محاضرات علوم القرآن - المحاضرة 27
نواصل حديثنا عن القصة القرآنية الكريمة بصفتها معجزا فنيا أو معجزا بلاغيا حيث حدثناكم عن هذا الجانب أكثر من محاضرة بدأناها بالحديث أولاً عن لغة القصة ثم عن بناء القصة ثم عن مادة القصة وفي مقدمتها مادة الشخصية حيث حدثناكم أيضاً عن هذه الشخصية، من جملة زوايا بدأناها أولاً بالحديث عن العدد عنصر العدد في الشخصية حيث لاحظنا أن لكل قصة عدداً محددا من الشخصيات، قد تكون هذه الشخصية واحدة وقد تكون اثنتين وقد تكون ثلاث شخصيات وقد تكون عشر شخصيات وهكذا.
وقلنا أن لكل من هذا العدد نكتة فنية ودلالية أوضح منها في حينه، وانتقلنا بعد ذلك إلى الحديث عن جانب آخر من جوانب الشخصية ونعني به، التنوع لهوية الشخصيات حيث لاحظنا أن الشخصيات تنتسب إلى البشر بطبيعة الحال في المقام الأول، إلا أن ثمة عضويات أخرى اشتركت أيضاً في هذا الجانب كالعضوية الملائكية والعضوية الحيوانية وحتى المادة الجامدة أو بالأحرى حتى الظواهر المادية التي أنطقها القرآن الكريم بحوار خاص، كل ذلك حدثناكم عنه من حيث النكات البلاغية التي تتضمن مثل هذا التنويع في الشخصيات.
ووعدناكم بأن نتحدث عن جانب ثالث من جوانب الشخصية وهو ما نبدأ الحديث عنه الآن ونعني به تقسيم الشخصية بطلة القصة إلى نمطين الشخصية الرئيسة والشخصية الثانوية، ونقصد بالشخصية الرئيسة هي الشخصية التي تتحرك في جميع أدوار وأقسام القصة بعكس الشخصية الثانوية التي تتحرك لتمارس دوراً معيناً ثم تختفي من مسرح الأحداث أو المواقف لتسمح المجال لدخول شخصية أخرى وهكذا.
والمهم أن نشير أولا قبل أن نستشهد بنماذج في هذا الميدان ينبغي أن نشير أولا إلى أن المفهوم في القصة البشرية أن الشخصية الرئيسة في الغالب تتطلع بتعبير عن الهدف الفكري الذي يقصده القاص وتكون الشخصيات الثانوية شخصيات توظيفية، تلقي بإنارتها على جوانب الشخصية الرئيسة، وقد يجعل المؤلف إحدى الشخصيات الثانوية هي المفصحة عن أفكاره التي يستهدفها ولكن عندما نتجه إلى القرآن الكريم نجد أن ما يستهدفه النص القرآني الكريم من أهداف يظل بعضها رئيساً وبعضها ثانويا ولذلك يوظف هذه الرؤية الفكرية الثانوية من خلال توظيف شخصيات ثانوية له. لكن مع ملاحظة مهمة جدا هي أن ما نجده فكرة ثانوية في قصة ما، نجده فكرة رئيسة في قصة أخرى والعكس هو الصحيح، وهو أمر سحب ليس في ميدان القصة من حيث الشخصيات التي تنسحب على مطلق الظواهر التي يطرحها القرآن الكريم حيث يجعل هذه الظاهرة في سورة ما هدفا فكريا يركز ويشدد فيه ويجعل هذا الهدف ذاته في سورة أخرى هدفاً ثانويا وربما ثالثياً أيضاً وهكذا.
المهم نعود الآن لنتحدث أو لنستشهد بنماذج في هذا الميدان، ونعني بذلك نماذج من الشخصية الرئيسة والشخصية الثانوية وكيف توظيف هذين النمطين من الشخصيات بإنارة الأفكار التي تستهدفها القصة القرآنية الكريمة.
