محاضرات علوم القرآن - المحاضرة 19
نواصل حديثنا عن الإعجاز القرآني الكريم متمثلاً في الكتابة القصصية حيث حدثناكم في المحاضرة السابقة عن أحد الجوانب المتصلة بصياغة القصص فنياً وبدأنا ذلك بالحديث أولاً عن الأشكال القصصية من حيث الضمائر التي تتوقع عليها القصة وهي ضمير الغائب وضمير المتكلم وضمير المخاطب وأوضحنا طبيعة المسوغات الفنية لكل من هذه الضمائر مع الإشارة إلى أن الحديث عن الضرورات يظل هو الغالب في القصص القرآني الكريم بعد ذلك تحدثنا عن الأنماط التي تعرض القصة من خلالها لغة وهي لغة السرد ولغة الحوار واللغة المزاوجة بينهما وأيضاً قدمنا المسوغات الفنية لكل من هذه الأنماط الثلاثة من اللغة وأخيراً عرضنا عابراً إلى نمطين من الصياغة القصصية وهي الصياغة السردية والصياغة الحوارية وقلنا أن السرد هو أخبار أو علمية عرض للظاهرة أو للشخصية من خلال تقديم المعلومات عنها والتعريف بها يقابل عنصر الحوار الذي يعني المحادثة بين أكثر وقدمنا نماذج متنوعة لهذين النمطين من السرد والحوار ووعدناكم بأن نتحدث عن ذلك تفصيلاً وهذا ما نبدأ به الآن حيث يستهل ذلك الحديث عن السرد فنقول:
السرد
إن السرد يتم كما أشرنا وفق نمطين من العرض أحد هذين النمطين هو مجرد السرد العابر والنمط الثاني هو السرد الوصفي ومن النمط الأول قوله تعالى بالنسبة إلى قصة أصحاب الكهف أم حسبت أن أصحاب الكهف كانوا من آياتنا عجبا إذ أوى الفتية إلى الكهف وقوله تعالى فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمداً نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى وربطنا على قلوبهم الخ حيث تلاحظون أن هذه العبارات القصصية جميعاً تشكل سرداً من خلال كونها عرضاً لحادثة أو موقف يتصل بشخصيات أهل الكهف.
وأما الجانب الوصفي فيتمثل في عبارات بنحو قوله تعالى في القصة ذاتها وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين أو قوله تعالى وتحسبهم إيقاظاً وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال ومن الطبيعي أن يكون لكل من السرد المعلوماتي والسرد الوصفي من الطبيعي أن يكون لكل منهما المسوغ الفني دون أدنى شك فمثلاً قوله تعالى في بداية القصة كانوا من آياتنا عجباً إن هذا العجب سوف ينسحب عضوياً على مستقبل الأحداث المواقف في القصة والعجب يتمثل دون أدنى شك في قوله تعالى ولبثوا في كهفهم ثلاث مئة سنين الخ ويتمثل في العملية الوصفية ذاتها القائلة وترى الشمس إذا طلعت...الخ والعملية القائلة وتحسبهم إيقاظا وهم رقود...الخ.
كذلك نجد أن السرد المعلوماتي القائل بأنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى وربطنا على قلوبهم نجد أن هذا العرض أو هذا السرد المعلوماتي أن هؤلاء الأشخاص يظل منسحباً عضوياً على أحداث القصة ومواقفها متمثلة في هذه الرعاية التي سحبه الله سبحانه وتعالى خلال رقودهم في الكهف المشار إليه والأمر نفسه بالنسبة إلى الوصف أو بالنسبة إلى السرد الوصفي حيث يحتل الوصف كما نعرف ذلك جميعاً بالأعمال القصصية بشرية كانت وآية كريمة يحتل الوصف موقعاً مهماً جداً في بيان صفة انه يرتبط من جانب ما لدى الشخصية المتلقية من دافع يتصل بالحس الجمالي للشيء حيث أن الوصف للشيء حول الظاهرة يشبع هذا الحس للظاهرة.
