محاضرات علوم القرآن - المحاضرة 31
لا نزال نتحدث عن العنصر الإعجازي في بلاغة القرآن الكريم حيث حدثناكم سابقا عن جملة من عناصر الإعجاز البلاغي، كالإعجاز القصصي وسواه وتحدثنا سابقا عن الإعجاز بالمستوى الصوري، أي الإعجاز في الصورة الفنية في القرآن الكريم، متمثلة في أشكال كالتشبيه والاستعارة والترحيل والتقريب وما إلى ذلك من الأشكال التي سنعرض لها عابرا، ولكننا انتهينا في المحاضرة السابقة إلى أحد أشكال العنصر الصوري وهو التشبيه بصفة أن التشبيه يمثل اشد الأشكال الصورية استخداما في القرآن الكريم.
ولهذه الكثرة في الاستخدام أو لهذه النسبة الضخمة بالنسبة إلى استخدام التشبيه وافتراقه عن الصور الأخرى، ينبغي علينا في الواقع أن نعلل ذلك من الوجهة البلاغية ما دمنا نتحدث عن الإعجاز الفني للقرآن الكريم، فالملاحظ وهذا ما أشرنا إليه عابرا في محاضرة سابقة من أن الاستخدام البشري للعنصر الصوري يظل متفاوتا من جيل إلى آخر، فمثلا نجد أن الموروثين كانوا يستخدمون التشبيه، ولكن المعاصرين يذهبون إلى أن التشبيه لا يتوافق وطبيعية العصر الحاضر لأن التشبيه من خلال كونه يعتمد على أداة تربط بين الشيئين إنما يمثل أسلوباً بدائيا في التفكير، بينما نجد أن الاستعارة مثلاً الرمز حيث في الاستعارة لا توجد أداة تربط بين شيئين بل يندمج الشيئين في شيء واحد، وفي الرمز الذي يجسد صورة حاضرة لما هو غائب، حينئذ يظل هذان التعبيران أشد عمقا وأشد حضارة من التعبير عن الحقائق من خلال التشبيه.
وقلنا أيضاً أن أمثلة هذا الكلام يظل في الواقع تعبيرا ساذجا لدى هؤلاء البشر، وليس التشبيه هو التعبير عن الظواهر البسيطة أي التي تتطلب بدائية في التفكير هذا من جانب، من جانب آخر نجد أيضاً بعض الاتجاهات البشرية حينما تفرق بين التشبيه من جانب وبين الاستعارة الرمز ونحوهما من جانب آخر، تجنح أيضاً وهذا يتفاوت من جيل إلى آخر، يجنح بعضها إلى تغليب الاستعارة وجعل الاستعارة دائماً هي العنصر الأشد بروزا فنيا من العناصر الأخرى، مقابل من يجد أن الرمز هو الصورة الأشد بروزا من السورة الأخرى، وهكذا وكل واحد من هذه الاتجاهات يفضل تسويغاً غير مقبول كما قلنا ودليلنا على ذلك أن نفس الاتجاهات الأرضية تقع في مفارقات ضخمة عندما نقرأ النصوص التي تعتمد على كل من التشبيه أو الاستعارة والرمز نجد أن الخبط في استخدام هذه المستويات كاشف بوضوح عن أن المسألة ليست خاضعة لتحليل فني دقيق بقدر ما يمثل مجرد تقديم آراء اعتباطية لا تستند إلى أساس عميق البتة.
ولكننا حينما نتجه إلى القرآن الكريم نجد أن استخدام النص القرآني الكريم لهذه المستويات ينطوي على مهارة فائقة دون أدنى شك لأن المسألة هي مسألة إعجاز من الله سبحان وتعالى، وليست مجرد نظرات أرضية يطبعها تصور خاطئ، بصفة أن البشر أساسا لا يملكوا تصورا صائبا بشكل مطلق، بشكل ما هو خاضع للأخطاء المتفاوتة بقدر على ذلك ما نلاحظه من جانب من عمليات التطور لكثير من الأساليب، ومن جانب آخر ما نشاهده أيضاً من خلال تفاوت وجهات النظر خلال الجيل الواحد نفسه، وحينئذ ما دام التطور من جانب يفرض ضرورته على البشر، نجد التفاوت في وجهات النظر حتى في نقاط الجيل الواحد يكشف أن الإنسان خاضعا بطبيعته إلى الخطأ ولا يمكن الركون إلى يقين علمي فيما يذهب إليه إلا بالنسبة إلى الحقائق المشتركة التي لا يتفرط فيها اثنان. بغض النظر نود أن نكرر الإشارة إلى أن القرآن الكريم يظل هو المعيار المعجز في فرز الحقائق الفنية وسواها، من الحقائق العلمية وما إلى ذلك.
