محاضرات علوم القرآن - المحاضرة 33 - الاعجاز البنائي
الاعجاز البنائي
نواصل حديثنا عن الإعجاز البلاغي في القرآن الكريم حيث حدثناكم عن جملة ظواهر من الظواهر البلاغية المتصلة في هذا الجانب وانتهينا في المحاضرة السابقة من الحديث عن الإعجاز الصوري بعد أن حدثناكم عن الإعجاز القصصي، وقبل ذلك حدثناكم عن الإعجاز اللغوي وما إلى ذلك.
أما الآن فنتحدث عن ظاهرة جديدة هي ظاهرة الإعجاز البنائي إذا صح التعبير أو لنقل ظاهرة وحدة الصورة القرآنية الكريمة، من حيث عمارتها الخاصة، ولعلكم تتذكرون جيدا في بدء محاضراتنا عن القرآن الكريم أي في القسم الأول الذي تحدثنا فيه عن كيفية جمع القرآن الكريم، وكيفية انتظام صوره وآياته لعلكم تتذكرون جيدا كيف أن الحديث كان في حينه منصبا على هذين الجانبين، ونعني بهما التنظيم أو انتظام السور القرآن الكريم، وانتظام آياته.
أما انتظام سور القرآن الكريم فقد لاحظنا في حينه أن وجهات النظر تتفاوت بالنسبة إلى هذا الانتظام من حيث كونه اجتهاديا أو توقيفيا، أي انتظام السور بهذا الشكل هل تم بنحو اجتهادي من قبل المعنيين بجمع القرآن الكريم هل كان توقيفيا بأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأما بالنسبة إلى الموضوع الآخر وهو انتظام الآيات القرآنية الكريمة في سور محددة فهذا أمر لم يبرز فيه تفاوت بين وجهات النظر إلا ما شذ ولذلك كان الحديث عن هذا الجانب مجمع عليه من أن الآيات القرآنية الكريمة كانت توقيفية أي كانت أمر من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث تجمع النصوص بان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، عندما تنزل عليه هذه الآية أو تلك كان يأمر كتاب الوحي أن يضعوا هذه الآية في المكان الفلاني من السورة الفلانية الخ. وهذا كما قلنا شيء مجمع عليه.
ولكننا في الواقع لم نتحدث تفصيلا عن هذا الجانب بل أرجأنا الحديث عنه إلى هذا الحقل أي حقل الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم لأن ظاهرة انتظام الآيات عبر سورة موحدة بهذا الشكل الذي نلاحظه يجسد ظاهرة إعجازية ملحوظة بالنحو الذي سنتحدث عنه الآن.
ولعل أول ما يثير التساؤل هو، لماذا انتظم القرآن الكريم في مئة وأربع عشر سورة ولماذا اتصلت أو بالأحرى لماذا اتسمت كل صورة بطرح موضوعات محددة وهي موضوعات قد تتكرر وقد لا تتكرر في سورة أخرى، ومع تكرارها في هذه السورة أو تلك، لماذا ترد في سياق يختلف عن السياق الذي وردت من خلاله عن هذه السورة أو تلك، ولماذا كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهذا هو المهم جدا يأمر كتاب الوحي بان يضعوا الآية الفلانية في السورة الفلانية إلى جانب الآية الفلانية..الخ. نقول: أما كان من الممكن مثلا أن تنتثر الآيات القرآنية على شكل مقاطع متفرقة دون أن توزع في سور مستقلة، وهل أن انتظامها في سور مستقلة بالشكل الذي نلاحظه إنما تم من اجل أن تحفظ الصورة، أو من أجل أن توظف في صلوات أو أذكار أو نحو ذلك، طبيعيا كلا، إذ انه من الممكن أن يكون الأمر كذلك إذا قلنا أن القرآن الكريم قد انتظم في سور قصار يسهل حفظها أما أن يبلغ هذه السورة ما يقارب ثلاثمائة آية فأمر لا يستحب إذا هنالك أسرار وأسرار تكمن وراء انتظام القرآن الكريم في سورة مستقلة، أي في سور تستقل إحداها عن الأخرى بالشكل الذي نلاحظه متمثلا في مئة وأربع عشر سورة.