ومن هنا نجد أن العناية بالوصف القصصي للظاهرة أي للشخصية أو للشيء يحتل كما قلنا أهمية كبيرة بيد أن النص القرآني الكريم يختلف في تعامله مع الجانب الوصفي للشيء يختلف عن القصة العرضية من خلال كونه لا يعرض هذا الشيء الوصفي لمجرد إشباع الحس الجمالي لدى المتلقي بالأهم من ذلك كله أن يكون هناك ارتباط عضوي بين وصف الشيء وبين الهدف الذي يستهدفه النص القرآني الكريم ولكي تبين للطلاب نمط الإعجاز القصصي في القرآن الكريم في مختلف مستوياته لذلك سوف نستشهد بأمثلة متنوعة ولا يقتصر حديثنا على قصة واحدة كالإشارة السابقة التي أشرنا إليها من خلال استشهادنا ببعض نماذج الصياغة القرآنية الكريمة وهي قصة أهل الكهف وننتقل إلى قصص أخرى وهي مثلاً ما تلاحظونه في قصة طالوت الواردة في سورة البقرة حيث يحدثنا أن القرآن الكريم عن سلوك الإسرائيليين في مختلف المستويات المتصلة بالجبن وبالتردد وبالتمرد على أوامر أنبيائهم حيث تجيء هذه القصة لتحدثنا عن قصة وقعت بعد زمان موسى (عليه السلام) وهي أنها جماعة من وجهاء الإسرائيليين طلبوا من نبي لهم بأن يبعث الله لهم ملكاً يقاتلون في سبيل الله تحت لوائهم بعد أن استدلهم الأقباط وسبي نسائهم وذراريهم الخ. حيث أوضحت هذه القصة بأن نبيهم المشار إليهم قد شكك بصدق قولهم وبالفعل قدمت القصة أكثر من موقف وأكثر من حدث يكشف هذا الموقف ويكشف ذلك الحدث عن جملة هؤلاء وعدم انصياعهم للحرب الخ.
وما يعني أن نشير إلى بعض ما ورد بهذه القصة من سمات وفي مقدمتها السمة التي نريد أن نشير إليها الآن عابرة ألا وهي قوله تعالى بالنسبة إلى شخصية طالوت حيث اعترض هؤلاء الإسرائيليون على نبيهم حينما قال لهم بأن الله سبحانه وتعالى بعث لكم طالوتاً أي قائداً عسكرياً ولكنهم اعترضوا على هذا القائد بأنه لم يكن من سلالتهم ولن يؤتى سعة من المال إن هاتين السمتين اللتين تدرجت بهما اليهود تظلان تذرعان بهما اليهود تظلان بمكان كبير حيث الصلة البتة بين كون القائد العسكري الذي يحتاج إلى خبرة خاصة لا يحتاج إلى هذه كل من ظاهرة الثراء أو ظاهرة الانتساب السلالي بل يتطلب القائد العسكري في الواقع يتطلب منه أن يكون أولاً ذا خبرة عسكرية من جانب وأن كونه شجاعاً يستطيع اقتحام الميدان آنئذ بخاصة حيث أن الحروب في ذلك الزمن لم يكن في حياتنا المعاصرة يتطلب تقنية خاصة تتطلب شجاعة فردية وهذا ما نلاحظه بشكل بين في السمتين اللتين قدمتهما القصة القرآنية الكريمة حينما قال نبيهم بان الله سبحانه وتعالى بعث لهم طالوت قائداً وهو يتميز بجملة سمات وفي مقدمتها أن الله سبحانه وتعالى زادهم بسطة في العلم والجسم فالملاحظ هنا أن القصة عندما ألمحت إلى هاتين السمتين بأن هاتين السمتين تظلان مرتبطتين ارتباطاً وثيقاً بسمات القائد العسكري حيث أن السمة العلمية تعني الخبرة العسكرية والسمة الجسمية وهي بسطة الجسم تعني الشجاعة حيث يتطلب الموقف العسكري شجاعة متمثلة في الجسم من حيث هيئته وقوته وقدرته على اقتحام الميدان.
