محاضرات علوم القرآن - المحاضرة 11
نواصل حديثنا عن علوم القرآن وتاريخه حيث بدأنا قبل أكثر من محاضرة بدأنا بالحديث عن أسباب النزول أو ما أسميناه بفضاء النص وبعد ذلك انتقلنا عن الحديث عن مكية النص أو مدنية وقلنا في حينه أن المعنيين بالبحث القرآني الكريم تحدثوا بإسهاب أو تفصيل عن المكي والمدني من النص القرآني الكريم وأصابوا بذلك وكتبوا المدونات المطولة كل ذلك أشرنا إليه وقلنا في حينه أن الأمر لا يكتسب مثل تلك الأهمية التي خلعها الباحثون قدماء ومعاصرين على هذا الجانب إذ لم تنسحب فائدة باعتبار على هذا الموضوع بقدر ما ينسحب ذلك بنطاقات محدودة أشرنا إليها بحينه وكانت هذه النطاقات ذات أهمية كبيرة كالمثال الذي قدمناه عن بعض الباحثين الذين يحملون فكراً إنحرافياً مع الأسف ويحملون عداء موروثاً للإمام علي (عليه السلام) وأهل بيته الطاهرين استشهدنا بأمثلة من ذلك لنحدد أهمية بعض هذه الأبحاث التي تتحدث عن المكي والمدني في النطاق المشار إليه وأما خارج عن ذلك فإن التفصيلات أو الإسهاب الذي لاحظناه لدى الباحثين معاصريهم وقدمائهم يظل أمراً لا ضرورة له ولذلك لم نتحدث عن الموضوع المتقدم إلا في نطاق ما هو ضروري.
أما الآن فنتحدث عن موضوع جديد بدوره ألا وهو موضوع المحكم والمتشابه من النص القرآني الكريم وهذا الموضوع بدوره يكتسب لدى الباحثين قدمائهم ومعاصريهم يكتسب أهمية كبيرة ولعل هذه الأهمية تفوق ما لاحظناه من الملاحظات التي قدمها الباحثون بالنسبة لأهمية ذلك الموضوع ومع ذلك ينبغي أن لا ندخل بالتفصيلات التي ألمحها الباحثون قديماً وحديثاً بقدر ما نسلط الإنارة التي تتناسب مع موضوع المحكم والمتشابه والسؤال أولاً ما المقصود بالمحكم ثم ما المحكوم والمتشابه.
ولكن قبل أن نتحدث عن المقصود من هذين المصطلحين يجدر بنا أن نمهد له ببعض الحديث فنقول من المعروف أن الاتجاه النقدي المعاصري أو الاتجاه الأدبي المعاصر أو الاتجاهات الدراسية المعاصرة المعروف أن هذه الاتجاهات بخاصة في ميدان الفن والأدب ومن المعروف أن القرآن الكريم يتميز بإعجاز أدبي كما سنوضح ذلك في محاضرات لاحقة كل ذلك عندما نستشهد بعض المظاهر الأدبية الحديثة ونربط بين هذه الظواهر وبين ما نريد أن نحدثكم عنه عن ظاهرة المحكم والمتشابه نقول لذلك فإن الرابطة التي تربط بين هذين الموضوعين تظل من الوثاقة بمكان كبير بصفة أن النص القرآني الكبير نص أدبي أو فني معجز والحديث عن الاتجاه الأدبي الذي نريد أن نتحدث عنه الآن يرتبط بفن الأدب أو الأدب بنحو عام أو بالدراسة الأدبية أو بدراسة النقد الأدبي المهم نود أن نشير إلى ما تؤكده المدارس المعاصرة بالنسبة إلى التعامل مع النص الأدبي نجد أن من جملة المبادئ التي تقتحم هذا الميدان وتشكل أهمية كبيرة هو ميدان التعامل مع النص وقراءته واستخلاص دلالاته إذ انه من المعروف أن النص الفني الخالد يتميز بالنسبة إلى المبادئ الأرضية بطبيعة الحال يتميز بكون النص مرشحاً أو موشحاً بأكثر من دلالة بمعنى أن النص الأدبي حينما يطرح عبارة أو يطرح صورة فنية أو يطرح مقطعاً أدبياً أو يطرح موضوعاً من الموضوعات فإن هذا الطرح يظل خاضعاً لأكثر من دلالة بحيث يستطيع المتعامل معها بالنص أن يفسر ويحلل ويؤول هذه العبارة أو هذه الصورة أو هذا المقطع أو هذا الموضوع يحلل ذلك ويستنتجه ويستخلص منه نتيجة تتوافق مع قدرته الثقافية أو مع جهازه المعرفي بشكل عام.
