محاضرات علوم القرآن - المحاضرة 29 - العنصر الصوري
العنصر الصوري
لازلنا نحدثكم عن الإعجاز القرآني الكريم، وقد سبق أن حدثناكم عن أحد مظاهر هذه الإعجاز البلاغي ونعني به القصة، حيث حدثناكم عن جملة محاور ترتبط بالقصة القرآنية الكريمة، وكان بودنا أن نتحدث عنها طويلا ولكن بما أن المادة المرتبطة بعلوم القرآن لا تسمح بذلك، حينئذ اقتصرنا على ما قدمناه لكم من حيث التعريف بالقصة، ومن حيث الحديث عن لغتها وبناءها، ومن ثم الحديث عن عنصر الشخصية فيها، وكان بودنا أن نتحدث عن سائر العناصر المرتبطة بالحديث أو الموقف وبالبيئة وما إلى ذلك. ولكننا ما قلنا وجدنا أن الحديث عن هذه الجوانب يتسع إلى درجة قد لا تسمح به طبيعة المادة المرتبطة بعلوم القرآن، أن نتحدث عنها اكثر من ذلك، وننصح الطالب أن يعود إلى كتابنا الموسوم (بدراسات فنية لقصص القرآن)، حيث تناولنا غالبية أو جميع القصص القرآنية الكريمة، وتحدثنا عن ذلك مفصلا ومن ثم فإنا ننتقل الآن إلى عنصر آخر من العناصر الفنية المرتبطة بالإعجاز البلاغي للقرآن الكريم وهو العنصر الصوري.
ونقصد بالعنصر الصوري ما يصطلح عليه باللغة المعاصرة بالصورة، أي ما يصطلح عليه باللغة الموروثة بالبيان، فالمعروف في اللغة البيانية القديمة أن القدماء كانوا يقسمون الظاهرة البلاغية إلى ثلاثة أقسام هي المعاني والبيان والبديع، أما التقسيم الحديث إنه يتفاوت أو يختلف عن أمثلة هذا التقسيم الذي لا نؤيده البتة ونعتبره تقسيماً يتلائم فحسب مع تلك البيئة التي تمتد إلى عدة قرون بحيث نستطيع أن نقول بان التطورات التي لحظتها الأجيال المختلفة بالنسبة إلى مفهوم الصورة ومفهوم سائر العناصر البلاغية، تفرض علينا أن نتناولها من زاوية أخرى ولذلك إنا عندما تحدثنا عن المبادئ البلاغية تحت عنوان القواعد البلاغية في ضوء المنهج الإسلامي عندما تحدثنا عن هذا الجانب، نسجنا بين المفهومات الحديثة للبلاغة والمفهومات القديمة التي تمثل طابعا مشترك بين ما هو معاصر من جانب، وبين ما هو في الواقع مبادئ مشتركة تصلح لكل جيل من جانب آخر، نقول في ضوء ذلك تحدثنا عن تقسيم بلاغي آخر فسرنا من خلاله العناصر البلاغية إلى ثمانية عناصر هي العنصر الموضوعي والعنصر الفكري والعنصر اللفظي والعنصر الدلالي والعنصر الصوري والعنصر الإيقاعي والعنصر الشكلي، والعنصر البنائي.
وفي هذا الإطار لابد وأن لاحظتم بأننا تحدثنا خلال مواد أخرى ألقيناها عليكم في سنة سابقة، لابد وأن تتذكروا كيفية طرح لهذه المبادئ في ضوء ما قررناه أو في ضوء ما أوضحناه الآن. المهم بغض النظر عن ذلك كله نتقدم الآن إلى عنصر جديد من عناصر المبادئ البلاغية، وهو العنصر الصوري المماثل لما ينطبق عليه بالمصطلح البلاغي المعروف من عنصر البيان، ونعني به التشبيه والاستعارة والكناية وما إلى ذلك بحسب المصطلح القديم وما نعني به الآن هو تجاوز هذه المستويات من التفصيل، والانتباه على المضوعات أو المبادئ الأخرى تنتسب إلى هذا الجانب، في ضوء أن المبادئ التي نستخلصها من القرآن الكريم نفسه وقبل أن نحدثكم عن هذه جميعا يجدر بنا أولا أن نعرف معنى الصورة قبل أن نتحدث عن مستوياتها الواردة في القرآن الكريم.