إذاً عندما قدمت القصة وصفاً أو بالأحرى عرضاً وصفياً لشخصية طالوت متمثلة بالسمتين المشار إليهما بالوصف ارتباطه عضوياً بطبيعة الموقف وليس هو مجرد صفة خارجية كما نلحظها عند القاص الأرضي مثلاً عندما يرسم بطله في سماته الخارجية المتمثل في شكله وقامته وهيئته الجسمية مما لا علاقة له بموضوعات القصة البتة وهذا على العكس من النص القرآني الكريم حيث لا يرسم أو لا يقدم وصفاً إلا إذا كان هذا الوصف له علاقة وثيقة ودقيقة بالموضوع المشار إليه وتظل عملية الوصف سواء أكانت من قبل صاحب النص القصصي أو كانت مرسومة على لسان إحدى شخصياته المتحاورة سواء أكان النص مرتبطاً بهذا الجانب أو بذاك فإن الملاحظ في رسم الشخصية أو رسم البيئة الملاحظ في ذلك هو عضوية هذا الوصف ومن ذلك مثلاً ما إن نلاحظه في قصة زكريا (عليه السلام) الواردة في سورة مريم حيث ورد الرسم الآتي وهو على لسان زكريا وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا فالشيب هنا بصفته ملحماً خارجياً له علاقة عضوية بالموقف ألا وهو طلب زكريا الإنجاب وكانت امرأتي عاقراً هبني من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب والشيب هنا له علاقة باقتراب الأجل كما له علاقته غير المباشرة بصعوبة الإنجاب بالقياس إلى مرحلة الشباب أو الكهولة وحينئذ يحتل الوصف وظيفة جمالية مهمة مضافة إلى جمالية اللغة الاستعارية حيث كان من الممكن أن يكتفي النص مثلاً بصياغة عامة تشير إلى كبر السن بالشعر الأبيض الغزير وبصياغة ذلك مقترنة بوصف بمرحلة الحرم مثلاً ثم ورد نفس النص بالأقصوصة ذاتها ولكن بعد أن بشر زكريا باستجابة دعائه حيث وردت كلمة يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى وحيث أجاب أن لكل غلام وكانت امرأتي عاقرة وبلغت من الكبر عني فهنا قد استخدم الوصف ظاهرة الكبر من خلال الإشارة إلى انه بلغ من الكبر عتياً فبلوغ الكبر عتياً مبالغ دلالي لفقرة اشتعل الشعر شيباً ولكن النص استخدم الاستعارة في الصياغة اللغوية الأولى واستخدم اللغة المعجمية في الصياغة الأخرى حيث أن عتياً هي صفة بلوغ الكبر منتهاه ولكنه جمالياً لاستخدام الأول وهذا ما نلاحظه في الدقة القرآنية الكريمة نقول أن النكته الجمالية الاستخدام الأول ونعني به به اشتعل الرأس شيباً هو تعميق لدلالة الكبر أو الهرم إلى أقصى مدياته حيث أن الاشتعال يرمز إلى فناء المادة المشتعلة أي فناء العمر وهو بلوغ العمر منتهاه حيث لا تصور أبعد من ذلك من هنا كانت هذه الاستعارة لها وظيفتها الجمالية المزدوجة وهي أنها ترمز أو تشكل في الواقع دالاً لأقصى العمر ومن حيث يكون ذلك اللغة معدولة أو انزياحية أو لغة مجازية ومن ثم كون ذلك في سياق الأقصوصة تشكل ملمحاً خارجياً له علاقة العضوية بالموقف ألا وهو طلب زكريا الذرية وهناك نكتة جمالية أخرى تضاف إلى ما تقدم ونعني بها النكتة المرتبطة بما