محاضرات علوم القرآن - المحاضرة 1
الدرس 1
بسم الله الرحمن الرحيم
المادة التي نتناولها هذا العام الدراسي هي مادة علوم القرآن وتاريخه وكما تعرفون ذلك جميعاً فإن القرآن الكريم هو الكتاب الذي أنزله الله سبحانه وتعالى على نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث يتناول هذا الكتاب الكريم المبادئ العامة للرسالة الإسلامية وما يرتبط بهذه الرسالة من عقائد وأحكام وأخلاق حيث يتناول النص القرآني الكريم هذه الجوانب ولكن وفق صياغة خاصة حيث جعل هذه الصياغة متسمة بجانبين هما الجانب العلمي والجانب الفني.
أما الجانب العلمي فيتناول كل ما رسمه الله سبحانه وتعالى لنا من مبادئ.
وأما الجانب الفني فيتناول الظاهرة الإعجازية التي تخص نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنسبة إلى صياغة النص القرآني من حيث الفن وما يتضمنه من خصائص متنوعة نحدثكم عنها إن شاء الله في حينها.
المهم أن النص القرآني الكريم عندما نتناوله من زاوية علومه وتاريخه إنما نعني بذلك كل ما يرتبط بالقرآن الكريم من بدء نزوله مروراً بانتهائه وانتهاءً لما يتضمنه من ظواهر وقضايا متنوعة يتصل بعضها بالواقع بما يتطلبه كل واحد منا من بعد معرفي يتعين علينا أن نتوفر عليه حتى أن نفهم ماذا يتضمن كتاب الله سبحانه وتعالى.
ومن الواضح أن كتاب الله سبحانه وتعالى عندما يتناول جملة من المبادئ التي يتعين علينا الإحاطة بها إنما تركنا الله سبحانه وتعالى وفق صياغة خاصة تتطلب من كل واحد منا أن يتوفر على جهد خاص حتى يستطيع من خلال ذلك أن يصل إلى ما يطمح إليه من البعد المعرفي في القرآن الكريم.
لقد كان بمقدور الله سبحانه وتعالى أن يصوغ القرآن الكريم جملة مبادئ واضحة وجاهزة لا لبس فيها ولا غموض ولكنه سبحانه وتعالى لحكمة خاصة جعل هذا القرآن الكريم محفوفاً بجملة ظواهر علمية وفنية وتعبيرية وترك لنا نحن القراء فرصة التوفر على دراسة هذه الجوانب؛ ولذلك يتعين علينا كما كررت يتعين علينا أن نوفر جهداً كبيراً لدراسة هذه القضايا المرتبطة بالقرآن الكريم سواء كانت هذه الظواهر أو القضايا مرتبطة بالأحكام الشرعية أو كانت مرتبطة بالأحكام العقائدية أو كانت مرتبطة بالأحكام الأخلاقية.
إنما نود أن نؤكد عليه ونشدد حوله هو أن كل واحد منا يطلب منه أن يتوفر على دراسة خصائص القرآن الكريم حتى يستطيع من خلال وقوفه عند هذه الخصائص أن يتبين ما يتضمنه القرآن الكريم من مبادئ ليست مصاغة بشكل واضح كل واحد بصيغة كما قلنا وفق صيغ متنوعة ببعضها من الوضوح بمكان كبير وبعضها من الضبابية بمكان أيضاً وبعضها بين بين ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى أوكل للأربعة عشر معصوما (عليهم السلام) أن يتوفروا على دراسة هذه الجوانب ليقدموها لنا من خلال ما ألهمهم الله سبحانه وتعالى من معرفة خاصة لهذا الجانب من هنا فإن القرآن الكريم يتعين عليه عندما يدرس هذا النص الخالد عليه أولاً أن يعتمد على ما ورد من الأربعة عشر معصوماً (عليهم السلام) حيال مطلق النصوص المرتبطة لتفسير القرآن الكريم أو بتوضيح ما غمض منه أو بكشف الأسرار الباطنية فيه.
وعليه ثانياً أن يتوفر أيضاً على الدراسات التي قدمها الموروثون والمعاصرون حتى يتكون لديه أو بالأحرى حتى تتكون لديه خبرة ثقافية تتصل بهذا الجانب.