إن الصورة في الواقع من الممكن أن نعرفها على النحو التالي هي وجود ظاهرتين تندمجان لتنتج عنهما ظاهرة ثالثة، هي المزيج من هاتين الظاهرتين وهما إحداهما تسمى بالطرف الأول من الصورة والثانية تسمى الطرف الثاني من الصورة، وإليكم أولا ألامثلة التي تشير إلى هذا الجانب مثلا قوله تعالى وهو يشبه الكفار بالأنعام ويقول تعالى: (إنهم كالأنعام)، فالكفار هم الطرف الأول والأنعام هم الطرف الثاني وقد امتزج هذان الطرفان أي الكفار والأنعام فنتج عنهما شيء ثالث هو هذا النمط من الكافر الذي يحمل عقلية الأنعام وهكذا بالنسبة لسائر الصور التي سنحدثكم عنها، إذا الصورة هي عنصر تخيلي يحاول أن يربط بين واقعة حسية أو نفسية، أو واقعة غيبية، ولكنها واقعة حية يربطها بواقع آخر يختلف عنها من حيث الجنس، لينتج عن ذلك نمط ثالث كالمثال الذي قدمناه، وأهمية الصورة هو أنها تساهم في تعميق الدلالة وتوضيحا بالنسبة إلى المتلقي فالمسائل المتقدمة أو التشبيه المتقدم عندما شبه القرآن الكريم الكفار بالأنعام، فإنه قرب إلينا مفهوم وطبيعة الذهنية المنغلقة التي يحياها الكافر، فالمعروف في عالم الحيوان أن عقليته محدودة وأنه لا يمتلك تفكيرا عميقا وهذا ما يطلق عليه باللغة النفسية بالعمليات العقلية العليا كالتفكير العميق وكالاستدلال والمحاكمة وما إلى ذلك. المهم عندما يشبه القرآن الكريم الكافر بالأنعام فلأن هذا التشبيه يعمق من معرفتنا بطبيعة عقل الكافر، وبطبيعة ذهنيته المنغلقة، كما قلنا فلو قال النص لنا أن الكافر ضعيف العقل أو أن الكافر عديم العقل لما استطعنا أن نستخلص من هذا التعبير سوى أن الكافر يمتلك عقلا ناقصا بشكل إجمالي، أما طبيعة هذا العقل الناقص أو المحدود لا يمكننا أن نفهمه إلا من خلال التوكأ على التشبيه المتقدم، لنعرف جميعا مدى عقلية الحيوان، حينئذ عندما يشبه عقلية الكافر بعقلية الحيوان، حينها نستطيع أن نكتشف محدودية هذا العقل الذي يمتلكه الكافر.
المهم أن هذه الوظيفة التي قام بها التشبيه وهي تعميق الدلالة وتقريبها إلى الأذهان، هذه المهمة الفنية لعنصر الصورة تنسحب عن كل الأشكال الأخرى كالاستعارة والرمز والكناية والفرضية والتقريب والتفريض والخ. حيث أننا فسرنا في ضوء استقرائنا للقرآن الكريم، قسمنا العناصر الصورية أو الأشكال الصورية إلى أكثر من عشرة أشكال، هي الأشكال التي استعرضناها الآن والتي سنحدثكم عنها ونستعرض أمثلتها بعد قليل إن شاء الله.
المهم ما دمنا قد فهمنا وظيفة هذا العنصر حينئذ يجدر بنا أن نحدثكم عن الأسلوب الذي اتخذه القرآن الكريم كأسلوب إعجازي لهذا الجانب، ولذلك نبدأ الحديث أولا عن الإشارة العامة لهذا العنصر فنقول إن عنصر الصورة تحتل في الدارسات الجديدة موقفا يكاد ينفرد في أهميته في الواقع من بين عناصر الأدب جميعاً ويمكن القول أن بعض الاتجاهات المعاصرة تضع الفارق بين اللغة الأدبية وبين سواها من خلال وجود هذا المعيار أي الصورة والواقع أن اهتمام المعاصرين كما قلنا بالعنصر الصوري لا يقل عن اهتمام الموروث أيضاً، حيث قلنا أن الدراسات الموروثة عربيا وأوروبيا لهذا العنصر حتى لا يمكن الذهاب إلى تفسير الكلام في الموروث مطلقا بين الحقيقة والمجاز، إنما في الواقع إلى الصورة مقابل الحقيقة، أي أن المجاز هو الصورة بشكل عام، والحق أن مفهوم الصورة تتفاوت وجهات النظر في تحديد مداه، من حيث سعته وأموره وليس من حيث هويته التي تتفق وجهات النظر جميعا حيالها بالشكل الذي أوضحناه، أي بالشكل أن الصورة هي تركيب تخيلي يستند إلى ظاهرة واقعية يقابلها ظاهرة أخرى، تختلف عنها ماهية لتنتج نمطاً ثالثاً من الظواهر.