يسمى اللغة القصصية بالاسترجاع التكراري ألا وهي المعادل الدلالي الذي أشرنا إليه عبر قوله تعالى بلغت من الكبر عتيا أن المصوغ الفني للتكرار وتبديل صيغته الأول أي الاشتعال وتبديل ذلك بالعتي هو أن وحدة اللغة الأولى يتطلبها الموقف بالنسبة إلى استجابتنا نحن كمتلقين حيث أننا لو جئنا أولاً بفقرة بلغت من الكبر عتياً لما تبين لنا بجلاء حجم العمر بقدر ما تحصل لدينا معركة محدث بطول العمر بينما يستهدف النص القصصي بأن العمر قد بلغ أقصى مداه بحيث لا يسمح بامكانية الإنجاب وهذا ما لا يمكن أن تحققه صورة بلغت من العمر عتياً بل تحققه جملة اشتعل الرأس شيباً كونها ترمز إلى فناء العمر أي الاشتعال فيما ليس بعد الاشتعال إلا الرماد ومن هنا جاء المسوغ الجمالي لتقديم صورة واشتعل الرأس شيبا حتى يكتشف المتلقي أن العمر بلغ منتهاه وبعد أن عرف المتلقي ذلك جاء التكرار الاسترجاعي أي عبارة بلغت الكبر معادلا دلالي للاستعارة الأولى وهذا ما يتسم باللغة غير معلومة واللغة الحقيقية حيث لا ضرورة الآن لتحديد العمر في جزئياته بل الضرورة التكرارية فرضها سياق آخر وهي أن زكريا اندهش من البشارة المشار إليها وهي الإنجاب يبقى أن نشير إلى الملمح الجسمي الآخر وهو وهن العظم وهذا بدوره أيضاً ملمح عضوي أي وصفي يرتبط بالموقف ذاته كما في الأمر أن هذا الملمح ملمح جسمي داخلي وأما الاشتعال ملمح جسمي خارجي ولكن بما أننا استهدفنا الإشارة إلى الملمح الخارجي وصلة ذلك بالموقف لذلك فصلنا تحليل ذلك ولم نعرض للملمح الجسمي الداخلي وهن العظم مع ملاحظة أن وهن العظم إلى صلتنا بأنفسنا بأن نعتبره ملمحاً جسمياً أي ظاهرة مادية خارجية بالقياس إلى صلتها بظاهرة موقفية خارجية وهي الإنجاب أي يمكننا أن نعتبره ملمحاً خارجياً يتآزر مع ملمح الاشتعال في إفصاحهما عن بلوغ العمر منتهاه بخاصة أن النص قدم وهن العظم على ظاهرة الاشتعال ليسير إلى المعنى الذي قلنا إذا لاحظتم أن كيف أن عبارتين وصفيتين تبدوان بسيطتين ولكنهما تتضمنان بعداً دلالياً عميقاً حيث يرتبطان ارتباطاً عضوياً بطبيعة الموقف الذي يستهدف القاص إبرازه إلى المتلقي ويمكننا أن نلاحظ الدقة الإعجازية في الرسم الخارجي إلى درجة ملحوظة عندما نستشهد بنموذج ثالث من القصص القرآنية الكريمة ألا وهي قصة موسى مع العالم حيث يقول النص وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا فلما بلغ مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سرباً لاحظوا هنا في هذه عبارة واتخذسبيله في البحر سرباً سوف تتكرر بعد قليل ولكن تجيء على نحو آخر وهو واتخذ سبيله في البحر عجباً لاحظوا الآية القرآنية الكريمة فلما جاوز قال لفتاه آتنا غدائنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا قال أرأيت إذ أويت إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان واتخذ سبيله في البحر عجب.