نقول في البداية قبل أن ندخل في التفصيلات لابد من وجود تمهيد لهذا الجانب فنقول، من الحقائق الواضحة في حقل الإدراك البشري أو الاستجابة استجابتنا نحن حيال المعرفة وتمثل هذه المعرفة نقول من الواضح في حقل الإدراك الذهني أن الذهن البشري يدرك الظواهر من خلال الكل الذي نشاهده وهو أمر قد انتبهت إليه بعض مدارس علم النفس الحديثة، حيث تذهب هذه الوجهة إلى أن إدراك الأشياء يتم من خلال كل وليس من خلال جزء يستوي في ذلك، أن يتم الإدراك بالشكل من خلال جزئياته أولاً ثم الانتقال إليه أو من خلاله أولا ثم الانتقال إلى جزئياته، وفي الحالتين ثمة إدراك لا ينفصل كله عن جزئه ولا جزءه عن كله.
فمثلا لو قدر لكم أن يطالع أحدكم صفحة من كتاب، فإن نظره على الكتاب لأول وهلة سوف يقع على الصفحة ككل، أي على الكتابة الموجودة في هذه الصفحة، وهذا هو النظر الكلي إلى الصفحة إلا أن كل واحد منهم سوف يبدأ وينتقل من هذا الكل إلى جزء أصغر منه وهو ملاحظة الكلمة مثلا أو الصرف، بعد ذلك ينتقل إلى جزئية أصغر منها وهي الحروف، وقد ينظرا إلى الفجوات الواقعة بين الكلمات وقد ينظر إلى التشوهات أو الأخطاء المطبعية الموجودة في الصفحة كل ذلك يتم من خلال إدراك الكل أولا ثم إدراك الجزء الثاني، وكذلك إذا قلنا لأحدكم أن ينظر إلى نجوم السماء مثلا فأولا سوف ينظر إلى النجوم وهي متناثرة متفرقة، ولكن من خلال رؤية كلية دون أن يفرز كل نجمة عن أخرى، ولكنه بعد ذلك سوف يفرز كل نجمة عن أخرى وينظر كل نجمة لوحدها وهكذا.
ننقل هذه الحقيقية الواضحة جدا لكي ننتقل بعد ذلك إلى أن النص القرآني الكريم بما أنه يستهدف توصيل أفكاره إلينا نحن المتلقين، فإن عملية التلقي أو الاستجابة للنص لا تحقق هدفها إلا من خلال استثارتنا عقليا أو عاطفيا، وهو ما يتطلب بطبيعة الحال معرفة بطرائق الاستجابة وما يواكبها من العمليات النفسية لدينا المفضية إلى تحقيق الإثارة المطلوبة، كما لو افتتح النص مثلا بظاهرة ما من خلال إجمالها أولاً أو تفصيلها بعد ذلك أو حذفها أو التدرج بها أو التصاعد بها أو توشيج ذلك بعناصر فنية أو عاطفية بالصورة والإيقاع أو رفدها بأدوات قصصية أو حوارية..الخ.