ويمكننا أن نضيف أو نستبدل التعريف المتقدم بالتعريف الآتي القائل: بأن الصورة هي إحداث العلاقة بين الظاهرتين لا وجود لهما في عالمنا الواقعي، بحيث تنتج ظاهرة ثالثة بالشكل الذي أوضحناه من حيث الاستشهاد بالآية القرآنية الكريمة التي تشبه الكفار بالأنعام، فالكفار هم ظاهرة والأنعام ظاهرة أخرى، وقد أحدثت العلاقة بين هاتين الظاهرتين وهي علاقة لا وجود لها في الواقع أي أن الحيوان يختلف عن الإنسان بطبيعة الحال، وهذا هو الواقع ولكن العنصر التخيلي الذي أدخل في هذه الصياغة، هو الذي جعل هذه العلاقة منتجة للظاهرة الثالثة وهي ظاهرة انخفاض العقل لدى الكفار.
وإذا تابعنا فواقع هذه الصورة عبر الأجيال متنوعة، نجد أن هذا العنصر قد اكتسب في العصر الحديث جملة مصطلحات تختلف عن ما اصطلح عليها في مصطلح البيان في الموروث، وإنما اصطلح عليها عنصر الصورة، كما أن بعض الاتجاهات الأدبية توكأت على جانب أو على شكل من هذا المصطلح وأولته أهمية كبيرة وهو مصطلح الرمز، وهو أحد أشكال الكنايا في المصطلح الموروث، وقد اتخذه هذا الاتجاه معيارا للصورة الناجحة بالقياس لسورة التشبيه والاستعارة، أي جعل الرمز هو التركيبة الأشد أهمية لسواها حتى ظهر في القرن الماضي تيار يحمل اسم المذكور أوروبيا، ولكن في الواقع حتى فكرتنا الحديث بدأت باستخدام الرمز بدلاً من التشبيه والاستعارة وسائر أشكال الصور، بحيث يتحول النص الأدبي إلى مجموعة رموز ونحن سنرى عند حديثنا عن القرآن الكريم وما يستخدمه من الرموز، سنرى أن الفارق بين الواقع وبين سواه طرفي العلاقة بين الظاهرتين غائب بالقياس إلى حضوره في التشبيه مثلا، ففي التشبيه ظاهرتان كما لو قلنا الإيمان كالنور، ولكن في الاستعارة أيضاً هناك ظاهرتان، كما لو قلنا نور الإيمان حيث الإيمان يمثل حدوث الطرف الآخر وغير الطرف الآخر وهو الإيمان. فنقول كما قال الله سبحانه وتعالى: (يخرجهم من الظلمات إلى النور).
وحينئذٍ فإن النور يمثل رمزاً للطرف المغيب ألا وهو الإيمان.
المهم أننا نود الآن أن نتابع حديثنا عن عنصر الصورة، ولكن لا مناص من هذا العرض التاريخي السريع واستمرار هذا العرض من خلال ذهابنا أن الثلث الأخير من القرن العشرين، أن في هذا الثلث الأخير بدأ مصطلح جديد يلج الساحة ألا وهو مصطلح الإنزياح ليشير إلى الصورة بدلالتها الأشمل أي الصورة التي تمتد إلى الاستعارة والتشبيه..الخ.