لاحظوا جيداً كيف أن هاتين العبارتين تمثلان إلا في الكلمة الأخيرة أو الوصف الأخير وهو سرباً والوصف الأخير وهو عجباً لنستمع جديداً إلى النصيين الوصفيين فاتخذ سبيله في البحر سرباً واتخذ سبيله في البحر عجباً والسؤال الآن لماذا ورد في النص الأول سرباً ولماذا ورد في النص الثاني عجباً مع أن العبارة التي تسبق كل منهما هي عبارة واحدة وهي عبارة اتخذ سبيله في البحر اسم السورة لا يتضح تماماً حين نتخذ بنظر الاعتبار أن العبارة الأولى جاءت في سياق وصفي هو أن موسى وفتاه نسيا حوتهما وحينئذ فإن نسيان الحوت يظل غير مرتبط بشخصيتهما بقدر ما يعني أنهما وهما قد نسيا الحوت أن الحوت قد ذهب إلى البحر ووجد لهم مسلكا فيه وهذا المسلك هنا يظل مجرد أخبار عن كون الحوت قد انسرب في البحر وليس في صدد تبيين كيفية انسرابه وما يتميز به هذا الانسراب من إثارة الدهشة والعجب ولذلك لما تذكرا انهما قد نسيا حوتهما حينئذ تحدث فتى موسى وأبدا عجبه حيث قال وانسرب في البحر عجبا أي وفق طريقة تشير النصوص المفسرة إلى أن الماء كان يلتئم عبر مسار هذا الحوت ويصبح.. الخ.
والواقع أن هذا النمط من الوصف القصصي يظل مصحوباً بإثارات مدهشة في أكثر من جانب منها ما بيناه من حيث الدقة في التعبير اللغوي بالنسبة إلى مصطلحي سربا وعجبا وسنجد نمط آخر من الدقة ولكنه يتمثل في تشخيص بعض الرسم الذي يختلف المفسرون حياله وهذا ما نجده على سبيل المثال في سورة الرحمن حيث ورد كما هو ملاحظ وصفان أحدهما يقول ولمن خاف مقام ربه جنتان والآخر يقول ومن دونهما جنتان حيث اختلف المفسرون في تحديد المقصود بالعبارة الأخيرة أي ومن دونهما جنتان فهل يعني ذلك أن هاتين الجنتين هما مما يلي الجنتين السابقتين اللتين تخصان ممن خاف مقام ربه أن يعني ذلك أن المقصود ومن دونهما أي أدون منهما أي الدرجة الأقل من الدرجة الأولى ولكننا حينما نتجه إلى رسم أو إلى الوصف القرآني الكريم لكل من البيئتين أي الجنتين الأوليين والجنتين الأخريين نستكشف بسهولة أن المقصود بعبارة ومن دونهما جنتين ليسوا مما يلي الجنتين الأوليين بل يعني أن هاتين الجنتين هما أقل درجة من الجنتين الأوليين وهو ما يتصف تماما مع طبيعة موقف كل من هاتين الفئتين فالفئة الأولى نجد أيضاً في سورة الواقعة أن الفئة الأولى قد أسماها اواسمتها سور القرآني الكريم بأنها من السابقين بينما الدرجة الثانية اسمتها السورة بانهم أصحاب اليمين.
والملاحظ في سورة الواقعة أن الوصف الذي يطال السابقين يظل وصفاً للترف في أبعد مستوياته بينما نجد الوصف الثاني الخاص بأصحاب اليمين هو أقل ترفا من الوصف السابق والأمر نفسه بالنسبة إلى ما نحن بصدده بالنسبة إلى سورة الرحمن التي ورد فيها الحديث عن جنتان في مقام ربه والحديث عن جنتين هما أدون من الجنتين السابقتين والواقع يمكننا ملاحظة ذلك بالنسبة إلى الوصف الذي يتصل بالمفردات البيئة جميعاً وهي مفردات تتصف بالواقع لكل من اولا النباتي اوالزرعي او الشجر ثانياً الماء أو العيون ثالثاً الفاكهة رابعاً الفرش خامساً الحور غير أن كلا من الشجر والماء والفاكهة والفرش والحور يتبعها وصف قد يكون مشتركا في بعض خطوطه أما من جانب آخر يظل متميزاً يؤشر إلى الفرق بينه فمثلاً نجد بالنسبة إلى الزرع أو الشجر أن القصة قالت عن الجنتين العاريتين انهما ذوات أطنان بينما قالت عن الجنتين الدانيتين أنها جنتان مداهمتان فمن حيث البعد الجمالي لكل من الجنتين نجد أن العاليتين منهما ذوات اغصان والداني منهما مكثفتان بالزرع أو شديدتا الخضرة.
