محاضرات علوم القرآن - المحاضرة 15 - الاعجاز القرآني
الاعجاز القرآني
بدأنا في محاضرتنا السابقة بالحديث عن القسم الثاني من الظواهر المرتبطة بعلوم القرآن الكريم وتاريخه حيث بدأنا نتحدث عن ظاهرة الإعجاز القرآني الكريم وقد خصصنا المحاضرة السابقة كتمهيد للحديث عن الإعجاز القرآني ونبدأ الآن نواصل حديثنا عن هذه الظاهرة إلا أن هذه الظاهرة أيضاً تحتاج من جديد إلى مقدمة جديدة وإلى تمهيد آخر يتصل بالتعبير القرآني الكريم قبل أن نواصل حديثنا عن الإعجاز القرآني الكريم.
الظاهرة التي نريد أن نتحدث عنها الآن هي ظاهرة التعبير القرآني وبواسطة فهمنا لنمط التعبير القرآني حينئذٍ نفهم معنى الإعجاز بشكل أشد وضوحاً إن مطلق التعبير في اللغات من الممكن أن يشطر إلى نمطين رئيسين هما التعبير العلمي والتعبير الفني ويمكن من زاوية أخرى أن يشطر إلى ثلاثة أقسام وهو التعبير الفني والتعبير العلمي والتعبير العادي والتعبير العادي أيضاً من الممكن أن نقسمه عدة أقسام من ذلك مثلاً التعبير العادي باللغة الفصيحة والتعبير العادي باللغة الدارجة وهكذا بالنسبة إلى اللغة الدارجة يمكننا أن نقسمها إلى مستويات متنوعة من حيث اللهجات وغير ذلك ولكن ما يعنينا من ذلك كله هو الحديث عن العبير القرآني الكريم ونمط انتسابه إلى واحد من الأشكال المتقدمة وقبل أن نوضح مدى صلة التعبير القرآني الكريم لهذا لنمط من التعبير أو ذاك لا بد من الإشارة أولاً إلى تحديد معنى كل من اللغة العلمية واللغة الفنية واللغة العادية .
اللغة العلمية هي لغة الحقائق ولغة المنطق ولغة الأرقام كما إذا قلنا أن الواحد زائد واحد يساوي اثنين وهكذا هذا نمط من التعبير العلمي الذي يرتكن إلى التعبير عن الحقائق كما هي وقد يعبر عن الحقيقة ليس من خلال لغة الأرقام ومن خلال اللغة الواقعية التي تتحدث عن الأشياء بما هي في الواقع دون زيادة أو نقصان كما أشرنا فمثلاً إذا قلنا أشرقت الشمس حينئذ نكون قد عبرنا عن حقيقة من حقائق الكون ألا وهو طلوع الشمس بهذا الشكل الذي لا تحريف ولا زيادة ولا نقصان فيه كما هو واضح.
وكذلك لو قلنا على سبيل المثال إن من ينفق أمواله في سبيل الله سبحانه وتعالى فإن الله سبحانه وتعالى يضاعف له هذا التعبير أيضاً يجسد نمطاً من التعبير عن الحقائق كما هي.
