محاضرات أصول فقه2 - المحاضرة 5 - مبدأ الاشتقاق
مبدأ الاشتقاق:
وكما بحث علماء اُصول اللغة العرب أصل الاشتقاق أو مبدأ الاشتقاق، كذلك بحثه بعض الاُصوليين.
ويراد بمبدأ الاشتقاق أو أصل الاشتقاق الجذر اللغوي الذي تؤخذ منه المشتقات.
ونحويا: اختلفت المدرستان النحويتان الأوليان البصرية والكوفية في مسألة أصل الاشتقاق، فذهب البصرية إلى أنّه (المصدر)، وذهبت الكوفية إلى انّه (الفعل الماضي).
ولسبق المدرسة البصرية أبدأ باستعراض أهم أدلّتها كما يرويها الزجاجي (ت 377هـ) في كتابه(الإيضاح) وأبو البركات ابن الأنباري (ت 577هـ) في كتابيه (أسرار العربية) و(الانصاف) لأنّهما أقدم من بحثها بحثا مقارنا فيما وقفت عليه.
فمن أدلّتهم:
1- وجود مصادر في اللغة العربية لا أفعال لها كالرجولة والاُنوثة والاُبوة والاُمومة والبنوة وما إليها..
فلو كان المصدر مأخوذا من الفعل لكان لكلّ مصدر فعل، وحين يبطل أن يكون الفعل هو الأصل يتعيّن أن يكون المصدر هو الأصل.
والذي يبدو لي انّ الإستدلال بهذا افترض فيه حصر الأصل في واحد من إثنين: امّا المصدر وامّا الفعل، وحينما يبطل أن يكون الأصل هو الفعل يتعيّن أن يكون الأصل هو المصدر.
وهو افتراض لا يقوم على أساس، لأنّ الاستقراء التاريخي لا يثبت ذلك.
على أنّ الملاحظة المذكورة غير تامّة لأنّنا كما نجد مصادر في اللغة العربية لا أفعال لها كذلك نجد أفعالا لا مصادر لها نحو ( يذر) وفعل الأمر (هب)، - بمعنى ظنّ - والأفعال التي يسمّونها بالأفعال الجامدة نحو (ليس) و (عسى) و (نعم) و(بئس).
2- وجود مصادر جارية على غير ألفاظ أفعالها كالكرامة والعدول وسائر المصادر السماعية.
والمسألة هنا - فيما يظهر لي - مسألة قياس، وهي لا يفرّق فيها بين أن نعتبر المصدر غير جار على لفظ الفعل فيكون مخالفا للقياس، والفارق بينهما هو انسنا انّ المصدر هو الأصل، وهو أنس ناشئ من افتراض مسبق.
3- وجود المصدر بحروفه ومعناه في جميع أنواع الفعل كيف صرف، مع عدم وجود معنى الفعل في المصدر.
ويعلّق الزجاجي على هذا الدليل بقوله: فهذا أحسن ما قيل في هذا وأدقّه وألطفه(1).
وواضح انّ البصريين يريدون به محتوى القاعدة الفلسفيّة المعروفة، وهي: (في الفرع ما في الأصل وزيادة).
والقاعدة هذه ان تمّت بالنسبة إلى بعض أمثلة المصادر وأفعالها كضرْب وضرب، فانّها لا تتمّ في مثل: قام وقيام واستخرج واستخراج وكتب وكتابه، فإنّ زيادة الحروف هنا في جانب المصدر.
وامّا المعنى وهو (الحدث) فهو موجود في المصدر والفعل كما ذهبوا إليه، غير انّ الزمن الذي ينفرد به الفعل - كما يدّعون - لا تدلّ عليه صيغة الفعل إلا في حال خاصة، وإنّما يستفاد من القرائن والسياق، وهما - أعني القرائن والسياق - يفيدان إضافة الزمن إلى المصدر أيضا، فمثل قوله تعالى: (ياأيّها الذين آمنوا) لا دلالة في الفعل على زمان، وكذلك قوله تعالى (أقيموا الصلاة)، وإنّما هما للوصف والتشريع(2).