وفي النطاق الذي نتحدث عنه وهو التشبيه نجد أن القرآن الكريم يستخدم النسبة الضخمة من التشبيه بالقياس إلى النسب الأخرى التي نلاحظها بالاستعارة و الرمز والتقريب وما إلى ذلك، والسبب في ذلك هو أن النص القرآني الكريم وهذا ما حدثناكم عنه أيضاً في محاضرات سابقة وما أوردناه في مختلف الكتب التي تتحدث عن القرآن الكريم، نقول:
إن النص القرآني الكريم يستهدف توصيل مبادئ الله إلى الآخرين والمهم هو عملية التوصيل، وان الأداة الموصلة تظل مجرد وسيلة لتعميق الدلالة المستهدفة في القرآن الكريم، إذا الدلالة هي المستهدفة أساسا واما اللغة الوسيلة إلى تلك الدلالة المشار إليها، حينئذ فإن النمط الوسيلة في الواقع يخضع لنمط الدلالة المستهدفة من هنا فإن بعض الحقائق التي يستخدمها القرآن الكريم إذا كانت تتطلب تشبيها حينئذ فيتوسل في الأداة التشبيهية لتوصيل الدلالة المذكورة، وإذا كان الموقف يتطلب أداة استعارية حينئذ متوكأة على الاستعارة توصل إلى الهدف المذكور، وهكذا بالنسبة إلى سائر أنماط الصور التي تتطلب هذه الوسيلة أو تلك وبما أن الغالبية في كل شيء يراد تعليق دلالته هو إقامة مقاومة بين الطرفين، حينئذ فإن التشبيه يظل أشد الأشكال كثرة من حيث الاستعمال لتعميق الحقائق، إنه من الواضح جدا أن المقارنة بين شيئين هي التي تجعل في الغالب الاستجابة البشرية مقرونة بما هو مقنع وبما هو معمق للدلالة المستهدفة في هذه الظاهرة أو تلك، إن كل واحد منا عندما يقارن لديه هذا الشيء بالشيء الآخر حينئذ تتعمق معرفته، وكما استشهدنا في المحاضرة السابقة وقلنا أن القرآن عندما يريد أن يقارن بين عقلية الكافر وعقلية الأنعام، حينئذ يقيم مقارنة بين الأنعام وبين الكفار، ويقول انهم كالأنعام، وهكذا عندما يريد أن يقارن بين قسوة قلب اليهودي وبين قسوة الحجارة حينئذ يقارن بين الحجارة وبين قلب اليهودي، فيقول إن لهم قلوبا كالحجارة وهكذا.
حينئذ فإن المقارنة بين الشيئين تتطلب التشبيه بينهما بالنحو الذي لاحظناه، من هنا يكثر عنصر التشبيه بالقياس إلى سائر الصور الأخرى وهذا ما هو يفسر لنا سبب التشبيه من حيث كثرته، من هنا فإن المعيار الساذج الذي يقدمه بعض الأرضيين الذين يغلفهم القصور والخطأ والبساطة في التفكير حينما يذهبون إلى أن التوكأ على أداة واضحة هي تعبير عن البساطة إنما يعبرون عن بساطة عقولهم وليس بساطة ما نجده من التسويغات التي قدمناها الآن عن التشبيه، وهذا واحد على سبيل المثال من الأخطاء التي تغلف الاتجاه الأرضي، ولكننا عندما نتجه إلى القرآن الكريم نجد أن هذه الحقيقة التي ربما تكون غائبة عن أذهان هؤلاء هي التي تفسر لنا ما ذكرناه، من التشبيه يجسد عملية المقارنة في الغالب، وإنما نقرر في الغالب ولنفترض أن النسبة هي نسبة ثمانين بالمئة، حينئذ فإن عملية المقارنة بين الشيئين وفق النسبة المذكورة تظل فارضة مشروعيتها كما هو واضح من خلال الأمثلة التي قدمناها، ولكن هناك سياقات أخرى تتطلب نمطا غير التشبيه كالاستعارة أو الرمز وحتى التشبيه كما لاحظتم في المحاضرة السابقة، حتى التشبيه في حدود مقارنته بين ظاهرة وأخرى يظل خاضعا بمستويات دقيقة