محاضرات علوم القرآن - المحاضرة 12
نتابع حديثنا عن علوم القرآن وتاريخه حيث حدثناكم في لقاءات سابقة عن جملة من الموضوعات بدأناها بالحديث عن الوحي من حيث أنماطه وعن الوحي من حيث كيفيته ثم تحدثنا عن كيفية جمع القرآن الكريم وبعد ذلك تحدثنا عن جملة من القضايا المرتبطة بهذا الجانب وفي مقدمتها موضوع القراءات والاختلافات الواردة ثم تحدثنا عن موضوعات أخرى تتصل بما هو مكي ومدني للنص القرآني الكريم وانتهينا في محاضرة سابقة من الحديث عن موضوع آخر من تلكم الموضوعات ألا وهو الحديث عن المحكم والمتشابه في القرآن الكريم.
وأما الآن نحدثكم عن موضوع جديد وهو موضوع النسخ أو لنقل الناسخ والمنسوخ للقرآن الكريم وهذا الموضوع يظل كالموضوعات السابقة محفوفاً بتفاوت في وجهات النظر حيال كل من يعني بهذا الجانب وقد لاحظتم كيف أن الموضوعات المتقدمة قد طرحت من خلال تفاوت ملحوظ في وجهات النظر حيال هذه الظاهرة أو تلك والحديث عن الناسخ والمنسوخ في القرآن يظل بدوره خاضعاً لجملة من وجهات النظر المتفاوتة من حيث تحديده لهذا النص أو لذاك حيث يتفاوتون بذلك وبعض يرى أن ما هو منسوخ من الآيات يتجاوز العشرات بل المئات ومنهم من لا يرى ذلك إلا بعض الآيات الكريمة ومنهم من يقف بين.. بين... إلى آخره. المهم إننا نتحدث عن هذا الجانب ونبدي وجهة نظرنا أيضاً ولكن قبل ذلك نود أن نمهد للحديث عن الحديث المذكور لبعض الكلام لنقول:
عالم التشريع المعاصر أو الموروث نجد أن المجتمعات قديماً وحديثاً عندما تمارس عملية تشريع لمجموعة من القوانين أو المبادئ التي تحكم مجتمعاتنا نجد أن التشريع يخضع لجملة مستويات منها أن كل تشريع يأخذ الواقع الذي يحياه بنظر الاعتبار أي إنما تفرج البيئة من ظواهر متنوعة هي التي تملي على المشرع أن يحدد موضوعات المبادئ التي ترسم سلوك الناس وذلك من حيث عملية الضبط الاجتماعي ومن البين أن مصطلح الضبط الاجتماعي وهو مصطلح يتوفر عليه علماء الاجتماع هذا المصطلح يعني أن أي مجتمع من المجتمعات البشرية ينبغي أن تنضبط بمجموعة من المبادئ التي تحدد سلوكها بحيث تجعل المجتمع متوازنا لا يتعرض للهزات الاجتماعية والتفكك وما إلى ذلك.
المهم إن أية مبادئ يرسمها المشرعون الأرضيون حينئذٍ تأخذ كما قلنا عدة مستويات منها أولاً الصدور عن الواقع الذي يحياه هذا المجتمع أو ذاك بما تكتنفه من عادات وتقاليد و.. و..الخ.
ثانياً يأخذ المشرع الأرضي بنظر الاعتبار إمكانية حدوث وقائع أو مواقف نادرة جداً ولذلك أيضاً يضع لها بنداً في القانون الذي يشرعه حتى لا يقف القانون حاجزاً عن معالجة هذه المشكلة أو تلك حتى لو وقعت بشكل نادر.
ثالثاً تتناول التشريعات جوانب أيضاً خاضعة للاحتمال حتى لو لم تحدث نادرة كما لو افترضنا على سبيل المثال أن مجتمعا ما سوف يرسم مبادئ السفر إلى الفضاء وما إلى ذلك من الموضوعات التي لم تقع بعد ولكن من المحتمل أن تقع لاحقا. هذا إلى أن ثمة نمطاً من التشريعات أيضاً قد تنسخ وتلغى حينما يأتي الواقع الجديد أن يرفض مبادئ أخرى تتوافق مع هذا الواقع فمثلاً إذا تبدل الوضع السياسي من حكومة ملكية إلى حكومة جمهورية حينئذٍ فمن الطبيعي جداً أن ترسم قوانين جديدة تتوافق مع مفهوم النظام الجمهوري وهكذا.