ويجدر بنا الآن أن نستشهد بثلاثة نماذج أحدها نص قصير والثاني نص متوسط والثالث نص طويل، حتى نتبين من خلال هذه الأحجام المختلفة للقصة القرآنية الكريمة كيفية توظيف الأبطال الرئيسيين بالأبطال الثانويين في هذه القصة أو تلك، وقد قلنا أن الفارز بالنسبة لتحديد الشخصية الرئيسة والشخصية الثانوية يتمثل في كون الشخصية الرئيسة تتحرك في جميع أدوار القصة بينما نجد أن الشخصية الثانوية تتطلع بحركة دور خاص ثم تختفي عن المسرح بالنسبة للمواقف أو الأحداث التي تمثلها هذه الشخصية، ويمكننا الآن أن نستشهد كما مر بنماذج ثلاثة لتحديد الشخصية الرئيسة التي قلنا أنها تتحاور في جميع الأدوار لاحظوا على سبيل المثال بالنسبة إلى قصة آدم الواردة في أول سورة من القرآن الكريم، حيث استشهدنا بها أيضاً أكثر من مرة تبدأ القصة بقوله تعالى (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) الخ.
حيث نجد الآن الشخصيتين تدخلان في هذه الأقصوصة، هما شخصية الخليفة وشخصية الملاك والمطلوب هنا ملاحظة الشخصية الرئيسة التي هي الخليفة (آدم (عليه السلام)) حيث سيمثل في جميع أقسام القصة دورا خاصا ولا يختفي في أحد من أدوارها وحين ننتقل إلى القسم الآخر من القصة المشار إليها نجد قوله تعالى (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس) هنا يدخل إبليس كشخصية جديدة في القصة بعد أن كان القسم الأول خاصاً بالملائكة وبآدم (عليه السلام) ولكن آدم لا يزال في هذا القسم من القصة، حيث أشارت القصة إليه بقوله تعالى: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم).
إذا آدم وهو الشخصية الرئيسة جاء دوره أيضاً بهذا القسم من القصة، وجاءت الملائكة أيضاً، إلا أن الملائكة سوف يختفون من الآن فصاعدا من القسم الثالث من القصة، وسيجيء عنصر أو شخصية أخرى في القسم الثالث من القصة القرآنية الكريمة حيث نقرأ ما يلي (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة) هنا جاءت الشخصية الجديدة وهي شخصية حواء لتدخل في هذا القسم من أقسام القصة، ولكن آدم لا يزال في هذا الدور أو القسم الثالث من القصة ما يزال ماثلا بشخصيته، حيث خوطب (يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة).
إذا جاءت زوجة آدم وهي حواء شخصية جديدة في القسم الثالث من القصة بينما نجد آدم لا يزال متحركا في جميع أقسام هذه القصة.
هذا نموذج من نماذج الحكايات أو الأقاصيص القصيرة التي تحركت فيها أربعة شخصيات هي الملائكة وإبليس وحواء من حيث كونهم شخصيات ثانوية بالإضافة إلى الشخصية الرئيسة وهي شخصية آدم حيث لاحظنا كيف أن آدم تحرك في جميع أقسام الأقصوصة بينما لعب كل من الملائكة وإبليس وحواء دورا محدودا واختفوا من المسرح.
إذا اتجهنا إلى قصة أخرى أيضاً استشهدنا بها في محاضرة سابقة، ونعني بها قصة سليمان (عليه السلام)الواردة في سورة النمل نجد أن هذه الشخصية ونعني بها سليمان تظل شخصية رئيسة تلعب أدوارها في أقسام القصة جميعها، بينما يأتي أبطال القصة أيضاً كل واحد يأتي منهم لاعباً دوره في قسم محدد ثم يختفي عن الأنظار، لاحظوا هنا في قصة سليمان (عليه السلام) بعد أن تجيء المقدمة بتعريف الإجمال عن الموضوع تقول الأقصوصة حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده، هنا تلاحظون أن النملة دخلت كشخصية جديدة في هذا القسم من القصة التي جاء سليمان فيها كشخصية رئيسة بطبيعة الحال، وبعد أن ينتهي هذا القسم تقول القصة في الدور الثاني أو القسم الثاني منها بالنسبة إلى سليمان وهو البطل الرئيس، وتفقد الطير وقال ما لي لا أرى الهدهد.