جداً أوضحناها من خلال ذهابنا إلى أن كلاً من الأدوات الثلاث أي أداة الكاف وأداة كأن وأداة مثل، تمثل كل واحدة منها نسبة معينة من التجسيد لأوجه المقارنة بين الشيئين فقلنا أن مثل تجسد النسبة العظمى، وكأن تجسد النسبة الصغرى، والكاف تجسد النسبة العالية، أو الموازنة بين الطرفين لاحظوا هذه الدقة الإعجازية كيف أنها تثبت بوضوح بان النص القرآني الكريم إنما يمارس عملية تشبيه بين الظاهرتين أو بالأحرى ما يلتجأ إلى الصورة فينتخب التشبيه بدلا من سواه إنما يخضع ذلك لسياق تفرضه الضرورة التوصيلية أو الضرورية المستهدفة لتعميق هذه الحقيقة أو تلك، وهكذا بالنسبة إلى انتخابه هذا النمط من التشبيه المتكأ على الأداة كان، أو من ذاك النمط المتكأ على الأداة مثل، أو الثالث من الأنماط المتكأ على أداة الكاف، وهكذا بالنسبة لانتخابه التشبيه بدلا من سواه ومن ثم انتخاب سواه في سياقات خاصة بدلا من التشبيه، ولعلنا نستطيع الآن أن نقدم لكم بعض الأمثلة الواضحة جدا لتدركوا الإعجاز البلاغي الذي نجده في القرآن الكريم من خلال استخدامه لهذه الأنماط من الأنماط الصورية.
فمثلا نجد أن النص القرآني الكريم في قوله تعالى عبر سورة الدهر حيث يتحدث على لسان الإمام علي (عليه السلام) وفاطمة الزهراء (عليها السلام) والحسن والحسين، عبر ما يجريه على لسانهم من التصدق على كل من اليتيم والمسكين والأسير، حيث يقولون (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء) ثم يقول: (إننا نخاف من ربنا يوما عبوسا) ما يعنينا من هذا الاستشهاد هو اليوم العابس، والسؤال هو الآن على النحو الآتي ألا كان من الممكن أن يقول النص القرآني الكريم إننا نخاف من ربنا يوما كالوجه العابس، أي أما كان من الممكن أن يتوكأ النص القرآني الكريم على التشبيه بدلاً من الاستعارة، لماذا انتخب الاستعارة هنا بدلا من التشبيه، أما كان من الممكن أن يقول إنا نخاف من ربنا يوما كالوجه العابس، كان بإمكانه أن يقول ذلك، ولكن لاحظوا الدقة في الدلالة لاحظوها بشكل جيد إن تشبيه أهوال يوم القيامة وهي أهوال لا يمكن تصورها البتة هل يمكن أن نشبهها من حيث الضخامة والحجم بوجه بشري عابس، ما قيمة الوجه البشري العابس تجاه الأهوال التي تلاحظ في اليوم الآخر من هنا فإن تشبيه الشيء بشيء من خلال الأداة الكاف ومن خلال قولنا كالوجه العابس، يظل تشبيها لا يجسد الحقيقة التي يستهدفها النص القرآني الكريم. ولذلك تحول إلى الاستعارة وصاغ الاستعارة فقال إننا نخاف من ربنا يوما عبوسا، أي جعل اليوم هو العابس وليس الوجه إذا عندما نخلع العبوس على اليوم نفسه وليس من خلال المقارنة بينه وبين وجه عابس حينئذ نكون قد عمقنا هذا المعنى وجسدنا الدلالة المكثفة التي يستهدفها النص القرآني الكريم من خلالا انتخابه لهذه الاستعارة بدلا من التشبيه، إذا لاحظوا من خلال هذا النموذج الواضح جدا وهناك نماذج كثيرة يمكننا أن نستشهد بها واحدا واحدا، ولكن المحاضرة لا تسمح بذلك، وإنما نستهدف حسب أن نشير إلى أن النص القرآني هو نص إعجازي يتحدث عن الحقائق بهذا العمق وبهذه الدقة التي لن يلاحظها التصور البشري كما هو واضح.
