محاضرات علوم القرآن - المحاضرة 2
نواصل حديثنا عن القرآن الكريم من حيث علومه وتاريخه حيث بدأنا في محاضرتنا الأولى بالحديث عن هذه الظاهرة من خلال الإشارة أولاً إلى ظاهرة الوحي الكريم وقلنا في حينه أن الوحي بمعناه اللغوي بشكل عام يجسد ظاهرة تعومل فيها مع البشر أيضاً وذلك من خلال الذهاب إلى أن الإلهام هو مجرد إلقاء شيء في النفس بحيث تتحسسه الشخصية وتعيه من غير حاجة إلى أية قناة معرفية أخرى وهذا الإلهام يحققه الله سبحانه وتعالى بشرياً وملائكياً وحتى بالنسبة إلى العنصر أو العضوية غير الإنسانية ونقصد بها العنصر الحيواني كالطير وسواه حيث أن الله سبحانه وتعالى يلهم هذه الكائنات جميعاً معاني خاصة ومنها الإلهام البشري المتمثل في أن النفس قد ألهمها الله سبحانه وتعالى فجورها وتقواها مضافاً إلى الإلهام العام أو الإلهام المعرفي العام الذي يشكل بداية لنشأة التفكير الإنساني وما عدا ذلك فإن التربية أو التنشئة الاجتماعية هي التي تتكفل بالبعد المعرفي العام لهذا الشخص أو ذاك بقدر ما تتوفر التربية الاجتماعية عليه وبقدر ما تتحدد العناصر الاجتماعية المتكفلة بذلك وانتهينا من ذلك أي انتهينا من الحديث عن الإلهام بمعناه العام إلى الإلهام بمعناه الخاص بالنسبة للأنبياء والرسل وفي مقدمة ذلك ما يرتبط بموضوع حديثنا ألا وهو إلهام الله سبحانه وتعالى لنبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بالرسالة الإسلامية حيث انتهينا من ذلك إلى القول بأن الله سبحانه وتعالى أنزل الوحي على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وفق أكثر من طريقة منها الطريقة المباشرة المتمثلة في الوحي ومنها الطريقة غير المباشرة المتمثلة في وساطة جبرائيل (عليه السلام).
وقلنا ثمة تفاوتاً بين وجهات النظر بالنسبة للباحثين من حيث ذهابهم إلى أن الوحي قد تم بطريقة مباشرة أو طريقة غير مباشرة بالإضافة إلى أنحاء من الوحي أخرى التكليم من وراء حجاب أو كالرؤيا.
وانتهينا من ذلك كله إلى أن ثمة إجماعاً على أن الوحي جبرائيل (عليه السلام) يظل ظاهرة إلى التشكيك فيه البتة ولذلك بدأنا بالحديث عن هذه الظاهرة وطرحنا في البداية السؤال الآتي ألا وهو كيفية تعامل جبرائيل (عليه السلام) مع محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من خلال ظاهرة نزول الوحي أو بالأحرى كيفية استجابة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حيال الملك جبرائيل من حيث التعامل المرتبط بنزول الوحي.
وقلنا أن ثمة تفصيلات يشير بعضها إلى ما يرتبط بصورة جبرائيل (عليه السلام) أي الهيئة الخارجية أو الهيكل الجسمي لجبرائيل (عليه السلام) حيث أشارت النصوص إلى أنه (عليه السلام) ظهر بصورته الحقيقية مرتين وفي سبع مرات ظهر بصورة إحدى الشخصيات المعاصرة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) متمثلة في شخصية يحيى الكلبي حيث كانت هذه الشخصية أجمل شخصية معاصرة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
ومن التفصيلات ما لاحظناه من أن جبرائيل (عليه السلام) كان يجلس جلسة العبد أمام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان يستأذنه قبل ذلك كما أن من التفصيلات ما يشير إلى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يجلس مع جبرائيل بشكل اعتيادي دون أن يظهر استجابة خارجة عن الوضع المألوف ولكنه بالنسبة إلى تلقي الوحي المباشر كانت تخشاه تلك السكتة أو كانت تنتابه تلك الغشية كما حدثناكم ذلك في محاضرتنا السابقة.