فمثلاً حينما تستخدم كلمة النور على سبيل المثال هذه الكلمة يستطيع كل قارئ أن يستخلص منها دلالة تختلف عن الاستخلاص لقارئ آخر فالنور قد يكون للتحرر من الاستعمار مثلاً في نظر متذوق أدبي والنور قد يكون رمزاً للمعرفي فينظر متذوق آخر والنور قد يكون رمزاً للمبادئ الخيرة بنظر المتذوق الآخر وهكذا يستطيع كل واحد أن يستخلص من كلمة النور دلالات حسب جهازه المعرفي كما قلنا وأهمية مثل هذا الاستخلاص تتمثل في أن النص الفني هو الذي يستأثر الاهتمام أكثر أو بالأحرى يستأثر باهتمام أكبر قدر من القراء دون أدنى شك وهؤلاء القراء تتنوع قدراتهم في تذوقهم للنص حينئذٍ فإن النص يكتسب جمالاً وروعة دون أدنى شك وهناك مبدأ نفسي أن المتذوق عندما يسمح له أن يمارس بنفسه تجربة قراءية حينئذ فإنه يتحسس بإمتاع جمالي لا يتحسس لو تسلم نصاً جاهزاً يعطيه النص بسهولة بقدر ما يجهد القارئ ذاته لاستخلاص هذا المعنى أو ذاك أو بقدر ما يكتشفه هو بنفسه من دلالات حينئذ فإن النص يكتسب جمالية أكبر كما هو واضح
المهم مع تقديمنا لهذه المقدمة أو لهذا التمهيد نود أن نقول أن التعامل مع النص القرآني الكريم من الممكن أن يتميز في جانب منه بهذه السمة الفنية التي أشرنا إليها. وهذا يعني أن النص القرآني الكريم في عباراته الفنية وذلك بطبيعة الحال في جانب منه ولا نقول مطلقاً إلى أن النص القرآني الكريم يختلف دون أدنى شك عن النص الأدبي من جانب ويتفق مع النص الأدبي من جانب آخر إنه يتسق مع النص الأدبي من حيث اعتماده على عناصر جمالية كالإيقاع والصورة ..الخ ولكنه يختلف عن النص الأدبي من جانب آخر بكونه نصاً علمياً وبكونه نصاً تشريعياً يستهدف توصيل المبادئ إلى الآخرين بشكل أو بآخر كل ما في الأمر أن عملية توصيل المبادئ مرة تتم بنحو مباشر ومرة بنحو غير مباشر مرة يتم ذلك بأسلوب علمي ومرة يتم ذلك بأسلوب أدبي ومرة يتم ذلك من خلال ازدواج هذين الأسلوبين كل ذلك بحسب ما يتطلبه الموقف والأمر نفسه بالنسبة إلى نمط العبارة حين تقدما حيناً جاهزة بحيث يستوعبها القارئ مباشرة وقد توحي إذا بشيء من الرمز الذي يتطلب جهداً ولو ضئيلاً ومن جانب ثالث قد يجعل النص أو القرآن الكريم هذه العبارة أو تلك أو هذا المقطع أو ذاك متسماً بالغموض وبالضبابية بحيث يتطلب جهداً كبيراً وحيناً رابعاً نجد أن النص القرآني الكريم يقدم نصوصاً لا يعلم تأويلها وتفسيرها إلا الخاصة كالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه والعامة مثل المعصومين (عليه السلام).