وما نلاحظه الآن من هذا الفارق بين استخدام القرآن الكريم للصورة التشبيهية حينا كثيرة وبين استخدامه للصورة الاستعارية حينا قليلا، حينئذ سنجد أيضاً ثمة مسوغات فنية متنوعة بالنسبة إلى الصور الأخرى حيث سنواجه فيما نحدثكم عنه لاحقا سنواجه الفارق مثلاً بين الاستعارة وبين التمثيل أيضاً كما لاحظنا الآن الفارق بين التشبيه وبين الاستعارة أيضاً، ستجدون كيف أن هذه الفوارق بدورها متجسدة في نصوص قرآنية واضحة تجمع أحيانا في آية واحدة تجمع بين ما نسميه مثلا بالاستعارة وبين ما نسميه بالتمثيل أو بين ما نسيمه بالتشبيه وما نسميه بالتمثيل إلى آخر ما ستلاحظونه من الفوارق الدقيقة التي يقيمها القرآن الكريم، مقارنة للشطحات أو المفارقات التي تتحدث عنها البلاغة البشرية وفي مقدمة ذلك ما تدرسونه مع الأسف الشديد في البلاغة الموروثة التي تزعم أنها تتحدث عن بلاغة القرآن الكريم ولكن المبادئ البلاغية المرسومة في هذه الكتب الموروثة أساسا تتعارض مع بلاغة القرآن الكريم وهذا مما يؤسف له جدا.
على أية حال نواصل الآن حديثنا عن هذا الجانب ونكرر الإشارة إلى أن القرآن الكريم عندما يستخدم عنصر التشبيه أكثر من سواه فلأنه هناك مسوغات أوضحناها لكم بالشكل المتقدم.
والآن لنتابع الحديث عن سائر الصور ونوضح المسوغات التي تجعل من جانب عنصر هذه الصورة أقل استخداما من الصورة التشبيهية هذا من جانب، ومن جانب آخر نوضح المسوغات التي تجعل الركون إلى هذه الصور في سياقات خاصة هو الأفضل من حيث الدلالة المستهدفة في هذه الظاهرة أو تلك، بالنسبة إلى الاستعارة تجيء الاستعارة من حيث النسبة الاستخدامية في القرآن الكريم تجيء في الدرجة الثانية من الاستخدام بالقياس إلى التشبيه الذي قلنا انه يجيء في الدرجة الأولى وكما لاحظتم بالنسبة للمسوغات التي حدثناكم عنها بالنسبة إلى التشبيه إلى أن المقارنة بشكل عام بين الظاهرتين يستهدف منهما تعميق الدلالة الخاصة بالنسبة إلى المتلقي، ولكن هناك سياقات أخرى يظل تعميق الدلالة فيها متناسبا مع جزئيات معينة من الدلالة تتناسب مع ظاهرة الاستعارة بالشكل الذي حدثناكم عنه قبل قليل، عندما قلنا أن الجزئيات المتصلة في يوم القيامة تفرض صياغة استعارية بدلا من التشبيهية لأن القائلة بانا نخاف يوما عبوسا، هي أشد تجانسا مع هول يوم القيامة من خلال التشبيه القائل مثلا إنا نخاف من ربنا يوما كالوجه العابس، حتى الوجه العابس لا يتناسب في هوله مع الهول الضخم الذي يطلع يوم القيامة.
المهم عندما نتحدث الآن عن الاستعارة ونقول أنها تجيء في المرتبة الثانية من الاستخدام، حينئذ فإن استعارات خاصة تفرض يوم الاستخدام بالشكل الذي نبدأ الآن فنحدثكم عن ذلك عابراً أيضاً. ولكن من خلال الإشارة إلى بعض الجزئيات التي ينبغي أن نلفت الانتباه عليها، وإذا قلنا أو إذا تتذكرون جيدا أننا عرفنا التشبيه بأنه هو إحداث علاقة بين الطرفين من خلال جعل أحدهما مشابها للطرف الآخر من حيث وجود صفة مشتركة بينهما، وأما الاستعارة فنعرفها بالنحو الآتي، هي أيضاً إحداث علاقة بين الطرفين ولكن من خلال إكساب أحدهما ليس الصفة المشابهة بل من حيث إكساب أحدهما الصفة الآخرى أي خلع صفة مختصة بشيء على شيء آخر، أو لنقول إكساب صفة شيء وخلع هذه الصفة على شيء آخر، كقوله تعالى (والصبح إذا تنفس) أو كقوله تعالى (واشتعل الرأس شيبا) أو قوله تعالى (إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا) أو قوله تعالى (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة)...الخ. الاستعارات القرآن الكريم.