وثالثاً عليه أن يقف بنفسه عند بعض الظواهر التي تتطلب ذوقاً فردياً خاصاً أو لنقل ذوقاً فنياً خاصاً يتصل باللغة وأشغالها ما دام القرآن الكريم كما قلنا قد نزل وهو يحمل بعداً إعجازياً لكي يثبت كونه رسالة من الله سبحانه وتعالى من هنا ينبغي علينا أن نكون حذرين كل الحذر من أن نتحدث عن جانب من جوانب القرآن الكريم دون أن نتأكد من صحة ما نذهب إليه من وجهة نظر.
وفي ضوء هذه الحقائق نتقدم الآن لنحدثكم عن مادة علوم القرآن وتاريخه ونطمح منكم بطبيعة الحال أن تصغوا جيداً لما يرد من حديث يتصل بهذا الجانب كما نرجو منكم أن تتوفروا أيضاً على قراءات خارجية تضيء لكم الأسباب التي سوف تقفون عند جانب منها إن شاء الله.
ولعل أول ما ينبغي أن نقف عنده هو ظاهرة الوحي وقضاياه ولعلكم تتساءلون عن السبب الذي يدعونا ان نتحدث عندما نتحدث عن القرآن الكريم ما هو السبب الذي يدعونا إلى أن نستهل حديثنا عن النص القرآني الكريم بالحديث عن الوحي وقضاياه وهذا السؤال له أهمية كبيرة لأن الحديث في الواقع عن القرآن الكريم أو عن أي موضوع آخر ينبغي أن يكون متناسقاً ومتآلفاً من حيث موضوعاته حتى تتجلى الحقائق بوضوح لدى القارئ.
وفي هذا السياق أي في سياق الحديث عن الوحي وقضاياه نقول اعتاد المعنيون بعلوم القرآن الكريم أن يتحدثوا كما قلنا أولاً عن ظاهرة الوحي وقضاياه بصفة أن الوحي هو الوسيلة أو القناة الموصلة لمبادئ الله تعالى إلى البشر فبما أن رسالة الأنبياء أو الرسل (عليهم السلام) هي توصيل مبادئ الله تعالى إلى الآخرين حينئذٍ فإن الوسيلة أو القناة الموصلة للمبادئ المذكورة قد جعلها الله سبحانه وتعالى متمثلة في شخصيات مصطفاة يوحي لله سبحانه وتعالى إليها بتوصيل تلكم المبادئ متمثلة في هذه الوسيلة أو القناة التي أشرنا إليها.
وقبل أن نتحدث عن ظاهرة الوحي ينبغي علينا أن نقدم تعريفاً لها حتى تتجلى لنا الظاهرة بشكل أكثر وضوحاً بالنسبة إلى الوحي يمكننا أن نعرف ذلك بقولنا أنه هو الإلهام أو التلقي الذي يتحسسه الشخص في خاطره أو قلبه أو أذنه متمثلاً في فكرة أو ظاهرة ترد على ذهنه دلالياً أو لفظياً أي معنا أو لفظاً كما لو ألهم أحدكم مثلاً بفكرة هي أن يتهيأ لسفر أو لاستقبال زائر أو لممارسة عمل ما كالوقوف عند جهاز الانترنت مثلاً لاستماع هذه المحاضرة كل ذلك ممكن أن نستشهد به كأمثلة واضحة بالنسبة إلى معنى الإلهام لغوياً ويمكننا أن نستشهد عملياً بجملة ما ورد في القرآن الكريم مثلاً من الإشارة إلى الإلهام بمعناه العام بطبيعة الحال وليس بمعناه الخاص الذي سنحدثكم عنه بالنسبة إلى النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من ذلك مثلاً إلهام الله سبحانه وتعالى لأم موسى (عليه السلام) بأن تقذف ولدها في البحر لينجو من القتل أو إلهام الله سبحانه وتعالى إلى الملائكة حينما أوحى سبحانه وتعالى بكل سماء أمرها أين الملائكة لممارسة العبادة ومنه أيضاً مثلاً إلهام الله سبحانه وتعالى للنحل بأن تتخذ من الجبال بيوتا ومن الشجر ومن الطبيعي أيضاً أن هذا النمط من الإلهام أو الوحي يظل مطبوعاً بسمات متفاوتة من موقف إلى آخر فالإلهام أو الإيحاء للأنبياء (عليهم السلام) يختلف في نمطه عن الإلهام للبشر العادي والإلهام