إذاً ثمة مستويات همية التي خلعهالاقدماء والمعاصرين على هذا الجاملم تنسح أهمي التي خلعها الباحثون قدماء ونمعاصرين على هذا الجانب إذ لم تنسحيب فائدة باعتبار على هذاالموضوع بقدرما ينسحب ذلك في نطاقات محدودة أشرنا إليها بحينها وكانت تلك النطاقات ذات اهيمة كبيير فالمثال لاذي قدمناه عن بعض المتنوعة في النص القرآني الكريم من حيث التعامل مع العبارة والصورة والمقطع والقسم إلى آخره كل ذلك يجب أن نأخذه بنظر الاعتبار حينما نتعامل مع النص القرآني الكريم وحين نصنع فارقاً بينه وبين النصوص الأدبية أو الفنية التي تقول أن النص الأدبي الخالد هو الذي يتميز دائماً بترشحه لأكثر من دلالة على أية حال في ضوء هذا التمهيد الذي حدثناكم عنه نتجه الآن إلى دراسة المحكم والمتشابه من القرآن الكريم وفي هذا السياق نقول:
إن القرآن الكريم ذاته أشار إلى هذين المصطلحين في الآية القرآنية القائلة (هو الذي انزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وآخر متشابهات فإما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به..الخ) نلاحظ هنا أن النص القرآني المشار إليه قد تعرض إلى مصطلح المحكم ومصطلح المتشابه ولكنه لم يبين بطبيعة الحال ما المقصود من المتشابه وما المقصود من المحكم إلا إشارة عابرة هي بالنسبة إلى النمط الثاني وهو المتشابه حيث قال وما يعلم تأويله إلا الله.. الخ. كما تم ذلك من خلال الإشارة لأن الذين في قلوبهم زيغ يتبعون ما تشابه منه حيث يستخلص القارئ من ذلك أن المتشابه هو ما يحتمل أكثر من تأويل وان المحكم ليس كذلك بدليل أن النص نفسه قال أما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه معنى ذلك أن الذين في قلبهم مرض أو زيغ هؤلاء يتبعون ما تشابه وإلا فلو لم يكن هنالك تشابه أو اشتباه أو لبس أو الخ حينئذ لا يستطيع هؤلاء أن يحرفوا الكلمة عن مواضعها.
إذاً نستخلص من هذه الآية الكريمة القرآن فيه ما هو محكم أي واضح العبارة ومنه ما هو غير واضح العبارة بيد أن معناه غير واضح العبارة يظل خاضعاً لجملة العبارات التي ينبغي أن نتحدث عنها فنقول:
أشار المعصومون (عليه السلام) إلى جانب من هذه الدلالات فروي مثلاً عن الإمام الصادق (عليه السلام) حيث سئل عن المحكم والمتشابه فقال المحكم ما يعمل به والمتشابه ما اشتبه على جاهله فلاحظوا أن هذا الشرح لمصطلح المحكم والمتشابه يشير إلى واحد من الدلالات أو إلى نمط من المعاني الذي يصطلح عليه كل من المصطلحين المشار إليهما حيث أشار الإمام (عليه السلام) إلى ظاهرة الجاهل الذي يشتبه عليه معرفة ما يقصده النص القرآني الكريم وأما المحكم فهو الذي يعرفه لأنه يعمل به غير أن هناك تفسيراً آخر لهذين المصطلحين ومنه ما ورد عن قوله (عليه السلام) أن المتشابه من القرآن هو الذي انحرف منه متفق اللفظ مختلف المعنى كقوله تعالى يضل من يشاء ويهدي من يشاء فنسب الضلالة إلى نفسه وهذا ضلال عن طريق الجنة ونسبه للكفار في موضع آخر حيث نسبه إلى الأصنام في آية أخرى بمعنى الضلالة على وجوه من ذلك ما هو محمول وما هو مذموم ومنه ضلال النسيان وضلال المحمود هو المنسوب إليه تعالى وأما المذموم مثل قوله فأضلوا لهم السامعين إلى آخره. لاحظوا أن هذا الحديث الثاني يشير إلى المحكم والمتشابه من حيث تنوع الدلالة في سياق واختلاف ذلك في سياق آخر بنفس قوله تعالى يضل من يشاء ويهدي من شاء يقصد به معنى أو تقصد به دلالة تختلف عن الدلالة الأخرى التي وردت في نص آخر.