ومن هنا ندرك الفارق بين الاستعارة والتشبيه حيث يكون الفارق بينهما هو أن التشبيه يتضمن الطرفين أحدهما يشابه الآخر بينما الاستعارة تتضمن الطرفين، أحدهما يستعير أو يكتسب صفة الآخر والفارق بينهما من الوضوح بمكان، طبيعيا يلاحظ أن بعض الاتجاهات الموروثة التي تتحدث عن البلاغة نجد أنها لا تفرط بين أنماط من خاصة من الاستعارة وبين التشبيه، مع أن الاستعارة تحدث فيها أداة التشبيه ولكن مع ذلك نجد أن البلاغيين، من يذهب بعضهم إلى أن الاستعارة في بعض أشكالها هي في الواقع تشبيه، أو من يذهب في أحسن الحالات ولكن حذفت أداتها وهذا هو النظرة الساذجة، أو التصور الساذج جداً بالنسبة إلى هذا الجانب، وإلا إذا قلنا بأن التشبيه والاستعارة يصبان في دلالة واحدة، وإنما حذف هذه الأداة هي التي تكسب الاستعارة هذه الصفة، وافتراقه عن الصفة التشبيهية، أو يظل كما قلنا ومن هنا فإنا لا نرجو من هذه الفوراق بين الاستعارة والتشبيه، بل نجد أن الفوراق بينهما من الدقة بالشكل الذي لاحظتموه من خلال استشهادنا باليوم العابس، ومقارنته بالوجه العابس والفارق الكبير من حيث الدقة الدلالية في هذا الجانب.
على أية حال نغض النظر عن الأخطاء التي تغلف الاتجاهات البلاغية التي تتحدث عن هذه الجوانب نقول بغض النظر عن ذلك، فإنا نود الآن أن نشير للمرة الجديدة بان الاستعارة لها سياقات خاصة وليست مجرد حذف أداة في هذه الظاهرة مقابل وجود ظاهرة أخرى، على أية حال حدثناكم عن المسوغ لاستعارة نتحدث عن مستوياتها ولكن لا ندخل في التفصيلات المملة، والمتشابكة التي طرحها الأقدمون في هذا الجانب لأنها لا تعود بأية فائدة من حيث بروز الإعجاز القرآني الكريم، بقدر ما تمثل مجرد تفريعات لا تترتب عليها فائدة، وتبدو بها البتة من هنا فإن حديثنا عن الاستعارة سوف يكون محدودا بما تترتب عليه الفائدة، وهو أمر يمكننا أن نتوكأ به على القرآن الكريم، من حيث استخدامه لهذه الاستعارات، بيد أن الحديث عن هذا الجانب أيضاً يجرنا إلى تفصيلات أخرى أو بالأحرى يجرنا إلى إسهاب لا يتناسب مع حجم المحاضرات التي نريد أن نتحدث فيها عن أكبر نسبة ممكنة من الصور البلاغية من هنا فنحن نحضر هذه الجوانب ونعيد الطالب إلى كتابنا القواعد البلاغية في ضوء المنهج الإسلامي حيث أوضحنا تفصيلات لهذا الجانب تماما كما ننصحه بالعودة إلى كتاب دراسات فنية في صور القرآن حيث تناولنا في هذا الكتاب جميع الصور القرآنية الكريمة الواردة في القرآن الكريم ونطلب من الطالب أن يرى إلى ذلك، ليلاحظ التفصيلات التي تتصل بهذا الجانب، من هنا سوف نتجاوز الحديث عن الاستعارة بعد أن أوضحنا نسبتها من جانب ثم أوضحنا مسوغاتها من جانب آخر نقول نكتفي بهذا لنتجه إلى نمط ثالث من الصور الفنية من القرآن الكريم وهي صورة ما أسميناه بالتمثيل وإذا تذكرتم بالتعريفات السابقة بالنسبة للتشبيه الذي قلنا انه إحداث علاقة بين طرفين من خلال جعل أحدهما مشابها للآخر، وتعريف الاستعارة أيضاً أنها علاقة بين طرفين من خلال إكساب حديث الآخر عندما نتحدث عن التمثيل نقول هو إحداث علاقة بين طرفين ولكن من حيث جعل أحدهما تمثيلا وتجسيما للطرف الآخر، بحيث يكون أحدهما من جانب عينا آخر، أو يكون من جانب ثان هو بمثابة تعريف للطرف الآخر.