وفي حين إذا تسائلنا عن المعنى أو تسائلنا عن التفسير النفسي لهذه الظواهر التي أشرنا إليها أي نزول جبرائيل بأكثر من شكل وجلوس جبرائيل (عليه السلام) بشكل العبد واستجابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو طريقة تعامله مع جبرائيل (عليه السلام) من جانب ثالث قلنا أن طرح أمثلة هذه الأسئلة من الممكن أن تنطوي على فوائد نستخلصها من خلال الإجابة على المسوغات النفسية التي تفسر لنا ما وراء هذا السلوك من معان أو دلالات خاصة فبالنسبة إلى السكتة أو الغشية التي كانت تنتاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما يتعامل مع الوحي المباشر فلا نعتقد أننا بحاجة كبيرة إلى تفسير ذلك نظراً لوضوحه في أذهانكم دون أدنى شك فالمعصومون (عليه السلام) بشكل عام حينما يمارسون الصلاة مثلاً أو عند استحضار عظمة الله سبحانه وتعالى نراهم عبر ذلك يتحولون إلى استجابات خاصة كالارتجاف والغشية ونحو ذلك بحيث تنطفئ جميع منبهات الحياة أمامهم خلال أمثلة هذا التعامل وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة إلى مجرد استحضارهم إلى عظمة الله وما يترتب على مثل هذه الاستحضار من موقف جسمي ونفسي خاصين بالشكل الذي قلناه حينئذ فماذا نتوقع عندما يتعامل مع الوحي المباشر وهذا يستتبع بطبيعة الحال الغشية والسكتة ونحوهما مما لا ضرورة الآن للحديث عنها بشكل أكثر تفصيلاً.
وأما استئذان جبرائيل (عليه السلام) بالنسبة إلى ملاقاته النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإلقاءه الوحي عليه وجلوسه أمام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جلوس العبد فأمر أيضاً لا نجد أنفسنا بحاجة إلى إلقاء الإنارة عليه من حيث الوضوح الذي يمكن أن نستخلصه من خلال هذا النمط من التعامل مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
فالاستئذان يعني أن لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) موقعاً مهماً جداً بحيث لا يصل إليه الموقع الملائكي كما أن الجلوس جلوس العبد أمامه يصب في المنحى ذاته أنه يكشف لنا عن أن الله سبحانه وتعالى حينما خلق الكائن الآدمي وأمر الملائكة بالسجود لهذا الكائن فلكي يكشف عن خطورة هذا الكائن الآدمي دون أدنى شك وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن شخصية محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هي أعظم شخصية مستقاة حينئذٍ فإن تكريم هذه الشخصية من خلال ما لاحظناه من استئذان جبرائيل (عليه السلام) إليه ومن خلال جلوسه جلوس العبد أمامه هذا ما يكشف بنحو أشد وضوحاً عن خطورة شخصية النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وثمة ملاحظة مهمة جداً هو أن الله تعالى إنما انتخب أفضل ملك ليجلس جلسة العبد أمام أفضل مخلوق هذا أيضاً يكشف عن مستوى آخر من مستوى التكريم الذي خصصه الله سبحانه وتعالى لشخصية النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والواقع أن هذا التكريم يظل نابعاً من ظاهرة مهمة جداً هي ظاهرة الطاعة فلأن النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يجسد الطاعة أو الالتزام لمبادئ الله سبحانه وتعالى أفضل تجسيد بحيث تفضل طاعته على طاعة جميع البشر حينئذ فإن التفرد بتكريمه أيضاً يظل متسوقاً مع مفهوم الطاعة وهذا فيما يرتبط بتعامل جبرائيل (عليه السلام) مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من حيث الاستئذان في الدخول عليه من جانب ومن حيث الجلوس جلوس العبد حياله من جانب آخر وأما من حيث السمات التي رسمتها النصوص المتنوعة عن شخصية جبرائيل (عليه السلام) كما ورد ذلك في القرآن الكريم وفي النصوص الحديثية من حيث الإشارة إلى أنه (عليه السلام) أي جبرائيل كان يجسد ملكاً مطاعاً وملكاً قوياً وملكاً له موقع خاص في عالم الملكوت كل ذلك يمكننا أيضاً أن نفسره في ضوء التكريم الخاص لشخصية محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وارتباط ذلك بطبيعة الرسالة الإسلامية التي يستهدف النص القرآني الكريم أن يحقق عنصر الإقناع لدى المتلقي بطبيعة هذه الرسالة وخطورتها.