وهناك اتجاه ثالث بالنسبة إلى توضيح هذه الجوانب حيث وردت عدة نصوص عن أهل البيت (عليه السلام) أشاروا إلى أن كل آية في القرآن الكريم لها ظهر ولها بطن الخ. حيث يمكننا أن نستفيد من هذه الإشارة التي تحددت على لسان المعصومين (عليه السلام) معنى يتوافق حيناً مع الإشارة إلى المحكم والمتشابه ويقصد معنى آخر في سياق غير هذا السياق فمن جانب نجد أن بعض المقاطع والعبارات أو الصور تحتمل أدت تأويلات بالشكل الذي قلناه ونلاحظ من جانب آخر أن النص الواحد ذاته يحتمل ظهراً وبطناً ولكن بمعنى آخر يختلف عما سبق بمعنى أن النص القرآني الكريم يتسم بالخلود وبالإعجاز الفني بالنحو الذي تتحدث عنه أيضاً المبادئ الفنية المعاصرة التي تقول إن النص الفني الخالد هو الذي يتناول ما هو خاص ولكن هذا الخاص ذاته ينطوي في أعماقه على دلاله عامة أي إن ما يرد في رسم ظاهرة محلية مثلاً أو ظاهرة وقتية هذا رسم لهذه الظاهرة الوقتية أو المحلية يرسم بشكل فني بحيث يستطيع القارئ أن يستخلص منه دلالة عامة تنسحب على مطلق الزمان والمكان وفي هذا السياق أيضاً أشارت النصوص الواردة عن أهل البيت (عليه السلام) لأن في القرآن الكريم ما قد مضى ومنه ما لم يكن يجري كما يجري الشمس والقمر بمعنى أن الآية القرآنية الكريمة التي نزلت بمناسبة ما وهي مناسبة خاصة سوف تنسحب على ما هو عام بحيث تتجاوز دائرة الزمن الذي قيلت فيه لتعبر دخوله إلى مطلق الزمان كما تجري الشمس والقمر.
ومن الواضح إلى أن الإشارة إلى أن هذا النمط من وجود ظهر وبطن للنص القرآني الكريم يختلف عن التفسيرين السابقين الذي أشرناه إليهما وهناك موضوع رابع ينبغي أيضاً أن ننتبه اليه ألا وهو أن المتشابه من النص القرآني الكريم يمكننا أن نشطره إلى شطرين الشطر الأول هو الذي يستطيع المتذوق المختص أن يستخلص منه الدلالة التي تتوافق مع خبرته أي أن النص القرآني الكريم يتضمن من المتشابه ما يسمح به للقارئ بأن يستخلصه لنفسه كما لو قرأنا مثلاً آية النور والظلمات التي تشير النص القرآني الكريم إلى أن الله سبحانه وتعالى يخرج المؤمنين من الظلمات إلى النور بمقدور أي متذوق أن يستخلص من ظاهرة النور ومن ظاهرة الظلام من ظاهرة النور يستطيع أن يستخلص التوحيد أو الإيمان بالله ومن ناحية الظلام الشرك أو الإلحاد إلى آخره وكذلك يستطيع أن يستخلص من الأولى الطاعة ويستخلص من الثانية المعصية ويستطيع أن يستخلص من الجانب الثالث من الأولى مطلق الخير ويستخلص من الثانية مطلق الشر وهكذا.
