محاضرات أصول فقه2 - المحاضرة 42
- في اُصول الفقه:
قال الشيخ الأنصاري في (الفرائد = الرسائل): وعند الاُصوليين عرّف بتعاريف، أسدها وأخصرها: (إبقاء ما كان).
والمراد بالإبقاء: الحكم بالبقاء.
وإلى ما ذكرنا يرجع تعريفه في (الزبدة) بـ(أنّه إثبات الحكم في الزمان الثاني تعويلا على ثبوته في الزمان الأوّل).
بل نسبه شارح الدروس إلى القوم، فقال: إنّ القوم ذكروا أنّ الإستصحاب: إثبات حكم في زمان لوجوده في زمان سابق عليه.
ويقول اُستاذنا السيّد الخوئي في إيضاح المقصود من الإبقاء والبقاء في قول الشيخ الأنصاري (المراد بالإبقاء: الحكم بالبقاء): ليس المراد من الإبقاء هو الإبقاء التكويني الخارجي، بل المراد هو حكم الشارع بالبقاء، فالمراد من الإبقاء هو الإبقاء بحكم الشارع(1).
وعرّفه الميرزا القمّي في (القوانين) بقوله: إستصحاب الحال: وهو كون حكم أو وصف يقيني الحصول في الآن السابق مشكوك البقاء في الآن اللاحق.
والمراد من المشكوك أعمّ من المساوي الطرفين ليشمل المظنون البقاء وغيره.
وقال الشيخ الأنصاري في حاشيته على القوانين: وفي إصطلاح الاُصوليين قد يطلق على ما حاصله: (إبقاء ما كان على ما كان) - كما يظهر من تعاريف جلّهم له -.
وقد يطلق على نفس الكليّة المأخوذة من العقل أو الأخبار، كما في قولهم: الإستصحاب حجّة أم لا.
وفي (معجم لغة الفقهاء): الإستصحاب: الحكم بثبوت أمر في الزمن اللاحق على ثبوته في الزمن السابق.
وفي (التعريفات) للجرجاني: الإستصحاب: عبارة عن إبقاء ما كان على ما كان عليه لإنعدام المغيّر.
وفيه أيضا: الاستصحاب هو الحكم الذي يثبت في الزمان الثاني بناء ما على الزمان الأوّل.
وفي (محيط المحيط): قال - بعد أن نقل تعريفي الجرجاني المذكورين في أعلاه -: وقيل: هو الحكم بثبوت أمر في وقت آخر.
وهذا يشمل نوعيه، وهما:
- جعل الحكم الثابت في الماضي مصاحبا للحال.
- أو جعل الحال مصاحبا للحكم الماضي.
ويقول الآخوند الخراساني في (الكفاية): ولا يخفى أنّ عباراتهم في تعريفه وان كانت شتّى إلا أنّها تشير إلى مفهوم واحد ومعنى فارد، وهو: الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شكّ في بقائه.
ويعلّق عليه اُستاذنا السيّد الخوئي فيقول(2):
أقول: أمّا ما ذكره صاحب الكفاية(رحمه الله) من التعريف، فهو شرح لما ذكره الشيخ(رحمه الله) لا غيره.
وأمّا ما ذكره من كون التعاريف مشيرة إلى معنى واحد فغير صحيح، لاختلاف المباني في الإستصحاب، وكيف يصحّ تعريف الإستصحاب بأنّه حكم الشارع بالبقاء في ظرف الشكّ بناءً على كون الإستصحاب من الأمارات؟، فإنّ الأمارات لاينكشف الحكم بها، فلا يصحّ تعريفها بالحكم.
والذي ينبغي أن يقال: إنّ البحث في الإستصحاب راجع إلى أمرين، لا إلى أمر واحد:
الأوّل: البحث عنه بناءً على كونه من الأمارات.
والثاني: البحث عنه بناءً على كونه من الاُصول.
أمّا على القول بكونه من الأمارات المفيدة للظنّ النوعي، فالصحيح في تعريفه ما نقله الشيخ(رحمه الله) عن بعضهم من انّ الإستصحاب: كون الحكم متيقنا في الآن السابق، مشكوك البقاء في الآن اللاحق.
فإنّ كون الحكم متيقنا في الآن السابق أمارة على بقائه، ومفيدة للظنّ النوعي، فيكون الإستصحاب كسائر الأمارات المفيدة للظنّ النوعي.
وأمّا على القول بكونه من الاُصول، فلابدّ من تعريفه بالحكم كما وقع في كلام الشيخ وصاحب الكفاية، لكن لا بما ذكراه من أنّه الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم، فإنّ الإستصحاب - على هذا التقدير - مأخوذ من الأخبار، وعمدتها صحاح زرارة، وليس فيها ما يدلّ على الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم، بل المستفاد منها حرمة نقض اليقين بالشكّ من حيث العمل، والحكم ببقاء اليقين من حيث العمل في ظرف الشكّ.
فالصحيح في تعريفه على هذا المسلك أن يقال: إنّ الإستصحاب هو حكم الشارع ببقاء اليقين في ظرف الشكّ من حيث الجري العملي.
هذا جلّ ما قيل في تعريف الإستصحاب، والذي ينبغي أن يقال من ناحية منهجيّة هو:
انّ الإستصحاب ظاهرة إجتماعيّة عامّة تتدخّل تدخّلا مباشرا في تنظيم وتسيير حياة البشر، وهي ممتدة بجذورها التاريخيّة إلى بداية نشوء المجتمعات وتبادل ألوان الحياة بين الناس بعضهم البعض.