لتتجاوز حيناً آخر لتشمل المجاز بنحو عام أو ما يصطلح عليه بالعدول، أي العدول عن القواعد المعجمية أو النحوية إلى منحى آخر، كما أن بعض التيارات السابقة واللاحقة والمواكبة للجيل الأخير، قد أعاد لهذه الصورة ونعني بها الاستعارة حيث أعاد لها فاعليتها من جديد بحيث جعلها هي المحور للإنزياح، أخيرا ثمة وجهة نظر في الواقع تتجاوز ذلك إلى مطلق الاستخدام اللغوي المعدول، ونعني به خرق القوانين اللغوية لتشمل حتى ما يصطلح عليه في الموروث في علم المعاني كالتقديم والحذف بل ليتجاوز مطلق الاستخدام اللغوي الذي يشير إلى ما هو إيحاء في الواقع كما لاحظنا ذلك في عناصر الإيقاع حيث أن الصوت المنتظم والصوت المتجانس له إيحاءاته تستحضر ما هو غائب من الدلالات على أية حال لا نريد أن نحدثكم بأكثر من هذا عن الإشارة السريعة، ولكن ثمة نقطة مهمة هي أن من خلال عرضنا للصورة القرآنية الكريمة نود أن نشير إلى أننا نستطيع من خلال الظاهرة القرآنية الكريمة أن نسوغ المبادئ البلاغية لهذا الجانب، وبها يحسن أي فهم أو إدراك لعنصر الصورة من حيث التفاوت الذي نلحظه بين المهتمين بهذا الشأن، فمثلا نجد أن المعاصرين عندما يتجهون إلى السورة انهم يتجهون إلى الرمز أكثر مما يتجهون إلى التشبيه الاستعارة، وقد يميلون إلى الاستعارة أكثر من التشبيه، ويعللون ذلك بقضايا نفسية كالذهاب مثلا إلى أن التشبيه يتمثل في وجود طرفين حادين وهذان الطرفان في الواقع هما تعبير بدائي عن الظاهرة الفكرية، بمعنى أن البدائي هو الذي يتوكأ على ما هو مشخص وظاهر، فالظاهرتين المشيرتين إلى هذا الشيء والى ذلك الشيء بينما الاستعارة هي في الواقع تمحو أحد الطرفين قولنا نور الإيمان، حيث أن أداة التشبيه الكاف قد حذفت هنا، وأصبح الإيمان والنور ظاهرتين مندمجتين مع بعضهما الآخر وأما في الرمز فإن المظاهر أساس التغيير تماما أي الظاهرة الأولى وتبقى الظاهرة الأخيرة وهي النور رامزة إلى الإيمان، وكلما تغلغل الفكر إلى مدى أبعد من حيث التجريب حينئذ هذا يكشف عن عمق الدلالة التي يستهدفها النص.
نقول أن هذه الملاحظات التي يبديها البشر حول تحديد مستويات الصورة والافتراض بين التشبيه والاستعارة والرمز والكناية الخ. هذه الملاحظات يلغيها النص القرآني الكريم لأنه اعتمد على جميع هذه المستويات و تجاوزها إلى مستويات أخرى أيضاً، مما يكشف ذلك أن الظاهرة المهمة جدا هي أن لكل شيء السياق الخاص له، بمعنى أن بعض المواقف تتطلب الركون إلى التشبيه، وبعض المواقف تتطلب الركون إلى لاستعارة، وبعض المواقف تتطلب الركون إلى الرمز، وبعض المواقف تتطلب الركون إلى التمثيل، وبعضها يتطلب الترضية، وبعضها يتطلب التولية و..و إلى أخر ما سنحدثكم عنه إن شاء الله في حينه.