للمعصومين (عليهم السلام) يختلف عن سواهم وهكذا حيث أن الإلهام للشخصيات المصطفاة يختلف بالضرورة عنهم بالنسبة إلى الشخصيات العادية والأمر نفسه بالنسبة إلى إلهام البشر واختلافه عن إلهام الملائكة أو إلهام الطير مثلاً ومما لا شك فيه أن ثمة إلهاماً عاماً للبشرية هو ما أوضحه النص القرآني الكريم بجلاء حينما قال عن النفس (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها) ومع أن هذا النمط من الإلهام لا يرتبط مباشرة بالحديث عن الإلهام الذي نريد أن نتحدث عنه بالنسبة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا أن هذه الظاهرة في تصورنا لا تخلو من فائدة حينما نشير من خلالها إلى هذا المعنى العام للإلهام فإن الإشارة القرآنية الكريمة إلى أن النفس ألهمها الله سبحانه وتعالى فجورها وتقواها يعني أن الله سبحانه وتعالى جعل البشر جميعاً يتحسسون معاني الخير والشر حتى خارجاً عن عمليات التعلم الاجتماعي أو التنشئة الاجتماعية أو التربية الاجتماعية بحيث أن الشخصية المنعزلة عن السمع أي الشخصية غير مسلمة وغير الموحدة تتحمل في الواقع مسؤوليتها في معرفة الخير والشر حتى لو لم تخضع لأية منبهات خارجية تشير إليها لمعاني الخير أو معاني الشر.
ونحن في الواقع لا نحتاج للاستشهاد بنصوص متنوعة تشير إلى هذا المعنى حتى بالنسبة إلى العضويات غير الإنسانية كما أشرنا من حيث الإلهام المرتبط للملائكة والإلهام المرتبط بسواهم حيث ورد في الآية الكريمة القائلة (وأوحينا بكل سماء أمرها) يشير المفسرون في أحد وجوه هذه الآية الكريمة بما قلناه وهو الأمر للممارسة العبادية بالنسبة إلى الملائكة.
وما يعنينا في الواقع هو ما يرتبط بالإنسان ومنه كما قلنا إلهام الخير والشر وما تترتب عليه من المسؤولية لنطاق السلوك البشري بنحو عام وليس بنطاق السلوك الإسلامي فحسب.
فمثلاً إن القتل والسرقة أو الحيلة تظل مفردات من السلوك الملهم عند أية شخصية بشرية من حيث الاتسام بالسلوك الشرير أو العكس يستوي في ذلك أن تكون هذه الشخصية ذات بعد معرفي أو تكون جاهلة في ذلك أن تكون صغيرة أو كبيرة مؤمنة أو غير مؤمنة إلى آخره.
ويدخل في الواقع في هذا النطاق ما يطلق عليه بالبعد المعرفي العام للإنسان حيث أن الإلهام أو الوحي بمعناه الذي قلناه لغوياً يظل أحد مصادر المعرفة البشرية وهو أمر في الواقع لم تستطع البحوث التي توفر عليها علماء الاجتماع أو الفلسفة لم تستطع البحوث الأرضية التي تحدثت عن المجتمعات ونشأتها بإمكانية قيامها على التوازن حيث لم يستطع هؤلاء العلماء أن يخضعوا نظرياتهم الباحثة عن نشأة المعرفة البشرية من جانب وقيام المجتمعات على التوازن من جانب آخر لم يستطيعوا أن يفسروا هذا الجانب تفسيراً منطقياً بقدر ما يصدرون عن تقلصات متنوعة لا مجال للحديث عنها الآن كل ما في الأمر وددنا أن نشير إلى أن الله سبحانه وتعالى يلهم البشر بنوع عام بنمط من المعرفة هذا النمط من المعرفة يسمح لهم أولاً بأن يتعرفوا إلى معاني الخير والشر حتى يتحملوا مسؤولية سلوكهم ومن جانب ثانٍ يلهمهم ظواهر معرفية نسوية بطبيعة الحال تكون في الواقع أساساً لمعرفة أكثر تفصيلاً وهذا ما تتوفر عليه بطبيعة الحال رسالة الأنبياء (عليهم السلام).