ومثل قولنا: (كتابتك تشبه كتابتي) فيه إضافة الزمان الماضي إلى المصدر لأنّه أورد في سياق إخبار عن كتابة وقعت فيما مضى، ولذا كان موضوعا للتشبيه.
على أنّ القضية ليست قضية استنتاج من أمثلة وضعناها أمامنا، وإنّما هي قضيّة استقراء لتاريخ الكلمة استقراء تامّا يوقفنا على الأصل.
والملاحظ - هنا - أنّ الطابع العامّ لمنهج الاستدلال البصري في هذه المسألة هو المنهج الكلامي، ويعود ذلك إلى تأثّرهم الكبير بالمنطق اليوناني ومناهجه في التفكير حتّى سمّوا بـ (أهل المنطق)(3).
وربّما كان - مضافا للمنهج البصري العام - للعلماء البصريين المتأخّرين عن الطبقات النحوية البصرية الاُولى، أثر كبير في صوغ هذه الأدلّة صوغا فلسفيّا وعرضها في إطار كلامي، فقد كان ممّن استدلّ بها أبو إسحاق الزجّاج (311هـ (4)(، وأبو بكر بن السرّاج (- 316هـ) (5) وأبو القاسم الزجاجي(- 337هـ)(6)، وكلّهم من علماء القرن الرابع الهجري أو ممّن أدركه، وهو - أعني القرن الرابع - معروف بغلبة المنهج الكلامي على دراساته وأبحاثه(7).
وإلى هنا أودّ أن أنهي حديثي عن رأي البصريين وأهمّ أدلّته ومناقشتها بذكر شيء ممّا وجّه من نقد إلى رأي البصريين من قبل بعض العلماء المحدّثين:
قال الأمير الشهابي: ولئن قال البصريون: أنّ أصل المشتقات المصدر فمن الواضح أنّ العرب لم تقتصر على الاشتقاق من أسماء المعاني بل اشتقت أيضا من أسماء الأعيان ألوانا من المشتقات، فمن (الفلس) - مثلا - قالوا: أفلس الرجل، وفلسه القاضي، ومن (الذهب): أذهب الشيء وذهبه، أي طلاه بالذهب، ومن (الفضّة): فضضه، ومن (البحر): أبحر، أي ركب البحر، ومن (الثلج): ثلجتنا السماء، وأثلجتنا، والثلاج بائع الثلج، والمثلجة موضعه.. الخ. واشتقوا أيضا من أسماء الأعيان المعرّبة، فقالوا: هندس ودرهم وألجم وفهرس، وغير ذلك كثير(8).
وقال اُستاذنا الدكتور مصطفى جواد: وهو (يعني مذهب البصريين) مذهب مناف لطبيعة اللغات، فاللغات سارت في أطوارها من الاشارة إلى العبارة، ومن التجسيد إلى التجريد - أي من الماديات إلى المعنويات - فكيف يكون المصدر أصل المشتقات وهو من التجريد، وهو اسم للفعل فكيف يكون الاسم سابقا في الوجود لمسمّاه، ويعمل في الاعراب عمل فعله، ولو كان الأمر بالعكس لعمل الفعل كعمله وصار تابعا له، ثمّ انّ البصريين يعترفون باشتقاقه من الفعل غير الثلاثي، فلم يبق لهم إلا الثلاثي، وقد قدّمنا استحالة أن يكون أصلا للاشتقاق، فتأمّل الفعل (وجد) فمصدره للمطلوب (وجود) وللضالّة ونحوها (وجدان) وللغضب (موجدة) و (وجدان) أيضا، وللحزن (وَجد) وفي الغنى (وِجد) و(جدة)(9)، ولأخذ الحديث واللغة من الكتب (الوجادة)، فمن أي هذه المصادرالسبعة اشتقّ الفعل (وجد)، وكيف يكون مشتركا وهو فرع على زعم البصريين(10).