إن قوله تعالى (وما الحياة الدنيا إلا لعب) على سبيل المثال يظل في الواقع بمثابة تعريف للحياة الدنيا، اما قوله تعالى (ألم نجعل الأرض مهادا)، فالمهاد هنا جعل بمثابة صيرورة أو فعل يتحول الطرف الأول وهو الليل إلى شيء يجسمه الطرف الآخر وهو المهاد، طبيعيا ثمة صياغات متنوعة تتم بالنسبة إلى صياغة التمثيل فقد يكن من خلال التفضيل والنفي والتمييز والاستفهام وما إلى ذلك، لكننا لا نتعرض الى هذه التفصيلات لكنها تتطلب وقتا لا يتناسب مع المحاضرة، ولكن نريد أن نشير فحسب إلى وجود الفارق بين التمثيل وبين التشبيه وبين الاستعارة، وذلك لأننا نجد أن البلاغيين يظل بعضهم يناظر للتمثل، وكأنه نموذج يدرج ضمن التشبيه من جانب، ويختلط مع الاستعارة في بعض التراكيب أو التركيبات من جانب آخر.
أما نحن فنجد أن التمثيل هو صورة مستقلة بذاتها تختلف تماما عن التشبيه وتختلف تماماً عن الاستعارة وسنستشهد بمثال من القرآن الكريم هو قوله تعالى: (فإذا انشقت السماء فكانت وردة) حيث تجدون هنا أننا نواجه أولا القول، أو نواجه الصورة فكانت وردة، هذه الوردة يتحدث عنها البلاغيون القدامى يجدوا أنها تشبيها بينما نجد أن الكلمة التي تقف إلى جانبها وهي كالدهان هي التشبيه وحينئذ هل يكون كل من الوردة والدهان تشبيها مستقلا بذاته، هذا ما سنثبت عدم مقوليته البتة بالشكل الذي سنوضحه بعد قليل إن شاء الله.
المهم نود أن نؤكد ونكرر أن التوكيد وهذا يظل جانبا من الإعجاز القرآني الكريم، يظل صورة مستقلة عن كل من التشبيه ومن الاستعارة ولكي يتضح لكم في البداية هذه الفوارق بين هذه الأنماط الثلاثة سنعرض لكم مثالاً بسيطا هو قولنا مثلا الإيمان كالنور، حينئذ نكون أمام تشبيه عندما شبهنا الإيمان بالنور من خلال الأداة الكاف، الإيمان كالنور، وحينا ثانيا نقول الإيمان نور، وحينا ثالث نقول نور الإيمان، وحينا رابعها نقول نور ونرمز به، لاحظوا هذه أربع صياغات تربط بين كل من النور وبين الإيمان لا أن لكل واحدة من هذه الصياغات الدلالة خاصة يجب أن لا نضعها جميعا في خانة واحدة، فنقول الإيمان كالنور، أو الإيمان نور، أو نور الإيمان، كلها تصب في دلالة واحدة كلا، كل واحدة من هذه الصياغات تصب في دلالة خاصة لها دقتها بالشكل الذي أوضحنا بعضها في موقف سابق وبالشكل الذي سنوضحه لاحقا إن شاء الله.
وفي مقدمة ذلك ما نود أن نوضحه من الفارق بين كل من التمثيل والتشبيه، في المقام الأول ونستشهد كما أشرنا قبل قليل بالآية القرآنية الكريمة القائلة: (إذا انشقت السماء) فكانت وردة كالدهان وهذا ما سنبدأ به الآن فنتحدث عنه.