هناك نمط آخر أو مستوى آخر من التشريع هو ما من الممكن جداً أن يبدل قانون بآخر أو مبدأ بآخر حينما يلاحظ المشرع أن في القانون الفائت حيثاً أو ظلماً أو عدم عدالة وما إلى ذلك هذه المستويات من التعامل مع مبادئ المشرعين الحرين تظل من الوضوح بمكان كبير ولكن إذا نقلنا الموضوع إلى المشرع الإسلامي فهل يمكننا أن نقارن بين هذين التشريعين من حيث التوافق بين المستويات التي ذكرناها والمستوى الذي يصدر المشرع الإسلامي عنه بطبيعة الحال كلا إن المشرع الإسلامي يختلف عن المشرع الأرضي بكونه يتسم بالكمال المطلق ألا وهو الله سبحانه وتعالى بمقدمة ذلك أن الله سبحانه وتعالى يعرف سلفاً ماذا سيحدث في هذا المجتمع أي أو ذاك وماذا ينبغي أن يرسم لهذا المجتمع أو ذاك من مبادئ يتطلبها الموقف الذي نعبر عنه بالحكمة أي حكمة الله سبحانه وتعالى دون أن نهتدي بطبيعة الحال إلى وجه الحكمة المشار إليه إلا في نطاقات محدودة تتوافق ومحدودية العقل أو الجهاز الإداركي لدى البشر.
في ضوء هذه الحقيقة نود أن ننتقل من الحديث التمهيدي الذي حدثناكم عنه الآن إلى الحديث عن الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم حيث نجد ارتباطاً بين ما قدمناه من تمهيد وبين ما نريد أن نحدثكم عنه بالنسبة إلى الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم.
إن مصطلح الناسخ أو مصطلح الناسخ والمنسوخ يعني ببساطة أن ثمة نصوص قرآنية كريمة نزلت في ظروف خاصة ثم جاءت آيات أو نصوص قرآنية كريمة تنسخ أو تزيل تلكم المبادئ التي رسمها النص الأسبق تأتي نصوص جديدة تزيل أيضاً النص السابق أساساً أو تأتي نصوص جديدة تزيل القراءة فحسب وتبقى الدلالة على حالها وفي ضوء ذلك نجد أن الباحثين يقسمون النسخ إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول هو النسخ الذي يتناول النص القرآني الكريم قراءة ودلالة.
والقسم الثاني هو النسخ الذي يتناول الدلالة فحسب.
وأما القسم الثالث فهو الذي يتناول القراءة فحسب.
وفي هذا النطاق يستشهد الباحثون بنصوص تتناول هذه المستويات الثلاثة على النحو الآتي: بالنسبة إلى النمط الأول أي النسخ بمعناه الذي يستهدف نسخ كل من القراءة ومن الدلالة يستشهد عادة بآية مزعومة روتها عائشة تقول فيها أنه ورد في القرآن الكريم نص يتحدث عن عشر معلومات ثم نسخ هذا النص بنص يقول بخمس معلومات وتزعم هذه الرواية أن هذا النمط من النص كان يقرأ حتى وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم روي حيث تزعم عائشة أنها كانت في صحيفة تحت سريرها ثم فقدت.. الخ. ومن البين أن هذا النمط من الزعم بوجود نسخ لنص قرآني كريم بنص قرآني آخر أمر غير قابل للاقتناع به البتة وذلك لجملة أسباب في مقدمة ذلك أننا نعرف جميعاً أن القرآن الكريم كان يكتبه كتاب متعددون وأن القراء والحفاظ كانوا بالعشرات والمئات وحينئذٍ كيف ينسى كل ذلك أو بالأحرى كيف لا يتحدث عن هذه النصوص إلا شخص واحد يزعم أن هذا النص موجود في صحيفة تحت السرير إلى آخره.