لذلك عندما نجد أن النص القرآني الكريم عندما يرسم سمة لجبرائيل (عليه السلام) بأنه ملك مطاع أو بأنه ملك قوي حينئذٍ فإن الإشارة إلى هاتين السمتين وسواهما لا تعنيان مجرد الرسم الخارجي أو الداخلي لإحدى الشخصيات بقدر ما يعني أن لكل رسم دلالة خاصة دون أدنى شك.
فمثلاً بالنسبة إلى القوة التي أشير إليها نجد أن النصوص المفسرة تشير إلى أن جبرائيل كان يضطلع بتحقيق الجزاءات الاجتماعية في الأمم البائدة حيث أنه قلع مدنا بأكملها من الأساس وقلبها على أهلها نتيجة لما أمره الله سبحانه وتعالى به من تحقيق الجزاء الاجتماعي لتلك المجتمعات المنحرفة ومجرد الإشارة إلى أمثلة هذه القوة لدى ملك مطاع إنما تحقق في الواقع ولو من طريق غير مباشر تحقق لدى شخصية المتلقي استجابة خاصة تتمثل في الرهبة التي ستأخذه عندما يستحضر في ذهنه الرسالة الإسلامية وطريقة الاستجابة حيالها حيث أن التمرد أو عدم التقبل لمثل هذه الرسالة الكريمة سوف يقترن دون أدنى شك بجزاء رهيب يرعب الشخصية بالشكل الذي قلناه.
وأما بالنسبة إلى تحقق عنصر الرغبة فيكفي أن نشير إلى أن مجرد رسم ملامح جبرائيل (عليه السلام) بأنه مطاع ومن ثم بأنه أمين.. الخ. فإن كلاً من الأمانة والإطاعة تشيران إلى أن هذا الملك الموظف لشخصية النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنزال الرسالة عليه إنما هو شخصية لها خطورتها وهذه الخطورة سوف تتسبب في إحداث التأثير الإيجابي لدى المتلقي من حيث قناعته بخطورة هذه الشخصية وبخطورة المبادئ التي تحملها الشخصية إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وترسمها للبشرية من قبل الله سبحانه وتعالى يبقى أن نشير إلى ما ألمحت النصوص إليه بأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رغب بأن يرى جبرائيل (عليه السلام) في صورته الحقيقية نقول إن التفسير النفسي لذلك من الممكن أن يعود إلى تطلعات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى مظاهر عظمة الله سبحانه وتعالى بصفة أن جبرائيل (عليه السلام) هو أحد مظاهر الإبداع الكوني مع ملاحظة أن انكشاف حجب الغيب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يفترض رؤيته لجبرائيل (عليه السلام) ولسواه إلا أن الرؤية المباشرة المخترقة لحجب الغيب أساساً تختلف بطبيعة الحال عن الرؤية غير المخترقة لحجب الغيب أي الرؤية المباشرة التي تتراءى لدى الشخصية.
على أية حال مهما يكن الأمر فإن المهم هو ملاحظتنا طبيعة تلقي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) للوحي واقتران ذلك بتفاوت وجهات النظر التي سردناها عليكم في المحاضرة السابقة وهو أمر أي التفاوت في وجهات النظر ينعكس على أبعاد أخرى من الوحي ومنها نزول الوحي القرآني من حيث بعده التاريخي من جانب ومن حيث نزوله تدريجياً وجملة من الجانب الآخر وهذا الموضوع قد اقترن بنشاط ملحوظ ومكثف لدى المعنيين بالشأن القرآني الكريم سواءً أكان ذلك في نطاق البحوث الموروثة أو في نطاق البحوث المعاصرة.