إن التمثيل كما قلنا هو إحداث علاقة بين طرفين أحدهما يجسد الآخر بمثابة تعريف له أو بمثابة صيرورة له، وهذا ما نلحظه في الصورة الأولى من الآية القرآنية الكريمة القائلة فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان حيث أن عبارة وردة هي المجسدة لعملية التمثيل، وقد تفرع من هذا التمثيل تصوير آخر أو بالأحرى تفرعت من الصورة التمثيلية صورة تشبيهية هي قول تعالى (كالدهان)، هنا نواجه بطبيعة الحال نمطا بلاغياً من التداخل بين الصور، ولعلكم تتذكرون التداخل بين الصور التشبيهية، حيث كان على مستويات متنوعة، هنا أيضاً الصور بشكل عام تتداخل مع بعضها الآخر أي قد تتداخل تشبيها مع تمثيل، وتمثيل مع استعارة، واستعارة مع رمز، وكل هذه مع بعضها الآخر بالشكل الذي نشير إليه عابراً أيضاً.
والمهم أن للتداخل أيضاً مسوغات بلاغيه وإعجاز فني الذي نلاحظه في القرآن الكريم.
ولكن بغض النظر عن ذلك أي بغض النظر عن التداخل نود هنا أن نشير إلى التداخل من خلال التوكأ على صورتين إحداهما صورة تشبيهية، والأخرى صورة تمثيلية لفرز الفارق بينهما وهذا ما ينطوي عليه من الدقة التي ستلاحظونها الآن.
إن النص يتحدث عن قيام الساعة وكيفية زوال الحياة الدنيا ومنها نهاية السماء حيث يشير النص إلى تصدع هذه السماء، طبيعيا إن مادة السماء تظل مجهولة للبشر على العكس من المواد الأخرى كالأرض أو الجبال مثلا، عندما تشير النصوص القرآنية الكريمة أيضا تظل إلى إزالتها عند قيام الساعة، ولكن بالنسبة إلى مادة السماء يظل الأمر مجهولا كما قلنا من حيث المادة وأما من حيث اللون فلعل في هذا الجانب بعض الوضوح النسبي بغض النظر عن مدى خضوعه عن الحقيقة أو الخداع البصري، أي ما نراه الآن من اللون الخاطف للسماء ربما يكون ذا لون آخر والخداع البصري الذي يلفنا من الممكن أن يحملنا على أن نشاهد لون السماء بهذا الشكل الخاص، ولكن بغض النظر عن ذلك كله يهمنا الآن أن نتحدث عن هذه الصور التي تحدثنا عن الظاهرة المذكورة من حيث تصدعها مقرونة بالإشارة إلى النصوص التفسيرية لأن النصوص التفسيرية سوف تساعدنا كما كررنا من جانب، تساعدنا على أن نعمق فهمنا لهذا الجانب ولكن من الجانب الآخر التذوق الفني وهذه النصوص الإعجازية، هو الذي أيضاً يحملنا على أن نستخلص هذا المبنى أو ذلك، نقول إننا نحتمل على خلاف ما يلاحظه البلاغيون القدماء من أن كلا من الوردة والدهان يجسدان تشبيهاً من جانب، ومن جانب آخر يقول هؤلاء المعنيون بهذه الظاهرة، يقولون أن كلا الموضوعين يشيران إلى سمك السماء، وليس إلى لونها، وأما اللون فقد أشار النص إليه من خلال الصور التمثيلة القائلة (وانشقت السماء فكانت وردة)، حيث أن الوردة كما ورد في اللغة هي الفرس أو اللون الأبيض من الفرس، أو الفرس الذاهب إلى الصفرة أو الحمرة كما يشير المفسرون ذلك، ولكن يشيرون أيضاً إلى إمكانية أن يكون المقصود منها وردة النبات الغالب عليها اللون الأحمر، وفي الحالين يظل اللون الأحمر هو المستهدف المشار إليها بناء على صحة التفسير اللغوي المذكور.