اللغة العادية أيضاً تعبر عن هذه الحقائق ولكن بلغة قد لا تتسم بالإحكام اللغوي والقواعد اللغوية وما إلى ذلك ولكنها تتماثل مع اللغة العلمية بكونها تعبر عن الحقائق بلغة منطقية بلغة واقعية بلغة لا تحريف فيها ولا زيادة ولا نقصان كما كررنا ولذلك نستطيع أن ندرج هذه الأنماط من التعبير جميعاً أن ندرجها ضمن مصطلح وليكن مصطلح هو اللغة الواقعية يقابل هذه اللغة الواقعية اللغة الفنية أو اللغة الأدبية والسؤال ما الفارق بين اللغة الأدبية واللغة الواقعية الإجابة على هذا السؤال تتضح بجلاء حينما نستشهد أيضاً ببعض الأمثلة بهذا الميدان فمثلاً قلنا أن من جملة التعبير الواقعي هو الجملة التي تحدثنا عنها قبل قليل وهي قولنا أن من ينفق في سبيل الله فإن الله سبحانه وتعالى سوف يضاعف له إن هذا التعبير الواقعي عن حقيقة الإنفاق ومضاعفة ذلك هذه اللغة من الممكن أن يعبر عنها بنحو آخر ينتسب إلى لغة الفن ألا وهي الآية القرآنية الكريمة القائلة مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة... الخ. هذه الآية الكريمة تتحدث بدورها عن النفاق أيضاً ولكن الفارق بين هذه الآية الكريمة وبين قولنا الذي ينفق أمواله في سبيل الله سوف يضاعف الله له الفارق هو أن التعبير الأول تعبير واقعي وأما التعبير الثاني فهو تعبير فني فيه زيادة أو نقصان عن الواقع ولكنها زيادة ونقصان يتسمان بسمة إيجابية هي الجمال من جانب ثم تعميق المعنى من جانب آخر.
السؤال هو أين ظاهرة الجمال في هذا التعبير ثم من جانب آخر أين ظاهرة العمق بالمعنى من جانب آخر أما بالنسبة إلى العمق في المعنى فنعتقد أن كل واحد منكم سوف تتضح لنا حقيقة الإنفاق بشكل أشد وضوحاً بكثير مما لو قلنا له فقط أن الإنفاق في سبيل الله يضاعف مردوده من قبل الله سبحانه وتعالى على المنفق ولكن عندما يأتي التشبيه تشبيه النفاق بالحبة التي أنبتت سبع سنابل وبالسنبلة التي أنبتت مئة حبة حينئذ فإن معنى المضاعفة سوف يتجلى بوضوح ويتعمق معناه عند المتلقي بشكل أكثر وضوحاً من مجرد قولنا أن من ينفق في سبيل الله فسوف يضاعف له أجر ذلك مادياً ومعنوياً.. الخ. وأما من حيث الجمالية التي تسم هذا التعبير ونعني به التشبيه في الآية القرآنية الكريمة فيمكنكم أن تلاحظوا مثلاً كلاً من حرفي التاء والباء في الآية القرآنية الكريمة متمثلة في عبارة أن حبة انبتت سبع سنابل لاحظوا التائات حبة أنبتت سبع سنابل باء سبع باء سنابل الخ.
إن هذا التجانس في حرف الباء يكسب لغة جمالية يتحسسها من عمق نظره في هذا التعبير وسواه من التعبيرات التي تعتمد على إيقاع خاص كالتجانس وما إلى ذلك.
ولنتقدم بمثال آخر مثلاً القرآن الكريم يريد أن يوضح للمتلقي بأن الكفار هم من حيث السمة العقلية أشد تخلفاً من عقل الأنعام أو الحيوانات كان من الممكن أن يقول النص أن الكفار مثلاً لا عقول لهم أو أن الكفار مثلاً لهم عقول ضعيفة.. الخ. بيد أن قولنا أن الكفار ذوو عقول ضعيفة يظل هذا التعبير مع وضوح معناه إلا أنه يحتاج إلى تعميق أكثر حتى يعرف المتلقي درجة الغباء أو التخلف العقلي لدى الكفار وهذا ما لا يمكن أن يتبينه المتلقي إلا في حالة ما أيضاً لاحظنا التعبير الفني المتمثل في قوله تعالى بالنسبة للكفار أنهم كالأنعام بل أضل سبيلا فتشبيه عقل الكافر بعقل الحيوانات بعمق دون أدنى شك معنى التخلف العقلي عند الكفار بحيث يتضح هذا المعنى بجلاء في ذهن المتلقي ويأخذ تصوراً خاصاً عن عقلية الكفار من حيث التخلف لديه في هذا المجال والآن في ضوء هذين المثالين الواضحين اللذين قدمناهما كتمهيد للحديث عن التعبير الفني والتعبير الواقعي نقول من خلال هذين المثالين لنستطيع أن نثير سؤالاً جديداً هو ما هو الفارق بين هذين النمطين من التعبير لاحظنا الفارق أولاً من حيث اللغة الجمالية المتمثلة في الإيقاع ومن حيث العنصر الآخر المتمثل في التشبيه.