طبيعيا إن مرأى الأغصان وهي متدلية ومرأى الأشجار وهو مكثفة كما أو لونا ينطويان على مرأى أو مشهد ممتع ولكن الفارق بين مرأى الأغصان ومرأى كثافة الشجر أو شدة خضرته واضح من حيث درجة الترف الجمالي لكل منهما ونحن يمكننا إدراك الفرق من خلال قدراتنا الدنيوية لمشاهد الطبيعة فكثافة الأشجار اوشدة خضرتها أقل إمتاعا من بروز الأغصان المتدلية بنحو لافت ومنسق كذلك نجد بالنسبة إلى العنصر الثاني ونعني به الماء حيث قالت القصة عن الجنتين الأوليين فيهما عينيان تجريان وقالت عن الأدنى منهما فيهما عينان ففي الوصف الأول العينان تجريان وفي الثاني تفوران وقد يبدو لأول وهلة أن الماء والعين النضاخة أشد إمتاعاً من الجارية غير أن من الدقيق يحملن على الاستجابة المعاكسة حيث أن العيون الفوارة تستثيرنا عابراً إذا قيست باستمرارية الأثارة التي ينطوي عليها جريان الماء أو العين والأمر نفسه بالنسبة إلى العناصر الأخرى ومنها عنصر الفاكهة حيث قالت القصة عن الجنتين الأوليين فيهما من كل فاكهة زوجان وقالت عن الأخريين فيهما فاكهة ونخل ورمان أيضاً لأول وهلة يبدوكأن الجنتين الجاريتين مضافاً إلى الفاكهة بعامة.
أما النخل والرمان بينما جاءت الإشارة الأولى بأنهما ذواتا زوجين فحسب بينما أن التأمل البسيط يدلنا على الفارق البسيط بين الوصفين فالنخل والرمان يشكلان أفضل الفواكه والقصة تقول عن الجنتين الدانيتين عن النخل والرمان أنما تقصد من ذلك ان في هاتين الجنتين كل الأنواع بما فيها النخل والرمان الذي يختبره ذلك الزمن أي زمن نزول الرسالة يختبره أنه أفضل الفواكه ولكن يعني هذا بلاختصار هل أن يقول لنا أن في الجنتين الدانيتين كل الأنواع لواقع أنا حين نتجه إلى جنتين عاليتين نجد أنهما ينطويان على جنتين دانيتين وزيادة ففي العاليتين كل الفواكه كما هو طابع الجنتين الدانيتين ولكن فيهما زيادة على أن الفواكه زوجان من كل منهما فالعنب مثلا يشكل فاكهة من الفواكه وهو متوفر في الجنتين ولكنه في العاليتين نوعان العنب الرطب والعنب اليابس وكلاهما شهي وله خصوصيته إذا ثمة مائز في الدرجة والأمر نفسه بالنسبة إلى العنصر الفرش فمثلاً القصة فقالت عن الجنتين الأوليين وشخصياتها متكئين على فرش بطائنها من استبرق وجنى الجنتين دان وقالت عن الشخصيات الأدنى درجة متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان إن أبطال الدرجة الأولى والثانية ينعمون من حيث الجلوس والمقام بنحو خاص هو الاتكاء وليس مجرد الجلوس ولكن الفرق بينهما أن الشخصيات الأولى الخائفة مقام ربها هذه الشخصيات التي كانت في الحياة الدنيا تخاف ربهاً بحيث لم تصدر عنها أية معصية وبين الشخصيات الأدنى منها هو أن الترف الذي يصاحب الشخصيات العليا بلغ من التنوع والمتاع إلى الدرجة التي هيأت لهم فرشاً ذات بطانة وظهارة يتكئون عليها البطانة من استبرق من حرير من ديباج اما الظهارة فقد سكت النص عنها لأسباب فنية تتمثل في أن القارئ سوف يساهم في علمية الكشف عن استخلاص نوع الظهائر التي زينت فيها الفرش على أن الفارق بين هاتين الجنتين وتلك الجنتين لم ينحصر فيما ذكرناه من أن هناك فارق كبير وسنسرد القصة بوضوح حينما أضافت جديداً للشخصيات العليا لم تشر إليها بالنسبة إلى الشخصيات الأدنى.