ونظراً لأهمية ذلك نبدأ أيضاً الحديث عن هذا الجانب وذلك لإلقاء منارات متنوعة عليه ونبدأ ذلك فلنتحدث أولاً عن نزول الوحي القرآني من حيث بعده التاريخي ثم نتحدث بعد ذلك عن نزول الوحي القرآني من حيث نزوله تدريجياً وجملة.. الخ.
وأما بالنسبة إلى الجانب الأول أي النظر إلى نزول الوحي من حيث البعد التاريخي نجد تفاوتاً بين وجهات نظر الباحثين موروثاً وحديثاً حيث نجد نفس التفاوت الذي لاحظناه بالنسبة إلى الوحي وأنماطه نلاحظ هذا التفاوت بدوره بالنسبة إلى البعد التاريخي لنزول الوحي والواقع أن هذا التفاوت في وجهات النظر نابع من التفاوت في النصوص الواردة في هذا النطاق فالنصوص السمعية نجد بعضها يشير إلى أن أول نص قرآني كريم نزل في السابع والعشرين من رجب متمثلاً في الآيات الخمس المعروفة من سورة القلم أي السورة التي تستهل بقوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم اقرأ باسم ربك الذي خلق.. الخ. وذلك في غار حراء وهناك نصوص تشير إلى أن نزول سورة المدثر كانت هي الأولى من حيث البعد التاريخي ثمة نصوص ثالثة تشير إلى أن السورة النازلة استهلالاً هي سورة الحمد إلى آخر ما هنالك من نصوص غير أن السياق في الواقع يفرض بأن سورة العلق أو بالأحرى الآيات الأولى من سورة العلق هي النازلة أولاً وهذا ما نستخلصه من جملة أسباب منها أن النصوص تتضافر أو متضافرة بأن النواحي الواقع بدأ مع الأربعين عاماً في غار حراء ولكن إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن جبرائيل (عليه السلام) علم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الوضوء والصلاة مع بدء الوحي ثم أخذنا بنظر الاعتبار أن الحمد لا مناص من قراءتها حينئذٍ قد تكون سورة الحمد هي الأولى في هذا السياق ولكن مع ذلك فلا نجد تلافياً بين هذين القولين إذ أنه من الممكن أن يكون الوحي قد جاء أولاً بالآيات الخمس من سورة العلق ثم جاء بالحمد وهناك من الباحثين من يذهب أو من يأول هذا النص من حيث تأليف بينه وبين النص الأسبق ويقول أن سورة الحمد هي أول سورة نزلت كاملة ولذلك إن الحديث الوارد بالنسبة إلى أن أو ل سورة هي الحمد إنما ينظر هذا الحديث إلى كونها سورة كاملة أما من حيث مطلق النزول متمثلا في الآيات الخمس من سورة العلق فإن ذلك يتساوى مع النص الذاهب إلى أن أول ما نزل عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الآيات الخمس إلا أن هذه الاحتمال في نظرنا بعيد جداً لأنه لا شاهد له من حيث هذا الجمع بين الروايتين المتضاربتين صحيح أن النص الوارد في هذه المجال يقول بأن أول ما نزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة هو فاتحة الكتاب إلا أن المقصود من ذلك ليس هو السورة الكاملة مقابل الآيات المتفرقة إنما يتحدث الحديث من خلال إشارته إلى النزول القرآني من حيث الاستهلال وليس من حيث الإشارة إلى كون هذا النازل هو آيات متفرقة أو سورة كاملة وهذا بالنسبة إلى التأليف بين الرواية القائلة بأن أول ما نزل من القرآن الكريم هو الآيات الخمس والرواية القائلة بأن أول ما نزل من القرآن الكريم هو الفاتحة حيث احتملناه أن سورة الفاتحة نزلت بعد تبشير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالبعثة حيث لا تنافي بين هذين الزمنين من حيث شذوذ الآيات الخمس من جانب وتعقل ذلك بالسورة المشار إليها من جانب آخر بيد أن التنافي في الواقع يقع بين ما تقدم وبين الرواية الثالثة أو الاتجاه الثالث الذاهب إلى أن المدثر هي أول سورة نزلت على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فالرواية تشير إلى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بينما كان ماشياً إذا به سمع هاتفاً من السماء فرفع رأسه فإذا الملك الذي حدثه أو جاءه بغار حراء جالساً على كرسي بين السماء والأرض فارتعد منه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فرجع فقال زملوني زملوني فدثروني فأنزل الله سبحانه وتعالى هذا النص.