أولئك جميعا تشكل أدوات لتحقيق الإثارة المطلوبة فينا، وفي ضوء هذه الحقائق المألوفة يمكننا أن نتبين أهمية التلقي الكلي للنص متمثلاً في الصورة القرآنية الكريمة، أي متمثلاً في مطالعتنا وتلقينا للصورة القرآنية الكريمة من خلال آياتها جميعا وليس من خلال كل آية منفردة عن الأخرى صحيح أن كل آية لها دلالتها ويستطيع كل واحد منها أن يقرأ هذه الآية منفصلة عن الآية الأخرى، ويستثمرها ويستفيد منها دون أدنى شك بالإضافة إلى هذه الإفادة الجزئية وهي الإفادة العامة وهي أننا عندما نقرأ صورة بكاملها حينئذ فإن مجموع الآيات من حيث ارتباط بعضها مع الآخر، سوف يفضي بنا إلى أن نتلقى معرفة خاصة تفترق دون أدنى شك عن معرفتنا بجزئيات هذه السورة الكريمة، أي نحن عندما ننتهي من طرائق أي صورة سوف نخرج بانطباع كلي عام عن هذه الصورة سواء أكنا واعين بها أو كنا غير واعين بذلك، ويمكننا أن نستشهد بنماذج كثيرة في هذا الميدان ولكن قبل أن نستشهد بهذه النماذج لا بد لنا من الإشارة إلى شيء مهم جدا وهو أن بعضكم قد يثير السؤال الآتي، ما هي الفائدة من أن نخلص من قراءتنا لهذه الصورة بفكرة معينة، ولماذا نجد أن هذه الفكرة المعين تحتل أهمية قد تفوق مثلا الأهمية الجزئية التي تتمثل في نص الآية الواحدة أو الآيتين أو.. الخ.
طبيعيا كما قلنا كل قراءة لها فائدتها، وما دامت القراءة الجزية لها فائدتها بالشكل الذي قلناه فإن معرفة الفائدة الكلية التي يجهلها غالبية القراء دون أدنى شك، سوف تفسر لنا معنى البناء الهندسي للسورة القرآنية الكريمة، من حيث كونها تمثل إعجازا بلاغيا بالشكل الذي سنحاول توضيحه الآن.
ويجدر بنا قبل أن نبدأ ذلك أن نقدم أمثلة عملية واضحة جداً حتى ننتقل بعد ذلك إلى النص القرآني الكريم متمثلا في السورة، الاستشهاد سيكون من جانب بجسم الإنسان، ومن جانب آخر سيكون الاستشهاد بعمارة معينة، لاحظوا على سبيل المثال إن كل واحد منا عندما يمتلك تصور أو معرفة خاصة بواحد من أجهزته الجسمية كالعين أو الأذن أو الأنف أو اليد.. الخ.
هل تتساوى معرفته الجزئية بواحد من هذه الأجهزة تتساوى معرفته الجزئية مع المعرفة الكلية بالبدن، وبنمط تركيبة هذه الميزة من حيث ارتباط بعضها مع الآخر ألم يكن ثمة ارتباط بين الأسنان وبين العين وبين الرأس مثلا.
وهكذا ألم يكن ثمة ارتباط بين الصدر وبين القلب وبين سائر الأجهزة، وهكذا فإن ارتباط الأجهزة بعضها مع البعض الآخر يساعد دون أدنى شك على توفير الصحة البدنية التي نحرص عليها وكذلك معرفتنا لهذه النظرة الكلية للجهاز الجسمي يسعفنا في أداء مختلف الوظائف التي نحاول أن نؤديها بشكل سليم. والأمر كذلك إذا أتيح لنا أن ننقل هذه التجربة إلى عمارة أو إلى هذه الغرفة التي تتواجدون فيها، ففي هذه الغرفة ثمة حائط وثمة سقف وثمة باب وثمة شباك.. الخ.
حينئذ إذا قدر لأحدنا أن يفصل هذه الظاهرة عن تلك أو هذه الجزئية من بناء عن الجزئية الأخرى، كما لو غيرنا على سبيل المثال مكان الشباك ووضعناه في السقف، أو إذا وضعنا الباب في السقف أيضاً، أو إذا وضعنا الإنارة في زاوية لا تتناسب مع حجم الغرفة وهكذا حينما نضع أمثلة هذه الأدوات في غير أمكنتها المخصصة لها، حينئذ فإن الغرفة ستفقد وظيفتها، وإن الجالس فيها لن يستفيد منها إلا استفادة جزئية.