إذا نبدأ الآن فنتحدث عن هذا العنصر ونتحدث عن أقسامه أولا، حيث قلنا أنا قسمناه لما ورد في القرآن الكريم، قسمنا العنصر الصوري إلى أكثر من عشرة أقسام، بينما نجد في البلاغة الموروثة خمسة أقسام فحسب، ونجد أن الجيل الحديث اعتمد حينا على عنصر واحد وهو الرمز، واعتمد حينا آخر على عنصر آخر هو الاستعارة، واعتمد حينا ثالثا على مطلق الصورة بالشكل الذي قلناه. والمهم نبدأ الآن لنحدثكم عن أول هذه الأشكال، وهو عنصر التشبيه بصفته أكثر الأشكال الصورية استخداما في القرآن الكريم، وحينئذ فإن كثرة استخدامه يحفزنا أو يحملنا على أن نبدأ فنتحدث عنه أولا فنقول:
التشبيه
التشبيه: هو إحداث علاقة بين طرفين من خلال جعل أحدهما وهو طرف الأول مشابها للطرف الآخر عبر صفة مشتركة بينهما، فقوله تعالى: (وله جوار منشآة في البحر كالأعلام) نجد هنا أنه تعالى شبه السفن البحر وهي الطرف الأول شبهها بالجبال في البر والصفة المشتركة بينهما كما تلاحظون هي صفة بروز السفن في الماء، وبروز الجبال في الأرض، والمعيار الذي يحدد التشبيه عن غيره من الأشكالا الصورية، كالاستعارة وغيرها، هو وجود هذه الأداة التي لاحظتموها، ونقصد بها حرف الكاف في قوله تعالى: (منشآت في البحر كالأعلام) وكقوله تعالى: (الكفار إنهم كالأنعام).. الخ.
نقول: إن وجود هذه الأداة وهي الكاف وسواها كما ستلاحظون، هي التي تجسد أداة تقوم بعملية ربط بين الطرفين وربما تقوم بعبارات مماثلة لهذه الأدوات أيضاً تطلع بنفس الوظيفة، أي تقوم بعملية ربط بين الظاهرتين وهذه الأداة في الواقع توجد في التشبيه فحسب، أما في أشكال أخرى للصياغة الصورية لا نجد هذه الأدوات بل نجد أن طرفي الصورة تندمجان بشكل أو بآخر بالنحو الذي سنوضحه في حينه.
المهم أن التشبيه يظل مفترقاً عن سواه بوجود أداة كالأداة التي لاحظتموها وهي الكاف، والأداة الأخرى وهي كأن، والأداة الثالثة التي ستلاحظونها وهي أداة مثل، وما عدا هذه الأدوات الثلاث نجد أن هناك عبارات أخرى من الممكن أن تقوم مقام هذه الأدوات الثلاث في عملية الربط بين طرفين الصورة.
ونحاول الآن أن نوضح جانبا مهما جدا قد لم ينتبه إليه باحث آخر ذاك الموروث وذاك المعاصر، ونعني به وجود البلاغة القرآنية الكريمة التي تجسد حتى استخدامها لأدوات التشبيه تجسد منحى بلاغيا له أهميته وطرادته، وهذا ما يتمثل في الاستخدام الذي يتوفر عليه النص القرآني الكريم بالنسبة لهذه الأدوات الثلاث أي الأدوات المتمثلة في الكاف وفي عبارة كأن، وفي عبارة مثل، وسنورد أولا أمثل لهذه الأدوات الثلاث، ثم نبين كيفية الاستخدام البلاغي لهذه الأدوات من خلال العبارة القرآنية الكريمة، لقد استمعتم قبل قليل إلى قوله تعالى: ( وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام) أو كالأنعام، هذا هو استخدام الكاف وأما استخدام كأن فسيمكنكم أن تلاحظوه في قوله تعالى: ( يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر).
هذا تشبيه لقيام الساعة وكيفية خروج الموتى من قبورهم في لحظة الانبعاث لقد شبههم النص القرآني الكريم بالجراد المنتشر، حيث توكأ على الأداة كأن بالتشبيه المذكور وهكذا بالنسبة إلى قوله تعالى مثلاً (كأنهن الياقوت والمرجان)، حيث شبه الحور العين بالياقوت وبالمرجان من خلال قوله تعالى: (كأنهن الياقوت والمرجان) أي من خلال الأداة كأن، وهكذا في مواقف أخرى، وأما استخدام الأداة الثالث ونعني بها أداة أو عبارة مثل فيمكنكم أن تلاحظوا ذلك في الحوار الداخلي الآتي الذي أجراه أحد ابني آدم بعد أن قتل أخاه، حيث قال وهو يحاور ذاته: (يا ويلتاه أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري).. الخ.