أمّا الكوفيون فأهمّ ما استدلّوا به هو:
1- اعتلال المصدر تبعا لاعتلال الفعل، وصحته تبعا لصحته، فيقال: قام قياما، فيعل القيام لاعتلال قام، ويقال: قاوم قواما فيصحّ المصدر لصحّة الفعل.
والذي يبدو لي: أنّ هذا الاستدلال لا ينهض بإثبات ما ادّعوه، وذلك لأنّ تبعية المصادر للأفعال في الاعتلال - في حدود ما مثّلوا به - لا تعدو كونها افتراضا محضا، وذلك لأنّنا كما نفترض انّ المصادر تابعة للأفعال في الاعتلال والصحّة لأنّنا شاهدنا الإعلال وعدمه موجودين في كلّ منهما نستطيع أن نفترض العكس وهو انّ الأفعال تابعة للمصادر في ذلك.
يضاف إليه: أنّ المسألة لم تأت نتيجة استقراء تامّ لأمثلة الأفعال، والمصادر، فقد وجد في المصادر ما لا يعتل لاعتلال فعله، أمثال: وعد يعد وعدا، ووزن يزن وزنا، وقام يقوم قومة، وكال يكيل كيلا، ومال يميل ميلا.
2- انّ الفعل يعمل في المصدر، ولا شكّ أنّ رتبة العامل قبل رتبة المعمول.
ويبتني هذا الدليل - فيما أفهمه منه - على أنّ العامل علّة والمعمول معلول، وقد ثبت في الفلسفة أنّ العلّة أسبق رتبة من المعلول ليصبح انبثاق وجوده عنها.
والإستدلال بهذا اللون من الأدلة يحتم فيه مسبقا ثبوت العليّة بين الطرفين واقعا لا اعتبارا، والتزام النحاة المستدلّين - هنا - بنظرية العامل التي تقوم على أساس من مبدأ العليّة الفلسفي جعلهم يقيسون الآثار النحوية الاعتبارية والتي تعود إلى عالم الاستعمال اللفظي الذي لا يدرى مأخذه الحقيقي، يقيسونها على الحقائق الكونية الثابتة، وهو قياس مع الفارق.
وينقض عليهم أيضا برفع الفعل للفاعل مع أنّ رتبة الفاعل في الوجود متقدّمة على رتبة الفعل لأنّ الفعل لا يصدر إلا عن فاعل كما هو واضح، فلماذا لا يعدّ الفعل معمولا والفاعل عاملا؟!
هذه خلاصة أدلّة الكوفيين على أنّ الفعل هو أصل الاشتقاق، وهي - كما ترى - لا تختلف عن أدلّة البصريين في تأثّر الكوفيين بالمنهج الكلامي، وربّما كان للجو العلمي العام الذي سيطر على دراسات القرن الرابع الهجري - كما أسلفت - أثر في ذلك، فقد كان بعض هذه الأدلّة من استخراج أبي بكر ابن الأنباري(ت 327هـ)(11).
وكذلك ربّما كان في صياغتها أثر من ذلك، وبخاصة أنّها وجدت في كتب البصريين أو المتأثّرين بالمدرسة البصرية أمثال كتب الزجّاجي وأبي البركات ابن الأنباري فكان لاُسلوبهما في عرضها بقلميهما ما يقرب ذلك.
ومن الأساتذة المحدثين من يقرّب تصويب رأي الكوفيين أمثال الدكتور مصطفى جواد فانّه يرى أنّ مذهب الكوفيين أقرب إلى ما تبنتّه المدرسة اللغوية الحديثة في أنّ المادة (أسماء الأعيان) هي مبدأ الاشتقاق، وذلك لأنّ الفعل يجري مجرى المادة لكونه مشهودا وهو سابق للتصدّر وأظهر منه للشهادة والإحساس فلا يكون (سير) إلا بعد أن يكون (سار) وهو مشهود ومحسوس به، و(السير) اسم له ودليل عليه.