المهم هذا نمط من الادعاء الذاهب إلى إمكانية النسخ من خلاله حيث نسخت كل من القراءة ومن الدلالة أو كما يعبر عن ذلك في لغة الباحثين نسخ التلاوة ونسخ الحكم معاً وأما فيما يتصل بنسخ الحكم فحسب أو الدلالة فحسب فيستشهد عادة بما روي عن عائشة أيضاً حيث تحدثت عن نص آخر بالنسبة إلى الرجم وهو النص القائل إذا زنا الشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم وقد روي هذا النص عن عمر أيضاً بطبيعة الحال مثل هذا النسخ للحكم أيضاً مرفوض لجملة أسباب في مقدمتها ما ذكرناه أيضاً من أن عشرات الحفاظ والقراء والكتبة كتبة الوحي لا يمكن البتة أن يغفلوا عن هذا الجانب وينفرد شخص واحد أو شخصان كعائشة وعمر لنقل هذا الجانب ولا أدل على ذلك من أنكم لاحظتم عند حديثناً عن جمع القرآن الكريم لا أدلة على ذلك أن العهد الذي جمع خلاله القرآن الكريم والاتجاه الذاهب إلى أن عملية الجمع كانت تتم لا أقل بشاهدين وأن عمر أتى بهذه الآية المزعومة ولكن لم تسجل لأنه انفرد بها إلى آخر ذلك إن هذا النمط من النسخ أيضاً لا يمكن الإقرار به البتة ويبقى النمط الثالث وهو النسخ المرتبط بنسخ الدلالة فحسب وبقاء التلاوة أو القراءة فهذا حق وهو ما توفر عليه الباحثون وبقيت أيضاً وجهات النظر متفاوتة حيال عدد النصوص التي خضعت للنسخ حيث قلنا أن قسماً من الباحثين يذهب إلى أن النسخ وقع عبر نصوص كثيرة قد تعد بالعشرات والبعض الآخر لم يشر إلا إلى آيات معدودة والبعض الثالث يقف بين.. بين وجملة ما يستشهد به في هذا المجال الآية الكريمة المعروف المسماة بآية النجوى وهي الآية التي تأمر بأن يدفع كل من يناجي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يدفع صدقة وهو أمر التزم به الإمام علي (عليه السلام) حيث تقول النصوص المفسرة أنه مارس السلوك المشار إليه مرات متعددة ثم نسخ هذا الحكم عبر آية قرآنية كريمة أخرى.
لكن كما قلنا في نطاق هذا النمط الثالث من النسخ أن نلاحظ تفاوتاً بين وجهات النظر من حيث عدد النصوص التي تم النسخ من خلالها بالإضافة إلى النص الواحد الذي تفاوتت وجهات النظر حياله أيضاً من حيث خضوعه لظاهرة النسخ أو عدم خضوع ذلك وكمثال على هذا التفاوت الأخير نقدم إليكم هذا النص القرآني القائل ولله المشرق والمغرب فأينما تكونوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم إن هذا النص إذا قابلناه بنص يقول قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فولي وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ..الخ. الباحثون يتفاوتون في تحديد العلاقة بين هاتين الآيتين الكريمتين فثمة اتجاه يذهب إلى أن الآية الثانية هي ناسخة للآية الأولى ويستشهد هؤلاء بجملة أدلة ومنها ما ورد عن الإمام علي (عليه السلام) انه كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أوائل بعثته يصلي إلى بيت المقدس ولكنه عندما هاجر إلى المدينة وصلى هناك ولاحظته اليهود حينئذٍ عيرت وهذا ما استتبع أن يحزن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولذلك أنزل الله عليه وهو يقلب وجهه في السماء قائلاً قد نرى تقلب وجهك في السماء..الخ.
هذا واحد من الاتجاهات الذاهبة إلى أن هذه الآية الكريمة أي الأخيرة ناسخة للآية الأولى القائلة ولله المشرق والمغرب فأينما..الخ. وأما الاتجاه الثاني فيذهب إلى أن الآية الأولى ناظرة إلى صلاة نافلة وأن الآية الثانية ناظرة إلى صلاة الفريضة ويستشهد هذا الاتجاه بالرواية الواردة عن الإمام الباقر (عليه السلام) القائلة إذا استقبلت القبلة بوجهك فلا تقلب وجهك عن القبلة فتفسد صلاتك فإن الله عز وجل قال لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) في الفريضة فولي وجهك شطر المسجد الحرام..الخ.