هنا جاء الهدهد شخصية جديدة دخلت القصة، بينما لا يزال سليمان هو بطل القصة الرئيس الذي تفقد الهدهد ولم يره، بعد ذلك نواجه شخصية جديدة يأتينا بها من يأتينا بها هذا الهدهد الذي تفقده سليمان حيث قال: إني وجدت امرأة تملكهم..الخ.
جاءت هذه الامرأة الآن شخصية جديدة تلعب دورا في هذه القصة.
إذا الآن لا يزال سليمان هو الشخصية الرئيسة لأنه هو المخاطب من قبل الهدهد الذي جاء إليه بنبأ بلقيس.
ونتابع القصة لنجد أن سليمان لا يزال يعلبا الدور الرئيس في القصة وأن شخصية جديدة سوف تدخل هذه القصة، المقصود بالشخصية الجديدة هي الشخصية الثانوية المتمثلة في عفريت من الجن، ثم الشخصية الثانوية المتمثلة في شخصية الذي عنده علم من الكتاب، لاحظوا قوله تعالى في القصة (يا أيها الملأ (الحديث عن سليمان بطل القصة أو الشخصية الرئيسة في القصة) أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين قال عفريت من الجن) هنا تدخل هذه الشخصية الجديدة لتلعب دورا محدودا هو هذا الاقتراح أو الاستعداد الذي قدمته لسليمان، ولكن بعد ذلك دخلت شخصية جديدة عندها علم من الكتاب، وقامت بدور محدود أيضاً ألا وهو استعدادها بان تأتي بالملكة بلقيس قبل أن يرتد طرف سليمان..الخ.
إذا نحن الآن أمام شخصية رئيسة هي سليمان تلعب أدوارها في جميع القصة قبالة شخصيات ثانوية تمارس أدواراً محدودا بغض النظر عن ضخامة أو ضآلة حجم هذه الأدوار، ولكنها تظل أدوار ثانوية لها تحتل دوراً محدوداً وتختفي عن مسرح الحوادث ومسرح المواقف كما قلنا، حيث بدأت شخصيات جديدة تدخل مع الشخصية الرئيسة هي شخصية النملة أولاً، ثم اختفاء هذه الشخصية، ثم شخصية الهدهد، ثم اختفائها أيضاً، ثم مجيء شخصية عفريت من الجن، ثم مجيء شخصية الذي يملك أو الذي عنده علم الكتاب حيث مثل دوره وانتهى الموقف بالإتيان بعرش بلقيس..الخ.
وأما النموذج الثالث الذي نحاول أن نستشهد به أيضاً بالنسبة إلى تحديد البطل الرئيس والأبطال الثانويين فنجده متمثلا في سورة يوسف حيث أن يوسف يجسد البطل الرئيس وحيث أن الشخصيات الأخرى تجسد الأبطال الثانويين على نحو ما نبدأ بتوضيحه الآن، لاحظوا أن القصة تبدأ بقوله تعالى: ( إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا)..الخ.
فالملاحظ هنا أن يوسف بدأ الآن وهو البطل الرئيس يمثل دوره في هذا القسم من القصة، وبدأ أبوه الذي خاطبه يوسف (إذ قال يوسف لأبيه) بدأ هذا البطل أيضاً يدخل في القصة، ولكنه سيجسد بطلا ثانويا بدليل انه سوف يختفي في الأقسام الأخرى كما سنرى ذلك.