إنه قد يستفيد من خلال جلوسه في الغرفة، ولكنه إذا أراد أن يخرج منها وكان الباب في غير الموضع الذي ينبغي أن تكون عليه كأن يكون الباب في السقف مثلاً، حينئذ فإن عملية الخروج من الغرفة تظل متعذرة كما هو واضح إن هذه الأمثلة البسيطة جداً إنما كررناها ونكررها، لكي نوضح للمتلقي بان القرآن الكريم من حيث إعجاز سوره المقتنية على وحدة هندسية تماثل تماما ما نلاحظه في وحدة الأجهزة البدينة عند الإنسان، أو وحدة الأجهزة في هذه العمارة أو تلك بحيث يأخذ كل جزء من هذه العمارة أو من ذلك الجسم يأخذ ويؤدي وظيفة خاصة من جانب وتتواشج وتترابط وتتواصل هذه الجزئيات فيما بينها لتؤدي وظيفة عامة من جانب آخر، وهذا كله لا ينفي كما قلنا أن تكون معرفتنا لهذه الجزئية أو لتلك أيضاً منطوية على فائدة ما، إلا أن هذه الفائدة تظل كما قلنا جزئية بالشكل الذي أوضحناه قبل قليل.
والآن مع معرفتنا بهذه المسائل نعود فنتحدث عن بناء السورة القرآنية الكريمة لنقول بأن السورة القرآنية الكريمة إنما تبنى وتصاغ بنحو إعجازي مدهش بحيث تجيء كل آية مرتبطة بما قبلها وما بعدها من جانب، وإذا كانت بعض الموضوعات متفاوتة أو مختلفة عن أختها حينئذ لابد من وجود رابط بين هذه الموضوعات المتباينة بالإضافة إلى ذلك، نجد أن هناك جملة عناصر كالقصة التي حدثناكم عنها، وكالسور الفنية التي حدثناكم عنها، وكالإيقاع الذي حدثناكم عنه، وغير ذلك عن العناصر التي تتآزر بدورها كما تتآزر أجزاء الجسم الإنساني فيما بينها لتؤدي وظيفة خاصة، فإن هذه العناصر جميعا تتآزر فيما بينها لتؤدي وظيفة خاصة هي الفكر أو الأفكار التي يستهدفها النص القرآني الكريم.
وسلفا ينبغي أن نشير إلى أن الهدف ما دام هو إيصال مجموعة من الأفكار المحددة حينئذ فإن السورة القرآنية الكريمة قد تتناول هدفا واحد في سورة ما، كما لو قرأناه مثلا سورة قل يا أيها الكافرون حيث أنها تتحدد في هدف واضح هو العلاقة بين المؤمن والكافر، ولكن قد نجد سورا أخرى تتناول هدفين، وقد نجد سورة ثالثة تتناول ثلاثة أهداف أو أربعة أو اكثر، حتى نجد في سورة البقرة مثلا عشرات الأفكار، وعشرات الموضوعات، والآن في ضوء وجود أمثلة هذه الموضوعات كيف تتعامل السورة القرآنية الكريمة مع أمثلة هذه الموضوعات، إذا كان الموضوع واحدا على سبيل المثال فإنها تتناول هذا الموضوع من خلال بداية معينة، ووسط معين، ونهاية معينة، أي تتسلسل وفق تسلسل منطقي أو وفق تسلسل نفسي كما لاحظنا في القصة مثلاً، حيث لاحظتم عند حديثنا عن بناء القصة القرآنية الكريمة كيف أن الأحداث أو المواقف تبدأ حينا من الوسط وحينا تبدأ من الأخير، وقد تبدأ أساساً من البداية، ولكن كل تلك المستويات التي لاحظتموها نجد ثمة نقاط التقاء أو ترابط أو تواشج أو تلاحم بين هذه الجزئيات، حيث بدأت هذه القصة بجزء معين أو بوسط الحدث أو الموقف سوف ترتد إلى بدايته ثم تواصل الرحلة حتى تصل النهاية وهكذا.