وهناك عشرات أو مئات النصوص القرآنية الكريمة التي يستطيع كل متذوق أن يستخلص منها دلالة قد سمح النص القرآني نفسه بأن يتركها للقارئ لأن يكتشفها بنفسه وكما نلاحظ مثلاً في كثير من قصص القرآن الكريم حذف تفصيلات متنوعة يستطيع القارئ هو أن يملأ الفراغات التي تركها النص القرآني الكريم أن القارئ لأنه يستطيع أن يكتشفها من خلال الأحداث أو المواقف أو الوقائع التي رسمها النص القرآني الكريم في هذه القصة وكذلك بالنسبة إلى موضوعات أخرى نجد أن النص القرآني الكريم يترك للقارئ أن يستخلص بنفسه دلالات يستطيعه كل واحد أن يستخلص ذلك من خلال تذوقه الخاص.
فمثلاً عندما يرسم النص القرآني الكريم سلوك المنافقين ويقول بأن سلوكهم هو كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنوره وتركهم في ظلمات لا يبصرون صم بكم عمي فهم لا يرجعون أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم.. الخ. إن هذا النص القرآني الكريم يتحدث عن سلوك المنافقين وما تنطوي عليه أعماقهم من صراعات وتمزقات وتوترات يحيونها بسبب سلوكهم المنافق فهم حرصاً على مكاسبهم الاقتصادية التي يتعاملون من خلالها في ذلك الزمن مع رسالة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) آمنوا كذباً ولكنهم في الواقع كانوا يبطنون الكفر كما رسمهم النص القرآني ذلك إلا أن هؤلاء المنافقين أنهم يخافون الفضيحة من جانب آخر وجبناء حينئذ سوف يحييون صراعاً عميقاً بين حالة نفسية يفقد من خلالها الأمل وبين حالة نفسية يطبق عليهم اليأس من خلالها كل ذلك يرسمه النص القرآني الكريم بهذا النحو من التشبيهات التي تحدثت عن النار وعن الإضاءة وكيفية ذهاب الله بنورهم وكيفية انهم يشبهون كصيباً من السماء فيه ظلمات وبرق ورعد يجعلون أصابعهم في آذانهم ..الخ إن كل من الظلمات والرعد والبرق تشكل مفردات من السلوك المتصارع حيث فصلنا الحديث عن ذلك بما لا يتناسب الآن أن نحدثكم عنه ولكن بمقدوركم أن ترجعوا إلى ما استخلصناه من دلالات لهذا النص في دراستنا القرآنية حول التفسير البنائي للقرآن الكريم المهم أن ما نود توضيحه أن النص القرآني الكريم ترك في بعض المجالات ترك لنا مجالاً أن نستخلص بأنفسنا هذه الدلالة أو تلك ولكنه في سياق آخر ترك لنا مجالات نعتمد فيها ليس على أنفسنا بل لا بد من الرجوع إلى أهل البيت (عليه السلام) لأنهم وحدهم قد أذن الله لهم أو قد أطلعهم على هذه الأسرار الكامنة وراء ما هو متشابه من القرآن الكريم وفي هذا السياق نجد عشرات النصوص التي تتحدث عن هذا الجانب وذلك من خلال الإشارة إلى الآية الكريمة التي استشهدنا بها من خلالها وهي الآية القائلة فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم الخ. ففي هذا السياق يقول المعصومون (عليه السلام) هم الراسخون في العلم وهم الذين يعلمون تأويل ما تشابه من النص القرآني الكريم إن هذه النصوص المتضافرة الواردة عن أهل البيت (عليه السلام) فجعلنا لتعاملنا مع النص القرآني الكريم متحفظين تماماً بحيث لا نسمح لأنفسنا أن نستخلص ونستقرأ ونستنتج من النص إلا في نطاق ما هو ظاهر من النص القرآني الكريم وأما ما هو باطن أو ما هو محكوم بالضبابية والغموض حينئذٍ فإن أهل البيت (عليه السلام) هم الذين يطلعون بتفسير ذلك إذاً نحن الآن عندما نتعامل مع المتشابه مع النص القرآني الكريم نتعامل مع ما هو متشابه حيت متعدد التأويل الذي سمح لنا القرآن الكريم بالتعامل وإياه بالنحو المتقدم وحيناً آخر لا يسمح لنا البتة أن نتحدث إلا من خلال ما أوضح إليه أهل البيت (عليه السلام) في صدد النمط الآخر من النص القرآني الكريم هنا قد يعترض معترض أن ما ورد عن المعصومين (عليه السلام) ما يتنافى ظاهره مع الحديث السابق حيث ورد أن الإمام علي (عليه السلام) أنه قال اعلم أن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم الله عن اقتحام السدود المرغوبة دون الغيوب الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب فمدح الله اعترافهم بالعجز عن تناولوا به العلم ومما تركهم التعمق بما لا يكلفهم البحث عن كونه رسوخاً في العلم.. الخ.