استمعوا جيداً من جديد للآية الكريمة القائلة متكئين على فرش بطائنها من استبرق وجنى الجنتين دان بينما قالت عن الجنتين الادنيين كما لاحظتم متكئين على رفرف خصر وعبقر حسان فالملاحظ هنا وجود الزيادة في الشخصيات العليا لا أثر له البتة في بيئة الشخصيات الأدنى درجة هذه الزيادة هي الوصف القائل وجنى الجنتين دان فقد اكتفي برسم الجلوس والاتكاء وأشكاله فيما يتصل بالطبقة الثانية من أصحاب الجنة دون أن يقترن ذلك بعنصر الفاكهة التي ربطتها القصة بنمط الجلوس الذي أتيح للطبقة الأولى من أصحاب الجنة أن الفاكهة تشكل عنصراً واحداً من خمسة عناصر في بيئة الجنة كما سمعتم ولكن السؤال هو لماذا جاءت الفاكهة من جديد لتشكل مادة لاصحاب الجنتين العاليتين ثم لماذا نسج النص القصصي صمتاً عن الفاكهة فيما يتصل بالطبقة الثانية من أصحاب الجنة إن الإجابة على هذين السؤالين تتطلب وقوفاً عند جملة من الأسرار وهي متمثلة،
أولاً بالنسبة إلى وجوب الامتياز الجديد للشخصيات العليا وهي في حال اتكاء على الجنة تظل ثمار الجنة على مقربة من أفواهها لاحظوا متكئين على فرش بطائنها من استبرق وجنى الجنتين دان.
أما في الشخصيات الأقل درجة في الإيمان فلا وجود لها في أمثلة هذا الامتياز بل هي تتكأ فحسب على رفرف خضر وعبقر حسان أما الشخصيات العليا فهي عندما تتكأ حينئذ تتاح لها الفاكهة بسهولة دون أن تمارس أي عناء في تناول الفاكهة بالأغصان متدلية بفواكهها أمام فمها بحيث تتناول الفاكهة وهي متكئة بدون أي نصب فكم هو الفارق بين مجرد كون الأصحاب الثانويين ينعمون فقط بكونهم على رفرف خضر و عبقري حسان بينما نجد الفئة الأولى بالإضافة إلى ذلك تتمتع بنزول الفاكهة أثناء جلوسهم عليه بالشكل الذي قلناه إنما نود أن نلفت انتباه الطالب إليه في هذا المجال هو أن هذا الوصف بلغ من العضوية لدرجة أننا استطعنا من خلاله أيضاً أن نرجح هذا النمط من التفسير على النمط الآخر الذي ورد فيه نصلان أحدهما يقول أن جنتين الأدنى بحسب التعبير الوارد في النص القرآني الكريم يقصد بها مما يلي الجنتين العليتين مقابل التفسير الذي يقول كلا إن المقصود من ذلك هو أن الجنتين هو انه أدنى درجة حيث جاء الوصف المثير الذي لاحظتموه مشكلاً فيصلاً أو مشكلاً سمة بارزة نستطيع من خلاها أن نفرز المفصود من هاتين الجنتين وافتراقهما عن الجنتين وبهذا يحسم الموقف في التفسير إذا لاحظتم مستويات متنوعة من الرسم الخارجي للشخصية أو البيئة أن لكل رسم من هذين لكل منهما في الواقع موقع مهم جدا ينسحب على مفهوم القصة والأهداف التي تنطوي عليها هذه القصة الكريمة أو تلك ويمكننا أن نقدم