إذاً ثمة تشبيه وثمة إيقاع تدخل في صياغة هذا النمط من التعبير وأكسباه سمة التعبير الفني أو الجمالي مقابل التعبير الأول الذي أطلقناه عليه مصطلح التعبير الواحد وقد قلنا أمس في محاضرتنا السريعة إلى أن التعبير الفني أو البلاغي يتضمن ثمانية عناصر هذه العناصر قد يكون أحدها أو قد يكون اثنان منها أو ثلاثة أربعة أو خمسة أو ستة أو سبعة أو ثمانية أي جميعاً أو بعضاً من الممكن أن يرتكب إلى واحد أو بعضاً أو كلاً من هذه العناصر وينطلق منها التعبير الفني أو التعبير الجمالي. لذلك نقول إن عناصر التعبير الجمالي أو الفني تتمثل في ثمانية عناصر حدثناكم عنها عابراً في المحاضرة السابقة ونذكركم الآن بها فحسب حتى ننهد من ذلك إلى مواصلة حديثنا عن القرآن الكريم ونمط التعبير الذي يتسم به.
في هذا البيد نقول أن التعبير اللغوي في تجاربنا العرضية عندما ينشطر إلى هذين النمطين أي التعبير الفني والتعبير العلمي أو الواقعي حينئذ فإن التعبير الفني من ذلك يتمثل في جملة أشكال فنية كالشعر والقصة والخاطرة والخطبة و..و.. الخ.
المهم إذا قلنا أن التعبير اللغوي ينشطر بشكل عام إلى نمطين تعبير فني وتعبير واقعي أو تعبير تخيلي وتعبير واقعي حينئذٍ نتجه إلى القرآن ونتساءل حينئذٍ ما هو النمط الذي ينتسب إليه القرآن الكريم هل هو تعبير علمي أو بالأحرى تعبير واقعي أو تعبير منطقي عن الحقائق أم هو تعبير فني أو جمالي عن الحقائق المشار إليها الإجابة عن هذا السؤال سوف نطرحها بشكل بسيط جداً ونقول القرآن الكريم يعتمد على ثلاثة أنماط من التعبيرات هي التعبير الواقعي من جانب والتعبير الفني من جانب آخر والتعبير المزاوج بينهما من جانب ثالث أي أنكم إذا قرأتم آية قرآنية كريمة ستجدونها تعبر عن الحقيقة تعبيراً واقعياً وحينما تقرأون آية ثانية تجدونها تعبر عن الحقائق تعبيراً فنياً وحينما تطالعون آية ثالثة تجدونها تجمع بين التعبير الفني والتعبير العلمي.
أما لماذا نجد القرآن الكريم يعتمد هذه الأنماط بأجمعها دون أن ينفرد بنمط واحد فهذا أمر يمكننا أن نجيب عنه على نحو احتمالي بطبيعة الحال والتفسير الذي نحتمله في هذا الميدان هو أن الهدف ألاساس من القرآن الكريم هو إيصال مبادئ السماء إلى الإنسان وعملية التوصيل المسار إليها في الواقع ما دامت تتخذ جملة قنوات حينئذٍ فإن المطلوب هو استخدام أية قناة توصل الحقيقة إلى المتلقي فحينئذٍ من الممكن أن نجد موقف ما أن هذا الموقف يتطلب تعبيراً أو توصيلاً حقيقياً أو علمياً لهذه الظاهرة أو تلك وفي موقف آخر يتطلب الموقف تعبيراً فنياً وفي الموقف الثالث يتطلب تعبيراً مزدوجاً.