وما نود أن ننتهي منه في هذا الجانب هو أن ظاهرة الإلهام أي إلقاء الله سبحانه وتعالى في ذهن الشخصية معنا معرفياً معنياً سواء أكان هذا المعنى يتصل بإلهام الخير أو الشر أو كان يتصل لإلهام معرفي آخر حينئذٍ فإن ما نود أن ننتهي منه إلى أن الإلهام بشكل عام أمر متوفر بالنسبة إلى شخصيات جميعها ولكن الإلهام الذي نريد أن نحدثكم عنه أو الوحي الذي نريد أن نحدثكم عنه بالنسبة إلى رسالة القرآن الكريم حينئذٍ فإن هذا النمط من الإلهام أو الوحي لا يختلف بطبيعة الحال عن الإلهام البشري العام كل ما في الأمر أردنا أن ندرك إلى دراسة الوحي القرآني الكريم لكي يكون الطالب على إحاطة إجمالية لهذا الجانب من البعد الإلهامي ولذلك نبدأ فنقول إن المعنيين بهذا الشأن حينما يتحدثون عن الوحي فإنهم يتحدثون أولاً عن أشكال أو أنحاء الوحي على النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) مع بدء البعثة أو التكليف بإيصال مبادئ الله تعالى إلى البشر متمثلة في نبوته (صلى الله عليه وآله وسلم) من خلال الرسالة الإسلامية التي اطلع بها وفي هذا السياق يتفاوت الباحثون في الواقع في تحديد نمط الوحي أو نمط التواصل بين الله سبحانه وتعالى وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تبعاً لتفاوت النصوص الواردة في الكتاب الكريم وسنة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمعصومين (عليهم السلام) فبعض الباحثين يشير مثلاً إلى وجود أربعة أنماط من التواصل أو الوحي وهذه الأنماط الأربعة متمثلة:
- أولاً فيما يطلق عليه في الوحي المباشر.
- ثانياً بما يطلق عليه بالوحي من خلال الملك وهو جبرائيل (عليه السلام) مثلاً.
- وثالثاً من خلال ما يطلق عليه مصطلح التكوين وفي هذا السياق يستشهد بحادثة المعراج بالنسبة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
- وأخيراً النمط الرابع من الوحي أو الإلهام وهو الوحي من خلال الرؤية.
إن هذه الأنماط الأربعة ومن أنحاء الإلهام أو الوحي يظل كما قلنا يرى الباحثون متفاوتين في الاقتناع بهذه الأنماط الأربعة أو بثلاثة منها أو باثنين منها أو بنمط واحد فحسب فهناك من يذهب إلى أن الوحي منحصر في أحد أشكاله فحسب ألا وهو الوحي بواسطة جبرائيل (عليه السلام) ويضيف فريق آخر إلى هذا الوحي بالواسطة يضيف إليه الوحي المباشر أيضاً وهناك فريق بطبيعة الحال يضيف النمط الثالث وهو التكليم من وراء حجاب ويستشهد في هذا الجانب بقضية المعراج وأخيراً هناك ما نضيف إلى هذه الأنماط الثلاثة النمط الرابع الذي أشرنا إليه ألا وهو الوحي من خلال الرؤية.
بيد أن السؤال المهم هو هل إن هذه الاتجاهات الأربعة من الممكن أن تصدر جميعاً عن ملاحظة صائبة بالنسبة إلى ظاهرة الوحي أم لا؟. نعتقد أن مناقشة هذه الاتجاهات من الممكن أن نصل من خلالها إلى ما يحقق القناعة لأحدها أو لاثنين منها أو لثلاثتها أو حتى لأربعتها.