كما أن النصوص الواردة بالنسبة إلى الصلاة النافلة بالقياس إلى الآية الأولى أيضاً ثمة رواية تقول إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يصلي على ناقة النافلة وهو مستقبل المدينة يقول فأينما تولوا فثم وجه الله..الخ لاحظوا كيف أن المعصومين (عليه السلام) استشهدوا بالآية الأولى القائلة فولي وجهك شطر المسجد الحرام استشهدوا بها على صلاة الفريضة وكيف أنهم أيضاً استشهدوا بالآية الأخرى ولله المشرق والمغرب ..الخ. ازدواج صلاة النافلة.
وهناك اتجاه ثالث يذهب إلى أن هاتين الآيتين الكريمتين تنظر كل واحدة منهما إلى جهة لا علاقة لها بالجهة الأخرى فإن الآية الأولى القائلة ولله المشرق والمغرب تستهدف الإشارة إلى أن كل الجهات هي لله سبحانه وتعالى وأنه ليس ثمة جهة خاصة به بل أينما تولون وجوهكم فإن الجهة التي تولون إليها ثم هناك وجه الله سبحانه وتعالى.
هذا بالإضافة إلى وجود نمط رابع من الباحثين يضيف إلى ما تقدم أن النص ليس في صدد النسخ أو ما شابه ذلك بقدر ما هو بصدد أن يشير إلى أن الله سبحانه وتعالى يأمر عباده استقبال أية جهة شاءوا من الجهات سواء أكان ذلك إلى بيت المقدس أو إلى المسجد الحرام ..الخ.
إذاً لاحظتم كيف أن هناك أكثر من وجهة نظر تتحدث عن مورد واحد ضمن الموارد التي تتردد فيها الكلام عن النسخ أو عدمه.
فالتفاوت في وجهات النظر قد يبلغ حداً يصل إلى التضارب بينما ما ورد من النصوص المأثورة عن أهل البيت (عليه السلام) في خصوص النسخ لهذا النص أو ذاك ولكن مع ذلك ثمة من يذهب إلى عكس ذلك لمسوغات فنية ومن ذلك على سبيل المثال ما نلاحظه في الآية القرآنية الكريمة القائلة يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا هذه الآية الكريمة قال الباحثون عنها أنها منسوخة بالآية القرآنية القائلة الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة إلى آخره.
نقول إن هاتين الآيتين اللتين استمعتم إليهما وردت نصوص عن أهل البيت (عليه السلام) من حيث نسخ الآية الثانية للآية الأولى في نطاق الجزاء المترتب على إتيان الفاحشة حيث كانت الآية الأولى تتحدث عن الجزاء المتمثل في إمساكهن في البيوت حيث يجعل الله لهن سبيلا ويتمثل الآية الثانية في الجزاء القائل بعملية الجلد.
فقد روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) قوله عن الآية الأولى قال (عليه السلام) هذه منسوخة قال الراوي قل كيف كانت قال (عليه السلام) كانت المرأة إذا أمرت فقام عليها أربعة شهود أدخلت بيتاً ولم تحدث ولم تكلم ولم تجالس وأوتيت فيه بطعامهما وشرابها حتى تموت. قال الراوي فقوله سبحانه وتعالى أو يجعل الله سبحانه به السبيلا قال (عليه السلام): جعل السبيل هو الرجم والإمساك في البيوت.. الخ.