ويشير الدكتور مهدي المخزومي إلى ما يقرّب رأي الكوفيين إلى ما أخذ به المحدّثون من باحثين مقارنين بين اللغات السامية، يقول: انّ كون الفعل هو الأصل في الاشتقاق هو ما كان عليه أكثر المحدثين مستأنسين بنتائج الدرس اللغوي (المقارن)، وبما تيسّر لهم الوقوف عليه من معرفة بالفصائل اللغوية المختلفة.
قال الدكتور ولغنسون في معرض الحديث عمّا تتميّز به اللغات السامية من اللغات الهندية الأوروبية: انّ أغلب الكلمات يرجع اشتقاقه إلى أصل ذي ثلاثة أحرف (لبعضها أصل ذو حرف) وهذا الأصل فعل، يضاف إلى أوّله أو آخره حرف أو أكثر، فتتكوّن من الكلمة الواحدة صور مختلفة تدلّ على معانٍ مختلفة(12).
ويقول اُستاذنا الدكتور إبراهيم السامرائي ملاحظا على المدرستين منهجا ورأيا: انّ سبيل الاحتجاج لدى البصريين والكوفيين لا يمكن أن يؤدّي إلى النتيجة التي أصبحت رأي كلّ من الفريقين في مسألة تاريخية كان ينبغي أن تبحث على غير هذا النحو من الصيغة القائمة على المنطق.
والذي يبدو لنا أنّ هذه المسألة لدى البصريين والكوفيين لا يمكن أن تكون مسألة خلاف، وذلك لأنّ المصدر والفعل مادّة واحدة، هي المادة الفعليّة التي لابدّ أن تبحث بالقياس إلى المنقطع للإسمية.
وقد رأينا انّ المصدر يقتضي درجة في مادة الفعل وذلك لتوفّر الأُصول الاُولى فيهما، فكلاهما حدث وكلاهما مقترن بزمان ما...
أمّا الاسم الذي نقصده والذي يجب أن يكون مادة البحث في هذا الموضوع فهو غير الحدث، ويندرج في هذا أسماء الذات ممّا هو داخل في أسماء الأعيان وما هو مرتبط بالطبيعة الحسيّة.
والاستقراء يدلّنا على أنّ هذه الأسماء قد أمدت العربية بالمواد الاشتقاقيّة مثل الأفعال(13).
وذهبت مدرسة النجف الاُصولية الحديثة إلى أنّ مبدأ الاشتقاق هو (المادّة.(
ويريدون بالمادة هنا: الحروف التي تتألّف منها المشتقات من دون ملاحظة وضع الهيئة والدلالة على النسبة كمادة (ك. ت. ب) - مثلا -، والهيئة التي يشار بها إلى المادة إنّما هي لمجرد حفظ المادة ليسهل التعبير عنها(14).
وانتهاء الاُصوليين إلى هذا الرأي الأخير إنّما هو ليسلم قولهم ممّا أورد على القولين السابقين من إشكالات أشرت إلى بعضها فيما تقدّم.
غير أنّ المشكلة - فيما أعتقد - لا تزال قائمة، لأنّها مسألة تاريخية - في واقعها - وليست مسألة عقليّة تخضع للتصوّر العقلي والقواعد المنطقيّة، فنحن إذا حاولنا التماس شاهد واحد من تاريخ المسألة في لغة العرب ينهض باثبات ذلك فانّنا لانستطيع.
نعم، قد يتصوّر هذا في أمثال المجامع اللغوية بعد قيام علم اللغة ووجود اُصوله وقوانينه، فإنّنا نقوى أن نذهب إلى أنّ الباحثين من المجمعين يقتدرون على الرجوع إلى المادة الأصلية في المعجم ويشتقون منها ضمن اطار الخطوط العامّة للاشتقاق.
أمّا العامّة من أبناء المجتمع - وهم مصدر اللغة وقائلوها - لا نقدر على القول بصدور ذلك عنهم، وبخاصة انّ المدرسة الاُصولية الحديثة المشار إليها، ذاتها تذهب إلى أنّ اللغة جاءت وليدة الحاجة إلى التفاهم، أي انّها ظاهرة اجتماعية لاظاهرة علمية، ومن أوّليات خصائص الظاهرة الاجتماعية العموم والتلقائية - كما هو معروف في علم الاجتماع.