في القسم الجديد من القصة التي يدخل فيها بطل ثانوي ويظل يوسف هو البطل الرئيس، وأيضا يظل يعقوب مواصلا دوره الثانوي في هذا القسم من القصة على النحو الآتي لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين جاء الاخوة الآن من خلال هذه العبارة الواردة في القصة لقد كان في يوسف وأخوته آيات للسائلين (إذ قالوا ليوسف وأخوه احب إلى أبينا منا)..الخ.
إذا الأخوة بدأوا الآن يحدثون أو يمارسون دورهم في هذه القصة فيما اتجهوا بعد ذلك إلى أبيهم قائلين (يا أبانا مالك لا تأمنا على يوسف) إلى آخر القسم المفصل الذي تحدث عن ذهاب الأخوة ليوسف وإلقاءه في البئر الخ هنا نجد أن يعقوب (عليه السلام) قد جاء ثانية في هذا القسم ليمثل شخصية ثانوية ودخل الأخوة بشخصيات جديدة ثانوية، وبعد ذلك ندخل في قسم جديد من هذه القصة لنواجه شخصيات ثانوية جديدة (وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فادلى دلوه قال يا بشرى هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعلمون وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين).
هنا تجيء القافلة شخصية ثانوية جديدة ثم تجيء شخصية أخرى عبر القسم الجديد من القصة القائل: وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا الخ. لاحظوا كيف أن الأبطال الجدد أو الشخصيات الجديدة دخلوا الآن القسم الجديد من القصة، من؟ عزيز مصر ثم امرأته إذا شخصيتان جديدتان دخلتا هذه القصة وتلاحظون أن يعقوب قد اختفى دوره، وبعد ذلك الأخوة أيضاً قد اختفى دورهم ليفسح المجال لهاتين الشخصيتين الجديدتين، أن تلعبا دورهما في هذا القسم من القصة القرآنية الكريمة. بعد ذلك نواجه شخصية جديدة يجسدها العبارة القائلة (وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد)..الخ.
بعد ذلك ينتهي هذا القسم من القصة ليجيء قسم جديد ومن ثم لتدخل شخصيات ثانوية جديدة في القسم الجديد من القصة ألا وهن نسوة المدينة، (وقال نسوة في المدينة أن امرأة العزيز تراود فتاها)..الخ.
بعدها أيضاً يأتي دور جديد أو بالأحرى يأتي قسم جديد من القصة ليدخل في هذا القسم الجديد بطلان من الأبطال أو شخصيتان هما صاحبا السجن بالنسبة إلى يوسف (ودخلا معه السجن فتيان فقال أحدهما)..الخ.
إلى هنا نجد جملة من الأبطال أو الشخصيات الثانوية دخلت مسرح الأحداث ومسرح المواقف بالشكل الذي لاحظتموه حيث أن هذه الشخصيات الثانوية تظل تلعب دورها حينا من خلال تكرار دور جديد مثل امرأة العزيز، ومثل العزيز نفسه لأن العزيز يمر بأكثر من دور يتصل برؤياه للحلم باستدعائه يوسف (عليه السلام) وكذلك امرأته التي تعترف بعد ذلك بانحرافها وببراءة يوسف..الخ.
ومن ثم تنتهي القصة ليجيء الأخوة من جديد ليلعبوا دورا يتصل بالحالة الاقتصادية التي أصابت البلد، ومجيئهم إلى مصر إلى آخر ما تنقله القصة، وأخيرا مجيء أولئك جميعا إلى مصر، ولقاء الأخوة والأب والابن نقول أن هذه الشخصيات الثانوية كما لاحظتموها لعب بعضها دورا واحدا واختفى من المسرح ولعب بعضها دورين أو ثلاثة أدوار كالاخوة وكيعقوب..الخ.