أما الإمام علي (عليه السلام) فقد علل هذا النمط من النسخ مما مؤداه من أن الله سبحانه وتعالى بعث محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) للرحمة فكان من ذلك أنه لم ينقل قومه في أول نبوته عن عاداتهم حتى استحكم الإسلام في قلوبهم وكان من ذلك في شريعتهم جاهلياً أن المرأة تحبس في بيتها في حالة الزنا إلى أن يأتيها الموت. وأما الرجل فقد نفوه عن مجالسهم وعيروه ولم يكونوا يعرفون شيئاً غير هذا لذلك ورد النص القائل واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم ..الخ. ولكن لما كثر المسلمون وقوي الإسلام واستوحشوا الأمور الجاهلية أنزل الله سبحانه وتعالى الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما إلى آخره. والمعنى أن هذين النصين أحدهما يتحدث عابرة والآخر يتحدث معللا مع ذلك فإن هناك من الباحثين من يذهب إلى أن الآية الثانية ليست ناسخة للآية الأولى ويقرر بأن مصطلح الفاحشة معناه هو ما تزايد قبح الشيء وتكاثر وذلك قد يكون بين امرأتين فتصبح مساحقة وقد يكون بين ذكرين فيصبح لواطاً وقد يكون بين أنثى وذكر فيكون زنا وعلى هذا يكون الحكم الأول وهو إمساك المرأة أسلوبا لضبطها أما لأنها ستتوب مثلاً أو لأنها ستقضي شطراً من عمرها فيكبر سنها وحينئذٍ تبتعد عن ممارسة الجريمة وأن تتاح لها الفرصة فتتزوج من رجل وهكذا.
وكل أولئك يشكل أسلوباً لمعالجة الموقف وهذا حكم له استمراريته في الشريعة الإسلامية وأما ظاهرة الرجم أو الجلد وهي ما تنطق به الآية الناسخة فهو حكم آخر شرع لتأديب مرتكبي الجريمة وهو أجنبي عن الموضع الأول وإذاً فلا تنافي بين الآيتين وليست الآية الأخيرة ناسخة للآية الأولى. فطبيعي من الممكن أن يكون الباحث المشار إليه قد ارتكن إلى مبنى خاص عبر تصوره لسقوط الروايتين المشار إليهما فنذهب حينئذ لأن تذوقها الفني الصرف قاده إلى الملاحظة المتقدمة.
والحق أن أمثلة هذا التفاوت في وجهات النظر على شتى مستوياته حيث أشرنا إلى جانب من ذلك نقول إن أمثلة هذا التفاوت في وجهات النظر لا يترتب عليها أثراً كبير بقدر ما يترتب عليه أثر محمود جداً خاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن كثيراً من الآيات التي ادعي بها النسخ أو عدم ذلك إنما يترتب عليها حكم استحبابي أكثر مما يترتب عليه حكم إلزامي إلا البعض الآخر من ذلك لا يترتب عليه إلا أثر معرفي فحسب ويمكننا أن نستشهد بأمثلة النمط الأول متمثلة على سبيل المثال في نص قرآني القائل كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين للمعروف حقا على المتقين فهذه الآية الكريمة قد ادعي نسخها من قبل الآية المعروفة بآية المواريث حيث أن القائل بعدم النسخ انتهى إلى أن الوصية المذكورة هي ندبية وليست إلزامية وحينئذ لا إشكال في البيت وكذلك بالنسبة إلى القائل بالنسخ فما دام الأمر بالوصية لا إلزام فيه حينئذٍ فإن الالتزام بآية المواريث لا يترتب عليها أي ضرر كما هو واضح وأن الموارد التي لا يترتب عليها ضرر البتة فمن أمثلة ذلك مثلاً قوله تعالى إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
حيث ذكر أن هذه الآية الكريمة نسختها الآية الكريمة القائلة ومن يبتغي غير الإسلام ديناً فلم يقبل منه من البين أن هاتين الآيتين لا علاقة لهما البتة بمفهوم النسخ بقدر ما تنظر كل آية إلى موضوع خاص بها فالآية الأولى تتحدث عن الجزاء الأخروي ووظائف متنوعة منهم النصارى والصابئون واليهود الخ أما الآية الثانية تتحدث عمن يبتغي غير الإسلام ديناً فالنسخ هنا لا علاقة له بالموضوع الأول لأنه موضوع جزائي صرف والجزاء يتم من التعامل مع الله سبحانه وتعالى وأما التعامل مع البشر فلا علاقة له في هذا المقام لذلك قوله تعالى ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وإنما لن يقبل منه بما انه يترتب عليه جزاء خاص وهو جزاء بيد الله سبحانه وتعالى ولا علاقة به بالبشر وحتى مع فرضية أن المقصود من لن يقبل منه ما يترتب من الأحكام في نطاق الحياة الدنيا حينئذٍ فإن هذا لا علاقة له بالحديث عن الجزاء الأخروي الخاص في التعامل مع الله سبحانه وتعالى عبر قوله تعالى فلهم أجرهم عند ربهم ..الخ.