أما أننا نستطيع أن نفسر فنيا سببية هذا اللون دون سواه، فهذا متعذر كما قلنا إلا إذا اخترنا وجود احد الخبراء الفيزيائيين الذي سوف يتكفل بتوضيح ذلك من هنا فإن التفسير الفني للصور ينحصر في سببية الصورة التمثيلية وليس تشبيها وهذا ما نود أن نعرفه الآن، بيد أن التفسير فنياً هنا يتوقف على معرفة الصورة التشبيهية أيضاً فالملاحظ أن تفسير الفنيين مثلا كما قلنا يذهبون إلى أن التشبيه بالدهان ينصب على اللون بمعنى أن النص شبه الوردة بالدهان أو الزيت، ونحوه من حيث اختلاف ألوانه وحينئذ نكون أمام تشبيهين في نظر المفسرين، الأول منهما يشبه السماء بلون الوردة والأخير يشبهها بلون الدهان، ولكن لاحظوا مثل هذا التفسير من الصعب أن يتقبل لأسباب فنية منها الصورة الأولى ليست تشبيه بل هي تمثيل بدليل خلوها على التشبيه، وبدليل عدم ضرورة تشبيه أحد الألوان بلون ثان فهل يصح مثلاً أن نشبه شروق الشمس بوردة حمراء ثم نشبه الوردة الحمراء بفاكهة حمراء، لا نعتقد أن أحداً يتقبل ذلك ولابد أن يكون هناك سر آخر من الزاوية الفنية، لذلك نحتمل أن تكون الصورة الأولى مرتبطة باللون، والصورة الثانية مرتبطة بالسمك أي المادة يدلنا على ذلك اختلاف الصورتين، حيث قلنا أن الصورة الأولى تشبيهية، والثانية تمثيلية مضافا إلى أن التشبيه أحد التسميتين من الآخر غير مقبول في هذا السياق كما أن هناك تسويات أخرى لاحظتموها، أيضاً لاحظنا من الصور التشبيهية المتفرعة ولكن أشرنا إلى أن النص القرآني الكريم في كل سياق معين ينتخب صورة معينة، فمثلا عندما يشبه النص القرآني الكريم، وهذا ما استشهدنا به في محاضرة سابقة، عندما يشبه النص القرآني الكريم عمل المرائي في إنفاقه ويشبه الأخير وعملهما جميعا بصفوان عليه تراب، أو يشبه عمل النار بالمهل وبغلي الحميم، أيضاً لاحظتم هذا التشبيه في محاضرة سابقة، نقول حينئذ نكون أمام تشبيهات تفريعية لها تسويغاتها الفنية الواضحة، على العكس من الصورتين اللتين نحن في صددهما الآن، إذ لا معنى لأن نشبه لون السماء بالفرس ويشبه الفرس لونه بالدم، بقدر ما يمكن الذهاب إلى أن النص من الممكن أن يتعارض كل من لون وسمك السماء من خلال التمثيل ومن خلال التشبيه، وأول ما يثير التساؤل هنا هو أن النص وهو يتحدث عن صفرة السماء يستهدف لفت أنظارنا إلى لونها أم إلى سمكها، إنما يتبادر إلى الذهن السمك، وهذا لا يمنع أيضاً أن يحدثنا عن اللون، ولكن السمك مقرونا باللون من هنا نميل إلى التفسير الذاهب إلى أن الوردة ليست الفرس إنما النبات، لأن النبات يتميز بهشاشة كما هو واضح، والانشقاق، انشقاق السماء في اليوم الآخر يتناسب مع الهشاشة، وحينئذ يكون النص قد ذكر لنا أولاً سمك السماء من حيث هشاشتها بعد التصدع، ويمكن أن يتحدث بعد ذلك عن اللون ويشير إلى الدهان وهو زيت يتلون بأكثر من لون، ولكن حتى في هذا السياق نحتمل أن يكون الدهان أيضاً مرتبطاً بالسمك حيث أشار البعض من المفسرين أن المقصود به الأديم الأحمر، فالدهان سواء كان دهناً أم أديماً أحمر أو هشاشة أقرب إلى السمك منه إلى اللون، وحينئذ يكون النص قد تحدث في الحالتين عن سمك السماء بعد انشقاقها مشيراً إلى هشاشتها المتجسدة أولا في وردة، ثم تشبيه ذلك بالدهان لكن قد يرد نفس التساؤل ما معنى أن يجسد الانشقاق في وردة وأن يشبهها بالدم، يجيب إنما نحتمل فنيا التعاون بين كلا من السمك واللون في آن واحد، ويدلنا على ذلك أن الوردة لها مادتها ولونها غير أحدهما عن الآخر ويعد ذلك تشبيه، حيث أن البعض أشار إلى أن المقصود من ذلك هو الأديم الأحمر وهذا الأخير يجمع بين شيئين المادة أو السمك واللون الأحمر.
المهم أن نشير إلى أن القدامى وقعوا في خطر كبير حينما عدوهما صورتين بينما الإعجاز البلاغي يجسد بان هذه السورة تختلف عن الأخرى ولذلك كانت إحداهما تمثيلاً والأخرى تشبيهاً.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.