إذاً يظل التعبير مجرد قناة أو مجرد وسيلة لتوصيل الحقائق التي يستهدف القرآن الكريم توصيلها إلى المتلقي وما دام التعبير الفني أو العلمي أو المزاوج بينهما كل من هذه التعابير يستطيع أن يتطلع بمهمته التوصية المشار إليها حينئذٍ فإن من الأفضل كما هو واضح أن يعتمد على التعبيرات أنماطها الثلاثة وذلك لأن عملية التوصيل تنحصر في هذه المجالات الثلاثة من جانب ولأن الهدف كما قلنا توصيل هذه المبادئ حيث أن عملية التوصيل تتطلب كما لاحظنا بالنسبة وإلى ما هو مطلوب من تعليق المعنى لدى المتلقي وذلك كالتشبيهين اللذين لاحظتموها في مسألة النفاق وفي مسألة عقل الكافر نقول أن بعض الحقائق تتطلب عمقاً حينئذٍ فإن التعبير عن هذه الحقائق من خلال العنصر الفني سوف يحقق هدف التوصيل والعمر كذلك نجده في مواقف أخرى لا تتطلب هذا التعمق بل تتطلب مجرد التعبير عن الحقيقة بلغة واقعية كما هو في غالبية ما نشاهده أو نلحظه من التغيرات سواء كان ذلك في نطاق لغة القرآن الكريم أو لغة المشرع الإسلامي أي اللغة التي توفر عليها الأربعة عشر معصوماً حيث أن هؤلاء الأربعة عشر معصوماً أيضاً ارتكنوا في تعبيراتهم عن الحقائق ارتكنوا في ذلك إلى هذه الأنماط الثلاثة من التعبيرات وذلك لتحقيق الهدف المشار إليه وهو عملية توصيل الحقائق إلى المتلقي بقدر ما يتطلبه الموقف.
ويثار هنا من جديد سؤال آخر لماذا يظل التعبير الفني له تأثيره الخاص لموقف دون آخر نعتقد أن الإجابة عن هذا السؤال تتضح أيضاً في حالة تذكيركم لأن المثالين اللذين قدمناهما عن عقل الكافر وعن النفاق بما أنهما تطلبنا تعميق ذلك المعنيين بالشكل الذي قلناه حينئذٍ فإن الاعتماد على عنصر التشبيه تقدمان يحققان تعميق المعنى ويبقى بعد ذلك الجناح الآخر من السؤال المتقدم وهو ما يتصل في العنصر الإيقاعي وهو ما استشهدنا به في آية النفاق وهذا العنصر الإيقاعي في الواقع إذا أضفناه إلى العنصر السوري المتمثل في التشبيه والاستعارة والرمز وما إلى ذلك نقول أن هذه العناصر التي تشكل مفهوم الجمال هذا المفهوم يعتمد حيناً من حيث قدرته التوصيلية أو قدرته على الإثارة وتعليق الدلالة في ذهن المتلقي هذا الجانب إذا كان يتمثل في زاوية منه من خلال الدلالة أو التعبير الدلالي الصرف كالتشبيه فإنه يتمثل من جانب آخر في التعبير الجمالي الصرف أي التعبير الذي يعتمد الإيقاع بخاصة حيث أن الإيقاع له تأثيره الكبير في عملية تعميق المعنى من جانب وفي عملية جعل المتلقي في حالة إثارة لأن الإثارة تحمله ليتجاوب مع المعنى المقصود هنا نجد مثلاً أن الشعر مع أنه يتحدث عن كثير من أنماطه بلغة واقعية ولكن الإيقاع الذي ينتظم القصيدة يجعل القارئ متجاوباً مع الدلالة في القصيدة أكثر وذلك من خلال التجاوب أولاً مع الإيقاع