كذلك السورة القرآنية الكريمة في بنائها، عندما تتحدث عن واحد، تتحدث عن جزئيات هذا الموضوع فإما أن تبدأ من أخرياته أو من وسطه أو بدايته، بحسب التسلسل المنطقي، وإذا كان الأمر ينتظمه موضعان حينئذ لابد أن يكون بين هذين النمطين خيط رابط بينهم، وإذا كان اكثر فكذلك لابد أن توجد روابط تربط بين هذا الموضوع أو آخر أو إذا قلنا أن هناك عشرات الموضوعات، حينئذ أن هذه العشرات من الموضوعات لابد أن تقف عند محطة معينة تستريح إليها وتنتهي من ذلك إلى المحطة الأخرى بنفس المستوى، وهذا ما نلاحظه في السورة القرآنية الكريمة التي تتحدث عن قصص الأنبياء، حيث تختم كل قصة بآية أو آيتين تتكرر في جميع النص القصصي أو النص السوري الكريم.
وهكذا بالنسبة إلى الموضعات التي تتكرر ولكن وفق أهداف، أو وفق أفكار متنوعة أيضاً فقد تتضمن السورة الكريمة اكثر من فكرة، ولكنها تصب موضعاتها حينا على هذه الفكرة وحينا على الفكرة الأخرى ولكن أيضاً من خلالا ارتباط بعضها مع الآخر، أي من خلال وجود شبكة تلتقي فيها مختلف الخيوط الفكرية، هذا هو باختصار الملخص العام الذي نود أن نوضحه بالنسبة إلى السورة القرآنية الكريمة التي نستهدف الآن منها ان نوضح لماذا حرص القرآن الكريم أن يصوغ القرآن الكريم من خلال سور وليس من خلال آيات متفرقة، هذا ما نبدأ بتوضيحه الآن فنقول إن السؤال الأول الذي ينبغي أن يطرح في هذا الميدان هو، هل أن قراءة آية واحدة من سورة قرآنية كريمة منفصلة عن الآيات الأخرى في السورة، هل له تأثير مماثل لما نقرأه من خلال السورة جميعا والأفضل لكم في ذلك.
إن مفهوم الرحمة ورد في الآية الثانية من سورة مريم (عليها السلام)، إذ بدأت السورة الكريمة بهذا النحو بسم الله الرحمن الرحيم: (كهيعص ذكر رحمة ربك عبده زكريا)، هنا نواجه مصطلح رحمة الله سبحانه وتعالى، هل إن وقوفنا عند هذه الآية الكريمة سيترك أثراً مماثلا لما يترتب عليه من القراءة الكاملة لهذه السورة الكريمة، قد يقول أحدكم إن السورة الكريمة تتناول موضوعات متنوعة وأن الرحمة لها استقلالها عن باقي الموضوعات، ولكننا لا نوافقك على هذا الرأي البتة، لأن السورة الكريمة أية سورة قرآنية كريمة إنما تصاغ وتبنى وفق عمارة خاصة تستهدف طرح موضوع معين أو أكثر، والتأكيد عليه من خلال جملة أساليب فنية، هي التي تترك أثرها عند القارئ حتى لو لم يكن القارئ واعيا بذلك فإن قراءة النص مرة تكون قراءة تترك أثرا يعيه الشخص إذا كان الشخص يمتلك أدوات بلاغية، وحينئذ يفهم ماذا سيترك النص من طرائق فنية لتحقيق هذا الأثر ومن النمط الآخر، من القراء فهم أيضاً عندما يقرأون بوعي بطبيعة الحال التدبر لما يقرأ، حينئذ قد لا يعي الأسرار البلاغية الكامنة وراء هذا الأسلوب أو ذاك، بقدر ما ينتهي إلى حقيقة معينة هي أن قراءة السورة الكريمة عندما ينتهي منها تترك في نفسه أثرا لا يعيه، ولكنه يشكل بعدا معرفيا في ذهنه، ونعود إلى الاستشهاد بسورة مريم (عليها السلام) لاحظوا هل أن الآية التي استهلت بها السورة أي الآية (ذكر رحمة ربك عبده زكريا)، هل مفهوم الرحمة سيتعمق معناه أو تتعمق دلالته في ذهن المتلقي لو اقتصر على قراءة هذه الآية المنفصلة عن السورة الكريمة، هل ستحقق نفس الأثر طبيعيا كلا وسنثبت ذلك من خلال ملاحظة النقاط البلاغية التي تتضمنها السورة الكريمة.