إلا أن البطل الرئيس ظل بطلا لهذه الأدوار جميعا لم يختف لأي دور من الأدوار، إنه ظهر في الدور الأول الذي خاطب أباه بأنه رأى رؤية، والدور الثاني الذي كان محط مؤامرة الاخوة، وفي الدور الثالث الذي ألقي في البئر، والدور الآخر الذي اشتراه ملك مصر، وفي الدور الذي جاء بعده وهي تجربته مع الامرأة، ثم تجربة السجن، ثم تجربة الخروج من السجن وتعيينه خازناً للبلد الخ. كل ذلك نجده مجسداً للشخصية الرئيسة التي تتحرك في أدوار القصة جميعا والآن لاحظتم كيف أن لكل قصة شخصية رئيسة، وأخرى شخصية ثانوية أو أكثر من شخصية ثانوية بالشكل الذي لاحظتموه في هذه النماذج الثلاثة من القصص القرآنية الكريمة.
وما يعنينا الآن هو أن نحدد أولاً النكات البلاغية والدلالية التي تجعل القصة القرآنية الكريمة تحفل بالبطل الرئيس، والمسوغات الدلالية والجمالية التي تجعل القصة حافلة بالأبطال الثانويين أو الشخصيات الثانوية، وإذا عدنا الآن إلى القصص الثلاث التي استشهدنا بها قبل قليل، وعرضنا فيها الشخصيات الرئيسة فيها والشخصيات الثانوية، نجد بالنسبة إلى المسوغ البلاغي والدلالي للشخصية الرئيسة الأولى في قصة آدم (عليه السلام)، تبقى من الوضوح بمكان كبير، وذلك لهدف واضح، هو أن القصة تريد أن ترسم لنا المعالم أو الملامح العامة للوظيفة العبادية التي خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان من أجلها، فتبعا لقوله تعالى (ما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) هذا يعني أن الإنس مخلوقون للعمل العبادي والعمل العبادي كيف يتمثل بالنسبة للبشر أو للإنس، إنه يتمثل في مخلوق بشري تبدعه السماء ألا وهو آدم (عليه السلام)، حيث يمثل آدم الجنس البشري الذي يتناسل كما هو واضح.
من هنا فما دام الجنس البشري يتوكأ على الوظيفة العبادية التي خلق من أجلها حينئذ فإن الأب الذي تتناسل البشرية منه، وتجسد مفهوم الإنس حينئذ يكتسب مشروعيته بهذا النحو الذي يجعله بطلاً رئيساً للقصة، بينما نجد أن الأبطال الثانويين يلقون بإنارتهم على البطل الرئيسي حيث أوضحنا في حينه أن الشخصية الثانوية ونعني بها شخوص الملائكة وظفت للإنارة بالنسبة إلى شخصية آدم (عليه السلام)، فما دامت شخصية آدم (عليه السلام)، تجسد المفهوم الوظيفي للعبادة المطلوبة في الأرض، حينئذ فإن سجود الملائكة لهذه الشخصية يعد تعبيرا عن خطورة الشخصية المشار إليها، ومن ثم تعبيرا عن خطورة السلوك الآدمي الذي أمر أن يمارس الخلافة في الأرض، وهكذا بالنسبة إلى الشخصيتين الأخريين اللتين أنارتا بدورهما هذا الجانب ونقصد بها أولا شخصية حواء التي تمثل الاتحاد بين كائنين ومن ثم استمرارية التناسل البشري، الذي يتوقف عليه ممارسة العمل العبادي كما هو واضح وأخيرا شخصية إبليس التي تقف طرفا مقابل القوة الخيرة التي خلق الله الإنسان من خلالها، حتى تصبح تركيبة يتجاذبها جانبان، جانب الخير وجانب الشر، وحينئذ تكون التجربة في الواقع هي تجربة نجاح أو تجربة فشل من خلال وجود الصراع المذكور وإذا لم يكن ثمة صراع حينئذ لا معنى لمفهوم الاختبار العبادي الذي رسمه الله سبحانه وتعالى للبشرية. إذا كانت كل من شخصية إبليس وحواء والملائكة، كانت هذه الشخوص ملقية بإنارتها على الشخصية الرئيسة بالشكل الذي حدثناكم عنه.