نقول قد يعترض المعترض المشار إليه فيقول أن هذا يتضارب مع ذهاب المعصومين (عليه السلام) إلى أنهم هم الراسخون في العلم ولكن في الواقع إلى هذا التعاون يتفق من خلال أدنى تأمل أن الله سبحانه وتعالى قد احتفظ دون أدنى شك بجزء من الغيب لذاته وأعطى الأجزاء الأخرى من علم الغيب أعطاه للمعصومين (عليه السلام) وفي هذا ورد أكثر من حديث يشير إلى المعنى المتقدم إذاً لا تعارض البتة بين الذهاب إلى أنهم (عليه السلام) هم الراسخون في العلم وبين الذهاب إلى أن بعض العلم قد احتفظ الله سبحانه وتعالى به لنفسه وحينئذ يرتفع هذا التعارض كما هو واضح.
هنا نعتزم الإشارة إلى أن المعنيين بالبحث المحكم والمتشابه أيضاً قد أسهبوا بالحديث عن هذا الجانب بالشكل الذي لاحظناه في الموضوعات التي تحدثنا عنها في المحاضرات السابقة فمثلاً نجد أن البحوث المعنية بهذا الأمر تشير إلى اختلافات في وجهات النظر حيال تحديد ما هو محكم وما هو متشابه فمنها مثلا الرأي الذاهب إلى أن المحكم ما لا يحتمل أو ما لا يحتمل إلا وجهاً واحداً من التفسير وأما المتشابه فهو محتمل أوجه ومنها أن المحكم ما يمكن فهمه من خلال ظاهره وأما المتشابه فهو الذي يحتاج إلى التفسير وهناك من يذهب إلى أن المحكم هو ما اتضح معناه والمتشابه على أخذ ذلك إلى آخر الأقوال التي تتجاوز ربما العشرات مما لا نطمئن إليها بالشكل الذي أوضحناه قبل قليل وقلنا أن المحكم هو ما يعرف بشكل عام من خلال ظهوره اللفظي والمتشابه هو الذي لا يتسم بهذه السمة وهو على مستويات متنوعة بعضها يخضع لطبيعة التذوق الفردي لهذه الشخصية المتلقية أو تلك وبعضها ينبغي أن يخضع لما ورد عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) من تفسير خاص لذلك والبعض الثالث هو ما له بطن وظهر بحيث أن الباطن يشير إلى معنى عام ينسحب على مطلق الزمان والمكان وأن الظهر هو الذي ينسحب على الظاهرة الخاصة.
وفي هذا الصدد نقرأ قوله (عليه السلام) وهو قول الإمام الباقر (عليه السلام) إن ظهر القرآن الذين نزل فيهم الذين عملوا بمثل أعمالهم يجري فيهم ما نزل في أولئك... الخ. من البين أن هذا النمط الثالث من التفسير لمعنى المحكم والمتشابه ينسحب على البطن والظاهر حيث يشير إلى هذه الظاهرة الفنية التي قلنا أنها أيضاً تمثل واحدة أو تمثل واحداً من مبادئ الفن الذي يشير إلى أن الفن الخالد المتسم بالأهمية وبالجمالية الخارقة والذي يستطيع أن يعبر تخوم زمانه إلى الأزمنة الأخرى أي النص الذي يتناول ظاهرة خاصة يستطيع كل فيهم أن يستخلص منها بما يتناسب وأحداث ومواقف ذلك الجيل.