لاحظوا أولاً إن مفهوم الرحمة يتكرر ليس بالنسبة إلى زكريا (عليه السلام) وحده بل ينسحب على مجموعة من الأنبياء الذين ذكرتهم السورة الكريمة فبالنسبة إلى عيسى (عليه السلام) مثلا يقول النص ولنجعله آية للناس ورحمة منا، إذا تكرر مفهوم الرحمة بالنسبة إلى عيسى (عليه السلام)، بعد أن لاحظنا استهلال السورة الكريمة بذكر الرحمة بالنسبة إلى زكريا، ولنقرا أيضاً ووهبنا لهم من رحمتنا من هم هؤلاء أيضاً جاء مفهوم أو كلمة أو عبارة الرحمة، بالنسبة إلى من، كل من إبراهيم وإسحاق ويعقوب (عليهم السلام) ثم ماذا لنقرأ أيضاً، (ووهبنا لهم من رحمتنا أخاه هارون نبيا)، هذا النص ورد بالنسبة إلى موسى وهارون كما لاحظنا، إذا عندما تتكرر عبارة الرحمة عبر الإشارة إلى أكثر من نبي فإن هذا التكرار وإن لم يعيه القارئ، وإنما يحفظ في ذاكرته دون أدنى شك معنا خاصا لا يعيه يثبت في ذهنه هذا المعنى بشكل أو بنحو دون أدنى شك، هذا بالنسبة إلى مجرد مفهوم الرحمة.
ولكن لاحظوا هناك أساليب متنوعة يسلكها القرآن الكريم لتؤثر لاشعوريا أيضاً على المتلقي دون ذلك، لاحظوا كيف أن النص عندما يذكر اسم الله سبحانه وتعالى، أو يذكر إحدى صفاته حينئذ نجده في هذه السورة الكريمة، يتفاوت فيه رصده لهذه الأسماء أو الصفات بنحو يختلف لرصده لهذه الصفات أو الأسماء في سورة أخرى مثلا مصطلح الرحمن هو أحد المصطلحات التي يستخدمها النص القرآني الكريم، ليشير بذلك إلى الله سبحانه وتعالى، بينما نجده في كثير من السور يستخدم كلمة الله ذاتها ويستعمل كلمة الرب وما إلى ذلك، ولكن بهذه السورة بالذات نجد أن النص ينتخب عبارة الرحمن بشكل ملفت للنظر تماما حتى يتكرر بنحو مدهش ولنقرأ إليكم هذه الآيات الكريمة جاء على لسان مريم (عليها السلام) (إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا) وجاء على لسانها أيضاً (إني نذرت للرحمن صوما) وجاء على لسان إبراهيم (إن الشيطان للرحمن كان عصيا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن) ( وعد الرحمن عباده) أي هم أشد على الرحمن عتيا فليمدد له الرحمن مدا أم اتخذ عند الرحمن أهلا نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا وقال اتخذ الرحمن ولدا ان دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إلا أتى الرحمن عبدا سيجعل لهم الرحمن ودا)، لاحظوا كيف أن هذه العبارة عبارة الرحمن وهي أحد أسماء الله سبحانه وتعالى، كيف تكررت بهذا النحو من التكرار المفلت للنظر حقا، طبعا ثمة محورا واحدا هنا يشكل في هذه السورة الكريمة من بين اثني عشر محورا آخر كل هذه المحاور في الواقع تجسد سمات مشتركة بين الشخصيات التي رسمتها السورة الكريمة، حيث أن طابع أو سمة الرحمة التي رسمت هنا حيال كل من زكريا وعيسى وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وهارون، تظل واضحة تماما ومن ثم يظل انتخاب النص لاسم الرحمن لكي تتجانس مع صفة الرحمة وتكرار ذلك بهذا النحو من النظر نقول:
إن كل هذا يشكل أسلوبا واضحا لتعميق معنى الرحمة عند الله سبحانه وتعالى، وانسحاب هذه الرحمة من خلال تواردها على كل من الشخصيات المذكورة من جانب ثم تكرار كلمة الرحمن دون كلمة الله، أو كلمة رب مثل هذا التكرار سوف يحفر في شعور المتلقي هذا المعنى المركز لمفهوم الرحمة سواء أكانت الرحمة التي جاءت في سياق الحديث عن رحمته تعالى لأنبياء معينين بأسمائهم، أو كانت متجسدة في صفة أو في اسم الرحمن الذي انتخب في هذه السورة وتكرر بهذا النحو الذي لم يتكرر في أية سورة أخرى حتى يتجانس مع الرحمة ومع صفة الله ومع اسم الله التي هو الرحمن، وإلا كان من الممكن أن يذكر اسم الله والرحيم و..و الخ كما هو مذكور بأمثلة أخرى.
إذا استخلصنا من هذا المثال الواضح أن النص القرآني الكريم عندما يتناول موضوعا معينا في سورة ما تناول هذا الموضوع سوف يحقق هدفا فكرياً يستهدفه نص القرآن الكريم وهذا الهدف أو الغرض الذي يستهدفه إنما يتم وفق أسلوب تصاغ السورة الكريمة من خلاله ولذلك ثمة نص مفهوم الرحمة بهذا النحو الذي أوضحناه لكم من خلال الأسلوب المشار إليه.
والتكرار من خلال الأسلوب او من خلال التكرار المشار إليه يظل واحدا من ألاساليب ترتبط بتعميق الأثر الذي يستهدفه النص، أو بتعميق الفكرة التي يستهدف النص القرآني الكريم توصيلها إلى القارئ من خلال السورة الكريمة جميعا وليس من خلال آية، وإليكم مثال آخر من ألاساليب التي تعمق هذا المفهوم بنحو لا واع عند المتلقي ولنستشهد به بالنسبة إلى سورة الكهف، لاحظوا أن سورة الكهف تطرح في مقدمتها ظاهرة زينة الحياة الدنيا عبر جملة آيات، ثم تتوكأ على العنصر القصصي في تجلية هذه الظاهرة، إنها تطرح قصة أهل الكهف، كما لاحظتم في محاضرات سابقة بعد أن تمهد لها أو لنقل أنها تأتي بقصة أهل الكف بعد أن تطرح هذه الآية (إنا جعلنا ما على الأرض زينة).. الخ.
هنا طرحت السورة الكريمة في بدايتها مفهوم الزينة ولكنها أعقبت ذلك مباشرة بقصة ماذا، قصة أهل الكهف، ثم طرحت من جديد أيضاً مفهوم الزينة وطرحت من خلال ذلك قصة صاحب الجنتين ثم طرحت قصة ذي القرنين في مواقع مختلفة من النص، وحتى الطرح لقصة موسى (عليه السلام) سنجد أن المتلقي في الواقع عندما يواكب هذه القصة سوف ينتهي من قراءته للسورة الكريمة من خلال ازدحام خاطره بأكثر من موقف يتعلق بهذا الجانب، ولكن هذه المواقف جميعا تتأتى في الواقع من خلال أسلوب التضاد بين هذه الموضوعات أو القصص.