وإذا انتقلنا إلى القصة الثانية ونعني بها قصة سليمان والشخصيات الثانوية التي وظفت بدورها لإنارة هذه الشخصية الرئيسة حينئذ سنجد الأمر نفسه بالنسبة إلى سليمان أراد الله سبحانه وتعالى أن يبين للمتلقي بأن الله سبحانه وتعالى سخر لسليمان كل شيء، لأن سليمان يجسد شخصية نبوية مصطفاة، تمارس وظيفتها بالشكل الذي يطلبه سبحانه وتعالى، ولذلك عندما طلب سليمان من الله سبحانه وتعالى أن يمنحه ما لم يمنح أحداً من العالمين، حينئذ استجاب الله سبحانه وتعالى وسخر له الجن والإنس والطير إلى آخر ما ورد من إشارة في هذه القصة أو الأقصوصة. ومن ثم فإن التعبير أو الإفصاح عن خطوة مثل هذه الشخصية، يشكل من الزاوية الفنية أو البلاغية مسوغا واضحا لأن تجعل مثل هذه الشخصية، شخصية رئيسة بالقياس إلى الشخصيات الأخرى، وهذا بنفسه يشكل مسوغا لتصبح الشخصيات الأخرى شخصيات ثانوية، لأنها توظف من أجل خدمة الشخصية الأولى، فكما قالت القصة من أن الله سبحانه وتعالى سخر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير..الخ.
حيث كانت هذه الشخوص الثانوية بالشكل الذي لاحظناه في حينه كلها مسخرة لخدمة سليمان، ومن هنا اكتسبت هذه الشخصية طابعا ثانويا بالشكل الذي أوضحناه.
والأمر نفسه حينما ننتقل إلى القصة الثالثة، ونقصد بها قصة يوسف (عليه السلام) حيث أن الشخصيات الثانوية تظل من التعدد بنحو ملحوظ وان الشخصية الرئيسة تظل بطبيعة الحال هي شخصية يوسف (عليه السلام) أن النص القصصي المرتبط بيوسف (عليه السلام) يظل نصاً قصصيا يستهدف إبراز شخصية يوسف من خلال شخصية مارست عملها العبادي وفق مبدأ التقوى، الذي يطالبنا الله سبحانه وتعالى به، ولذلك وصفه النص القصصي من خلال الله سبحانه وتعالى في أكثر من موقع لهذه القصة حيث قال (وكذلك نجزي المحسنين) وقال في موقع آخر من هذه القصة (ولا نضيع أجر المحسنين) ثم قال (ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون).
إذا التقوى التي اتسم بها يوسف تجسد ملمحا واضحا من المشروعية، بمكان كبير من الزاوية الدلالية أن تصبح مثل هذه الشخصية المتقية بطلاً أو رئيسة للقصة بالنحو الذي لاحظناه وبخاصة إذا أخذنا بنظر الاعبتار أن الشدائد التي واجهها يوسف، أو بالأحرى مقابل هذه الشدائد ما واجهه من منبهات حادة جدا، بحيث من النادر أن يفلت الإنسان بهذه النهايات الحادة وفي مقدماتها المنبه الجنسي المتمثل في مراودة امرأة العزيز لهذه الشخصية، وامتناعه بذلك النحو الذي سردته القصة حيث يفصح مثل هذا الامتناع الاستجابة السليمة لدى هذه الشخصية لدى المنبه الحاد المشار إليه.