وبالنسبة إلى الاتجاه الأول نبدأ فنتحدث عنه ونناقشه ونقصد به الاتجاه الدائم إلى أن الوحي ينحصر في نمط واحد هو الوحي المتمثل في وساطة جبرائيل (عليه السلام). وهذا الاتجاه في الواقع يقدم أكثر من دليل مسبق من النص القرآني الكريم ليدلل به على وجهة نظره حيث يستشهد بالعبارات المشيرة إلى جبرائيل (عليه السلام) أو مصطلح روح القدس أو مصطلح الرسول الكريم أو مصطلح الروح الأمين إلى آخر ما ورد من الآيات الكريمة التي تتحدث عن هذا الجانب وتشير إلى الوحي المباشر بواسطة جبرائيل (عليه السلام) من خلال المصطلحات التي استمعتم إليها.
من الآيات التي يستشهد بها في هذا السياق مثلاً قوله تعالى: (والصبح إذا تنفس إنه لقول رسول كريم ذي قوة عن ذي العرش مكين مطاع ثم أمين) وهذه الصفات أي الرسول الكريم والرسول ذي القوة والمكين والمطاع والأمين كلها سمات تتصل بجبرائيل (عليه السلام).
وهناك من الآيات أيضاً ما يشير إلى هذا الجانب مثل قوله تعالى: (والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمهم شديد القوى) وهذا يعني أيضاً أن جبرائيل هو القوي الذي أشارت الآية الكريمة إليه بالإضافة إلى وجود أحاديث بطبيعة الحال تشير إلى هذا المعنى أيضاً ولكن هل يمكننا أن نكتفي بما قدم هذا الاتجاه من دليل قرآني كريم على أن الوحي يتفرد بشكل خاص هو الوحي من خلال وساطة جبرائيل (عليه السلام) نعتقد من الوقوف عند هذا الدليل فحسب ليس من الصواب على الإطلاق ما دمنا نعرف جميعاً أن النص القرآني الكريم يظل كما هو نلاحظ نصاً فيه إجمال وفيه عموم وفيه إطلاق وإلى آخره. وأن السنة الشريفة تلقي بإنارتها دون أدنى شك على كثير من هذه النصوص المجملة والمطلقة والعامة لكي تبينها وتخصصها وتقيدها.
ومن ذلك ما ذهب إليه الاتجاه الثاني وهو الاتجاه القائل بأن الوحي ينزل على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وفق نمطين أحدهما الوحي غير المباشر أي الوحي بوساطة وهي وساطة جبرائيل (عليه السلام) كما لاحظنا وأما النمط الآخر فهو الوحي مباشرة كما يدل عليه الحديث الآتي مثلاً:
(قال الإمام الصادق (عليه السلام) كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أتاه الوحي من الله وبينهما جبرائيل يقول هو ذا جبرائيل وقال لي جبرائيل إلى آخره وأما إذا أتاه الوحي وليس بينهما جبرائيل تصيبه تلك السكتة ويغشى لثقل الوحي عليه من الله عز اسمه).
إن هذا الحديث يشير إلى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يتلقى الوحي وفق نمطين أحدهما الوحي بواسطة جبرائيل والوحي في مثل هذه الحالة يقترن باستجابة من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عادية ولكن إذا أتاه الوحي وفق الطريقة الثانية أي الوحي المباشر أي الإلهام المباشر من الله سبحانه وتعالى حينئذ يشير هذا الحديث كما تشير أحاديث أخرى متنوعة إلى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حينما يتلقى الوحي المباشر تصيبه الغشية أو السكتة أي يستجيب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) استجابة خاشعة حيال الله سبحانه وتعالى حتى أنه لتأخذه الغشية أو تأخذه السكتة كما ورد في الأحاديث بل إن بعض الأحاديث تشير إلى أن الاستجابة للسحب حتى على ناقة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث تكاد تلتصق بالأرض من شدة الثقل الذي يتوارد مع الوحي إن الأحاديث المشار إليها صريحة وواضحة كل الوضوح في أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يتلقى الوحي وفق نمطين بالشكل الذي أوضحناهما لكن بالنسبة للاتجاه الأول الذي حصر الوحي في نمط واحد هل لديه إجابة على السؤال المتقدم وهو ماذا نصنع حيال النص الحديثي الذي تلوناه قبل قليل ونصوص أخرى لم نقرأها ما هي الإجابة التي يقدمها هذا الاتجاه؟
الإجابة تتمثل في ذهاب هذا لاتجاه إلى أنه لا معارضة أو لا تعارض بين الآيات الكريمة المشيرة إلى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يتلقى الوحي بواسطة جبرائيل وبين الأحاديث التي تشير إلى أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يتلقى الوحي وفق الطريقتين المشار إليهما.