ففضلا عن التكرار لنقول زينة الحياة متمثلة في قصص كل من صاحب الجنتين، وأصحاب الكهف وذي القرنين، وموسى والخضر مع هذا التكرار للقصص التي تتناول ظاهرة الزينة بشكل لاواع، نجد أن الأسلوب الذي اتخذه هنا هو أسلوب التماثل والتضاد، فكما لاحظتم أن أهل الكهف التجئوا إلى الكهف ونبذوا زينة الحياة الدنيا تماما، نجد مقابلها القصة التي تتحدث عن صاحب المزرعتين اللتين تسببتا في أن يصبح صاحبهما على عكس أصحاب الكهف تماما أي أنه تشبث في زينة الحياة الدنيا على عكس أصحاب الكهف الذين نبذوا زينة الحياة الدنيا تماما واتجهوا إلى الكهف، بينما نجد صاحب المزرعتين قد تشبث في زينة الحياة الدنيا إلى آخر نفس من أنفاسه، وذلك عندما كان يدل بصاحبه على هذا الجانب ويقول له أنا أعز منك مالا واعز نفرا الخ. حتى أنه شكك بقيام الساعة (ما أظن الساعة قائمة)..الخ.
إذا هذا التضاد بين شخصيتين إحداهما، أو بالأحرى بين مجموعة شخصيات، المجموعة الأولى تمثل أهل الكهف تضادها الشخصية التي تشبثت عكس السابقين بزينة الحياة الدنيا.
والآن لنلاحظ أو امتد الآخر هذه الشخصية التي تملك فحسب مزرعتين عاديتين ما قيمتهما تجاه شخصية ذي القرنين الذي يملك شرق الأرض وغربها، لاحظوا كيف أن النص القرآني الكريم عندما تحدث عن قصة ذي القرنين ذكر الشرق وذكر الغرب، ذكر مشرق الدنيا وذكر مغربها، وان ذي القرنين قد ملك كلاً من شرق الأرض وغربها، مقابل هذه الشخصية التي ملكت مزرعتين بسيطتين، فمع أنها ملكت مزرعتين بسيطتين من خلال تشبثها بزينة الحياة الدنيا، استتلى ذلك موقفها ماذا استتلى ان تشكك بقيام الساعة بعكس ذي القرنين الذي ملك شرق الأرض وغربها وليس مزرعتين، وإنما جانبي الدنيا كلها ملكها مع ذلك نجد انه أي شخصية ذي القرنين يشكر نعمة الله سبحانه وتعالى ويقرر قائلأ: (هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكا وكان وعد ربي حقا).
لاحظوا موقف هذه الشخصية من اليوم الآخر، مقارنة بموقف صاحب المزرعتين من اليوم الآخر إذا لاحظوا هذا التضاد بين هاتين الشخصيتين من جانب، ثم لاحظوا التضاد بين شخصيتي صاحب المزرعتين أيضاً من جانب، وأصحاب الكهف من جانب آخر، من زاوية ثالثة لاحظوا جانب التماثل بين شخصيات أهل الكهف وشخصيات ذي القرنين من حيث تماثل موقفهم.
إذاً التماثل والتضاد كالأسلوب لترسيخ مفهوم زينة الحياة الدنيا وضرورة نبذها بخاصة وأنها اقترنت بآيات واستهلتها تتحدث جميعا عن زينة الحياة الدنيا كالآية القائلة (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها)، والآية القائلة: (ولا تعدو عيناك تريد زينة الحياة الدنيا) والآية القائلة: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا).. الخ.
كل أولئك أي هذه الآيات مضافا إلى قصص تألفت وتآزرت جميعا لتقدم مفهوما عن زينة الحياة الدنيا بالنحو الذي أوضحناه.
فإن جاء مفهوم زينة الحياة الدنيا من خلال قراءة السورة كليا تاركا أثره اللاواعي على شخصية المتلقي وهو واحد من مظاهر الإعجاز الفني دون أدنى شمك ونكتفي بهذا القدر ونحاول أن نحدثكم عن جوانب أخرى والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.