الذي يحقق الإشباع للحس الجمالي عند الإنسان بصفة أن كل واحد منا لديه مجموعة من الميول أو الغرائز أو الدوافع أو الحاجات ومنها الحاجة الجمالية متمثلة في جملة عناصر ومن جملة تلكم العناصر هو العنصر الإيقاعي الذي جسد حاجة لدى الإنسان ولذلك عندما تشبع تلك الحالة في القصيدة مثلاً حينئذٍ فإن إشباع هذه الحاجة يجعل صاحبها على أن يتجاوب مع الدلالة التي تحملها تلك القصيدة مثقلاً والأمر نفسه بالنسبة إلى سائر أنماط الإيقاع فالإيقاع لا ينحصر في الشعر وما يظل الشعر محفوفاً بجملة من التحفظات حياله ولكن بالقياس إلى سائر أنماط الإيقاع وإيقاع ما تشاهدونه القرآن الكريم حيث أن الإيقاع يتمثل في جملة موارد وجملة أصناف منها ما يسمى بالتجنيس ومنها ما يسمى بالتوازن وما إلى ذلك فالتجنيس هو مثلاً ملاحظة مجموعة من الحروف تتجانس عبر مجموعة من الكلمات كالكلمات التي لها في الآية الكريمة متمثلة في حبة وأنبتت وسبع وسنابل حيث تكرر الحرفان في هذه الكلمات الأربع بالشكل الذي لاحظتموه وقد يكون الإيقاع متمثلاً في التوازن بين الجمل كقوله تعالى سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود وقد يتحقق فيه أشكال أخرى قد نحدثكم عنها إن شاء الله عند متابعتنا لحديث الإعجاز القرآني الكريم.
المهم نود أن نشير من كل ما تقدم إلى ظاهرة هي أن لجوء القرآن الكريم كما احتملنا التعبير الفني بالإضافة إلى التعبير الواقعي بالإضافة إلى التعبير المزاوج بينهما إنما يتطلبه الموقف حيث أن الموقف يتطلب حيناً أن يلجأ إلى عنصر خاص جمالي لتعميق المعنى وحيناً لا يتطلب الموقف ذلك بقدر ما يتطلب الموقف مجرد التعبير الواقعي عن الحقائق ويتطلب الموقف الجمع بينهما.
والآن وقد استشهدنا بنمطين من العناصر التي تؤلف أو التي تجعل النص أو التعبير متسماً بلغة الفن نقول بعد أن لاحظنا هذين العنصرين العنصر الإيقاعي والعنصر الصوري هل يعني ذلك أن الفن ينحصر في هذين العنصرين كلا لقد أشرنا إلى أن هناك جملة عناصر منها العنصر الموضوعي ومنها العنصر الفكري ومنها العنصر اللفظي ومنها العنصر الشكلي ومنها العنصر البنائي كل واحد من هذه العناصر يؤلف بدوره نمطاً من أنماط التعبير الفني حيث أن الارتكان إلى أحد هذه العناصر أو إلى بعضها أو إلى جميع ذلك كما قلنا يخلع على التعبير السمة الفنية وهو أمر سوف تلاحظونه في التعبير القرآني الكريم وهو أمر يستاقنا إلى أن نطرح سؤال آخر عبر عشرات الأسئلة التي يمكن أن تطرح في هذا المجال السؤال هو ما دام القرآن الكريم يعتمد هذه الأنماط من التعبير أي الأنماط الثلاثة التعبير الفني التعبير الواقعي التعبير المزاوج بينهما حينئذٍ نقول ما هو الطابع أو السمة الغالبة في القرآن الكريم من حيث أحد هذه الأنماط الثلاث هذا سؤال.