يقول هذا الاتجاه أن الطريق الأولى وهي الوحي غير المباشر أي الوحي بواسطة جبرائيل إنما يكون بالنسبة إلى النص القرآني فحسب.
وأما النمط الثاني فلعل الحديث يشير إليه إلى نمط آخر من الوحي أو الإلهام ألا وهو ما يرتبط بالأحاديث القدسية مثلاً أو مطلق ما يلهم به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وحينئذٍ يكون الإلهام هو غير النص القرآني أي الإلهام المباشر يظل مرتبطاً بغير النص القرآني حيث أن النصوص متضافرة على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً كان يتلقى الوحي من حيث التفسير والتأويل والشروح والتوضيحات لما ورد من النصوص القرآنية الكريمة.
فإذن يستخلص هذا الاتجاه أنه لا تعاضد بين هاتين الطائفتين من الإشارات إلى الوحي حيث ينحصر الوحي لجبرائيل أو بالأحرى ينحصر الوحي بواسطة جبرائيل إذا كان الوحي نصاً قرآنياً فحسب أما إذا كان الوحي نصاً تفسيرياً أو مؤولاً أو شارحاً إلى آخره حينئذٍ فلعله يرتبط أو بالأحرى لعله يتسق مع الحديث الذاهب إلى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يتلقى الوحي بطريقين وبهذا لا وجود للتعارض بين هذين النمطين من النصوص.
والحق أن هذه الإجابة فيها شيء من التكلف أو نستطيع الذهاب إلى أن هذه الإجابة هي في الواقع نمط مما يسمى بالجمع التبرعي أو التكليف التبرعي ولا شاهد له من النصوص إذ لا ضرورة البتة لأن يؤول هذا الحديث التأويل المشار إليه مع أن النص القرآني الكريم في إشارة قرآنية أوضحناها قبل قليل وإلى الآية القرآنية المشيرة إلى أن الله سبحانه وتعالى أي يكلم عباده المصطفين من خلال الوحي المباشر والوحي بواسطة الملك والوحي بواسطة التكليم إلى أخره.
حينئذٍ في الواقع لا نجد أي تعاضد البتة بين أن يكلم جبرائيل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كواسطة بينه وبين الله حيناً وبين أن ينزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الوحي مباشرة حيناً آخر تبعاً لهذا الحديث والأحاديث الأخرى التي تتحدث عن الغشية وعن السكتة حيث لا ضرورة البتة إلى أن نقول أن الغشية أو السكتة هي تخص ما يرتبط بالنصوص المفسرة أو الشارحة أو المؤولة حيث لا شاهد لها من الأخبار أبداً مع ملاحظة أنه لا تعارض بين ذهاب القرآن الكريم إلا أن جبرائيل (عليه السلام) كان ينزل بالوحي على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين الذهاب إلى أنه كان يصله الوحي حيناً آخر بشكل مباشر تبعاً لما أوضحه الحديث المتقدم وسائر الأحاديث ما دمنا قد أشرنا سابقاً إلى أن السنة الشريفة تلقي بإنارتها على النص القرآني الكريم الذي قد يجيء مجملاً أو عاماً أو مطلقاً الخ.
وبهذا يتبين لنا الآن ما يقدمه الاتجاه الثاني الذاهب إلى أن الوحي هو على نمطين النمط المباشر والنمط غير المباشر وهو الدليل الذي يقدمه الاتجاه الثاني وهو دليل يتسم بالتماسك ولا شك وهذا فيما يتصل بالاتجاهين الأولين.