حتى انه فضل بأن يحي السجن بسنواته المعروفة، فضل ذلك على أن يمارس عملا يتصادم مع مبدأ التقوى، يضاف إلى ذلك أن تسامحه المتمثل في عفوه عن أخوته الذين أرادوا قتله، وألقوا به في البئر، واتهموه بالسرقة حتى بعد مضي سنوات على مكائدهم المذكورة، نقول مع ذلك كله كان يوسف (عليه السلام) يمارس عملية السماح والعفو لأخوته كما ذكر ذلك النص القصصي المشار إليه.
إذا مثل هذه الشخصية التي مارست التقوى، ومارست الصبر حيال الشدائد مثل هذه الشخصية تظل حاملة مشروعية كونها تصبح شخصية، رئيسة ومن ثم توظف الشخصيات الثانوية لإنارتها وليس هذا فحسب، أي عندما ننتقل للحديث عن الشخصيات الثانوية نقرر عبر هذه القصة وسواها أن مهمة الشخصيات الثانوية ليس فحسب إلقاء الإنارة على الشخصية الرئيسة، بل لكل شخصية ثانوية أيضاً دور خاص، يفصح ظاهرة من الظواهر التي يستهدف النص القصصي إبرازها، فمثلا لو وقفنا عند أول شخصية عرضها النص القصصي لواجهنا شخصية يعقوب (عليه السلام)، إن شخصية يعقوب (عليه السلام) تجسد معنى الصبر بأعلى مستوياته حيث فقد ابنه يوسف أولا، ثم فقد ابنه الثاني، وهما أشد أبناءه أو لنقل أقرب أبناءه إلى قلبه من حيث الانسياق والحب والتعاطف الخ. ليس هذا فحسب، فإن هذه الشخصية الصابرة كانت من الثقة لله سبحانه وتعالى إلى أنها لن تيأس مثل هذه السمة أي عدم اليأس من عطاء الله سبحانه وتعالى، يجسد دون أدنى شك قمة الإيمان، بصفة أن الشدائد إذا توالت على الشخصية بهذا النحو، حينئذ يمكن تعرض هذه الشخصية إلى هزة داخلية أو اضطراب، بينما نجد شخصية يعقوب (عليه السلام)، تمارس عملية حسن الثقة بالله سبحانه وتعالى وعدم اليأس وهذا ما حدث بالفعل حيث أن الله سبحانه وتعالى رد على ممارسته المذكورة، برد البصر إليها من جانب، والتقائها يوسف من جانب آخر بالشكل الذي سردته القصة.
إذا هذه الشخصية بما مارست من صبر، أيضاً تجسد إبرازا لفكرة مستهدفة، هي عملية الصبر وعدم اليأس من رحمة الله سبحانه وتعالى.
وإذا جئنا إلى الشخصية الثانية ونعني بها شخصية الأخوة اخوة يوسف (عليه السلام)، نجد أن دور هؤلاء الشخصيات يكشف عن أكثر من فكرة يستهدفها النص القصصي الكريم، وفي مقدمة ذلك الفكرة الذاهبة إلى مفهوم الغيرة أو الحسد حيث أن الغيرة والحسد قد يدفعان الإنسان إلى أن يرتكب جريمة قتل، كما حدث لهؤلاء الأخوة حينما فكروا بقتل يوسف لولا اقتراح أحدهم بأن يلقى بالبئر دون عملية القتل، إذاً هؤلاء الشخصيات الثانوية كانوا تجسيدا لفكرة هي أن ظاهرة الحسد أو الغيرة قد تصل بالإنسان إلى أن يفكر بجريمة عظمى كجريمة القتل، وإلقاء الشخصية في البئر كما لاحظنا.