ثمة موارد نادرة قلنا أن الحكم الشرعي يترتب على التفاوت الملحوظ في وجهات النظر حيال الآية الناسخة والمنسوخة ومن ذلك مثلاً ما ورد من قوله تعالى فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن حيث وردت هذه الآية في المتعة كما هو واضح وحيث زعم البعض أنها منسوخة بجملة آيات منها الآية القائلة أو النص القرآني القائل والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون أو النص القرآني المتصل بالطلاق والعداد والميراث وما إلى ذلك حيث زعم هؤلاء بأن النصوص الأخيرة ناسخة للنص الأول القاضي للاستمتاع لذلك فإن القول بإحكام هذه الآية وعدم نسخها يفرض ضرورته على الباحث حتى يصل من ذلك إلى الحقيقة الفقهية التي تقضي بمشروعية زواج المتعة بالنحو الذي تفصله كتب الفقه.
والآن بعد أن تحدثنا عن الآيات أو النصوص الناسخة والمنسوخة بالشكل الذي لاحظنا مدى تفاوت وجهات نظر الباحثين حيالها حيث انتهينا إلى أن قسماً من هذه النصوص هناك شبه إجماع على أنها نسخت وهناك من النصوص ما يتفاوت حيالها وهناك من النصوص ما لا يندرج أساساً اظن مصطلح النص بقدر ما يندرج منها مصطلح ما يطلق عليه التأليف بين النصوص مثل حر المطلق على المقيد والعام على الخاص إلى آخره حيث ما لا يدخل في نطاق دراستنا لعلوم القرآن الكريم بقدر ما ينتسب إلى علم الأصول.
بيد أن ثمة ملاحظات نراها ذات أهمية كبيرة وهي ملاحظات لا نعتقد أن أحداً من الباحثين معاصريهم وقدمائهم قد تعرضوا لها وهي فيما يتصل أيضاً بالتفسير البنائي للقرآن الكريم حيث تظل موضوعات مندرجة ضمن مفهوم النسخ أيضاً خاضعة للبناء العماري الذي ينتظم السورة القرآنية الكريمة ومن جملة هذه الموارد مثلاً ما ذكره المعنيون بشأن النسخ حيث لاحظوا على سبيل المثال أن الآية القرآنية الكريمة الواردة في سورة البقرة والتي تقول والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول إلى غير إخراج الخ. هذه الآية الكريمة ثمة إجماع على أنها منسوخة بالآية الكريمة القائلة والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشر.. الخ. حيث قام الإجماع على أن الآية الأخيرة هي ناسخة للآية السابقة التي أشرنا إليها إلا بعض من ذهب إلى أن هذه الآية محكمة أي الآية الأولى محكمة وأنه لا منافاة بينها وبين الآية الأخرى لأن الآية الأخرى خاصة فيما إذا كانت هناك وصية من الزوج إلى الزوجة بذلك وأما الآية الأخرى فهي تتحدث عن بيان عدة المتوفى عنها زوجها الخ.
نقول بغض النظر عن ذلك فإننا نود أن نلاحظه هنا هو أن الآية القرآنية الكريمة الذاهبة إلى الحول منسوخة بالآية القرآنية الذاهبة إلى الأربعة أشهر والعشرة أيام والملاحظ في هذا الجانب أن الآية الكريمة الناسخة للآية المنسوخة تقدمت على الآية المنسوخة والمفروض كما هو في سائر النصوص القرآنية الكريمة أن تكون الآية أو النص الناسخ متأخراً عن النص المنسوخ ولكن في المقام الذي ذكرناه نجد أن الآية الناسخة هي متقدمة بما على المنسوخة وفي هذا الإطار نجد أن الباحثين يشيرون إلى هذا التقدم دون أن يتوفر على ذكر السبب الفني لهذا الجانب بل سكتوا عن ذلك وحيث أن الحديث عن البناء الفني للسورة القرآنية الكريمة من حيث آياتها لم يتح آنئذ أن تدرس بل وحتى الآن لم يتح لها أن تدرس بالشكل المطلوب إلا في نطاق دراسات محدودة جداً المهم نود أن نلفت نظر الطالب إلى أن القرآن الكريم عندما يتحدث عن موضوع ما فإنه يخطأ حيناً في الزمن النفسي والزمن الموضوعي أي الزمن الذي يتناسب فيه الموضوع مع كل ما يحيط به من قضايا بعيدة أو قريبة دون النظر إلى صلة الزمان الحقيقي لذلك.