وقد انتهى آخر تطوّر للمسألة على أيدي اللغويين المحدثين الذين أفادوا من مناهج البحث الحديث في دراسة اللغات، دراسة مقارنة وتاريخيّة، وكان الرأي الذي انتهوا إليه - كما ألمحت من قبل - هو أنّ أسماء الأعيان أو أسماء المعاني الحسيّة هي أصل الاشتقاق.
وقد ساعدهم على الانتهاء إلى هذا الرأي وتبنّيه طريقتا الاستقراء والاستنتاج.
أمّا في ضوء الطريقة الاُولى فقد أثبتت الدراسات الاجتماعية والدراسات الآثارية: انّ الإنسان في حياته الاُولى كان يعيش عالما من البساطة لا يكلّفه أكثر من وضع الألفاظ للدلالة على ما تتطلّبه حياته البسيطة هذه للتفاهم حول حاجاته الاجتماعية بغية توفير مستلزمات العيش والمحافظة على حياته، وما حاجاته الاجتماعية آنذاك إلا تلكم المعاني المحسوس بها من أعضاء جسمه أو من شؤون الغذاء والكساء والمأوى وما يوضع لها من كلمات هي ما يصطلح عليه بأسماء الذات.
ثمّ أخذت تتطوّر لغته بعدها بتطوّر وضعياته الاجتماعية وأحواله المعيشيّة، وبتطوّر تفكيره العقلي وسعة آفاق مداركه لما حوله من أشياء في هذا الكون وفي هذه الحياة، فأخذ يشتق من معانيه الحسيّة للمعنوية التي تلتقيه.
إذن فـ الاستقراء يدلّ على أنّ هذه الأسماء قد أمدّت العربية بالمواد الاشتقاقية مثل الأفعال.
فإذا عرضنا لأعضاء جسم الإنسان بصورة عامّة عرفنا إنّها كانت مادّة أصليّة لكثير من الألفاظ.
ومن هنا ننتقل من الحسّي إلى المعنوي كما ننتقل من الحقيقة إلى المجاز.
والنظر في المعجم العربي في أي من هذه المواد نحو (رأس) و (سن) و (أنف) و(عظم) و (أُذن) و (عين) و (صدر) و (ظهر) و (ضلع) و (عضد) و(ساعد) و(بطن) و (يد) و (رجل) ونحو ذلك معين للباحث المستقري على أن يتتبّع انتقال هذه الألفاظ إلى أشياء اُخرى تؤلّف في مجموعها مواد اشتقاقيّة من ضمنها الأفعال(15).
وفي ضوء الطريقة الثانية استنتجوا من كثير من الملاحظات لألفاظ تستعمل لمعاني حسّية واُخرى معنوية إلى أنّها وضعت في الأصل للمعنى المحسوس به ثمّ استعملت في الآخر المعنوي، كالفصل - مثلا - فإنّه يدلّ على أمر حسّي وهو القطع والإبانة، ويدلّ على أمر معنوي وهو حسم الخصومة بالحكم.
ومثل القطع الذي يعني الإبانة وهي دلالة حسّية ويعني الجزم وهو دلالة معنوية، وذلك لأنّ المحسوسات أوّل ما تستلفت انتباه الإنسان، وهي سابقة في ذهنه على المعنويات لأنّه في أبسط أحوال عيشه لم يكن في احتياج إلا للمعاني الحسّية ففي أوّل استعماله قطع لم يكن يريد بها إلا القطع الحسّي، لكنّه بعد أن ارتقى في الحضارة وارتقت تصوّراته حدثت له معانٍ جديدة بينها وبين القطع مشابهة ذهنية كقولنا (قطع في الأمر) أي جزم.. ويؤيّد ذلك حالة اللغات الدنيا فإنّها تقلّ فيها الدلالة المعنوية كلّما انحطّت إلى أن تصل إلى ما يكاد يخلو منها بالكليّة(16).