لاحظوا أن النص هنا يتحدث بلغة الحوار الداخلي عن شخصية ابني آدم الذي قتل أخاه وجهله كيفية مواراته، حيث بعث الله سبحانه وتعالى غراباً يبحث في الأرض ليريه الغراب كيف يصنع ذلك، وعندما شاهد هذا القاتل الغراب وهو يبحث في الأرض ليدفن طائر آخر، نقول عندئذ قال (يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب) فالتشبيه هنا بين مواراة جسد الغراب وبين مواراة جسد البشر حيث استخدمت الاداة مثل، ولم تستخدم الأداة كأن كما لم تستخدم الأداة الكاف وحده هنا لاحظتم كيف أننا شاهدنا في هذه النصوص القرآنية الكريمة استخدام ثلاث أدوات هي الكاف وكأن ومثل، استخدمت كل هذه الأدوات للتشبيه، ولكن الفرق بين ما يستخدمه القرآن الكريم هنا، وبين ما نلاحظه في الاستخدام البشري في عشرات النصوص من قصائد وروايات وخطب و الخ. لا نجد في الواقع هذه الدقة البلاغية أو هذا الإعجاز البلاغي المتمثل في كيفية الاستخدام لهذه الأدوات، وهذا ما سنوضحه الآن بالنحو الآتي.
بما أن الأداة الكاف أو كأن أو مثل، تتضلع بمهمة جمالية هي الربط ين الظاهرتين يوجد بينهما تشابه بشكل أو بآخر، حينئذ فإن درجة التشابه بين كل ظاهرتين في الواقع تظل على مستويات ثلاثة، فهناك تشابه بين شيئين بدرجة الواقع المشتركة بحيث يمكن أن نقول بان هذه الدرجة تمثل المنحنى المتمثل من التشابه وبين طرف الصورة والممثل لها بدرجة خمسين بالمئة، أي كل واحد من هذين الطرفين يجسد خمسين بالمئة عنصر تشابه مع الطرف الآخر، وهناك في الواقع درجة أقل من الدرجة المتقدمة والممثل لها بدرجة خمسة وعشرين، أي عندما نشبه شيء بآخر حينئذ فإن وجوه الشبه بين هذين الطرفين لا يتجاوز درجة الخمس أو الربع أو الخمس والعشرين، ونجد نمطاً ثالثاً وهو على عكس هذا النمط، هذا النمط الثالث يتجاوز درجة الوسط ليمثل الدرجة الأكثر ويمثل لنا بدرجة الخمسة وسبعين.
والمهم الجمالية للتشبيه أو لرصد العلاقة بين الظاهرتين في الواقع لا يشترط فيها تكثيف أوجه الشبه أو تقليل اوجه الشبه بقدر ما يمكن رصد ولو الوجه الواحد فحسب لإبراز الرؤية المطلوبة، ولكن السياق في الواقع هي التي تتطلب إبراز أكثر من وجه واحد وحينا آخر لا يتطلب الموقف ذلك، وحينما نقول الوجه الواحد أو الوجوه المتعددة، لا نعني أن هناك مستويات من الشبه يتماثل فيها هذا العنصر مع الآخر، بقدر ما نريد أن نقول أن درجة الشبه من حيث الماهية من الطرفين هي التي تمثل النسبة المذكورة، وإلا من الممكن أن نجد تشبيهاً بين الطرفين قد يتجاوز عشرة عناصر من وجود الشبه ومع ذلك فإن العلاقة يبن هذين الطرفين تظل من البعد بمكان كبير على العكس من تشبيه آخر قد يتناول طرف واحد، إلا أن الطرف الواحد هو المجسد لوجود العنصر البارز من الخطوط المشتركة بين طرفي الصورة.