فمثلاً عندما نطالع قصص موسى (عليه السلام) نجد أن القصص التي تتحدث عن شخصيته تبدأ حيناً من منتصف حياته وحيناً من أوائل حياته وحيناً من أواخر حياته بحسب ما يتطلبه الموقف فحينما يبدأ من وسط حياته يرتد بها إلى البداية ثم يعبرها ثانية إلى وسط الحياة فامتداد ذلك إلى النهاية وهكذا وبالنسبة إلى ما نحن في صدده الآن نجد أن ثمة موضوع تتناسق أجزاءه بعضها مع الآخر قد ورد في سورة البقرة ومن جملة هذه الموضوعات موضوع الطلاق حيث ورد في أخريات السورة الكريمة وورد أيضاً أكثر من مرة ولكن الذي يلاحظ هنا هو أن الآية القرآنية التي تتحدث عن التربص أربعة أشهر ثم تشترك مع الآيات التي تلحقها في إبراز جانب واحد من الموضوعات هو أنه لا جناح على الظاهر ففي آية الأربعة أشهر والعشر نجد هذا التعقيب القائل فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن الخ ثم تأتي الآية الكريمة التي تليها مباشرة فتقول ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء.. الخ. ثم تجيء الآية التي تليها مباشرة أيضاً فتقول لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن الخ. وتليها آية تتحدث عن امتداد الموضوع نفسه فإن عبارة لا جناح لم تأت هنا بل جاءت من بعد ذلك في الآية التي نحن الآن في صدد الحديث عنها الآية القائلة والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية الخ حيث وردت العبارة فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن.
لاحظوا أولاً كيف تتماثل العبارتان الناسخة والمنسوخة في قول فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن حيث ورد هذا التعبير في الآية الأولى وورد نفس التعبير في الآية الثانية التي تقول أيضاً فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن هذا من جانب. من جانب آخر وهو الأهم وهو ما نود أن نلفت النظر إليه بخاصة لاحظوا أن هذه الجانب الآخر تمثل في الإشارة إلى أن هناك آيات متضافرة تتجمع في مقطع واحد متجانس يخضع لخيط فكري واحد هو الخيط الذي يشير إلى إمتاع المطلقة أو المتوفاة حيث ورد بالنسبة إلى المطلقة قوله تعالى ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتري قدره متاعاً بالمعروف إلى آخره ثم ورد هذا التعبير بالنسبة إلى المتوفاة عنها زوجها حيث يقول وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول الخ.
الحديث عن الإمتاع يظل هو الطابع الفكري أو الخيط الفكري المشترك التي لم يترك لها فريضة وبين المتوفى عنها زوجها حيث الإمتاع إلى الحول إذاً الطابع المشترك بين النمطين المطلقة والتي لم تفرض لها فريضة أو لم تسم لها فريضة وبين المتوفى عنها زوجها وإمتاع ذلك إلى الحول يظل هذا الخيط المشترك بينهما هو المسوغ لإتيان الآية المنسوخة بعد الآية الناسخة بالشكل الذي أوضحناه عابراً لعلنا إذا شاء الله سبحانه وتعالى أن نفصل الحديث في ذلك في مناسبة لاحقة إن شاء الله تعالى.
على أية حال نكتفي الآن بما قدمناه من الحديث عن ظاهرة الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم ونأمل إن شاء الله تعالى في محاضراتنا اللاحقة أن نحدثكم عن موضوع جديد من موضوعات القرآن الكريم من حيث علومه وتاريخه وإلى ذلك الحين نستودعكم الله سبحانه وتعالى والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.