السؤال الآخر هو صلة الإعجاز لهذا جميعاً فإذا قلنا بأن الإعجاز يتسم كما أشرنا بالمحاضرة السابقة بالنسبة إلى رسالة النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت إعجازاً بلاغياً لأن العرب الذين نزل القرآن في بيئتهم عرفوا بالتفوق البلاغي أو الأدبي حينئذٍ هل يصح أن نقول أن القرآن الكريم هو معجزة بلاغية فحسب وإذا كان الأمر كذلك فهل يعني أن القرآن هو التعبير الفني الصرف ولكي ينسحب عليه المفهوم الإعجازي البلاغي قد يتساءل ثالث فيقول إذا كان بعض القرآن الكريم قد يجسد تعبيراً واقعياً صرفاً لا علاقة له بالتعبير الفني حينئذٍ كيف يصح أن يطلق عليه لفظ الإعجاز ونعتقد أن إثارة هذه السؤال له أهمية كبيرة ولكن بعد أن نكرر ما سبقت الإشارة إلى ذلك وهو أن التصريح بأن القرآن الكريم نزل إعجازاً بلاغياً كما ورد ذلك عن أحد المعصومين (عليه السلام) حيث أشرنا في المحاضرة السابقة أن أحد المعصومين أشار أن رسالة موسى (عليه السلام) كانت في زمن قد انتشر فيه التعامل مع السحر وأن رسالة عيسى (عليه السلام) كانت في زمن فقد انتشر فيه الطب وأن رسالة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت في زمن انتشر فيه طابع البلاغة نقول أن هذا لا يتنافى البتة مع الظواهر الإعجازية الأخرى سواء أكانت ظواهر ما أشرنا بالمحاضرة السابقة سواء أكانت الظواهر تنتسب إلى المعرفة الطبيعية أو ظواهر تنتسب إلى المعرفة البحتة أو ظواهر تنتسب إلى المعرفة الإنسانية.
نقول إن مجرد الإشارة إلى أن القرآن ظاهرة إعجازية لا يتنافى البتة مع كونه أيضاً إعجازاً في المستويات المتقدمة وهذا ما يمكن ملاحظته في عشرات المؤلفات التي كتبها المؤلفون بخاصة وكلها تتحدث عن القرآن الكريم في ظروف المعرفة المشار إليها ولكن لندع الآن هذا الجانب ونتجه إلى الجانب الأول ألا وهو الجانب البلاغي الذي أشار المعصومون (عليه السلام) أي أنه يتجانس مع البيئة البلاغية التي جاء النص في نطاقها.
إن من الحقائق التي نود أن نشير إليها في هذا الميدان هي صحيح أن التعبير العلمي هو التعبير عن الحقائق بلغة الأرقام وبلغة المنطق إلا أن لغة الأرقام ولغة المنطق أيضاً من الممكن أن تتوكأ على الجانب الفني أي من الممكن أن يعبر الإنسان عن حقيقة علمية من خلال انتخاب عبارة محكمة من حيث التركيب وجميلة من حيث تجانس حروفا وحتى نجد حيناً في بعض الصياغات اللفظية العلمية لجوءاً إلى الصورة الفنية من تشبيه واستعارة ورمز الخ. تعميقاً للمعنى الذي يستهدفه العالم في بحثه العلمي. ولكن لندع الآن هذا الجانب أيضاً ونقصد به الجانب الصوري المتمثل في التوكأ على تشبيهنا والاستعارة ونحو ذلك وليقتصر حديثنا على الإشارة إلى الجانب اللغوي الصرف ونعني به العبارة مفردة ومركبة فحسب نقول من الممكن أن يتسم أي تعبير حتى لو كان علمياً صرفاً من الممكن أن يتسم بأحكام العبارة وبإشراقها وبالتوكأ على إيقاع خاص لها بحيث يكون هذا الإيقاع الذي تسوغه العبارة منطوياً على تعبير فني جميل حيث قلنا أن الإيقاع وحده له أثره الكبير في تعميق المعنى أو لا في كونه يحقق إشباعاً للحاسة الجمالية في ذلك ومن كون أن الحاسة الجمالية أشبعت حينئذ تسحب أثرها على الدلالة التي ينطوي عليها التعبير الإيقاعي المذكور.