هنا لامناص لنا من العودة إلى إشارة سبقت منا في محاضرة متقدمة ألا وهي أن ثمة نمطاً رابعاً نستطيع أن نستخلصه مما تقدم هو أن ما يطلق عليه بحسب المصطلح الموروث بالتفسير على الجنب نقول أن هذا المصطلح يعني أن الآية الكريمة أو السورة القرآنية الكريمة أو المقطع القرآني الكريم عندما يتناول ظاهرة نزلت بمناسبة خاصة حينئذ لا مانع من أن تنسحب هذه الظاهرة التي وردت في سبب خاص لا معنى أن تنسحب على وارد أخرى فتكون مصاديق تلك الآية أو السورة أو المقطع أو الموضوع الذي طرحه النص القرآني الكريم وقد استشهدناه في حينه بالآية الكريمة التي تقول وادخلوا البيوت من أبوابها حيث وردت هذه الآية الكريمة في مناسبة خاصة تتصل بحج الجاهليين حيث أشار الله سبحانه وتعالى إلى أن المحرمين كانوا يدخلون من ظهر بيوتهم فأشار إلى أنه ادخلوا البيوت من أبوابها.
في هذا السياق مر التفسير الذاهب إلى الوجه المتقدم حيث ذهب إلى ذلك الإمام الباقر (عليه السلام) ولكن الإمام الباقر (عليه السلام) نفسه في حديث آخر قال أن تأتي البيوت من غير جهاتها وينبغي أن تأتي الأمور من جهاتها أي مطلق الأمور كما ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام) نص ثالث يقول آل محمد الله سبحانه وتعالى وسيرته والدعاء إلى الجنة والقادة إليها والأدلاء عليها إلى يوم القيامة.. إلى آخر ما ذكره الإمام الباقر (عليه السلام) وما ذكره النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الإمام علي (عليه السلام) من أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) مدينة العلم ومن أن علي باب هذه المدينة ولا تؤتى المدينة إلا من أبوابها إلى آخر ما ورد في هذا المعنى من نصوص في أهل البيت (عليه السلام).
نقول أن أمثلة هذا التناول للنص يختلف بطبيعة الحال عن أشكال التناول أو التلقي الذي حدثناكم عنه قبل قليل حيث ينبغي أن لا يلتبس الأمر علينا بين التأويل المتعدد وبين التأويل الذي ينسحب على أكثر من مصداق وبين التأويل الذي لا ينسحب إلا على وجه واحد يختص به المعصومون (عليه السلام) بما لا يتاح لنا أن نفسره إلا في ضوء ما ورد عنهم (عليه السلام) مقابل النصوص التي أشرنا إليها من أنها تحتمل عدة وجوه تخضع للجهاز المعرفي لدى القارئ بحيث يستطيع كل قارئ بما يمتلك من معلومات أن يفسر النص في ضوء معلوماته المتقدمة ولكن بشرط أن لا يتعارض ذلك مع نص وارد من المعصومين (عليه السلام).