ولنغرب مثلا على ذلك، لنستمع أولا إلى هذه السورة القرآنية الكريمة وهي التشبيه (خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر)، هنا تشبيه لسلوك الآدمي بسلوك حيواني، قبل ذلك لاحظتم أيضاً تشبيها يتناول طرفين أحدهما تشبيه سلوك الآدمي، وهم الكفار بسلوك حيواني وهم الأنعام، ولكن ستلاحظون فارقا كبيرا بين هذين التشبيهين، فمع أنهما يتناولان طرفين هما البشر والحيوان، إلا أن كل تشبيه يتفاوت أو يختلف عن الآخر في رصده لأوجه الشبه، في ما لاحظنا أن وجه الشبه بالنسبة إلى التشبيه بين الأنعام والكفار هو وجه واحد يتسم بالظاهرة العقلية أو التفكير، نجد هنا في الصورة الثانية التي قرأناه عليكم الآن وهي تشبيه البشر بالجراد نجد ما يقارب من عشرة أوجه للشبه، ولكن مع ذلك فإن هاتين الصورتين أو هاذين التشبيهين يظلان ينتسبان إلى نمط واحد يتكأ على الأداة الكاف التي هي تمثل كما قلنا نسبة متوسطة من حيث التشبيه بين الظاهرتين، مقابل كأن التي تمثل نسبة ضئيلة من التشابه، ومقابل الأداة مثل التي تمثل نسبة كبيرة من التشابه.
إذا الكاف هي التي تمثل نسبة متوسطة من التشابه وهي تنسحب على غالبية التشبيهات القرآنية الكريمة، يليها من حيث الاستخدام كأن ثم يليها مثل، ولكل من هذه الأحجام أو هذه المقادير من الاستخدامات في الواقع له بلاغته وانبهارنا أمام هذه البلاغة المذهلة التي لم يتلفت إليها أحد فيما لاحظنا من البلاغيين الموروثين والمعاصرين من حيث ملاحظتهم لهذا الجانب الدقيق أو الإعجازي من الاستخدام الإعجازي لأداة التشبيه.
المهم لاحظوا هنا في النص الذي قرأناه قبل قليل ونعني به تشبيه الأجداث وهي تخرج من القبور وهي تنتشر أن هناك أكثر من عشرة أوجه من الشبه بين الشخوص المنبعثين من قبورهم إلى عرصة القيامة وبين الجراد المنتشر. فالظاهرة هنا ترتبط بقيام الساعة وخروج الناس من قبورهم على أثر نفخة الصور، وحينئذ أن الهول الذي سيرافق مثل هذا القيام والخروج من حيث المظهر الخارجي للعملية، أي خروج الأعداد الهائلة من البشرية وهي أعداد لا يمكننا أن نرقمها إحصائيا لكثرتها في البشر جميعها منذ أن خلقوا وحتى قيام الساعة التي نجهل وقتها.
نقول مثل هذا الوقت لخروج البشرية من القبور ليس من السهل أن نستحضر في اذهاننا مدى هوله حيث عملية الخروج في وقت واحد وتجمعهم بعد ذلك في مكان واحد، وما يرافق كل من عمليتي الخروج والتجمع من الزحام أو الطريقة التي ينتظمون خلالها أولئك ليس من السهل استخدام بقدر ما عبر صورة معروفة هي مظهر الجراد المنتشر، فغالبيتنا شاهد الأكداس من الجراد يتطاير هنا وهناك والمتراكم هناك وهنا، مما لا يحصى عدده والطريقة التي تتم من خلالها التطاير و التراكم والهبوط، أي عندما يطير الجراد وعندما يتراكم وعندما يهبط إلى الأرض، نقول هناك عنصر شبه كبير بين عملية الانبعاث من القبور والانتشار للجراد من حيث المكان.
حيث تعدده هنا وهنا من حيث تطايره بعد ذلك، ومن حيث الارتطام بين بعضه البعض، ومن حيث عشوائيته أو غبارية تطايره.. الخ.
فضلا عن تراكمه بعد ذلك على الأرض. أولئك جميعا من الأحاسيس التي لا يمكن أن نتخيلها متواكبة مع عمليات البدء بالرحب والتطاير والارتطام والهبوط، تقرر لنا بوضوح بين العمليتين ورحلة البشر نحو عرصات القيامة وبين الجراد المنتشر، مع ملاحظة أن المرء نفسه يثير كل الإثارة مما ينطوي عليه من الهول والاقتراب والذهول..الخ.