ومن هذه الرواية نستخلص ما يلي هو أن الآيات المتصلة بالإدثار هي نازلة بعد فترة من الوحي أشار إليها المؤرخون بأنها فترة انقطاع حيث انقطع الوحي عن النبي كما هو معروف مدة محددة ثم جاء الوحي من جديد ولذلك فإن الاحتمال الذاهب إلى أن هذه الرواية ناظرة إلى أن أول سورة نزلت بعد انقطاع الوحي هي سورة المدثر.
وبهذا يتم التأليف بين هذه الروايات الثلاث التي تبدو متضاربة ظاهرياً وهذا كله فيما يرتبط بأول ما نزل من القرآن لكن أيضاً ثمة تفاوت بين وجهات النظر بالنسبة إلى آخر ما نزل من القرآن فهناك من الاتجاهات من يذهب إلى أن سورة النصر هي آخر سورة نزلت على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهناك اتجاه يذهب إلى أن سورة براءة هي النازلة أخيراً وهناك اتجاه ثالث يذهب إلى أن آية (واتقوا يوماً ترجعون.. الخ) هي الآية الأخيرة النازلة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بينما هناك اتجاه رابع يقول أن آية إكمال الدين هي الآية الأخيرة التي نزلت على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي تصورنا أن هذا الاتجاه الرابع هو الاتجاه الصائب لأنه يتسق تماماً مع الموقف وذلك لمعرفتنا جميعاً بأن إكمال الدين من خلال حادثة الغدير هذا الإكمال ينسجم تماماً مع إتمام أو إكمال النصوص القرآنية الكريمة فهناك تجانس واضح بين نهاية النصوص القرآنية الكريمة وبين نهاية المبادئ التي نشرها الله سبحانه وتعالى من خلال الرسالة الإسلامية.
من هنا نؤكد للمرة الثانية أن الذهاب إلى هذا الاتجاه الرابع وهو الذهاب إلى أن آية إكمال الدين هي الآية الأخيرة النازلة على النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هي الآية الأخيرة تظل كما أوضحنا متسقة تماماً مع الموقف ومع ذلك يمكننا أن نشير بغض النظر عما تقدم إلى أن التدقيق في هذه الظاهرة قد لا يعود بالفائدة الكبيرة التي يعتد بها إلا في حالة ذهابنا أو في حالة استخلاصنا لأن إكمال الدين يتسق تماماً مع إكمال الآيات القرآنية الكريمة وإلا خارجاً عن ذلك فيمكن الذهاب إلى أن الحديث عن بداية النزول ونهايته لا يلقيان الإضاءة الكاملة للموقف بقدر ما يشيران إلى إمكانية أن تتعمق قناعة المتلقي من خلال ربطه بين إكمال الدين وإكمال النص القرآني كما قلنا بالنسبة إلى نهاية النزول.
وأما بالنسبة إلى بداية النزول فيمكننا أن نذهب إلى الربط بين عملية التعلم والقراءة والكتابة وبين تعلم الشريعة ذاتها من خلال النصوص القرآنية الكريمة أي الربط بين ظاهرة التعلم أساساً وارتباطها بضرورة تعلم مبادئ الشريعة مثلاً بين الادثار والتطهير أو الأمر بالإنذار وصلة ذلك بعملية استهلال النشاط التبليغي المحدود وإلا فإن النصوص متضافرة على أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قد بدأ بتبليغ الرسالة إلى عامة المجتمع بعد ثلاث سنوات من نزول الوحي عليه وهو البعثة متمثلة في الآيات المعروفة القائلة وأنذر عشيرتك الأقربين.. الخ.