هنا ينبغي أن نشير إلى وجهتين من النظر اللتين تتضاربان تماماً ولا تتفقان البتة مع ما ذهبنا إليه وجهة النظر الأولى تقول أن المقصود من الراسخين في العلم هو ما أشارت الآية الكريمة إليه من أن ما تشابه يعرفه الله سبحانه وتعالى وحده وأما الراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا هذا الاتجاه يذهب إلى أن ما تشابه من النص القرآني الكريم لا يعرفه إلا الله سبحانه وتعالى وينفي ذلك عن المعصومين (عليه السلام) وأن الاتجاه المضاد لذلك تماماً فهو الاتجاه الذاهب إلى أنه حتى المتشابه من القرآن الكريم يعرفه البشر جميعاً إذا كانوا من الخواص الذين يمتلكون جهازاً معرفياً محكماً بحيث يستطيعون أن يعرفوا المتشابه بكل دقائقه وتفصيلاته من خلال النظر الدقيق الذي يمتلكونه نقول هذان الاتجاهان المتضادان كلاهما يقع في الخطأ دون أدنى شك لأن الاتجاه الأول ينفي وجود روايات متنوعة تشير إلى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليه السلام) قد خصهم الله بمعرفة ما تشابه ألم يكن الأمر كذلك حينئذٍ فمعنى هذا أن الجهل يظل مطلقاً ينسحب على كل الشخصيات بما فيهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وحينئذٍ إذا لم يكن حتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وحتى المعصومين (عليه السلام) لم يعرفوا ما هو المتشابه حينئذٍ فما معنى نزول ذلك هذا بالنسبة إلى الرد على الاتجاه الأول.
وأما بالنسبة على الرد بالاتجاه الثاني وهو الاتجاه المضاد القائل بأن البشر الخواص يعرفون كل ما تشابه هذا القول أيضاً له خطأه الواضح بصفة أنهم يعرفون بطون ما هو متشابه من القرآن الكريم حيث أن الله سبحانه وتعالى خص نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) وخص أهل بيته (عليه السلام) لمعرفة ذلك بما كان معنى للأمر بالرجوع إليهم في مطلق الظواهر التي يحتاج إليها المسلمون مع أن النصوص المستفيضة التي تشير إلى أن كلاً من القرآن الكريم والعترة الطاهرة ينبغي أن يتمسك بهما لأن كل واحد من هذين النمطين أو هذين المظهرين يكمل الآخر ولا يمكن فصل أحدهما عن الآخر وهذا من الوضوح بمكان كبير.
حصيلة الكلام ما تقدم أن النص القرآني الكريم يتضمن طبقاً للآية الكريمة التي تشير إلى المحكم والمتشابه المتضمن الإشارة إلى أن المحكم هو ما يستطيع القارئ أن يستكشفه وأن المتشابه مالا يستطيع أن يكتشفه إلا من خلال الرجوع إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وللمعصومين (عليه السلام) من جانب آخر خلا من آخر فإن نمط ثانياً من المتشابه يمكننا أن نسميه مجازاً لذلك هذا النمط الآخر يندرج ضمن مصطلح هو تعدد التأويل أو تعدد التفسير أو تعدد المعاني بمعنى أن عبارة ما أو سورة ما أو مقطعاً ما أو قسماً ما من القرآن الكريم يحتمل عدة دلالات تخضع هذه الدلالات لنمط وطبيعة الشخصية الملتقية التي تمارس قراءة حيال هذا النص أو ذاك.
ثم إن النتيجة التي ننتهي إليها ونحن نتعامل مع النص القرآني الكريم هي أننا أولاً نستطيع من خلال بعض النصوص أن نلتمس لها دلالة واضحة ونستطيع من خلال نصوص أخرى أن نؤولها بما يتلاءم وأذواقنا ونستطيع من خلال نمط ثالث من النصوص أن نرجع إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإلى أهل البيت (عليه السلام) لنتبن الدلالة التي يستهدفها هذا النص القرآني الكريم أو ذاك.
وإن شاء الله سوف نتحدث عن مزيد من إلقاء الإنارة على هذه الجوانب عندما يحين الموعد للحديث عن التفسير وعن المبادئ التي ينبغي أن يرتكن إليها المفسر للقرآن الكريم حيث ستلقى إضاءة كاملة إن شاء الله على هذه الجوانب وأما الآن فنكتفي الحديث عن المحكم والمتشابه بالمقدار الذي تحدثنا عنه.
ونستودعكم الله سبحانه وتعالى وإلى أن نلتقي في محاضرة أخرى نتمنى لكم مزيداً من التوفيق والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.