من هنا يجيء النص القرآني الكريم بأكمله بدءاً من الآية القرآنية الكريمة بسم الله الرحمن الرحيم وبدءاً حتى من المفردة الواحدة التي تشكل في بعض موارد القرآن عبارة واحدة أو آية واحدة كقوله تعالى مدهامتان مثلاً نقول حتى في هذا الميدان سواء أكانت العبارة مفردة أو مركبة وسواء أكانت العبارة في نطاق ما هو مقطع من مقاطع السور القرآنية الكريم وفي نطاق ما هو قسم من أقسامها أو في نطاق ما هو مطلق السورة القرآنية الكريمة وبكلمة أخرى جميع الصياغات اللفظية الوردة في القرآن الكريم تعتمد على صياغة خاصة إيقاعية يتحسسها القارئ أو المتلقي بشكل لا يمكنه بطبيعة الحال أن يفسر أسرار ذلك بقدر ما يتحسس الجمالية فحسب الذي يستطيع أن يحل أسباب ذلك هو العالم اللغوي الذي يستطيع بشكل أو بآخر أن يتوفر على دراسة الحروف وطبيعة تركيبتها وصلتها بمخارج الفن والى آخر ذلك وحتى في هذا النطاق بالرغم من إننا وجدنا عشرات الدراسات التي تتحدث عن ذلك ولكنها بالواقع لا تستطيع أن تجعل المتلقي متذوقاً للنص من خلال التحليل المشار إليه بل يظل التذوق الفني منصباً أو متفرغاً بالنسبة إلى الإحساس به فحسب دون القدرة على تسييره أو تحليله بالشكل الذي قلناه.
إذاً الذهاب إلى أن بعض النصوص القرآنية الكريمة تتسم بالطابع الواقعي أو العلمي والبعض الآخر بالطابع الجامع بين التعبير العلمي أو الواقعي وبين التعبير الفني نقول أن ذهابنا إلى ذلك لا يتنافى البتة مع ذهابنا إلى كون القرآن جميعاً ظاهرة إعجازية بلاغية لأن الصياغة اللفظية أيضاً سواء كانت مفردة أو مركبة أو كانت فقرة أو كانت مقطعاً أو قسما أو كانت نصاً كاملاً كل ذلك يشكل عنصراً بلاغياً في نطاق ما تتميز به العبارة من إيقاع خاص بأشكاله المتمثلة بالتجانس وبالتوازن ونحو ذلك طبيعياً هذا وحده ليس منحصراً في الطابع الإيقاعي بل هناك الطوابع الأخرى التي سنحدثكم عنها أيضاً بهذا التعبير العلمي أيضاً وفي مقدمة ذلك ما يطرح في حقل مصطلح الدلالة أو العنصر الدلالي حيث أن التقديم والتأخير والإجمال والتفصيل والحذف والذكر وهذه المستويات جميعاً من الممكن أن ترد أيضاً في التعبير العلمي بحيث تكسب هذا التعبير العلمي جمالية لغوية بالإضافة إلى دلالتها وهذا بدوره ينسحب على القرآن الكريم فمطلق أو مجرد وجود النص اللغوي الذي فيه تقديم وتأخير وفيه حذف وذكر مثلاً نفس هذا التعبير الذي يتناول حقائق علمية واقعية نفس التقديم أو التأخير أو الحذف أو الذكر ينطوي على بعد جمالي يتحسسه المتلقي أيضاً من خلال ركونه إلى مطالعة النص القرآني الكريم.