وأما بالنسبة إلى الاتجاهين الثالث والرابع فإن دليلهما هو الاستشهاد بالآية القرآنية الكريمة المشيرة إلى أن الله سبحانه وتعالى يكلم بعض رسله تكليماً مباشراً وهذا ما يشير إليه الاتجاه الثالث من خلال هذه إلى أن الله سبحانه وتعالى قد كلم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في حادثة المعراج وبالنسبة إلى الرؤيا فإن الاتجاه الرابع يشير إلى أن الرؤيا حصلت للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الواقع قبل البعثة بثلاث سنوات بواسطة رؤيا خاصة أشرنا إليها في بدء محاضرتنا الحالية.
والحق أن هذا التفاوت يبن وجهات النظر لا يترك أثراً ذا بال على ظاهرة الوحي أساساً لماذا لأن المطلوب هو كما تعرفون ذلك جميعاً هو حصول القناعة بنزول الوحي على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قرآناً بهذا الشكل الذي بين أيديكم أي الموجود بين الدفتين كما يعبر عن ذلك سواء أكان ذلك بواسطة جبرائيل (عليه السلام) جميعاً أو قسم منه وسواء أكان القسم الآخر مباشرة أو تكليماً أو حتى رؤياً أو نمطين منهما أو هي الأنماط جميعها حيث أن المستهدف أو المطلوب هو نزول القرآن الكريم وحياً على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وهذا كاف في التدليل عليه بأي واحد من الاتجاهات الثلاثة بالإضافة إلى الاتجاه المفروض منه ونعني به الاتجاه الذاهب إلى نزول القرآن الكريم بواسطة جبرائيل (عليه السلام) لذلك لا نجد أنفسنا حريصين كثيراً على أن نحسم الموقف بهذا الشكل أو بذاك ما دام الأمر لا يتطلب أمثلة هذا الحسم ولا يعكس أهمية ذات بال على اليقين العلمي والظاهرة القرآنية الكريمة وإنما حدثناكم بذلك لتقفوا على وجهات النظر التي يقدمها الباحثون في هذا الميدان.
والآن في نطاق ما يذهب إليه الاتجاه الأول أو ما تذهب إليه الاتجاهات جميعاً من أن الوساطة بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين الله سبحانه وتعالى هو جبرائيل (عليه السلام) نقول أن هذه الوساطة المجمع عليها من قبل الاتجاهات جميعاً نود أن نقف عند هذا النطاق لنشير إلى أن النصوص في الواقع تتحدث وفق تفصيلات متنوعة بالنسبة إلى نمط هذه الوساطة أو بالأحرى بالنسبة إلى نمط تعامل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع جبرائيل (عليه السلام) وبكلمة أخرى كيف كان يتعامل أو كيف كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يستجيب لجبرائيل (عليه السلام) عندما يلتقيه.
في هذا السياق تشير النصوص إلى تفصيلات متنوعة من هذه التفصيلات ما يرتبط بصورة جبرائيل (عليه السلام) أي المظهر الخارجي لشخصيته حيث تذهب هذه النصوص إلى أن جبرائيل (عليه السلام) مثلاً نزل مرتين بصورته الحقيقية حيث غطى الأفق بذلك.
وأما في الحالات الأخرى فكان من حيث المظهر الخارجي يبدو في صورة إحدى الشخصيات المعاصرة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمصاحبة له ألا وهو شخصية يحيى الكلبي وكانت هذه الشخصية كما تشير النصوص أجمل شخصية في زمان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
ومن التفصيلات ما يرتبط بأسلوب تعامل جبرائيل مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث تقول المصادر المأثورة عن أن جبرائيل (عليه السلام) كان يستأذن على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان يجلس جلوس العبد.
ومن التفصيلات الأخرى ما تمت الإشارة إليها سابقاً وهو أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما كان يتعامل مع جبرائيل كان تعامله أو استجابته عادية جداً ولكنه عندما يتعامل مع الوحي المباشر كانت تلك الغشية أو السكتة تعتريه كما تمت الإشارة.
والمهم هو الآن أن نتساءل عن الدلالات التي تنطوي عليها هذه الأنماط من التعامل مع جبرائيل (عليه السلام) أو تعامل جبرائيل (عليه السلام) مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا ما ينبغي أن نتحدث عنه أيضاً إلا أننا سنؤجل الحديث عنه إلى محاضرة لاحقة إن شاء الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.