إذاً الإفادة الوحيدة التي يمكن أن تترتب على هذا التضارب بين الأقوال المتفاوتة في تحديد أول ما نزل وفي تحديد آخر ما نزل حيث يمكننا أن نقرر بالشكل الذي قلناه ونلخصه الآن هو أن الربط بين أول آية أو أول نص نزل هو الآيات الخمس النادبة إلى القراءة والتعلم وصلة القراءة والتعلم بقراءة وتعلم المبادئ التي رسمها الله سبحانه وتعالى فبما أن الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن وأنزل الرسالة الإسلامية متمثلة في توصيل مبادئ محددة رسمها الله سبحانه وتعالى للبشرية حينئذٍ فإن تعلم هذه المبادئ أو لنقل إن قراءة هذه المبادئ إما تعلم هذه المبادئ ينسجم تماماً مع أول نصوص نازلة تشير إلى مفردات (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم) إذاً القراءة والتعلم من حيث كونهما استهلالين لنزول الرسالة يتسقان تماماً مع محتويات الرسالة النازلة ذاتها لأن الرسالة تبشر بمبادئ معينة يريدها الله سبحانه وتعالى أن يوظف البشر لممارستها وحينئذٍ فإن استهلال القرآن الكريم بالأمر بالقراءة والتعلم يتناسب تماماً وندب القرآن الكريم ذاته إلى أن يقرأ ويتعلم البشر المبادئ التي رسمها لهم القرآن الكريم والأمر نفسه بالنسبة إلى آخر الآيات النازلة حيث ينسجم تماماً النزول بآية إكمال الدين مع إكمال الوحي الإلهي بالشكل الذي أوضحناه وخارجاً عن هذا نجد أن البحث عن بداية النزول ونهايته بغير ما انتهى إليه من الإشارة يظل حديثاً لا طائل من وراءه على نحو ما قلناه.
وبهذا ننتهي من الحديث عن الشطر الأول من الظاهرة التي طرحنا عنوانها في هذه المحاضرة ونعني بذلك العنوان المتمثل في كيفية نزول الوحي تأريخاً ودلالته أما التأريخ فحدثناكم عنه وأما الدلالة فهي بدورها في الواقع ترتبط بالتاريخ إلا أنها تصب في اتجاه آخر هو على نحو ما نوضحه الآن.
الحديث عن الوحي ثم أول حصول يقودنا إلى بحث يرتبط بهذا الجانب بنحو قد استأثر اهتمام الباحثين في الشأن القرآني الكريم ألا وهو كيفية نزوله.
أي أننا بعد أن عرضنا الحديث عن كيفية الوحي ثم بداية الوحي ونهاية الوحي حينئذٍ فإن الكيفية التي تم من خلالها نزول الوحي تفرض على الباحث أن يخصها بشيء من الحديث أيضاً. ونقصد بالكيفية هو السؤال الذي طرحه الباحثون قديماً وحديثاً ألا وهو هل نزل القرآن الكريم جملة واحدة ثم نزل نزولاً خلال العشرين عاماً أم نزل نزولاً فحسب هذا من جانب.
ومن جانب آخر هل نزل في شهر رمضان المبارك كما يقرر النص القرآن الكريم نفسه أم نزل كما مرّ ذلك في شهر رجب في السابع والعشرين منه وفي حالة ذهابنا إلى أنه نزل في شهر رمضان المبارك فهل نزل ليلة القدر كما هو صريح الآية: (إنا أنزلناه في ليلة القدر) أم نزل في أول رمضان كما ورد بذلك بعض النص إن هذه لمجموعة من الأسئلة التي اعتاد الباحثون فضحها والإجابة عنها.
ونحن بدورنا سوف نتحدث عنها ولكن ليس بالتفصيل الذي طرحه الباحثون لأن هذا الموضوع بدوره كالموضوعين السابقين أي موضوع طريقة الوحي وبداية نزوله ليجسد في الواقع تفاوتاً بين وجهات النظر ومن ثم لا تترتب على أمثلة هذا التفاوت آثار مهمة إلا في نطاق ما أشرنا إليه في محاضرتنا الحالية قبل قليل.