ولكن ما استهدفنا الآن من الاستشهاد بهذا أن مع كثرة هذه الأوجه من الشبه بين تطاير الجراد وبين انبعاث الموتى من القبور، ومع ذلك كله فقد استخدم النص الأداة كأن، ولم يستخدم الأداة مثل، التي قلنا أن هذه الأداة تجسد وجود التشابه الكبير البالغ نسبة 75 بالمئة بين ظاهرتين، ترى مع وجد هذا التشابه الكبير بين الفروع التي لاحظناها بين الجراد وبين التطاير البشري مع ذلك فإن استخدام النص القرآني كان له من خلال الأداة كأن، وليس من خلال الأداة الكاف التي تمثل النسبة المتوسطة، هنا يكمن السر البلاغي الكبير متمثلا في أن الهدف من هذا التشبيه ليس هو رصد هذه الأوجه المتماثلة فحسب بل الأهم من ذلك كله هو أن وجه الشبه بين الجراد وبين البشر بصفة أن البشر ينتمي إلى العضوية البشرية، والجراد إلى العضوية الحيوانية، فإن وجود هذا الفارق بينهما يجعل التشبيه بين هاتين العضويتين، يعتمد على أداة تمثل خمسة وعشرين فحسب من أوجه التشابه متمثلا في عملية التطاير فحسب،
أما ما يتفرع على التطاير أو الانبعاث حينئذ فذلك يتعلق بأمر آخر حيث لاحظنا عشرة وجوه أو أكثر من التشابه بين عملية تطاير البشر وعملية تطاير الجراد، ولكن المقصود من هذه العملية عملية الانبعاث، وعملية التطاير، أي الانبعاث من مكان معين للبشر، والانبعاث من مكان معين للجراد، هذا هو الملاحظ ولذلك استخدمت هذه الأداة كأن لأنها تمثل أداة للربط بين ظاهرتين لا رابط بينهما إلا هذا الجانب لأن كل منهما ينتسب إلى عضوية معينة.
هنا يثار السؤال لماذا استخدمت الأداة الكاف بالنسبة إلى التشابه والتماثل بين البشر والأنعام هنا نقول أن التماثل هنا أكبر نسبة من سابقتها لسبب واضح هو أن العقل عند الكافر والعقل عند البشر يتماثلان من حيث الانحطاط، إذا التماثل هنا من حيث الانحطاط يمثل اكثر وأكبر نسبة من التماثل بين الجراد وبين البشر، لأن التماثل بين البشر وبين الجراد كان من الضآلة بمكان إلا من حيث عملية التطاير أما هنا فإن العقل بما يجسد عملية مهمة جدا حينئذ فإن التماثل بين انعدام العقل عند الحيوان وانعدمه عند البشر يأخذ نسبة أكبر والآن بغض النظر عن هذا نتجه إلى تشبيه آخر استشهدنا به ألا وهو تشبيه الحور باللؤلؤ المكنون، من البين أيضاً أن الحور العين من عضوية تختلف عن العضوية المادية المتمثلة باللؤلؤ وأشباه اللؤلؤ ومن هنا جاء التشبيه متوكئاعلى أداة تمثل 75 بالمئة من أوجه التشابه هذا ما يجعلنا نردد من جديد أن كل من الظاهرتين تتباينان تماما فالحور من عضوية معينة، وأما اللؤلؤ فجماد، وحينئذٍ فإن وجه الترابط بينهما لا يبلغ درجة التوسط ولا يبلغ درجة الكثرة، وما يبلغ الدرجة الضئيلة بالنحو الذي لاحظناه.
هذا على العكس تماما من الأداة الثالثة وهي مثل التي تمثل نسبة 75، حيث شبه النص القرآني الكريم مواراة جثة الغراب بمواراة جثة البشر، فالغراب والبشر يشتركان في العضوية التي يشتركون فيها وهي الحيوانية، وكل منهما يشترك في ظاهرة القتل، وكل منهما يشترك في ظاهرة المواراة، وكل منهما يشترك في ظاهرة الوعي الموجود عند الطرفين، وهذا كله يجعل الاستخدام الأداة مثل هي المفضلة هنا، وهي المناسبة مع الموقف بالنحو الذي لاحظناهن إذا كل من استعمال الأدوات الكاف وكأن ومثل، تمثل استخداما دقيقا جدا لم يتوفر عليه الاستخدام البشري بالنحو الذي نعرفه وهذا هو أحد أوجه الإعجاز البلاغي، نتحدث بالمحاضرة اللاحقة إن شاء الله عن الأوجه الأخرى في الصورة القرآنية الكريمة.
والى ذلك الحين نستودعكم الله ونتمنى لكم التوفيق والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.