أخيراً نموذجاً سريعاً يجمع بين الرسم للشخصية وبين الرسم للبيئة متمثلة في الأقصوصة أو الحكاية التي تتحدث عن أبي لهب حيث تقول الأقصوصة أو الحكاية تبت يد أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى ناراً ذات لهب وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد لاحظوا هذه الأوصاف التي تتصل بتلك الشخصيتين أبي لهب وامرأته من جانب ثم الأوصاف البيئية التي تنتظرهم في اليوم الآخر بالنسبة إلى أبي لهب وهي كنية له قد نسجها النص القصصي عضوياً لتلتئم مع الصفة التي تنتظر أو بالأحرى مع المصير الأخروي الذي ينتظره وهو النار ذات لهب فاللقب هو أبو لهب والمصير هو نار ذات لهب لاحظوا كيف اللهب في اللقب واللهب في مصير هذا اللقب يتجانسان بحيث يشكل هاذان الوصفان يشكلان منحاً عضوياً جمالياً ومثيراً ومدهشاً بالنحو الذي لاحظتموه أيضاً بالنسبة إلى الامرأة أي امرأة أبي لهب حيث تلاحظون مثلاً انها تتحدث عن صفة خاصة بالجيد والحبل من المسد ترى ما هو البعد العضوي الذي يربط بين الجيد وبين المرأة أدنى تأمل يقتادنا إلى ملاحظة وجود الصلة العضوية بين هذه المرأة التي وصفها النص بأنها حمالة الحطب وبين ما ورد في التفسير إلى أنها كانت تحمل شوكاً لتضعه في طريق النبي حيث جاء هذا التجانس بين هذا الشوك وبين الحطب وهو حطب جهنم حيث أنه تجسيد واحد من مصاديق أو مفردات جهنم وكذلك بالنسبة إلى أن في جيدها الحبل حيث أنها كانت تضع في جيدها قلادة ثمينة تقول النصوص المفسرة أنها قالت لأبيعن هذه القلادة وأنفق ثمنها في سبيل عداوة النبي (صلى الله عليه وِآله وسلم).
إذاً لاحظوا الصلة بين هذا الجيد الذي سيتحول في اليوم الآخر إلى حبل من ليف وبين القلادة التي كانت تضعها وحتى خارجاً عن سياق هذه التفسيرات نجد أن المرأة وهي تعنى بالزينة وفي مقدمة ذلك الجيد الذي تقلده بالقلادة وبين هذا الجيد الذي يقلد بحبل من مسد في اليوم الآخر.
إذا لاحظتم كيف أن هذه الأوصاف على مستويات متنوعة قدمنا نماذج منها للطالب حتى يتبين له كيف أن الوصف القصصي الكريم للقرآن الكريم يتميز بسمات مدهشة ومثيرة تتسم دون أدنى شك إلى الإعجاز العرضي بالنحو الذي حدثناكم عنه وبهذا نكتفي بالحديث عن جانب السرد وما يتصل به من سمة الوصف سواء أكان هذا الوصف خاصاً بالسرد أو حتى في حالة كونه جاء على لسان الأبطال حيث أن الحديث عن الأبطال يستاقنا إلى أن نتحدث عنه من خلال عنصر الحوار وهو لعنصر الثاني الذي قلنا أنه ينطوي على مستويات متنوعة نحدثكم عنها إن شاء الله في لقاء لاحق والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.