المهم يمكننا ان نذهب إلى إمكانية وجود ترتب أثر على هذا التفاوت في وجهات النظر في حالة ما إذا استهدتنا مثلاً أن نكتشف أهمية ليلة القدر وصلة هذه الأهمية من الليلة المذكورة بنزول القرآن الكريم أو صلة ذلك بغيرها، أو أن نكتشف مثلاً أهمية المبعث وصلة ذلك بالموضع ذاته. ولكن ما دام التعارض بينهما قائماً حينئذ فإن المعني بشؤون البحث في علوم القرآن الكريم يجد نفسه مرغماً على الحديث عن هذا الجانب.
وسنشير الآن إلى ذلك بنحو عابر على أن نفصل الحديث عنه في محاضرتنا اللاحقة إن شاء الله وفي هذا العرض العابر نقول هنالك من الباحثين من يذهبوا إلى أن القرآن الكريم نزل نجوماً فحسب أي آيات متفرقةً أو سوراً متفرقة ولا ثمّة نزول بالجملة ويستدل هذا الاتجاه على وجهة نظره المذكورة يستدل بصريح النص القرآني الكريم القائل: (وقال الذين كفروا لو لعليه جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك...). وهذا يعني أن القرآن نزل متفرقاً بصريح هذه الآية التي قرأناها عليكم الآن وإلا لما كان معنىً لسؤال المنحرفين القائلين لماذا لم ينزل القرآن الكريم جملة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ونزل متفرقاً؟ هذا من جانب.
ومن جانب آخر يستدل أصحاب هذا الاتجاه بأن القرآن يتضمن كثيراً من الحوادث المرتبطة بزمان ومكان خاصين في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كالمرأة التي جاءت تشتكي إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وسواها من الحوادث أو المواقف التي وعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أصحابها بأن يجيبهم على أسئلتهم أو مشكلاتهم بعد أن ينزل عليهم الوحي بذلك.
وإذا كان الأمر هكذا حينئذٍ كيف يتم نزول القرآن جملة والحوادث لم تقع بعد هذا إلا أن الاتجاه المذكور يذهب من الجهة الثالثة إلا أن تصريح القرآن الكريم بنزوله ليلة القدر (إنا أنزلناه في ليلة القدر) لا يعني أنه نزل جملة في الليلة المذكورة بل يعني أن الابتداء في نزوله شرع في شهر رمضان ثم استمر النزول مدة عشرين عاماً.
هذا هو ملخص الاستدلال أو الدليل الذي يقدمه أصحاب الاتجاه الذاهبين إلى أن القرآن الكريم نزل متفرقاً ولم ينزل جملة واحدة إلا أن هذا الاتجاه كما سنوضح ذلك لاحقاً إن شاء الله يظل في تصورنا مرسوماً بالخطأ لجملة أسباب سنوضحها في حينه إن شاء الله تعالى سواءً أكان ذلك متصلاً لاستخلاصهم القائم أو المتكأ على الآية القرآنية الكريمة الذاهبة إلى أن المنحرفين اعترضوا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن القرآن لم ينزل جملة واحدة وسواءً الدليل الآخر الذي استندوا إليه وهو محاولتهم التوفيق بين الآية القرآنية القائلة بأن القرآن الكريم نزل في ليلة القدر وبين الذهاب إلى أنه نزل متفرقاً حيث ألفوا بين الاتجاهين أو بين النصين المتضاربين ألفوا بينهما من خلال الذهاب إلى أن أول الوحي نزل في ليلة القدر واستمر طيلة العشرين عاماً.
المهم أننا سنوضح إن شاء الله في محاضرتنا اللاحقة ما نود أن نعقده من أن القرآن الكريم في الواقع نزل جملةً ونزل متفرقاً أيضاً على النحو الذي نحدثكم به إن شاء الله في محاضرتنا اللاحقة وإلى ذلك الحين نستودعكم الله سبحانه وتعالى والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.