، وقد يتسائل البعض عن الأهمية المترتبة على فكرة الإحياء والإماتة وتنتقل إلى مثل هذا لتساؤل لا يجسد سؤال له مبرراته إذا عرفنا أن التأديب في اليوم الآخر يظل من الظواهر المهمة التي يستهدف القرآن الكريم إبراز دلالات ذلك ورد على من يكذب بهذا اليوم ومن هنا فإن فكرة الإماتة والإحياء تظل واحدة من البراهين الواضحة للتدليل على أن إحياء الموتى في اليوم الآخر من المشروع ومن الوضوح، أو من الفاعلية بمكان كبير ما دام الله سبحانه وتعالى قادرا على ممارسة إحياء الميت في هذه الدنيا كنموذج لإحيائه في اليوم الآخر.
من هنا نجد أن القرآن الكريم في هذه السورة يكرر نماذج متنوعة من القصص وكلها يوظفها لإبراز فكرة الإماتة والإحياء وتظل أول القصة تبرز هذا الجانب هي قصة البقرة حيث حدثناكم عن هذه القصة عند عرضنا لقصص القرآن الكريم حيث قلنا أن القصة انتهت بالإشارة إلى ضرب القتيل ببعض البقرة وحتى يحيى ويكشف عن هوية القاتل، ولاحظتم في حينه كيف أن الآية الكريمة التي اختتمت بهذه القصة عقبت على ذلك بقولها (كذلك يحي الله الموتى)، إن إحياء الله لموتاه من حيث التعقيب الذي ورد في هذه القصة يظل ساحبا أثره على جميع القصص التي ستتناول بدورا ظاهرة الإماتة وظاهرة الإحياء، ولعلكم جميعا وأنتم تقرأون هذه السورة الكريمة مرت عليكم قصص الذي مر على قرية وقال انا يحيي الله بعد موتها فأماته الله مئة عام ثم أحياه، والقصة الأخرى قصة إبراهيم (عليه السلام) عبر تقطيعه للطير والأربعة وكيفية إعادتها من جديد عندما سأل الله سبحانه وتعالى أن يحيي له الموتى، وقصة إبراهيم نفسه مع نمرود الذي زعم انه يستطيع أن يحيي ويميت فرده (عليه السلام) بان الله يأتي بالشمس من المشرق فأتي بها من المغرب، وقصة الألوف الذين أقال لهم موتوا ثم أحياهم، نقول أن أمثلة هذه القصص من دون أدنى شك سوف تترك لدى القارئ وهو يقرأ هذه السورة كاملة سوف تترك في ذهنه في نهاية المطاف انطباعا شعوريا أو لا شعوريا بظاهرة إحياء الموتى، وظاهرة إماتة الأحياء بشكل واضح وهذا ما استهدفته السورة القرآنية الكريمة كمحور رئيس بالإضافة إلى محور رئيس هو التقوى أو الاتقاء بالإضافة إلى محاور أخرى كإبراز السلوك الإسرائيلي المتمرد.. الخ.
إذا ثمة نصوص قرآنية كريمة تتمحر حينا لإبراز فكرة واحدة، وتتمحر حيناً لإبراز فكرتين أو ثلاث وكلها أفكار رئيسة، بالإضافة إلى وجود أفكار ثانوية تعد بالعشرات عبر السور الطوال كسورة البقرة وآل عمران والنساء.. الخ.
وقد تتمحر بفكرتين فحسب وقد تراوح بين هذا العدد وبين عدد أكثر بحكم حجم السورة الكريمة من جانب، وبحسب السياق أو المواقف التي تتطلب عرض عدد معين من الأفكار في هذه السورة الكريمة أو في تلك.
المهم لحد الآن استهدفنا فحسب الإشارة إلى موضوع واحد هو، أن السورة القرآنية الكريمة تهدف إلى أن تبرز فكرة واحدة أو عدة أفكار قد تكون هذه الفكرة أو الأفكار رئيسة، وقد تكون ثانوية وبغض النظر عن ذلك كله فإن الهدف هو أن تجعل المتلقي وهو ينتهي من قراءة أية سورة قرآنية كريمة هو أن تحتفظ ذاكرته سواء أكان واعيا بهذا أو كان غير واع ولكن ذاكرته سوف تحتفظ بهذه الفكرة أو بتلك التي استهدفها القرآن الكريم من خلال المجموع من الآيات وليس من خلال الآية الواحدة أو القسم الخاص بهذا الموضوع أو ذاك، بمعنى أن قراءة النص جزئية فحسب يجسد فائدة جزئية فحسب أيضاً، ولكن قراءة السورة بكاملها تجسد فكرة أو بالأحرى تجسد فائدة أكثر حجما بالشكل الذي قلناه، وبعد أن فهمنا أو أدركنا هذا الجانب من فلسفة قيام السورة الكريمة على عدد معين من الآيات الكريمة، وبهذا التنظيم أو بهذا الترتيب بين هذه الآيات مع أن عشرات السور تتناول عشرات الموضوعات المتفاوتة التي تبدو وكان كل موضوع لا علاقة له بالموضوع الآخر، ولكن في الواقع هناك علاقات متشابكة فنياً لن ينتبه عليها إلا من كرس نشاطه الثقافي أو كرس نشاطه التفسيري أو القرآني الكريم في ملاحظة هذه السورة أو تلك، من حيث ارتباط كل آية بما بعدها وبما قبلها ومن حيث ارتباط كل قسم من حيث الموضوعات بما قبلها وبما بعدها، ثم من حيث ارتباط هذه الموضوعات جميعا إما من خلال خيط يوحد بينها أو من خلية أحدها للآخر أو من خلال اخضاع كل موضوع مستقل، ولكن في نهاية المطاف ربط هذا الموضوع بخيط يوحد بين الأقسام جميعا كل أولئك سنحدثكم عنه إن شاء الله ليس بالتفصيل ولكن بنحو عابر، وننصحكم بقراءة التفسير البنائي الذي كتبناه في هذا الميدان وتناولنا فيه جميع السور القرآن الكريم.
والآن بعد أن تحدثنا عن فلسفة بيان السورة يجدر بنا أن نتحدث ولو عابرا عن الخطوط التي تجعل هذه السورة الكريمة مرتبطة من حيث تلاحم أجزاء بعضها مع الآخر، حيث قلنا أن الارتباط بين هذه الأجزاء لا يتم من خلال الموضوعات التي تتم من خلال الربط بل يتم من خلال تآزر العناصر الأخرى كالعناصر القصية الصورية وما إلى ذلك، كل ذلك يحملنا على أن نوضح لكم ولو بشكل عابر بعض الآليات التي تسلك في بناء السورة القرآنية الكريمة من حيث البداية ومن حيث الوسط ومن حيث النهاية، أي من حيث علاقة المقدمة التي تطرح بالسورة ومدى انسحابها أو عدم انسحابها على السورة من جانب، ثم كيفية الانتقال من قسم إلى آخر ثم كيفية اكتناء المحاور جميعا من حيث التلاحم فيما بينها وما إلى ذلك من الموضوعات التي يجدر بنا معالجتها كما قلنا ولكن بنحو عابر وهو ما نؤجل الحديث عنه إلى المحاضرات اللاحقة إن شاء الله تعالى، ونكتفي الآن بما حدثناكم عنه والى ذلك الحين نستودعكم الله ونتمنى لكم مزيدا من التوفيق والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.