وهكذا ظاهرة تتمتّع بهذه الشموليّة وبهذا الغور في حياة الناس تدرك بالفطرة، ويفهم الجميع معناها، إلا أنّهم قد يخونهم التعبير العلمي في تحديد مفهومها وتصوير واقعها.
وتعريف الإستصحاب بـ(إبقاء ما كان على ما كان عليه) مستمدّ من واقع الفهم الإجتماعي (العرفي) لها، وكلّ الذي أضافه العلم إلى هذا التعريف هو قيد (لإنعدام المغيّر).
أمّا التعريفات الاُخرى فقد حاول أصحابها استفادتها من النصوص الشرعيّة الدالّة على مشروعيّة الإستصحاب، وهو منشأ إختلافهم في صياغتها صياغة علميّة تجمع وتمنع.
وما دام الإستصحاب من الظواهر الإجتماعيّة العامّة وبشموليّة جعلته من القضايا البديهيّة، لا يهمّنا الإهتمام بتعريفه إلا بمقدار ما يعرب عنه كظاهرة إجتماعيّة كما في تعريفه بـ(إبقاء ما كان).
عناصر الإستصحاب:
والذي يهمّنا بعد تعرّفنا إعتبار هذه الظاهرة قاعدة شرعيّة عند العلماء، هو معرفة عناصرها التي تتألّف منها، والتي عبّروا عنها بـ(أركان الإستصحاب) و (مقوّمات الإستصحاب).
وإستفاد الاُصوليون هذه العناصر من الواقع الإجتماعي لهذه الظاهرة، ومن النصوص الشرعيّة المرتبطة بها، ومن التعريف العلمي لها.
وقد عدّها شيخنا الرضا المظفّر في (اُصول الفقه) وسيّدنا التقي الحكيم في (الاُصول العامّة) سبعة، وخلاصة ما أفاداه هو:
قال شيخنا المظفّر(3): إنّ هذه القاعدة تتقوّم بعدّة أُمور، إذا لم تتوفّر فيها، فإمّا أن لا تسمّى إستصحابا أو لا تكون مشمولة لأدلّته الآتية:
ويمكن أن ترتقي هذه المقوّمات إلى سبعة اُمور، حسبما تقتنص من كلمات الباحثين.
وقال سيّدنا الحكيم(4): وأركان الإستصحاب المستفادة من نفس التعريف بعد تأمّل فيه سبعة.
وكلّها منبثقة من المعادلة التالية:
يقين + شكّ = يقين.
وتتنوّع هذه الأركان إلى:
- ما يرتبط بنفس اليقين والشكّ، بتحديد مفهوم كلّ منهما كمصطلحين، ووحدة متعلّقهما وفعليتهما.
- وما يرتبط بزمانهما.. وكالتالي:
1- اليقين:
وهو العلم - وجدانا أو تعبّدا - بالحالة السابقة، سواء كانت تلكم الحالة حكما شرعيّا أو موضوعا ذا حكم شرعي.
2- الشكّ:
ويريدون به: الشكّ في بقاء اليقين المتعلّق بالحالة السابقة، سواء كان ذلكم الشكّ بمستوى الظنّ غير المعتبر شرعا أو بمستوى تساوي الطرفين أو بمستوى الوهم والإحتمال فالجميع في مصطلحهم شكّ، ويجري عليها أحكامه.
3- فعليّة الشكّ واليقين:
يعنون بالفعليّة - هنا - ما يقابل التقدير، تماما كما هو الشأن في سائر الألفاظ في ظهورها في فعليّة عناوينها.
فلا يكفي الشكّ التقديري ولا اليقين التقديري لعدم صدق نقض كلّ منهما للآخر.
4- وحدة متعلّق اليقين والشكّ:
وهي أن يكون متعلّق اليقين ومتعلّق الشكّ واحدا، أي إنّ ما يتعلّق به اليقين هو نفسه الذي يتعلّق به الشكّ.
5- اتّحاد القضيّة المتيقنة والقضيّة المشكوكة في جميع الجهات أي أن يتّحد الموضوع والمحمول والنسبة والحمل والرتبة وهكذا... ويستثنى من ذلك الزمان فقط، رفعا للتناقض.
6- سبق زمان المتيقن على زمان المشكوك:
ويراد به تقدّم زمان وجود المتيقن على زمان وجود المشكوك.
7- اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين:
بمعنى أن لا يتخلّل بينهما فاصل من يقين آخر، كما هو مفاد تسلّط النقض بالشكّ على اليقين.
وبتمام توافر هذه الأركان تتمّ للإستصحاب قاعدته، ويصحّ إجراؤها بتطبيقها على مواردها.
أطراف الإستصحاب:
ولكي يتحقّق الإستصحاب كوظيفة عمليّة لابدّ من تكامل الأطراف التالية:
1- المستصحب - بصيغة اسم المفعول - وأعني به اليقين بالحالة السابقة.
2- المستصحب - بصيغة اسم الفاعل - وهو المكلّف الشاكّ في بقاء الحالة السابقة.
3- الإستصحاب:
وهو عمليّة إبقاء ما كان على ما كان.
وفي ضوء هذا نتبيّن ما عنى إليه الشيخ الأنصاري حين فرّق بين إطلاقي كلمة الإستصحاب.
حيث تطلق على القاعدة التي عبّر عنها بـ(الكليّة) المأخوذة من العقل أو الأخبار.
وحيث تطلق على العمليّة وهي تطبيق القاعدة على موردها، وهو الإستصحاب المذكور هنا، أي هو الطرف الثالث من الأطراف المذكور في أعلاه.
الهوامش:
(1)- مصباح الأصول 2/ 5.
(2)- مصباح الأصول 3/ 5.
(3)- 2/ 242.
(4)- ص 453.