إذاً ليس هناك أية إضافات بين ذهابنا إلى أن النص القرآني الكريم هو نص إعجازي من حيث كونه ظاهرة لغوية ومن حيث كونه أيضاً ظاهرة إعجازية ترتبط بجوانب معرفية أخرى وليست منصبة على الجانب البلاغي فحسب وفي نطاق الجانب البلاغي أيضاً لانجد أية منافاة بين ذهابنا إلى أن القرآن معجزة بلاغية وبين الذهاب إلى أن القرآن الكريم ينطوي على تعبير علمي وتعبير جماع بين العلم وبين التعبير الفني نقول لا منافاة بين كون النص القرآني الكريم يرتكن في قسم منه على البعد العلمي الصرف أو البعد الواقعي الصرف لا منافاة بين هذا الارتكان إلى البعد الواقعي الصرف وبين كونه مصحوباً بسمات بلاغية تتصل بالإيقاع وبالأسلوب أو بنمط الدلالة التي تصاغ وفق هذا الأسلوب او ذلك أولئك جميعاً تنسحب توابعات بلاغية على التعبير العملي الصرف أيضاً.
إذاً القرآن بصفته ظاهرة إعجازية بلاغية سيظل متصلاً بهذه الظاهرة من حيث مستويات جميعاً بالنحو الذي حدثناكم عنه إجمالاً وبالنحو الذي نريد أن نحدثكم عنه تفصيلاً من حيث الأبعاد جميعاً حيث أن ذلك يتطلب بحثاً خاصاً ونحن نتحدث عن القرآن الكريم في علومه وتاريخه وينبغي ان نحدد مساحة محددة أو مساحة خاصة في الحديث عن الجانب الإعجازي لننتقل إلى الحديث عن الجوانب الأخرى.
والآن في ضوء الحقائق المتقدمة حينما نحاول الحديث عن الإعجاز القرآني الكريم فسوف نتجاوز الحديث عن الطابع اللغوي الذي يظل طابعاً عاماً للنصوص القرآنية الكريمة مع أنه هو الظاهرة المجسدة للإعجاز البلاغي مع ذلك سوف لا نفصل الحديث عن هذا الجانب لأن الباحثين المعاصرين والقدماء تحدثوا عن الظاهرة اللغوية فالقرآن الكريم وما تتسم به من إعجاز وهذا ما يقتادنا إلى أن نمر عابراً على هذا الجانب على أن نفصل الحديث في جوانب أخرى وبخاصة في الجانبين اللذين أشرنا إليهما في محاضرتنا السابقة ونعني بهما العنصر القصصي من جانب والعنصر البنائي من جانب آخر حيث أن هذين العنصرين يشكلان ظاهرة إعجازية ينبغي أن ننتبه عليها ما دام القدماء والمعاصرون لم يهتموا بهذا الجانب إلا بشكل عابر في دراساتنا المعاصرة وانعدام ذلك أساس في الدراسات القديمة بالنحو الذي ذكرناه في محاضرتنا السابقة حيث قلنا أن البيئة منذ العهد الجاهلي وعصر الإسلام من خلال ذلك إلى عتبة العصر الحديث حيث لم يتوفر الدارسون على دراسة العنصر القصصي وهذا ما يدفعنا كما قلنا إلى أن نسلط مزيداً من الإنارة عليه وعلى الموضوع الآخر وهو العنصر البنائي مع ملاحظة أننا سوف نتحدث أيضاً عن مفهومات عامة تتصل بالتعبير الفني سمات التي تجعله يكتسب طابعاً أممياً وليس طابعاً محدوداً لفترة معينة من الزمن بل يكتسب طابع الخلود أي طابع الذي يتجانس مع كل عصر وهذا التجانس مع كل جيل ومع كل عصر يتمثل كما سنوضح ذلك ليس جانب اللفظي بحسب بل في الجوانب الأخرى التي سنحدثكم عنها وهي جوانب دون أدنى شك نقول كل ذلك سوف نحدثكم عنه إن شاء الله سبحانه وتعالى في محاضرات لاحقة والى ذلك الحين نستودعكم الله سبحانه وتعالى ونتمنى لكم مزيداً من التوفيق والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.