وإذا تجاوزنا دور هذه الشخصيات من حيث كشفها لهذه الظاهرة ظاهرة الحسد أو الغيرة، نجد أنها من جانب آخر ألقت بطبيعة الحال إنارتها على شخصية يوسف من خلال كونهم قد شملهم العفو من قبل شخصية يوسف فكانوا سببا فنيا لأن تتحقق من خلال وجودهم عملية العفو وهي بدورها تمثل فكرة يستهدف النص القصصي إبرازها، ونعني بها فكرة العفو التسامح والتنازل عن الذات ومقابلة الإساءة بالإحسان إلى آخر ما لاحظناه من سلوك يوسف تجاه الأخوة المشار إليهم. وإذا اتجهنا إلى شخصيات أخرى ظهرت في هذه القصة ومنها مثلا شخصية النسوة اللاتي كن يثرثرن في المدينة ويعلقن على سلوك امرأة العزيز، حيث أن هذه الشخصيات تم رسمها من خلال إبراز أكثر من فكرة، وفي مقدمتها أيضاً فكرة الغيرة حيث أن هؤلاء النسوة لم تدفعهن الفضيلة إلى أن ينتقضن امرأة العزيز بل كانت الغيرة أو الحسد وراء ذلك، ومن هنا وصفها هؤلاء النسوة بأنهن يتسمن بكيد عظيم.
وإذا تجاوزنا هذه الشخصيات الثانوية المتمثلة في نسوة المدينة واتجهنا إلى امرأة العزيز ذاتها لاحظنا كيف أن هذه الامرأة من خلال رسم لسلوكها قد تم من خلال قنوات متعددة من الأفكار التي تستهدفها القصة القرآنية الكريمة، فأولا أوضحت إلحاح الدافع الجنسي عند المرأة يظل من الضخامة لدرجة أنها تفكر في أن توقع الشخصية السليمة الممتنعة عن ممارسة الرذيلة، تفكر في أن تلقيها بالسجن الذي لاحظناه عند عرضنا لهذه القصة أيضاً إن هذه الشخصية تكشف من زاوية أخرى عن نظافة الطرف الآخر، أي أن هذه الشخصية عندما اقترحت ممارسة ما هو غير مشروع من العمل الجنسي، بالشكل الذي لاحظناه قد قوبل سلوكها بسلوك نظيف جداً، أي على العكس تماما من سلوكها الانحرافي إذا هذه الشخصية الثانوية قدمت أكثر من وظيفة فنية عبر رسمها بالقصة المشار إليها بالنحو الذي اوضحناه. بالنسبة إلى الشخصية الثانوية وهي الملك على سبيل المثال أيضاً نجد أن هذه الشخصية قد اطلعت بأكثر من وظيفة، وكشفت عن أكثر من مفهوم من المفهومات التي ترتبط بسلوك الإنسان من حيث ضعفه، فمثلا أوضحت أن هذه الشخصية بلغت من الضعف والهزال إلى درجة أنها انصاعت لرغبة زوجته بالنسبة إلى موقف يوسف (عليه السلام) من هذه الحادثة، مع علمه بنظافة يوسف وشهادة الشاهد بان الانحراف هو البادئ من قبل امرأته/ ومع ذلك ينصاع لرغبة امرأته مما يكشف عن ضعف الشخصية والانصياع إلى المرأة في أمثلة هذه المواقف، ومن جانب آخر نجد أن هذه الشخصية وقد اطلعت بوظيفة مهمة جداً هي المهمة التي ترتب عليها إنقاذ مصر من كارثة اقتصادية وذلك بسبب استدعاء هذه الشخصية يوسف (عليه السلام) ومن خلال الحلم الذي رآه وطلب تأويله كان صدى هذا التأويل لرؤية هذه الشخصية، منعكسة على الوضع الاقتصادي لمصر بالشكل الذي سردته القصة إذا كل شخصية رئيسة وثانوية قد طلعت بوظيفة معينة لإبراز هدف من الأهداف التي يستهدفها النص القرآني الكريم بالنحو الذي أوضحناه.
وبهذا نكتفي من حديثنا عن هذا الجانب على أن نحدثكم عن جوانب أخرى من الشخصية في حالات أخرى والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.