من ذلك الاستقراء وهذا الاستنتاج ذهبوا إلى أنّ أسماء الأعيان هي مبادئ الاشتقاق في اللغة العربية، شأنها في ذلك شأن أيّة لغة اُخرى تقطع مراحل نموّها من النشوء إلى النضج فتبدأ دورها الأوّل في حياة بساطتها الاُولى حيث لا تكلّف إنسانها بأكثر من وضع أسماء ما حوله ممّا يحتاجه في معيشته الضروريّة.
ومن هنا كان الاسم أسبق من الفعل، ولكنّه لا بمعنى المصدر، وإنّما اسم الذات.
يقول الدكتور مصطفى جواد: وللمادّة ما جرى مجراها من العراقة في أصالة الاشتقاق ما يجعلنا نعدّ جملة من الأوصاف أُصولا لأفعالها ونخرجها من حظيرة القدم الذي اتّسم به الفعل، فالأسود سابق لفعله (سود) والأبيض متقدّم على فعله (بيض) والأعوج أقدم من فعله (عوج)، وهذا مشهود في طبيعة الوجود ولا يحتاج إلى إثبات أبدا، ومن دلائله حيرتهم في اشتقاق فعله، فقوم أرادوا الثلاثي فقالوا (سود وبيض وعوج)، وقوم أرادوا الحفاظ على الاُصول فقالوا (أسود) من أسود (وأبيض) من أبيض و (أعوج) من أعوج، لئلا يبتعد الفعل عن أصله فيستبهم(17).
وقد أقرّ مجمع اللغة العربية بمصر في ص 36ج 1 من مجلّته (مجلّة مجمع اللغة العربية): الاشتقاق من أسماء الأعيان(18).
وهناك رأي آخر في المسألة لبعض المحدثين يتلخّص في اعتبار كلّ من أسماء الأعيان وأسماء المعاني مبدأ للاشتقاق(19).
والذي يبدو لي، وفي ضوء ما عرضته من دليل الرأي الأوّل للمدرسة اللغوية الحديثة: أنّ عدّ أسماء المعاني مبدأ اشتقاق حتّى في العهد الأوّل للغة، أعني عهد ولادتها ونشوئها لا يتمشّى وطبيعة الإنسان في حياته الاجتماعية البدائية حيث تسودها البساطة.
نعم، يتأتّى الاشتقاق من أسماء المعاني في العهود المتأخّرة للغة، عهود رقيّها ونضجها.
ونتيجة كلّ ما تقدّم:
أنّ الرأي الذي يتمشّى وطبيعة اللغة هو رأي المدرسة اللغوية الحديثة القائلة بأنّ مبدأ الاشتقاق هو اسم المادة(20).
الهوامش:
(1)- الإيضاح 60.
(2)- بغية الإطلاع الوافي على مسألة دلالة الفعل على الزمان وعدمها يقرأ (الفعل: زمانه وأبنيته) للدكتور السامرائي.
(3)- مدرسة الكوفة69.
(4)- الإيضاح 58.
(5)- الإيضاح 59.
(6)- م.ن.
(7)- راجع: الدكتور إبراهيم السامرائي، مجلة كلية الآداب – جامعة بغداد، العدد 9 ص 27.
(8)- المصطلحات اعلمية 12.
(9)- اُنظر: مختار الصحاح للرازي: مادة(وجد).
(10)- المباحث اللغوية 13و14.
(11)- الإيضاح 60.
(12)- في النحو العربي 104و 105.
(13)- الفعل زمانه وأبنيته52.
(14)- اُنظر: فوائد الأوصل 1/48 و49.
(15)- الفعل زمانه وأبنيته 52 و 53.
(16)- الفلسفة اللغوية 109.
(17)- المباحث اللغوية 15.
(18)- المباحث اللغوية 14.
(19)- اُنظر: المصطلحات العلمية للشهابي 12.
(20)- يراجع: دراسات في الفعل: اشتقاق الفعل. قضايا وآراء: مبدأ الاشتقاق في اللغة العربية.